03‏/10‏/2019

البهائية ودورها في ظهور النِحلة الباطنية الكوردية (حَقَة)


أ. د. فرست مرعي
المقدمة
   لم تنقطع مؤامرات الحركات الباطنية على العقيدة والفكر الإسلامي في التاريخ حتى الوقت الحاضر، وفي بداية القرن التاسع عشـر الميلادي، تم تجديدها على يد شيخ فاسد العقيدة، غامض الفكرة والأسلوب، يثير حوله جوّاً من التقديس الكاذب، وهو الشيخ أحمد الإحسائي (1168-1243هـ/ 1753- 1826م)، والذي أسّس طريقة في مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشـرية، سميت فيما بعد بـ (الشيخية).
   والشيخية يقولون: إن الحقيقة المحمدية تجلّت في الأنبياء قبل محمد (صلى الله عليه وسلم) تجلياً ضعيفاً، ثم تجلّت تجلياً أقوى في (محمد)، والأئمة الاثني عشــر، ثم اختفت زهاء ألف سنة (260 – 1260هـ/874-1844م)،
وتجلّت فيما بعد في الشيخ (أحمد الإحسائي)، الذي هو الركن الرابع، وفيما بعد في الشيخ كاظم الرشتي (المتوفّى سنة1259هـ/1843م)، ثم تجلّت في محمد كريم خان القاجاري الكرماني (المتوفّى سنة1288هـ/1870م)، وأولاده إلى أبي قاسم خان.. هذا التجلّي، أو الظهور، هو أعظم التجليات لله وأئمة الشيعة الاثني عشرية([1]).
   والركن الرابع: من الشيخ الإحسائي إلى ما بعده، هم شيء واحد، يختلفون في الصورة، ويتّحدون في الحقيقة، التي هي (الله)، ظهر بينهم، أو حلّ في أجسامهم، ويعتقدون أن (محمداً) رسول الله، وأن الأئمة الاثني عشـر هم أئمة الهدى. ومعنى الرسالة والإمامة عندهم، أن الله تجلّى في هذه الصورة، فمنهم رسول، ومنهم إمام. ويعتقدون أن اللاحقين هم أفضل من السابقين. وبناء على ذلك، فـ (الشيخ أحمد الإحسائي) - في رأي أصحابه - أعظم من جميع الأنبياء والمرسلين. ويعتقد هؤلاء أيضاً بـ(الرجعة)، ويفسّـرونها بأن الله بعد أن غاب عن صور الأئمة، رجع وتجلّى تجلياً أقوى في الركن الرابع، الذي هو (الشيخ أحمد)، ومن أتى بعده.
الشيخ (أحمد الإحسائي) من الشيعة الحلولية، الذين يفسّرون (علياً) على غرار الشيعة النصيرية (العلوية)، وأدلّته الفلسفية مستقاة من مذهب الفيلسوف الإيراني الباطني المشهور ملا صدرا الشيرازي (المتوفّى سنة 1050هـ/1640م)، وترشح كتاباتهم بأنهم يعتقدون في (علي بن أبي طالب)، نحو ما يعتقد فلاسفة الأفلاطونية المحدثة في العقل الأول، بل أدهى وأمر([2]).
  أمّا اعتقادهم في يوم القيامة، فهو اعتقاد باطل، مخالف لنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وإجماع الأمّة. فقد أقرّوا بوجود جنتين، وجهنمين: إحداهما في هذه الدار العاجلة (الدنيا)، والأخرى اللاحقة (القيامة)، وإن الجنّة هي الولاية والاعتراف بالقائم، ولا فرق. أمّا يوم الحشر، فإن الخلق لن يعودوا إلى الله، وفق تعاليم الإسلام، وإنما إلى المشيئة الأولى. وأن البعث (النشور) لا يكون في الأجسام المشهودة، بل في أجسام لطيفة (قوريلائة)، وهي كلمة سريانية تعني الأجسام بين عالم الكثافة وعالم الجنّة الروحاني، أو العالم المثالي، وهو عبارة عن البرزخ ما بين عالم الأجسام وعالم النفوس. ولذلك، فإن فكرة (الإحسائي) حول مسألتي المعاد والمعراج الجسماني، تعدّ بدعة في العقيدة الإسلامية، فقد كرّر أن جسم الإنسان مكوّن من أجزاء متباينة، مستمدة من الطبائع الأربعة: (الماء والتراب والهواء والنار)، والأجسام التسعة السماوية، وفق الفلسفة الإفلاطونية المحدثة، وأن الجسم الذي يقوم في يوم القيامة لا يتكون إلا من الأجزاء السماوية، وأما الطبائع الأربعة، فإنها تعود إلى الأرض بمجرد الوفاة. وعلى هذا، فإن معراج النبـي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء كان روحانياً لا جسمانياً([3]).
  وما تجدر الإشارة إليه، هو أن الفكرة الباطنية، نظراً لما يحيط بها من غموض وإبهام، ولما في طرق تأديتها وتعاليمها من رموز وإشارات، قد يتعذّر وجود شخصين متفقين فيها، وهذا ما جعل (كاظم الرشتي) يخالف أستاذه (الإحسائي) في كثير من مبادئه، ويؤسّس له طريقة جديدة، عرفت بـ (الطريقة الكشفية)([4]). وهذا بعينه أيضاً هو الذي حدا بالسيد (علي محمد الشيرازي)، أن يؤسّس- بعد مدّة- ديناً جديداً (الدين البابي)، رغم اتّصاله الشديد بأستاذه ( كاظم الرشتي).
وقد استخدم الشيخ (الإحسائي) جميع وسائل الباطنية، من: تأويل، وحلول، وتناسخ، وتقديس للأنبياء والأئمة. فالإمام مخلوق من نور الله، وأنه صاحب المشيئة في العالم، لأنه نفس الله! ولم يتورّع (الإحسائي) عن الاستناد إلى روايات كاذبة، وأحاديث ضعيفة، منسوبة إلى الأئمة، في تمرير أساطيره وخرافاته بين أتباعه، الذين حاولوا دون جدوى توضيح آراء أستاذهم، والدفاع عنها.
أمّا الحركة الكشفية أو الرشتية، فهي تطوّر طبيعي للشيخية، على يد (كاظم الرشتي). وقد كتب (الرشتي) مجموعة رسائل، دافع فيها عن عقيدة (الإحسائي)، وحاول شرح غموضها، ولكن علماء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ما لبثوا أن ردّوا عليه أيضاً، وعدّوه من الغلاة.
والمعروف أن (الميرزا علي محمد الشيرازي)، زعيم البابية، كان تلميذاً لـ(الرشتي)، وبالرغم من أن (الفرقة الكرمانية)، بزعامة (محمد كريم خان الكرماني)، انبثقت مباشرة من (الرشتية)، وتطرّفت وغالت في أفكارها هي الأخرى. وممّا لا شك فيه أن (البابية) قد استفادت إلى درجة ملحوظة من التراث الباطني، الذي خلّفته الفرق الأخرى من التصوّف الغالي، وخاصة تراث (الحلاج)، المقتول على يد العباسيين سنة309هـ، و(محيي الدين ابن عربي)، بالإضافة إلى فرقتي (الشيخية - الإحسائية) و(الكشفية- الرشتية).
  وكان العالم العثماني الصوفي الحنفي (الحافظ بن محمد خواجة بارسا) (المتوفّى سنة823هـ/ 1419م)، ألّف كتاباً سمّاه (فصل الخطاب)، تحدّث فيه عن ظهور المهدي، ومناقبه، بقوله: "تظاهرت الأخبار عن ظهوره، وإشـراق نوره، يجدّد الشـريعة المحمدية، ويجاهد في الله حقّ جهاده، ويطهّر من الأدناس أقطار بلاده. زمانه زمان المتقين، وأصحابه خلصوا من الريب، وسلموا من الغيب، وأخذوا بهديه وطريقته، واهتدوا من الحق إلى تحقيقه. به ختمت الخلافة والإمامة، وهو الإمام من لدن موت أبيه إلى يوم القيامة، و(عيسى) يصلّي خلفه، ويصدّقه على دعواه، التي هي دعوة صاحب الملّة المحمّدية"[5].
  وقد شرح محمد بن أبي جمهر الإحسائي، (المتوفّى سنة902هـ/ 1495م)، هذا الكتاب (= فصل الخطاب)، وأضاف إليه. وشـرحه -أيضاً- الشيعي الصوفي (الميرداماد) (المتوفّى سنة1042هـ/ 1631م)، وتابعه في مدينة (أصفهان) ملا صدرا الشيرازي، (المتوفّى (سنة1051هـ/ 1640م)، وأودع تعاليمه في كتابه (جامع الأسرار ومنبع الأنوار). وأصبح هذا الكتاب أحد أعمدة المذهب الباطني، وعلى ضوئه وضع الشيخ أحمد الإحسائي، (المتوفّى سنة1243هـ/ 1826م)، مذهب الشيخية.

النِحلة البهائية
   البهائية حركة باطنية ظهرت في (إيران)، نبعت من المذهب الشيعي الاثنا عشـري، وهي امتداد للحركات الباطنية التي ظهرت في (إيران) في حقب سابقة: كالشيخية، والكشفية، والبابية، بدعم من روسيا فـي المرحلة الأولى، والاسـتعمار البريطـاني، واليهودية، فيما بعد، بهـدف إفساد العقيدة الإسلامـية، وتفكيك وحدة المسلمين، وصـرفهم عـن مبادئهم الأساسية.
أسّسها (الميرزا حسين علي المازندراني)، الملّقب بـ (بهاء الله)، المولود (سنة 1234هـ/1817م)، وكان والده من كبار ملاك الأراضي. وقد أتعب (الميرزا حسين) نفسه في قراءة كتب التصوف الغالي، وكتب الشيخية، وتعاليم )ابن عربي) و(عبدالكريم الجيلي)، وكبار شعراء الفرس. لذا آمن بوحدة الأديان، وبوحدة الوجود، التي تنتهي بصاحبها إلى القول بسقوط التكاليف، ويتبعها سقوط الشعائر.
وقد أعلن (بهاء الله) دعوته في حديقة السـراي (=حديقة الرضوان) في بغداد (سـنة1281هـ/1863م). أمّا (الميرزا يحـيى علي)، أخو البهاء، والملّقب بـ (صبح الأزل)، فقد أوصـى لـه الباب (علي محمد رضـا الشيرازي)، المقتول (سنة 1267هـ/ 1849م)، بخلافته، وسمّى أصحابه بالـ (أزليين). فنازعه أخوه (الميرزا حسين علي البهاء) في الخلافة، ثمّ في الرسالة، والإلهية، ودسّ السمّ لأخيه. ولشدّة الخلافات بينهم وبين بقية الشيعة الاثني عشرية، في إيران والعراق، فقـد تـمّ نفيهم إلى الدولة العثمانية عام 1863م، بناء على طلب من الحكومة القاجارية الإيرانية، حيث تمّ نفيهم في البداية إلى بغداد، ومن ثَمّ بعد اشتداد الصراع بين أتباع الأخوين (الحسين بن علي المازندراني، الملّقب ببهاء الله)، وأخيه (يحيى، الملّقب بصبح الأزل)، إلى مدينة (أدرنة)، الواقعة غربيّ (استنبول( على الحدود اليونانية، بعد إعدام الباب (علي محمد الشيرازي)، من قبل السلطات القاجارية الإيرانية في عام1849م، بناءً على أوامر الشاه ناصـر الدين القاجاري، الذي اغتيل (سنة1325هـ/1896م).
هرب الميرزا يحيى (صبح الأزل)، وأودع أخوه (الميرزا حسين) السجن لمدّة أربعة اشهر، وقد تدّخلت السفارة الروسية لمصلحة الأخير، فتمّ نفيه إلى (بغداد)، وزوّدته السفارة الروسية بالمال اللازم.
وبعد وصول (الميرزا حسين) إلى (بغداد)، التي سبقه إليها أخوه (الميرزا يحيى- صبح الأزل)، حدث خلاف وصـراع شديد بينهما على نيابة الباب، ممّا دعا (الميرزا حسين) إلى ترك (بغداد)، والذهاب إلى منطقة (السليمانية)، حيث وصلها في الثاني من رجب 1270هـ الموافق للعاشر من نيسان 1854م، حيث استقرّ في كهف في (جبل سورداش)، المطلّ على قريتي (سركلو) و(بركلو)، باسم مستعار(= الدرويش محمد)، وكان يغادر مقرّ خلوته إلى خانقاه ) = تكية) مولانا خالد في (السليمانية)، و قصبتي: (بياره) و(طويلة) (=منطقة هاورامان، على الحدود الإيرانية- العراقية حالياً)، للاجتماع مع زعماء الطريقة، ثم يرجع إلى كهفه المطلّ على قرية سركلو. وكان يؤمّن معيشته خادم له يدعى (أبو القاسم الهمداني).
وتذكر المصادر البهائية أن بهاء الله التقى في السليمانية بعدد كبير من أعيان وأهالي كوردستان، أمثال: الشيخ عبدالرحمن الطالباني (= خالص)، شيخ الطريقة القادرية، والشيخ عثمان (= سراج الدين)، شيخ الطريقة النقشبندية وقطبها، وعمّت شهرته أرجاء السليمانية، وما جاورها من مدن وقصبات، وسرعان ما انجذب إليه أهالي كوردستان.
  وتضيف هذه المصادر: بأن طرقات وجوامع وآثار السليمانية شاهدة على لقاءاته مع العلماء والعرفاء، وخطبه التي ألقاها فيمن حضـروا مجالسه.. وقد توافد الناس ينهلون من علمه وحكمته، ويستمعون إلى كلماته.. كما أن كوردستان حظيت كذلك بنزول عدد من أهم آيات وكتب بهاء الله، قد يكون من أهمّها : (قصيدة العزّ الورقائية) .
وتشير المصادر البهائية أنه من خلال زيارات بهاء الله (= الدرويش محمد) المتكرّرة إلى خانقاه مولانا خالد في السليمانية، الذي بناه الوالي الباباني محمود باشا سنة1816م/1232هـ، استطاع تكوين صداقة مفعمة بالروح مع الشيخ إسماعيل، رئيس الطريقة الخالدية في السليمانية.
وتؤكّد هذه المصادر، أنه استطاع التأثير على (الشيخ عثمان سراج الدين النقشبندي)، وتكوين صداقة متينة معه، ومع الشيخ إسماعيل رئيس الطريقة الخالدية، دون ذكر لقبه، لأن هناك ثلاثة من خلفاء مولانا خالد يحملون نفس التسمية. وتضيف هذه المصادر بالقول: استمر انجذاب أهل كوردستان إلى حضـرة بهاء الله، حتى بعد رحيله عنها. فالعديد من أعيانها استمروا بالتواصل معه بالخطابات والمكاتيب.  كما أن عدداً من أهلها وأعيانها انجذبوا إلى الكلمة الإلهية التي أتى بها حضرة بهاء الله، فمنهم من آمنوا برسالته، ومنهم من تبنّوا العديد من تعاليمه في حياتهم، ومنهم من حافظوا على حبّه في قلوبهم، وفاء لتلك التجربة التاريخية الفريدة.
  وتشير القرائن التاريخية إلى توافد عدد من علماء وعرفاء كوردستان لزيارة بهاء الله، بعد رحيله من ديارهم. كما يفتخر بهائيو كوردستان بأن بعضاً من أبرز كتب بهاء الله العرفانية نزلت تشريفاً لشخصيات كوردية، مثل (الوديان الأربعة)، والتي أرسلها للشیخ عبدالرّحمن الطالباني الکرکوکي، شيخ الطريقة القادرية، وكبير آل الطالباني، و(الوديان السبعة)، للشیخ محي الدّین، المعروف بشيخ الصوفيّين.
ويذكر العلامة الملا عبدالكريم المدرس، في كتابه (يادى مردان- تذكار الرجال)، باللغة الكوردية، الصفحة 259-260، أن بهاء الله استطاع تكوين صداقات مع اثنين من أولاد الشيخ عثمان سراج الدين النقشبندي(1195-1295هـ/1781-1878م)، أحد الخلفاء  الرئيسيين لمولانا خالد الجاف النقشبندي، وهما : الشيخ محمد أبو البهاء(1252-1289هـ/1836-1872م)، والشيخ عبد الرحمن أبو الوفاء (1253-1285هـ/1837-1868م)، وقد عاش بهاء الله معهم حوالي شهرين في خانقاه مولانا خالد في السليمانية. وقد تبادل بهاء الله الرسائل مع الشيخ أبو الوفاء، وكان مضمونها حول العرفان والشعر الصوفي([6]).
كما استطاع توطيد صداقة مع الملا حامد البيساراني (1232-1310هـ/1817-1892م)، المعروف بكاتب أسرار الشيخ عثمان سراج الدين. وللمترجم عدّة مؤلّفات، من أهمّها (رياض المشتاقين)، الذي ذكر فيها بعض كرامات مولانا خالد، والشيخ عثمان سراج الدين، وكانت بينهما رسائل متبادلة حول القضايا المتعلّقة بالأدب والعرفان وكتابة الشعر.
كما أرسل بهاء الله رسالة إلى (حاجي رسول)، أحد وجهاء مدينة السليمانية. وكان لبهاء الله اتّصال مع الشيخ عبد الرحمن خالص ( 1212- 1275هـ/1797- 1858م)، المعروف بعبد الرحمن الطالباني، مرشد الطريقة القادرية، المقيم في كركوك.

حركة حقّة
  عندما قام الميرزا حسين المازندراني، الملّقب بـ(بهاء الله)، بسياحته إلى كوردستان العثمانية (=العراق)، في عام 1856م، اطّلع على كتاب (فصل الخطاب)، عند أتباع الشيخ مولانا خالد الجاف النقشبندي، مجدّد الطريقة النقشبندية، (المتوفّى سنة1243هـ/ 1827م)، في (تكية بيارة)، الواقعة شرقيّ السليمانية، بالقرب من الحدود الإيرانية، وكانت لها نتائج بعيدة المدى على طريقة تفكيره ودعوته.
  وكان بهاء الله يظهر علاقته بالرّوس، ولكن يخفي علاقته بيهود بغداد ويهود كوردستان. فحين وصل بهاء الله إلى بغداد عام1272هـ/ 1852م كان فيها حوالي (50) ألف يهودي، وفي كوردستان حوالي (18) ألف يهودي([7])، وعندما اتّصل بهاء الله بالحاخام شمعون آغاسي، (المتوفّى سنة1334هـ/1914م)، أرسل إلى كوردستان الحاخام والعالم اليهودي هارون البارزاني، (المتوفّى سنة1318هـ/1900م)، وكان الحاخام رجلاً صوفياً يؤمن بظهور الملك الإلهي (المسيح المنتظر)، وعهده السعيد، وكان عالماً بالعربية والفارسية، وكان متعطّشاً لمذهب القبالاه (=التصوّف اليهودي). وقد استقبل الحاخام اليهودي بهاء الله بالترحاب، وأمّن له المعيشة الحسنة في جبل (سركلو)، وصار يتجوّل في السليمانية، وما حولها([8]).
  ومن جانب آخر، فإن بعض المصادر تذكر أن سبب اختفاء بهاء الله في جبال كوردستان، بالقرب من قرية (شه ده له)[9]، في جبال سورداش - غرب السليمانية، كان نصيحة من الحاخام اليهودي (يوسف حاييم)، لاكتساب تجربة روحية من الاطّلاع على القبالة اليهودية، وأسرارهما (= التصوف اليهودي)، هذه التجربة تجعله يدرك جوهر الأشياء، وقوانينها العميقة، كما فعل نبي الله موسى (عليه السلام) حين غاب في جبل الطور في شبه جزيرة سيناء.
ويبدو أن فترة بقاء (بهاء الله) في تلك المنطقة، كانت لها آثار سلبية على عقيدة بعض الكورد، ففي سنوات (1339-1340هـ)، الموافق لسنة (1919-1920م)، ظهرت في تلك المنطقة حركة الـ(حقّة)، التي تعدّ إحدى حركات الغلوّ في التصوّف النقشبندي، وكانت لها أفكار غريبة وعجيبة، مخالفة لعقيدة أهل السُنّة والجماعة، التي هي عقيدة الغالبية العظمى من الكورد.
  وغالب الظنّ أن لـ(بهاء الله) يد بما حصل من الانحراف لدى الصوفية النقشبندية في تلك المنطقة، المحيطة بقرية (شه ده له)، التي آلت نتيجتها إلى ظهور نِحلة الـ(حقّه). وليس من المستبعد، لدى بعض الباحثين الكورد، أن يكون قد تمّ ذلك وفق خطة رسمت لهذه الغاية، لإفساد عقيدة أهل المنطقة، مثلما عمل (البهاء) لإفساد عقيدة من انتحلوا (البهائية) في (إيران). وإلا فما الداعي ليسكن هذا الرجل، في هذه المنطقة النائية، مدّة سنتين (من 1272 لغاية 1274هـ الموافق لسنة 1854 لغاية 1856م)، وبالقرب من مركز رئيس الطريقة النقشبندية في قرية (شه ده له)، الشيخ (أحمد سردار النقشبندي)، أحد خلفاء مولانا خالد الجاف النقشبندي. وممّا يدلّ على ذلك، هو أن بعض منتسبـي هذه النحلة، نعتوا شيخهم (عبدالكريم شه ده له) بأنه هو (المهدي)، وبعضاً آخر وصفوه بأنه هو عيسى (عليه السلام). ويذكر أحد الباحثين، نقلاً عن أحد الرواة (ملا صديق، إمام جامع طق طق) قوله: "بأنه زار منطقة (شه ده له)، وحضـر مجلس الشيخ عبد الكريم، ورأى أحد مريدي الشيخ، وكان اسمه (خولَه) عرف بـ( خولَه شيت) قد طلب الدخول إلى غرفته، إلا أن الشيخ رفض دخوله، فوقف (خولَه) بباب الغرفة، وقال للشيخ ما ترجمته: إنك كالنّار داخل التبن، ترفض باللسان الدخول، وقلبك يأمرني به. وبعد قوله هذا دخل الغرفة وارتمى في زاوية منها، وهو يقول: إن هذا الشيخ هو حضـرة المهدي المنتظر، وهو عيسـى، ومن لا يؤمن به فهو الخاسر. واستطرد الملا صديق (= الراوي) قائلاً: إنني لم أرَ، ولم أسمع، إنكار الشيخ عليه، ولا تأييده له..."([10]).      
وتجدر الإشارة إلى أن البهائيين قد أسبغوا على زعيمهم (بهاء) مثل هذه الألقاب.. وينقل عن شخص معاصـر لتلك الأحداث، وهو السيد (الحاج عبد جاسم)، الذي كان من رجال الشـرطة العراقية الملكية، بأنه حين مداهمته لخانقاه (تكية مامه رضا)، أحد زعماء طريقة الـ(حقّه) في قرية (كلكه سماق)، الواقعة في السفوح الشرقية من جبل (هيبت سلطان)، المشـرفة على مصيف دوكان (=غربيّ مدينة السليمانية)، وتحرّيه لممتلكاتها، سنة1365هـ/1944م، لم يجد فيها من الكتب غير كتاب (البهائية(.
وتذكر مصادر بوجود شخص أجنبي زار المنطقة، بعد مجيء (بهاء الله)، وأن هذا الشخص هو الذي أوحى فكرة الحقّة إلى الشيخ عبدالكريم شه ده له، وحبّذ إليه الدعوة. وهذا الشخص استقرّ في مغارة كهف في جبل سورداش، القريب من قرية (شه ده له)، كما يروي الشيخ محمد طه الباليساني، نقلاً عن أخيه الشيخ عمر طه الباليساني([11]). وأشار إلى ذلك الباحث (كريم زند)، وعرّف الشخص المجهول، وقال هو (إيشان)([12])، وهو مشهور بـ(مامه ريشه). وتوفي إيشان في السليمانية، وكان يذهب من قبل إلى شيوخ قصبة بياره النقشبنديين للغرض نفسه، إلا أنهم طردوه - على حدّ تعبير الدكتور جمال محمد الباجوري-.
وليس من المستبعد أن تكون اتّصالات هذا الرجل المجهول بالمريدين، في هذه المنطقة، امتداداً لاتّصالات بهاء الله، وحلقة وصل بينهم. أي بعبارة أخرى: ممثل بهاء الله في المنطقة، بعد تركه إياها، ومغادرته إلى بغداد.
لقد تعاقب على زعامة الطريقة النقشبندية في منطقة سورداش، كل من الشيخ أحمد سردار النقشبندي، وبعدها ابنه (عبدالقادر سوور)، ثم انتقلت زعامة الطريقة إلى الشيخ رضا بن الشيخ عثمان العسكري، بناءً على توصية الأخير بتلقين الطريقة إلى مريديه. وأوصى الشيخ رضا العسكري بأن يكون الشيخ محمد إلا الله (= اسم قرية في منطقة كويسنجق) خليفة له في زعامة الطريقة النقشبندية. وبعدها قام الشيخ مصطفى بن الحاج الشيخ رضا العسكري بتلقين الطريقة إلى حين وفاته في بغداد سنة1335هـ/ 1915م. وبناءً على وصيته قام الشيخ ملا أحمد كلنيري بزعامة الطريقة لحين وفاته سنة1339هـ/1919م. وبعد سنة قام الشيخ عبدالكريم شَدَله في سنة1340هـ/ 1920م باستلام الطريقة النقشبندية، في مناطق سورداش وميركه وميرزا رستم وكويسنجق وآغجلر وشوان (= مناطق واقعة بين مدينتي السليمانية وكركوك)، وتلّقوا الطريقة منه. ويبدو أن الطريقة قد توسّعت في عهده، وبدت فيها آثار الغلوّ والشطط فيها، حيث قيل بأنه ادّعى أن الألوهية قد حلّت فيه.
وجماعة حقّة، مثلهم مثل أيّ جماعة صوفية، كانوا يصابون بحالة (الجذبة)، أثناء تواجدهم في خانقاه (شدله)، ويفقدون السيطرة على أنفسهم، ويبدأون بذكر (الله... الله...)، أو يقولون (يا حق .. يا حق..)، وبسبب اعتزازهم بالسلوك المتّبع من قبلهم، وذكرهم لكلمة (الحق) في حلقاتهم وأذكارهم، اشتهروا بين الناس بالحقّة. والظاهر أنهم كانوا يستحسنون هذه التسمية، وبدأوا بتفسير ذلك قائلين نحن نتبع الحقّ، ونبحث عن الحقيقة التي تستخلص من الطريقة، وطريقنا هو طريق الحقّ، لأن الطريقة الصوفية هي الحق، وأنها منبعثة من الشـريعة. ولذلك عندما كانوا يسمعون كلاماً صحيحاً، أو يشاهدون تصـرفاً أو عملاً صحيحاً، كانوا يقولون: (حقّه). ولذلك عندما كان يثار الجدل بين علماء الإسلام، وبين شيوخ الحقّه، حول عدم التزام الأخيرين بالإسلام وأركانه وضوابطه، كان جوابهم: "عن طريق التراجع والقول إن الطريقة تنبع من الشـريعة، وبناءً على ذلك، فإن أعمالنا نحن كممثلين عن الطريقة، شـرعية وغير مخالفة للدين"([13]).
لقد بدت عقائد الحقّة، في نظر الأغلبية السُنّية المحيطة بهم، موضع شك وريبة، لأنهم خالفوا الأسس العامة للإسلام، أو ما هو معلوم من الدين بالضـرورة.. ويمكن إرجاع أسباب تشكّك أهل السُنّة منهم، ومن عقائدهم، إلى سببين رئيسيين: الأوّل يتعلّق بترويج مبدأ انتفاء الحاجة إلى أداء التكاليف الشـرعية (= سقوط التكاليف)؛ من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها. والثاني يتعلّق بتصوّرات اجتماعية أكثر انفتاحاً، من قبيل: المساواة الاجتماعية بين الرجال والنساء، والتكافل الاجتماعي، وحقوق المرأة!، شبيه بما كان الأمر عليه في مستوطنات القرامطة، حول وجود إباحية في مجتمع الحقّة، حيث كان الاختلاط بين الرجال والنساء سيّد الموقف، كما أن الجانبين كانوا يسبحون معاً في أحواض السباحة برفقة الكلاب. ويذكر الضابط البريطاني (سي. جي. أدموندز)، مستشار وزارة الداخلية العراقية في العهد الملكي، ما نصّه: "أن نقشبندية كوردستان (أقصد الفلاحين في القرى البعيدة، لا رجال المدينة المتعلّمين)، يميلون بنوع إلى بعض الشذوذ. وليس من ريب عندي في أن اتّجاهات إباحية ظلّت تشيع زمناً طويلاً في القرى الجبلية البعيدة على حدود (سورداش) و(مةركه)، لانقطاعهم عن العالم الخارجي، وندرة زيارات موظّفي الحكومة، ولم يجذبوا اهتمامي لأوّل مرّة إلا في العام(1315هـ/ 1932م )، أي بعد عدّة سنوات من وجودي، فقد ذهبتْ وحدةٌ من الشرطة لإجراء تبليغ في قرية (هه له ون)، التي هي من أملاك الشيخ محمود، وتبعد عن (سه ركه لو) أربعة أميال، وعند عودتهم أبلغوني أنهم شاهدوا بأمّ أعينهم حفلة استحمام مختلطة للجنسين في حوض المسجد، وأضافوا إليها تفاصيل غريبة. وقد شكّت سلطات الإدارة (= العراقية الملكية) في صحّة ما بلغها أوّل الأمر، إلى أن أبلغ بعض التجار المحترمين عن مناظر مشابهة في قرية (سه ركه لو)[14] نفسها، وقدّموا شكوى لأنهم أهينوا واعتُدي عليهم، عندما حاولوا استنكار هذه الأعمال، وقد كشفت التحقيقات عن قصة غريبة فريدة"([15]).
 ويظهر أن المستشار البريطاني (= ادموندز)، بحكم اطّلاعه على الأوضاع في تلك المنطقة، عن كثب، بحكم كونه كان معاون الحاكم السياسي للواء كركوك في سنة1934م، والمنطقة التي كان هؤلاء الباطنيون مستقرّين فيها كانت تحت إشرافه المباشر، حيث زار بنفسه تكية قرية ( شَدَله)، في شهر آب/اغسطس عام1936م الموافق 1355هـ، لذلك كان على دراية كافية بالأوضاع، حيث يذكر بأن الشيخ عبد الكريم شدله قد أسّس طريقة صوفية عرفت باسم (حقّه)، وتستند إلى التعاليم المعروفة برقصات الصوفية، التي كتبها سلفه (حاجي شيخ عارف)، ولكنه أي (الشيخ عبد الكريم شدله) آثر أن يبقى وراء الستار، لأنه أبرز شخصية في المنطقة، فضلاً عن مسؤولياته تجاه الحكومة الملكية العراقية، وكان هذا بعد نظر منه ودهاء. ويستطرد المستشار البريطاني قائلاً: "... وشوهد أتباع الطريقة يدفنون أجسامهم حتى الأعناق في أكداس روث حيوانات القرية، وهم يتلون الأدعية لله. ووجد نوع من شيوعية الأموال، وبضمنها النساء. وراحت جماعات صغيرة، من كلا الجنسين، تتجول فوق الروابي والآكام بعد حلول الظلام، الرجال منهم في ثياب النساء أو حليّهن. أمّا حفلات الاستحمام المختلطة في المساجد، فكانت مظهراً منتظماً من مظاهر الطقوس، وكثيراً ما كانت تسحب الكلاب إلى الحوض مع المستحمّين، وكانت أوعية البول تنتقل من يد إلى يد.. وبلغ السيل الزبى عندما اقتحمت جماعة من الصوفية، وهم في حال الوجد (= السكر)، مسجد (سه ركه لو)، وأحرقت علناً نسخة من القرآن، وعندما استدعي الشيوخ والأدلة الصوفية إلى السليمانية للتحقيق، قالوا إنهم شخصياً لا يقرّون مثل هذا الشذوذ، على أنهم حاولوا الاعتذار لذلك بقولهم: إن يقم المريد الذي هو في حالة وجد، ولفترة محدودة، بتصـرّفات مخالفة للسلوك والأخلاق والدين- فليس عليه جناح..."([16]).

موقف التيار اليساري من حركة حقة
   حاول بعض الكتاب والصحفيين المحسوبين على اليسار الكوردي تبرير أعمال هؤلاء المنحرفين الباطنيين، بأنهم قاموا بهذه الأعمال لأسباب اقتصادية، تخلّصاً من سيطرة الآغوات والبرجوازية الكوردية، وإقامة علاقات مبنيّة على المساواة بين الرجال والنساء، لإنقاذ المرأة من سطوة الرجال!، حيث يشير الكاتب الكوردي اليساري محمد بن الملا عبدالكريم المدرس، في تقييمه لهذه الحركة، بالقول: "في الحقيقة إن حركة حقّه قد أتت بأمور جديدة غير موجودة في النهج الديني، بل ولا تنسجم معه، سواءً من وجهة النظر الدينية البحتة، مثل إهمال البعض منهم لأداء فرائض الصلاة والصوم (=ترك الفرائض)، أو في ميدان الحياة الاجتماعية، مثل موقفهم من المرأة (= تحرّرها)، والمساواة في المجال الاقتصادي... وأن الحركة كانت ذات صلة بالمناهج الدينية والفلسفية التي ظهرت بين المسلمين على مرّ التاريخ، وأظن أن هناك بصمات للطرق الفلسفية الحديثة على الحركة. وعموماً أنها نبعت من الشعور بالحاجة إلى الضـرورات الحياتية للمجتمع الفلاحي الإسلامي الكوردي"([17]).
  وفي ردّه على أحد الكتاب الكورد، الذي حاول تبرئة حركة حقّة من الشطحات والأفكار الباطنية، يقول: "إنه حان الوقت دون خوف من لوم الآخرين في المجتمعات المحافظة، أن نتجاسر ولا نحجب حقيقة تلك الحركات الاجتماعية والسياسية في كوردستان، وأن نحاول الوصول إلى حقيقة وأسباب ظهورها، لقد مضـى ذلك الوقت الذي نجعل من وجهة النظر القديمة لآلاف السنين، محكّاً لتقييم الأفكار والاتجاهات وتقديرها حسب وجهة نظر رجعية..."([18]).
ويقول الدكتور عز الدين مصطفى رسول: "وجدتُ أتباعه (= أتباع حمه سور) في سنة 1970 أكثر تقدّماً في الحياة اليومية من غيرهم"، ويضيف: "إن كثيراً من المذاهب الباطنية في الإسلام يُعَدّ بقايا لأديان أخرى، كالكاكائية، والإسماعيلية، والعلي إلهية. لكن (الحقّة) بعكس تلك المذاهب، منشؤها الإسلام، باعتبار أصل الحركة كانت صوفية (نقشبندية)، لكنها في الأخير دخلت فيها آيديولوجيات أخرى، كالطريقة النقشبندية ذاتها، فإنها بعد انتشارها في كوردستان اصطبغت بالمفاهيم الاجتماعية والوطنية، واختلطت بها"([19]).
 ويذكر كاتب آخر بأن ما أورده المستشار والضابط البريطاني (أدموندز) بشأن أهل الحقة هي مجرد افتراءات وتلفيقات لا أساس لها من الصحة، دون إعطاء دليل على ذلك. ويحاول تبرير تصرّفات وتجاوزات هؤلاء من الناحية الأخلاقية، دونما دليل، ليس إلا الدفاع لأسباب عرقية وآيديولوجية، ليس إلا([20]).
ومن جانب آخر، يذكر الباحث الهولندي (مارتن فان بروينسن)، نقلاً من مصادره الشفوية (= ومنهم علي عسكري) ([21]): "بأنّ قريته منظّمة، وكأنّها (كولخوز)([22])، فلاحة الأرض تجري بصورة جماعية، وكل شيء، بمن في ذلك النساء، ملكية جماعية. ويبدو أن (حمه سور) هو الشخص الوحيد الذي يتمتع بمساواة أكثر من الآخرين في هذا المجتمع (المساواتي)، فهو يهب الكثير من المال، ويقال إنه كان في (العام1975) لا يزال ينتحل صفة الأوّل بين الأكفّاء في صلاته مع جميع فتيات القرية، رغم سنواته السبعين"[23].
  وعلى السياق نفسه، يقول الشيخ حسين خانقاه، أحد شيوخ الطريقة القادرية في مدينة كركوك، ويمّت بصلة القربى إلى شيوخ حقّه، بالقول: "إن شيوخ حقّه، مثل أية مجموعة من شيوخ النقشبندية، كانوا يقومون بإرشاد مريديهم، إلى أن بدأ قسم من رجال الدين والمتصوفين في زمن الشيخ عبد الكريم بـ( الشطحات)، وقسم من هؤلاء كانوا يتكلّمون عن ظهور( محمد المهدي)، ومن هنا أخذوا يهملون شيئاً فشيئاً، القيام بالفرائض؛ كالصوم والصلاة، وتركوا العمل والعلاقات الأخرى. ولما كان يقوله ويعمله هؤلاء من أمور غريبة، اشتهروا بـ(المجانين ). أمّا البقية، الذين تمسّكوا بسلوكهم الصوفي، فكان يطلق عليهم الصوفية. ولكن الشيخ عبد الكريم لم يرض بأقوال وأفعال هؤلاء، وفي إحدى المناسبات قام بضرب (حمه سور- محمد الأحمر- أحد مستشاريه المقربين)، لأن حمه سور كان يقول: (لم تبق الشريعة)، وكان الشيخ يضربه، ويقول: قل (باقية)؛ إلا أن حمه سور كان يصرّ على قوله بعدم بقاء الشريعة"([24]).
  وبعد ثورة 14تموز عام 1985م/1378هـ  في العراق، التي قضت على النظام الملكي، نشـرت جريدة الجمهورية البغدادية، في السنة الأولى من صدورها، في الأعداد (50،51،53،60)([25]) حيثيات محاكمة مشهورة في بغداد لأحد مساعدي الشيخ عبد الكريم شدله، وهو شخص معروف باسم (حمه سور)، وقد اتهمته المحكمة بأن حركته (حقه) تستند على مذهب الحلول والتناسخ والإباحية، التي طبّقها عملياً بين أتباعه، كما رواها شهود من أهل قريته (=كلاوقوت)، والقرى المجاورة.. وكان (حمه سور) قد ادّعى بين أتباعه النبوة، زاعماً أنه نسخ الشريعة الإسلامية، وأن الله قد حلّ فيه، فكلامه هو كلام الله، وزعم أنه المهدي المنتظر، وكان يدعو الأهلين إلى ترك فريضة الصوم والصلاة، والدعوة إلى إباحة النساء، زاعماً أن مواقعة النساء اللاتي يرغبن في الجماع هي أحسن عند الله منها. فضلاً عن الدعوة إلى منع التناسل([26]).
وكان أحد المحامين من مركز مدينة كركوك، ويدعى (معتصم)، قد اتهم (حمة سور) بأنه في حقيقته أجنبي، لا يعلم أصله، ولكن الشهود قالوا: إنه جاء إلى قريتهم من إيران، وكان قبل ذلك في روسيا، فتلقّفه المستعمرون فدفعوه لتعلّم اللغة الكوردية، وهيئوه حتى يؤدّي هذا الدور، وأرسلوه إلى العراق، فاتّصل بالشيخ (عبد الكريم الشدلي) الذي – كما قيل – كان يدّعي الألوهية في حينه، ولمّا اختلف معه جاء إلى قرية (كلاوقوت)، في ناحية شوان، التابعة للواء (=محافظة) كركوك، فأفسد عقيدة كثير من العوام الجهال، الذين يتبعون كل ناعق دون دليل أو برهان([27]).
وقد انقسمت الحقّة بعد وفاة الشيخ عبدالكريم شدله على أربعة أجنحة متمايزة، تلاشى اثنان منها فيما بعد[28]، وبقي الآخران منفصلان، وهما:
1- المامه رضائية، نسبة إلى المامه رضا، الذي خلف شقيقه عبدالكريم شدله، المتوفّى سنة1942م، في قيادة الحقّه. وتوفي هو الآخر سنة1961م. وكان يناور عندما يسأل عن سبب تركهم للفرائض الشـرعية، من قبل أحد علماء مدينة السليمانية، فكان جوابه: "[واعبد ربك حتى يأتيك اليقين]، حتّى أداة بلوغ الغاية، ونحن وصلنا إلى الغاية، وحصل لدينا اليقين، ولذلك لسنا بحاجة إلى السجود"([29]).
2- الحمسورية، نسبة إلى حمه سور([30])، الذي يعدّ متطرّفاً أكثر من الفرع الآخر، وكان يقول عن دينه: "بأنه فوق دين النووي" ( = يظهر أنه يقصد الإمام النووي)([31])،  وكان يؤوّل الآيات القرآنية التي تتكلم عن خلق الإنسان من طين، بقوله: "ألا يقول العلماء إن الله خلق البشر من طين، فما يضرّ الله لو وضعنا قطعة طين في شق حائط"([32]). ولذا كان يعدّ الحقّة خارجين عن الإسلام. وكان هذا الفرع أكثر تطرّفاً من ناحية العلاقات الاجتماعية المشاعية بين الرجال والنساء. وقد مات حمسور سنة 1986م. حيث كانت له علاقات مباشرة مع مؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (= فهد، المسيحي من الطائفة النسطورية - الآشورية)، الذي أعدمته الحكومة الملكية العراقية في 14/2/1949م/1370هـ، وكان فهد عندما رجع من الاتحاد السوفيتي إلى العراق عن طريق إيران في عام1943م/1362هـ، جلب معه طابعة بمساعدة الحزب الشيوعي الإيراني(= تودة)، فاستقرّ في قرية شدله، في بيت الشيخ عبد الكريم، والتقى هناك بحمسور. وكان فهد، حينما كان يضطر للاختفاء عن أنظار السلطات الملكية العراقية –آنذاك- يلجأ دوماً إلى المكان نفسه (= قرية شدله) النائية، ويبقى فيه لفترات طويلة([33]).
وقد دخل الكثير من أتباع طائفة حقّة إلى الأحزاب الكوردية العلمانية، بشتى أطيافها اليسارية والماركسية. ويذكر الدكتور جمال محمد فقي بأنه عندما كان في العاشرة من عمره، حينما شبّت ثورة 1963م بقيادة القوميين والبعثيين: "رأيت أكثر من (150) نفراً من الشيوعيين في محافظة أربيل والموصل، من الكورد والعرب، قد مرّوا من خلال قريتنا (طالبان الكبير)، المجاورة لمركز ناحية طق طق الحالي، والتجئوا إلى جماعة (مامه رضا) في قرية (كلكه سماق)"[34].
أمّا بخصوص الغرائب والشذوذ في تصرفاتهم، فقد ذكرها أحد الباحثين الكورد، وفق ما يلي:
1- دفن الأجسام وهم أحياء، في أكداس روث حيوانية.
2- شيوعية الأموال، حتى يقول بعض من الناس بأنها شملت النساء أيضاً.
3- حفلات الاستحمام المشترك والمختلط، وسحب الكلاب معهم إلى داخل الأحواض.
4- التبرك بأوعية مملوءة من البول، ولمسها.
5- عدم حلق شعر الرأس، وخصوصاً المقدمة منها.
6- عدم شرب الشاي، والاكتفاء بالماء الحار والسكر([35]).
بناءً على ما تقدم، يظهر للباحث ما يلي:
1-  أن عناصر من حركة البابية والبهائية استطاعت التغلغل إلى صفوف الطريقة النقشبندية المجددية الكوردية، التي أسّسها مولانا خالد الجاف انطلاقاً من مدينة السليمانية، ورسمت لها مخططاً للتنفيذ تمّ تطبيقه ببطء عن طريق الدفع بهم نحو الشطط والغلو في شيوخهم، وعن طريق (التوجيه) بواسطة تعلّق قلب المريد بشيخه، وتذكّره طوال الوقت! (في الإسلام على الإنسان أن يتعلّق قلبه بالله وحده، وليس بشـيء آخر، لأنه منافٍ للتوحيد الخالص). وهكذا بحلول سنة1920م/1339- 1340هـ  ظهرت حركة الحقّة في عهد شيخها (عبد الكريم شدله).
2- دعم الحاخامات اليهود للبهائية، عن طريق التصوّف اليهودي (= القبالاه)، والدعم المادي السخي، على أساس ظهور الألفية السعيدة، وظهور المسيح المنتظر(= المهدي المنتظر).. ومحاولة إنشاء نواة لها في الأجزاء الجبلية البعيدة من كوردستان ذات الغالبية السنية، مثل : حركة الحقّة في شمال شرق كوردستان العراق، والخورشيدية في أواسط شمال كوردستان العراق، لأن الحركتين البابية والبهائية قامتا ضمن أتباع المذهب الشيعي الاثنا عشري في إيران، المستعد أصلاً لاستقبال الخرافات والأوهام البعيدة عن الإسلام الصحيح.
3- استغل أعداء الإسلام بُعد هذه المنطقة عن مراكز المدن، ووقوعها بين مضائق جبلية وعرة، شمال غربيّ السليمانية، شمال وشمال شرقيّ كركوك، لنشر أفكارهم الهدّامة.
4- كان الجهل والأمّيّة والإيمان بالخرافات متفشياً في هذه المنطقة، حيث يتفـشى الجهل والأمّية بسبب الحالة الاجتماعية المتأخرة والبساطة التي كان عليها أهلها.. وهذا ديدن الحركات الباطنية التي ظهرت في حقب مختلفة من التاريخ الإسلامي، كالنصيرية (= العلوية) والدرزية والبهرة والحروفية وغيرها.
5- تفرّعت الحركة إلى أجنحة، لامتداد نفوذها إلى مناطق أخرى، لا سيما الجناح الحمسوري .
6- كان الجناح الحمسوري أكثر تطرّفاً من الناحية الباطنية،  وإيغالاً في الإباحية، إذ ألغت العبادات والفرائض. كما دعت إلى شيوعية الأموال، وحتى النساء، ويرون أن الله خلق البشر من طين، ولا حرج في وضع قطعة طين في شق حائط – على حدّ زعمهم ([36]).
7- انضمّ غالبية أتباع الحركتين (المامه رضائية والحمسورية) إلى الحزب الشيوعي العراقي، وكانوا من أتباع حركة أنصار السلام، ومن ثَم الحزب الشيوعي الكوردستاني، والأحزاب اليسارية الكوردية الأخرى، بسبب القواسم المشتركة الكثيرة بين الباطنية والعَلمانية اليسارية.


[1] - الدكتور محسن عبد الحميد، حقيقة البابية والبهائية بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1405هـ-1985م، ص45.
[2]-  المرجع نفسه، ص46.
[3] - عبدالرزاق الحسني، البابيون والبهائيون في حاضرهم وماضيهم دراسة دقيقة في الكشفية والشيخية وفي كيفية ظهور البابية فالبهائية، بيروت، الدار العربية للموسوعات،2008،1428هـ،ص22، الهامش(2).
[4] - المرجع نفسه، ص24-25.
[5] - محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، 1986م، ج2، ص72.
[6] - عبدالكريم المدرس، يادى مةردان- تذكار الرجال باللغة الكوردية، المجمع العلمي العراقي- هيئة اللغة الكوردية بغداد، 1979م، ج1، ص259-260.
[7] - يبدو أن عدد اليهود مبالغ فيه، وهذه عادة المصادر والمراجع اليهودية، سلفهم في ذلك الرحالة  اليهودي الأندلسي المشهور (بنيامين التطيلي).
[8] - محمد عبد الحميد الحمد، البهائية ولادة دين جديد، دار الطليعة الجديدة، سوريا – دمشق، 2006م، ص270-271.
([9])  قرية (شەدەڵە)، بناها الشيخ مصطفى بن الشيخ رضا العسكري في المنطقة الواقعة بين جبلي بيره مكرون وجرمابان، شمال غربيّ مدينة السليمانية، وقد ظهرت حركة (حقه) الدينية الاجتماعية على يد الشيخ عبدالكريم بن الشيخ مصطفى بن الشيخ رضا العسكري في سنة1339هـ/1920م الملقب بـ(عبد الكريم شَدَله) كما بيّنا.
[10] - جواد فقي علي الجوم حيدري، محمد بن عبدالله الجلي وجهوده العلمية، أربيل: مكتبة التفسير، 1427هـ/2006م، ص66.
[11] - المرجع نفسه، ص64 نقلا عن جما محمد في بحثه (الحقّة) .
[12] - كريم زند، ئايين وباوه ر له كوردستاندا، ص88 ( الهامش).
-[13]  مصطفى رضا العسكري، التفاتة نحو حركة حقه، كتب مقدمته وهوامشه محمد الملا عبدالكريم، مديرية الطبع والنشر، السليمانية، 2009م، ص36-39.
[14] - سركلو: قرية مشهورة تقع في سفح جبل سورداش المشرف على الطريق الذي يربط مدينة السليمانية بمصيف دوكان من جهة الشمال.
[15] - سي. جي. أدموندز، كورد وترك وعرب، ترجمة: جرجيس فتح الله، منشورات الجمل- دار آراس للطباعة والنشر، بيروت – بغداد- اربيل، 2012م، ص289.
[16] - أدموندز، كورد وترك وعرب، ص289-290.
[17] - مصطفى رضا العسكري، التفاتة نحو حركة حقه، ص 33
[18] - المرجع السابق، ص33
[19] - جمال محمد فقي رسول باجلان، نحلة الحقة، مجلة جامعة كويه، العدد 6، كانون الاول عام2006م،  ص405
[20] ره شاد ميران، ره وشى ئايينى و نەتەوەیی لە كوردستاندا (كوردستان – هەولێر: دەزگای چاپ و بڵاوکردنەوەی رۆژهەڵات، چاپی سێیەم، 2017)، ل 17 – 18.
[21]- لم يكن علي عسكري وأبوه شيخين ممارسين في طريقة حقة أبداً، فلقد كان علي آمراً شاباً، إنما شهيراً، وكان عضواً قيادياً في الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي الذي تأسس عام 1946م بزعامة الملا مصطفى البارزاني، وكان علي مسؤولاً عن تنظيمات البارتي في منطقة دهوك، قبل اندلاع حركة أيلول في عام1961م، وأصبح واحداً من السياسيين القياديين والقادة العسكريين الرئيسيين في التنظيم الذي أسسه جلال الدين حسام الدين الطالباني في العام 1976م (= الاتحاد الوطني الكوردستاني). وفي صدام دراماتيكي مسلح بين الاتحاد الوطني الكردستاني والتنظيم المنافس له (القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني)، بقيادة نجلي ملا مصطفى البارزاني: إدريس ومسعود، في منطقة هكاري، جنوب شرق تركيا، بالقرب من الحدود العراقية التركية، كاد الأول أن يباد فيه إبادة تامة في ربيع 1978م، وتمّ فيه أسر علي عسكري، وقتل فيما بعد. ينظر: مارتن فان بروينسن، الآغا والشيخ والدولة البنى الاجتماعية والسياسية لكوردستان، ترجمة : أمجد حسين (بغداد – أربيل – بيروت: دراسات عراقية،2008م)، ج2، ص678- 679.
[22]- الكلخوز : تَعاوُنيّة زراعيّة، في البلدان الاشتراكيّة، تستثمر الأرض، وتملك وسائل الإنتاج بصورة جماعيّة. أو هي في الواقع أراضٍ وزعتها الدولة أيام الزعيم الروسي ستالين على الفلاحين، شريطة القيام بالعمل الجماعي، وتأسيس تعاونيات، توفر لها الدولة كل حاجياتها المادية ( آلات – بذور – مياه )، مقابل شراء محاصيلها بالأسعار التي تقررها.
[23] - بروينسن، الآغا والشيخ والدولة البنى الاجتماعية والسياسية لكوردستان، ج2، ص678.
[24] - مصطفى العسكري، التفاتة نحو حركة حقة، ص34-35.
[25] - جريدة الجمهورية  البغدادية الصادرة في يوم الجمعة 12 ايلول 1958م.
[26] - محسن عبد الحميد، حقيقة البابية والبهائية، ص49؛  مصطفى العسكري، التفاتة نحو حركة حقة، ص31؛ رفيق مجيد عبدالله، حركة الحقّة والحمسورية بين الإسلام والباطنية، مجلة جامعة دهوك، المجلد2، العدد1، شهر مايس 1999م، ص167، لذلك عندما أنجب أحد أتباعهم، باسم صوفي صابر، من قرية حاج بيخان، التابعة لناحية شوان، طرد من صفوف جماعة حقة. ينظر: جواد فقي علي، محمد بن عبدالله الجلي وجهوده العلمية، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية الشريعة – جامعة بغداد عام 1411هـ/1990م، ص59.
[27] - محسن عبد الحميد، حقيقة البابية والبهائية، ص49؛ رفيق مجيد عبدالله، حركة الحقة والحمسورية بين الإسلام والباطنية، ص166.
[29] - مصطفى العسكري، التفاتة نحو حركة حقة، ص129.
[30] - حمسور : مركب من محمد + سور، الذي يعني في اللغة الكوردية الأحمر. ومحمد يرّخم لدى الكورد السورانيين ويحول إلى (حمه) للتخفيف. وقد مات حمسور سنة1986م.
[31] - المرجع نفسه، ص130.
[32] - جواد فقي علي، محمد بن عبدالله الجلي وجهوده العلمية، ص59.
[33] - رفيق مجيد عبدالله، حركة الحقة والحمسورية بين الإسلام والباطنية،مجلة جامعة دهوك، المجلد2، العدد1، شهر مايس 1999م، ص166، حيث التقى الباحث شخصياً مع سكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني العراقي كريم أحمد الداود في يوم الأحد18/2/1996م، ومع أحد أتباع نحلة حقه، المدعو (ملا عمر كولده) في 18/1/1996م.
[34]- نِحلة الحقة، ص405.
[35] - المرجع نفسه، ص167، نقلاً عن المستشار والضابط البريطاني أدموندز، وفي مقابلة شخصية مع أحد أفراد الحقة (أحمد رسول) في 15/1/1996م.
[36] - المرجع نفسه، ص168.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق