03‏/10‏/2019

الوسطية جوهر منهج الإسلام.. ضرورتها، ومنزلتها


د. دحام إبراهيم الهسنياني
 تفسير آية الوسطية:
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}([1]). هذه الآية توجيه للخطاب إلى المؤمنين بين الخطابين المختصين بالرسول (صلى الله عليه وسلم) لتأييد ما في مضمون الكلام من التشـريف([2]). ويأخذ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا} مقاماً متميزاً مهمّاً بين ساحات ومجالات الجعل الإلهي. ففي كون الله جل جلاله هو الذي (جعل) – وهو ربّ العالمين، بيده مقاليد كل شـيء- دعم وتأييد لمن (جعل) لينهض بالأمر، وتوليد للثقة بالمقدرة والنصر. فهذا الجعل إناطة للتبعة، وتعويل وتخويل، وإعداد للمهمّة، وحفز للهمّة.. فإذا دمجناه بما فهمناه من مراد الآية (بالأمّة)، تبدّى لنا حجم هذه (الوسطية) في
الحقيقة والتكليف والتشـريف، ووزنها الذي استحقّت معه الشهادة على الناس كلّ الناس.. إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها.
ومعنى الآية: "جعلناكم أمّةً خياراً عدولاً بين الأمم؛ فالأوساط محميّة محوّطة، والأطراف يتسارع إليها الخلل، فهي أمّة خيّرة، عادلة، مزكّاة بالعلم والعمل، وتشهد على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلّغوهم الرسالة، ونصحوهم بما ينفعهم، ولكي يشهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) عليكم بأنكم صدقتموه، وآمنتم به"([3]).
قال ابن كثير: "والوسط ههنا الخيار، والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أيْ: خيرها. وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسطاً في قومه، أيْ أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها. كما جعل الله هذه الأمّة وسطاً، خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب. كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ([4])..}([5]).
قال الفخر الرازي: "الوسط هو العدل، فقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}([6]) أيْ أعدلهم". وقال: "والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين من الخصماء". وقال: "وأعدل بقاع الشـيء وسطه، لأن حكمه على سائر أطرافه على سواء، وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد، والأوساط محميّة ومحوطه"([7]).
"إنها أمّة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم، فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها، وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوّراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرّر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تحدّد حقيقة هذه الأمّة، ووظيفتها، لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدّر دورها حقّ قدره، وتستعد له استعداداً لائقاً.. وإنها للأمّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسيّ..
“أمّة وسطاً”.. في التصوّر والاعتقاد.. لا تغلو في التجرّد الروحي، ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة المماثلة في روح متلّبس بجسد، أو جسد تتلّبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات، حقّه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة، ورفعها، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق، وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
“أمة وسطاً”.. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة… ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلّد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصوّرات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالّة المؤمن، أنّى وجدها أخذها، في تثبّت ويقين.
“أمة وسطاً”.. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلّها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزاج من هذا وذاك.
“أمة وسطاً”.. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً لا همّ له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدّي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقّق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشّطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرّر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد، في تناسق واتّساق.
“أمة وسطاً”.. في المكان.. في سرّة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمّة - التي غمر أرضها الإسلام - إلى هذه اللحظة، هي الأمّة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال - بموقعها هذا - تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعاً؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة، وثمار الروح والفكر، من هنا إلى هناك؛ وتتحكّم في هذه الحركة ماديّها ومعنويها، على السواء.
“أمة وسطاً”.. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشـرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدّها عن الفتنة بالعقل والهوى؛ وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصـراط السوي بين هذا وذاك. وما يعوق هذه الأمّة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتّخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمّة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة، وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكّد خلوصها لله وتجرّدها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الرشيدة"([8]).

آية الوسطية دليل حجية الإجماع
وقد احتجّ علماء الأصول، على اختلاف مدارسهم، بهذه الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًاَ} على أن الإجماع حجّة، وفسّروا الوسط بالعدل، أو بالخيار، فلكونهم عدول خيار، صحّ منهم الإجماع.
 قال الإمام أبو بكر الجصّاص: "وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمّة من وجهين:
الأوّل: وصفه إياها بالعدل، وإنها خيار، وذلك يقتضي تصديقها، والحكم بصحة قولها، ونافٍ لإجماعها على الضلال.
الثاني: قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، بمعنى الحجّة عليهم، كما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما كان حجّة عليهم، وصفة بأنه شهيد عليهم. ولمّا جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم، فقد حكم لهم بالعدالة، وقبول القول، لأن شهداء الله لا يكونون كفّاراً، ولا ضلّالاً.."([9]).
وقال الإمام الرازي: "احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجّة، فقالوا: أخبر الله عن عدل هذه الأمّة، وعن خيريّتهم، فلو أقاموا على شيء من المحظورات، لما اتّصفوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات، وجب أن يكون قولهم حجّة"([10]).
قال الإمام السرخسي: "... ومعلوم أن الارتضاء مطلقاً لا يكون بالخطأ، وإن كان المخطئ معذوراً، وإنّما يكون بما هو الصواب، فعرفنا أن الحق مطلقاً فيما اجتمعوا عليه. قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا والوسط: العدل المرضي، قال تعالى: {أوسطهم} أي: أعدلهم وأرضاهم قولاً. وقال القائل: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم، أي عدل. ففي الوصف لهم بالعدالة، تنصيص على أن الحق ما يجتمعون عليه، ثم جعلهم شهداء على الناس، والشاهد مطلقاّ من يكون قوله حجّة. ففي هذا بيان أن إجماعهم حجّة على الناس، وأنه موجب للعلم قطعاً، ولا معنى لقول من يقول الشهود في الحقوق عند القاضي، وإن جعلت شهادتهم حجّة فإنها لا تكون موجبة للعلم قطعاً، وهذا لأن شهادتهم حجّة في حق القاضي، باعتبار أنه مأمور بالقضاء بالظاهر، فإن ما وراءه غيب عنه، ولا طريق له إلى معرفته، فيكون حجّة بحسب ذلك. وأمّا هنا، فقد جعل الله تعالى هذه الأمّة شهداء على الناس بما هو حق الله على الناس، وهو علّام الغيوب، لا تخفى عليه خافية، فإن ما يكون حجّة لحقّ الله على الناس، ما يكون موصوفاً بأنه حقّ قطعاً، كيف وقد جعل الله شهادتهم على الناس كشهادة الرسول عليهم، فقال: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وشهادة الرسول حجّة موجبة للعلم قطعاً، لأنه معصوم عن القول بالباطل. فتبيّن بهذه المقابلة أن شهادة الأمّة في حقّ الناس بهذه الصفة، ولا يجوز أن يقال هذا في حكم الآخرة، لأنه لا تفصيل في الآية، ولأن ما في الآخرة يكون أداء الشهادة في مجلس القضاء، والقاضي علّام الغيوب، عالم بحقائق الأمور. فما لم يكونوا عالمين بما هو الحقّ في الدنيا، لا يصلحون للأداء بهذه الصفة في الآخرة، مع أن الشهادة في الآخرة مذكورة"([11]).
وقال الآمدي: "اتّفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجّة شرعية، يجب العمل به على كل مسلم، خلافاً للشيعة والخوارج والنظّام من المعتزلة، وقد احتجّ أهل الحقّ في ذلك بالكتاب والسُنّة والمعقول، قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ}، وصف الأمّة بكونهم وسطاً، والوسط هو العدل"([12]).
قال الإمام القرطبي: "أنبأنا ربّنا في كتابه بما أنعم علينا من تفضّله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه. وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، وفيه دليل على صحّة الإجماع، ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولاً شهدوا على الناس. فكل عصــر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجّة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الأمّة شهداء، فقد وجب قبول قولهم"([13]).
وقال الإمام الشوكاني: "ومن جملة ما استدلّوا به قوله الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ}، فأخبر سبحانه وتعالى عن كون هذه الأمّة وسطاً، والوسط من كل شيء خياره، فيكون تعالى قد أخبر عن خيريّة هذه الأمّة، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتّصفوا بالخيريّة. وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات، وجب أن يكون قولهم حجّة. لا يقال الآية متروكة الظاهر، لأن وصف الأمّة بالعدالة، يقتضي اتّصاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضـرورة، لأنا نقول يتعيّن تعديلهم فيما يجتمعون عليه، وحينئذ تجب عصمتهم عن الخطأ قولاً وفعلاً. هذا تقرير الاستدلال بهذه الآية. وأجيب بأن عدالة الرجل عبارة عن قيامه بأداء الواجبات، واجتناب المقبحات، وهذا من فعله. وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه جعلهم وسطاً، فاقتضـى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله، وذلك يقتضـي أن يكون غير عدالتهم، التي ليست من فعل الله. وأجيب أيضاً بأن الوسط اسم لما يكون متوسّطاً بين شيئين، فجعله حقيقة في العدل، يقتضـي الاشتراك، وهو خلاف الأصل"([14]).
ويقول الإمام صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، في معرض الاستدلال لحجيّة الإجماع عند جمهور الفقهاء: "وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ}، والوساطة: العدالة، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}. وكل الفضائل منحصـرة في التوسط بين الإفراط والتفريط، فإن رؤوس الفضائل الحكمة والعفّة والشجاعة والعدالة. فالحكمة نتيجة تكميل القوّة العقلية، وهي متوسطة بين الجربزة والغباوة، فتوسّطه أن تنتهي القوة العقلية إلى حد يمكن للعقل الوصول إليه، ولا يتجاوز عن الحد الذي وجب أن يتوقف عليه، ولا يتعمّق فيما ليس من شأنه التعمّق، كالتفكير في المتشابهات، والتفتيش في مسألة القضاء والقدر، والشروع بمجرد العقل في المبدأ والمعاد، كما هو دأب الفلاسفة. والعفة، هي نتيجة تهذيب القوّة الشهوانية، وهي متوسطة بين الخلاعة والجمود. والشجاعة، نتيجة تهذيب القوّة الغضبية، وهي متوسطة بين التهوّر والجبن، وإنما يحمد فيها التوسط، لأن النفس الحيوانية هي مركّب للروح الإنسانية، فلا بد من توسطها، لئلا تضعف عن السير، ولا تجمح بل تنقاد للروح. ثمّ التوسّط في هذا المجموع (أي الحكمة والعفة والشجاعة) هي العدالة، فلهذا فسّـر الوساطة بالعدالة، والعدالة تقتضـي الرسوخ على الصــراط المستقيم، وتنفي الزيغ عن سواء السبيل"([15]).
أمّا من حيث الفروع، فقد كان للفقهاء، تحليل وكلام عن الوسطية في مختلف أبواب الفقه، كالصلاة، والزكاة، والاعتكاف، والحج، والبيوع، والأنكحة، والشهادات، والجنايات، أين كان لهم استدلال بالآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا}، أو بأحاديث تخصّ هذه المسائل.
وقد شرح بعضهم الآية الكريمة، في معرض الاستدلال عن مسألة معيّنة، ففسّـر الكاساني الوسط بالعدل، ونقل ظاهر قول أبي حنيفة، فقال: "...أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لا لِلإِثْبَاتِ، لِثُبُوتِهَا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ الدَّلِيلِ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الإِثْبَاتِ، وَهُوَ إيجَابُ الْقَضَاءِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلِهَا، وَلأَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا}، أَيْ عَدْلاً"([16]).
وعند المالكية جاء في الرسالة: "... قال عياض: اختلف في ضبط وسط، فقيل لا يقال هنا وفي الدار إلا بإسكان السين، وأما وسط بالفتح فمعناه عدل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ}، وقال ابن دريد: يقال: وسط الدار ووسطها، واختلف في المراد بوسط وقت الظهر، فقيل: أراد به نصف القامة، لأن حقيقة الوسط النصف..."([17]).
ويقول جمال الدين القاسمي: "استدل بالآية على أن الإجماع حجّة، لأن الله وصف هذه الأمّة بالعدالة، والعدل هو المستحقّ للشهادة وقبولها، فإذا اجتمعوا على شيء، وشهدوا به، لزم قبوله. فإجماع الأمّة حقّ، لا تجتمع الأمّة - والحمد لله - على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهَ}([18])، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم (صلى الله عليه وسلم) بذلك في قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَر}([19])، وبذلك وصف المؤمنين في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر} ([20])، فلو قالت الأمّة في الدين بما هو ضلال، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول. وقد ثبت في الصحيح([21]) عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك (رض) يقول: (مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (وجبت)، ثم مرّوا بأخرى، فأثنوا عليها شـرّاً، فقال: (وجبت)، فقال عمر بن الخطاب (رض): ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شـرّاً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا}. فإذا كان الربّ تعالى قد جعلهم شهداء، لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشـيء، فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء، فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل، أو خطأ، لم يكونوا شهداء الله في الأرض، بل زكّاهم الله في شهادتهم، كما زكّى الأنبياء فيما يبلّغون عنه، أنهم لا يقولون عليه إلاّ الحق، وكذلك الأمّة لا تشهد على الله إلاّ الحق"([22]).

الحاجة إلى الوسطية شرعاً، وضرورتها:
في الإسلام من مقاصد الشريعة، وغاياتها الأساسية الكبرى، وهي خمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال، لتحقيق مصلحة الفرد والجماعة والأمّة، وإيجاد التوازن والاعتدال الذي به تدوم الأوضاع والأحوال على منهج حسن ووضع مستقر. فالتوسّط في الأمور ينسجم مع إمكانات البشر، وقدراتهم، وعطاءاتهم، وبه ينعم الناس في مظلّة الحرية، ومتابعة الفعاليات، والإنجازات، فيتحقّق الأمن النفسي والاجتماعي والصحي والمعيشي، ويتجنّب الناس كل ألوان الخوف والقلق واليأس والإحباط، ومن خلاله تنتعش الأحوال الاقتصادية، ويعم الاستقرار والوئام، بل ويقبل الأفراد والجماعات على التنمية وزيادة الإنتاج، وتوفير الثروة.
إن الوسطية حق وخير وعدل، ومطلب شـرعي أصيل، ومظهر حضاري رفيع، ليتحقق التكامل والانسجام بين الأوضاع، والتعاون بين الجميع، ويصير الإخاء والإقدام على العمل أساس كل تقدم ورفاه. كما أن حالة الوسطية تؤدي إلى أداء الواجبات، وحقوق الله، وحقوق الناس، فلا تقصير في واجب، ولا إهدار لحق، ولا تقصير في الأداء، كما أنه لا تظالم أو تناحر، ولا صـراع أو تنافس غير شريف، ولا تناقض في السلوك والممارسات الاجتماعية، ولا تعقيدات أو أمراض نفسية أو اجتماعية. لأن كل إفراط أو شذوذ يؤدي إلى الاضطراب، وكل تفريط في أداء واجب يكون سبباً في إثارة المنازعات والخصومات، وإغراق المحاكم بالدعاوى، وتعطيل الأوقات، وتجميد الأحوال.
إن الحياة الهادئة لا تصلح بغير توسّط في الأمور، وإن التوفيق بين متطلّبات الدين وشؤون الدنيا، والمصالح العامة والخاصة، أمر مرهون بتوافر القدرة على إنجاز المهام كلها([23]).
ولقد أرشد القرآن الكريم إلى ظاهرة التوازن في الأشياء، والأعمال، والقدرات، والممارسات، القائمة على صحوة الوجدان، وقوّة العزيمة، والتمسّك بالحقّ، والتزام العمل الصالح، الذي هو سمة المجتمع المتحضـر، وذلك في سورة موجزة هي سورة العـصـر: {وَالْعَصـْرِ، إِنَّ الإنسان لَفِي خُسـْرٍ، إِلاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ([24])، إننا في حاجة ماسّة إلى أن نقيم أمر فكرنا ومنهجنا وتطوراتنا وسلوكنا على قاعدة الوسطية والاعتدال في كل شيء، حتى نكون على الصـراط الذي رسمه لنا شرعنا الكريم. وضرورة هذه القاعدة الجامعة، تقتضي منا أن ننقل دوائر الاهتمام:
من الفروع والجزئيات، إلى الأصول والكليات.
من النوافل، إلى الفرائض.
من أعمال الجوارح، إلى أعمال القلوب.
من التعقيد والتنفير، إلى التيسير والتبشير.
من الشكل والمظهر، إلى الحقيقة والجوهر.
من الكلام والجدل، إلى العطاء والعمل.
من العاطفية والارتجال، إلى العلمية والتخطيط.
من التعصب على المخالفين، إلى التسامح معهم.
من الإثارة، إلى التثقيف.
من الغلو والانحلال، إلى الوسطية والاعتدال.
من سماء الأحلام، إلى أرض الواقع.
من التعالي على المجتمع، إلى المعايشة له.
من الارتفاع على الماضي، إلى معايشة الحاضر، والإعداد للمستقبل.
من اختلاف التضادّ والتشاحن، إلى اختلاف التنوع والتعاون.
من إهمال شؤون الحياة، إلى التعبّد بإتقانها.
من الإعجاب بالنفس، إلى محاسبتها.. ومن السيوبة والعشوائية، إلى التدقيق والنظام.
من العنف والنقمة، إلى الرفق والرحمة.
من التجزئة والاختراق، إلى الوحدة والشمول.
من الجمود والكسل، إلى الحركة والنشاط.
من التعصب والانغلاق، إلى التسامح والانطلاق.
من الضعف والهوان، إلى القوّة والعزّة.
من الظنيات والمتشابهات، إلى القطعيات والمحكمات.
ومن الجمود والتقليد، إلى الاجتهاد والتجديد([25]).
هذا هو ديننا (دين وسط)، وهذه هي أمّتنا (أمّة وسط)، وهذا هو منهجنا (منهج وسط). ولقد كانت هذه الوسطية الإسلامية، في عصـر تبلور وازدهار حضارتنا الإسلامية – وما تزال صالحة -: المنهج الذي يؤلّف – في التصوّر الإسلامي([26]) – بين: الروح والجسد.. والدنيا والآخرة.. والدين والدولة.. والذات والموضوع.. والفرد والأمّة.. والفكر والواقع.. والمادية والمثالية.. والواقع والمثال.. والمقاصد والوسائل.. والثابت والمتغيّر.. والقديم والجديد.. والربانية والإنسانية.. والأخروية والدنيوية.. والماضوية والمستقبلية.. والمسؤولية والحرية.. والاتّباع والابتداع.. والواجبات والحقوق.. والاعتزاز والتسامح.. والعقيدة والعمل.. والتربية والتشـريع.. ووازع الإيمان ووازع السلطان.. والإبداع المادي والسمو الخلقي.. والقوة العسكرية والروح المعنوية.. والأصول والفروع.. والعقل والنقل.. والخصوصية والعالمية.. والحق والقوة.. والاجتهاد والتقليد.. والدين والعلم.. والعامة والخاصة… إلى غيرها من الثنائيات. تلك هي وسطيتنا الإسلامية الجامعة.. صبغة الله التي أرادها لأمّة الإسلام، والفطرة الإسلامية المطهّرة من العوارض والآفات.
إن الوسطية الإسلامية يجب أن تتحوّل إلى مؤسسات فكرية تربوية، ذات مناهج علمية محكمة، تهدف إلى صياغة المسلم صياغة تحقّق التغيير النفسـي الداخلي، المشـروط في القرآن الكريم ليتحقّق التغيير الخارجي: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}([27])، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}([28]).
وقبل أن نطالب الآخرين أن يتغيروا، يجب أن نتغيّر نحن، لكن وفق ما نطمح إليه من ضبط الداخل والخارج حسب مقاصد الشـريعة السامية وحقائقها الخالدة. إن المهمة الملحّة هي إعداد النفوس لعملية التغيّر والتغيير الداخليين، لصيانة الذات وتحصينها، وحينئذ نكون قد تجاوزنا دركات النفس الأمّارة، حتى تترسّخ في النفوس تلك الدوافع النبيلة، والنوازع الخيْرية، فتنضبط حركةً نحو الخير، وسكوناً عن الشـرّ، وتنصهر حتى تصبح روحاً واحدة، وجسداً واحداً، في اتّجاه البناء الجديد، كأن الجميع نفس واحدة. وإنسان الظالم لنفسه إلى الارتقاء في الشـروع في السير خلال النفس اللوامة، التي تمثّل المسلم المقتصد، حتى نحقّق الاستقرار على طريق المسيرة في مدارج النفس المطمئنة، أو المسلم السابق بالخيرات بإذن الله. فكلّما توافرت للأمّة النسبة العالية للنوع الثالث، استطاعت أن تأخذ مكانتها المحترمة بين أمم العالم. ولعلّ هذا ما يعنيه القرآن الكريم - والله أعلم - بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}([29]). فالنوع الثالث أكرمه الله بتربية عالية، تجعل حسناته ترجح سيئاته، وهو من النوع الذي يقضـي حقوق الآخرين، دون أن يقتضي حقوقه ممّن هضمه إياها، فهو إنسان تضحية ونكران ذات، وهمّه أن تكون أمّته قائدة رائدة، فلا يحاسبها على ساعة العمل، فهو يعطي أكثر ممّا يأخذ. ولا ضير أن يكون بجانبه الإنسان المقتصد، الذي يقوم بواجباته قدر ما يأخذ من حقوقه. ولكن النوع الظالم لنفسه، هو المثبّط، والمتثّبط، فإن ارتفاع نسبته في الأمّة يؤذن بالتأخّر والتخلّف، وربما بالسقوط. يقول مالك بن نبي: "إن الرقي والتقدم لا يتحقق إلا في مجتمع يتوافر فيه فائض الواجبات"، ويضـرب مثلاً بألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية([30]).

وسطية الأمّة الإسلامية في الموقع والمكان
وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمّة أن جعل (وسطيتها) في كل مجال: فهي في موطن الرسالة الأولى، وفي ساحتها الحضارية المشعة مترامية الأطراف – من بعد – في مناخ وسط محتمل، وجو مسعف، لا في مناطق بركانية زلزالية، ولا استوائية، ولا متجمدة قطبية، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنشاط والإعمار الحضاري. فقد شاءت المقادير أن يكون حظ الأمّة الوسط، في العدل والخير والاعتدال، أن تصبح وسطاً أيضاً على صعيد الجغرافيا، باعتبار أن موقع الأمّة العربية جعلها في بقعة تمتد بين الشـرق والغرب، حتى قُدِّر لها أن تمزج بين السمت الأساسي لثقافات الطرفين. إذ امتزجت فيها والتقت روحانية الشرق وماديّة الغرب، الأمر الذي أضفى فرادة على طابعها الثقافي، عبّرت عنه ثقافة الوسط التي سادت تاريخياً في بلاد الإسلام.
قال أبو حيان في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمّةً وَسَطًا}: "أي كما جعلنا الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمّة وسطاً دون الأنبياء وفوق الأمم"([31]).
يقول سيد قطب في هذا الشأن: "..“أمة وسطاً”.. في المكان.. في سرّة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمّة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة، هي الأمّة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال - بموقعها هذا - تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعاً؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكّم في هذه الحركة ماديّها ومعنويّها على السواء.."([32]).
وهي وسط في موقعها الجغرافي المهم، حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام، ومهد الأمّة الإسلامية الأولى، ملتقى الجهات.. ومجمع القارات.. واليابسة التي تحفّها مسالك المواصلات المائية إلى جلّ العالم… فهي الوسط بين الشمال والجنوب، والشـرق والغرب، وهي مركز الوصل بين إفريقية وآسيا وطرف ممتد من أوربا، وهي الرباط البريّ بين الطرق المائية. وقد كان عدم اتّصال المياه بين الشمال والجنوب سبباً في أن شبه جزيرة العرب كانت نقطة تغيير في وسائل المواصلات، وفي دور (الوساطة) الذي كتب للعرب أن يقوموا به، بل ودور الرسالة الخالدة الذي قضى الله أن يضطلعوا به، لنزول الإسلام في بلادهم، على رسول منهم و{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}([33]).
والواقع أن الحكمة الإلهية من نزول الإسلام في الأرض الوسط، لا يمكن أن تعادلها إلا حكمة الأمانة التي حمّلها الله للأمّة الوسط، فمن البحر الأبيض المتوسط تبدأ المواصلات مع بحار الشمال، ومن البحر الأحمر، ومرافئ الخليج، تنطلق المواصلات مع بحار الجنوب. فيكون شبه الجزيرة العربية بذلك وسطاً جغرافياً، مهّد للأمّة الإسلامية، من أرضها العربية التي كانت هي سرّتها ومهوى أفئدة أبنائها عبر الدهر، القيام بتوثيق التعامل والتبادل، وربط الأواصر بين أرجاء الأرض، التي تتربّع في قلبها.. وكان ذلك توسّطاً خاصّاً للأرض العربية في صميم العالم الإسلامي، وتوسّطاً عاماً لهذا العالم بين أنحاء الدنيا وأطرافها.
من هذه البيئة الوسط انتشر الإسلام شـرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بالبر والبحر على حدٍ سواء، ولعلنا نستطيع أن نرى كيف أن عاملاً قوياً من عوامل ذلك الانتشار تتمثل في موقع شبه الجزيرة العربية، وفي سهولة اتّصالها، عن طريق البرازخ والمعابر البرية من جهة، والمفارق والخلجان البحرية، من جهة أخرى. ثم إن هذه الظروف الجغرافية لم تكن مقوّماً وعاملاً ميسّراً لانتشار الطابع الإسلامي في الحياة فقط، وإنما كانت كذلك عامل تواصل بين أطراف العالم الإسلامي، بحيث إن جماعات المسلمين حتّى في الجهات النائية من جنوب شـرق آسيا – مثلاً - لم تنعزل في حياتها وثقافتها وتاريخها عن الوطن الأمّ للإسلام، لا في التجارة، ولا في الحج، ولا في الهجرات وتواصل الأرحام.. ومن هنا، كان التماسك الحيوي والحضاري العام بين المسلمين، في مختلف أقطارهم، حتى في العصور التي لم يكن هناك فيها أيّ تواصل سياسي، أو اقتصادي.. بل من هنا كان التفاعل بين المسلمين تفاعلاً أصبح قواماً للطابع الحضاري الإسلامي، على مرّ العصور([34]).
وهكذا، يتبيّن لنا أن هذه الدراسة لبعض العلماء الجغرافيين المسلمين، على أن الكعبة تقع في وسط الأرض، وفي مركز الكرة الأرضية، إعجاز للآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}([35]) r








([1]) سورة البقرة، الآية: 143.
([2]) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، للإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي: 1/133، مطبعة محمد صبيح، القاهرة.
([3]) تفسير روح البيان، إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي: 1/248، دار إحياء التراث العربى، بيروت.
([4]) سورة الحج، الآية: 78.
([5]) تفسير القرآن العظيم:1/191.
([6]) سورة القلم، الآية: 28.
([7]) تفسير الرازي: 4/97.
([8]) في ظلال القرآن، سيد قطب:1/131.
([9]) أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص: 1/105، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1405، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي.
([10]) تفسير الكبير للفخر الرازي: 4/98.
([11]) أصول السرخسي: 1/ 297.
([12]) الإحكام في أصول الأحكام: 1/179ـ180.
([13]) الجامع لأحكام القرآن: 2/105.
([14]) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: 285
([15]) شرح تنقيح الفصول في الأصول، شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (684ﻫ)، بهامش منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح، مطبعة النهضة، تونس 1340هـ - 1921م: 2/48- 49.
([16]) بدائع الصنائع: 7/244.
([17]) كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني: 1/427.
([18]) سورة آل عمران، الآية: 110.
([19]) سورة الأعراف، الآية: 157.
([20]) سورة التوبة، الآية: 71.
([21]) رواه أحمد: 3/186، والبخاري في: 23 كتاب الجنائز: 86 باب ثناء الناس على الميت، ومسلم: 3/53، وابن ماجة (1491).
([22]) محاسن التأويل: 1/284-285.
([23]) الوسطية مطلباً شرعياً وحضارياً: 7.
([24]) سورة العصر.
([25]) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، الدكتور يوسف القرضاوي، دار الشروق، ط1، 1423هـ ـ 2002م.
([26]) التصور الإسلامي هو: الفكرة العامة التي جاء بها الإسلام عن الوجود كله: (الكون، الحياة، الإنسان)، ومقومات هذا التصور هي: مجموعة الحقائق العقدية الأساسية التي تُنْشيء في عقل المسلم وقلبه ذلك التصور الخاص للوجود وما وراءه من قدرة مبدعة وإرادة مدبرة، وما يقوم بين هذا الوجود وهذه الإرادة من صلات وارتباطات. ولعل أول من استخدم هذا المصطلح: (التصور الإسلامي)، هو المفكر الإسلامي المعروف أبو الأعلى المودودي فكتب في ذلك كتابه: « الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادئها » وكتابه: «نظام الحياة في الإسلام»، وأقامهما على هذه الفكرة. ثم أقام الأستاذ سيد قطب كتابه المعروف: « العدالة الاجتماعية في الإسلام » على هذا الأساس، فكتب فيه فصلاً عن نظرة الإسلام للوجود ليكون قاعدة لبحث النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ووعد ببحث مفصل عن ذلك، وكان أن أنجز وعده، فصدر أولاً: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» (القسم الأول: الخصائص)، وبعد سنوات من إعدامه صدر القسم الثاني من الكتاب عن «مقومات التصور الإسلامي» في عام 1406هـ. (مجلة البيان، العدد 74 شوال - 1414هـ ـ مارس - 1994م، السنة الثامنة، مقال: نظرة في مناهج المفكرين المعاصرين، في دراسة العقيدة، عثمان جمعة ضميرية).
([27]) سورة الرعد، الآية: 11.
([28]) سورة الفتح، الآية: 23.
([29]) سورة فاطر، الآية: 32.
([30]) الإسلام دين الوسطية والفضائل والقيم الخالدة، عبد السلام الهراس: 49. ط1، فاس، المغرب.
([31]) تفسير البحر المحيط: 1/421.
([32]) في ظلال القرآن لسيد قطب: 1/131.
([33]) سورة الأنعام، الآية: 124.
([34]) وسطية الإسلام وأمّته في ضوء الفقه الحضاري، عمر بهاء الدين الأميري: 58، دار الثقافة، الدوحة، ط1، 1406هـ ـ1986م.
([35]) سورة البقرة، الآية: 143.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق