02‏/10‏/2019

اللسان القرآني هو المتحكّم في اللسان العربي

هفال عارف برواري
 بدايةً يجب أن نعرف كيف جُمِع القرآن؟
هل صحيح أن الذي جمعه هو (عثمان بن عفان)، كما هو الدارج، وعندما يدخلون في الدراسات التخصصية يقولون بل الذي جمعه هو (أبوبكر الصديق)؟
ثمّ إذا كان هؤلاء -مع علوّ شأنهم- هم من جمعوا القرآن، فعلى أيّ أسس قاموا بجمعه في ترتيب الآيات والسور؟
إذاً الصحيح أنهم ليس من جمعوا القرآن؟
بل الذي جمع القرآن هو الله تبارك وتعالى، ولا يستطيع أيّ مخلوق أن يجمع هذا القرآن، حتى وإن كان محمّداً رسول الله!

فجبريل عليه السلام (أمين الوحي) الموكّل بالوحي، كان يبيّن للرسول الآية، وموقعها في السورة بالتحديد، وكذلك ترتيب السور. وما حدث في عهد أبو بكر هو ما يسمّى بالكتبة الأولى وجمع للرِقاع، فهذا يُسمى (جمع من جمع)، (وكتابة ما جمع من قبل الله). وفي عهد عثمان يسمى بالكُتبة الثانية. فالقرآن جُمِع وحُفِظ من قبل الله، فمن الخطأ القول أيضاً إننا نحفظ القرآن، فالحافظ هو الله وحده.. ومن الأدلة القرآنية على ذلك:
يقول الله عزوجل:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
 أي إنّ الله هو الذي جمع، والرسول وأبو بكر وعثمان هم متّبعون، وبيّن كل شيء فيه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}. وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. والذي تصدّى له بالحفظ هو الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
الدخول في الموضوع:
يجب العلم أن أوّل من حاولوا تحريف القرآن هم اليهود، الذين أعلنوا العداوة على هذا الدين، فقد كان المؤمّل عندهم أن خاتم الأنبياء سيكون من نصيبهم، وسيكون في أحد نسل بني إسرائيل، وعندما لم يكونوا مؤهّلين لحمل الرسالة الخاتمة، وتمّ تغيير مسار حمل الأمانة، أعلنوا العداوة على هذا الدين الجديد، ونبيّه الخاتم، وعندما أدركوا وتيّقنوا أنهم لن يستطيعوا تحريف الكتاب، كما حرّفوا التوراة، وألّفوا في الإنجيل، لذلك خطّطوا وعملوا على مسارين:
١-ما يسمّى بالإسرائيليات؛ من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
٢- التفسير، أي تفاسير القرآن.
وعندما كتبوا في التفاسير، قالوا عن ابن عباس!! وعندما يتمّ انتقاد ما جاء به ابن عباس،
يقولون هو من الرسول صلى الله عليه وسلم!
لكن أين سند ومتن حديث الرسول، وقوّة ثبوته في التفاسير؟ ناهيك عن قصص الإسرائيليات، التي لا أصل ثابت لها.
لذلك لم يترك الله - عزّ وجلّ- كلامه الخاتم للناس حتى يحرّفوا فيه، كما فعلوا في الكتب السماوية السابقة، ولم يوكّل البشر بحفظه، لأنهم غير قادرين على ذلك، بل أرجع أمر الحفظ إلى ذاته سبحانه وتعالى، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ومن أسباب الحفظ، جعل في قوّة لسان القرآن، لكن المتربصين استطاعوا أن يحولوا بين فهم القرآن من خلال قوّة اللسان القرآني، ببناء حواجز دينية تمنع الوصول إلى حقيقة القرآن! فللقرآن خصوصياته في التعبير، وكلمة (لغة) لم تكن معروفة عند العرب قبل وبعد الإسلام، بل الدارج هي كلمة اللسان. أمّا قضية المعاجم العربية، وكأنه كتاب ستفتحه لتعرف منها معنى الكلمة، فهي بعيدة تماماً عن قواعد اللسان القرآني. فالمعجم اللغوي جاء لضبط اللفظ فقط، وليس لضبط المعنى، لأن الكلمة القرآنية ليس لها معنى واحد محدّد([1])! فعندما نتكلم في آية لا بدّ أن تحكمنا:
١-قواعد اللغة.
٢-وقواعد استقصاء الكلمة في القرآن.
٣-وقواعد المعنى، ولازم المعنى، والمراد من الكلمة في آياته.
٤-كذلك يجب أن تكون الحجّة تقابلها الحجّة من نفس المصدر.
فعندما نبيّن آية لكي نساند موضوعاً أو نرفضه، لا يمكن أن يكون الردّ بالحديث مثلاً، فلا يمكن أن نقارن آية قرآنية بمرويّة ظنّية، بل يكون الردّ بآية قرآنية، لكن يمكن ردّ مرويّة بمرويّة.
فالكلمة القرآنية هي الحاكمة لكلّ الألسنة، حيث إنها تتناول شرح معاني كلمات القرآن، وهذا ما يسمّى بـ(لغة القرآن)، يقول الله عز وجل:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ  لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }

إذاً اللسان العربي واللسان القرآني، وكلّ قواعد اللسان العربي جاءت من لسان القرآن. لذلك، فالكلمة القرآنية هي الحاكمة على الكلمة العربية، وجاء لسان القرآن ليقوم بضبط قواعد اللسان العربي وتقنينه.
فهناك فرق كبير بين اللغة واللسان، فاللسان هو:
١-اللغة، التي هي الألفاظ والمفردات والاشتقاقات.
٢- أدب اللغة، أي أساليب التعبير والبيان.
٣- والعقل الجمعي الذي تفكّر به تلك الأمّة، أي مدارك عقولهم.
وهناك فرق بين المرسلين الذين أرسلوا إلى أقوامهم بلسانهم، وبالمرسل والمبعوث للعالمين بلسان يستطيع أصحابه أن يفهّموه لأقوام العالم أجمع!
٤- التعبير البلاغي والتصوير الفني في كل آية..
لذلك قال الله في محكم كتابه:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، ولم يقل وكذلك أنزلناه عربياً، بل أكّد أنه قرآن عربي، فهو لسان قرآنيٌ عربي!
وبما أن القرآن لسان عربي مبين، فلا توجد كلمات أعجمية فيه، لأن القرآن عرّب الكلمة، أي تمّ تعريبها. والقرآن لم يأت أيضاً لإعجاز العرب بلسانه هذا، فهو ليس كتاب معجز كما نتداوله، بل هو كتاب تبيان، وجاء ليعدّل لهم المنطق اللغوي، ويضبط اللغة العربية. بدليل أن هناك أموراً لم يستطع النحو أن يفسرّها في القرآن، ونحن عند كتابتها فنحن
نخالف الناحية الأعرابية في مرفوع أو منصوب، لكي نطابق بها القرآن. إذاً نحن نتعلّم من القرآن، وليس من النحو، حتى إن (أبا الأسود الدؤلي) - مؤسس علم النحو - نحا ما نحا وقال: (اقرؤا هذا القرآن وانحو نَحوه). لذلك لا غرابة أن تجد الرسول لم يتكلم في السنة الأولى والثانية والثالثة حتى استوعب لسان القرآن، وانتفض من لغة قريش، لغة الشعر والنثر والحشو، الذي يكون بيت القصيد من بين ألف بيت!! أي الاعتماد على الحشو.. فالرسول تعلّم قبل أن يتكلّم: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق .... الذي علّم بالقلم.....}
فالقرآن جاء ليعدّل لغة العرب، ويضبطها، ويعطي لكل كلمة مرادها الخاص بها في موضعها من الآيات.. فاللسان القرآني مفصّل ومحكم ودقيق في كل حركاته، وكل مفردة من مفرداته، ولا يمكن أن نضعه تحت قوانين لسان العرب الممتلئ بالترادفات والحشو! قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.. وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه ابن منظور (صاحب كتاب لسان العرب)، وغيره، وهو ما جعل المسلمين يعانون إشكاليات في فهم الآية.
 فإذا تأملنا كلمات: {نزلنا }و{أنزلنا} و{جعلنا}، قرآنياً، فلها تفصيل ومراد دقيق، لم تعرف العربية هذا مطلقاً. فالقرآن طوّر اللغة العربية، وأوّل ما قام به أنه ألغى الترادف، وأصبح لبعض الكلمات أكثر من مراد منها. والرسول هو الذي نطق بهذا القرآن، وهو الذي قام بتحويل لسانه إلى اللسان القرآني الفصيح والدقيق في كل مفردة من مفرداته. ففي كل اللغات يجب أن تقرأ لتفهم، لكن في لسان القرآن يجب أن تفهم لتقرأ! يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.. لذلك قال القرآن في الآية: {...ودين الحق}، وليس الدين الحق، كما هو في اللسان العربي، أي الدين المعرّف، لكن اللسان القرآني قال: {...دين الحق}. فتنكير كلمة (دين الحق)، لها حكمة بلاغية منقطعة النظير، فدين الحق هي الكلمة الجامعة لكل مرادات كلمة الدين في الآيات القرآنية! ولا وجود لكلمة (الأديان) في اللسان القرآني، بل يعلّمنا الله تعالى أن جمع الدين هو نفسه دين، وليس أديان: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، ويقول في (سورة الكافرون): {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، فالدين لا يجمع، وجمعت المعتقدات المختلفة في كلمة الدين المفرد، لكي يوحي إليك أن الرب واحد، ولا يوجد أرباب متفرّقون رغم تعدّد المعتقدات، ويمكننا أن نقول: رسالات، أو ديانات، لكن لا نقول أديان.
والله يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، فالدين من عهد آدم إلى محمّد (صلى عليه وسلم) هو الإسلام؛ فاليهودية ديانة، ودينها الإسلام، والنصـرانيّة ديانة، ودينها الإسلام، والإسلام ديانة، ودينها الإسلام. فالدين عند الله الإسلام، أمّا الديانة، فهناك فرق في كُنه الرسالة، فالكلّ يتّفق في الشـرع: {إن الدين عند الله الإسلام}، ويختلف في الرسالات والديانات، وتبقى رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) وحدها تساوي كل هذه الرسالات، وهي  الرسالة الخاتمة، والكتاب الخاتم، الذي تكفّل هو بحفظه من التحريف. فلا يوجد في لسان القرآن مصطلح معنى الكلمة (أي ما معنى هذه الكلمة)، أو حتى هذه الكلمة تساوي هذه الكلمة، في المنطق القرآني. وكذلك، لا يعرف القرآن كلمة الترادف، فعندما تبيّن الآية: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}، فالدين هنا هو مراد الله فيها -وليس معناه-، والكلمة في القرآن قد تكون لها أكثر من غاية. فالدين في سورة الفاتحة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين}، هل الدين هنا بمعنى: الجزاء - الحساب- الشريعة - الرسالة ؟
الدين هنا تبيّن قيمة الكلمة القرآنية، فهي كلمة ثريّة - في المعنى - وفي مراد الله فيها - وفي المجاز - وفي التشبيه- وفي الاشتراك اللفظي (أي الكلمة الواحدة تحتمل معنيين، أو غاية في مدلولها).
فكل ما ذكر هو من أحد معاني الدين، فالقاعدة اللغوية عند الأصوليين أنه (إذا تغيّر المبنى، تغيّر المعنى)، لذلك لم تأت الآية: (مالك يوم الجزاء، أو مالك يوم الحساب)، ولكن لأن هذا اليوم الجزاء والحساب هو في الاعتقاد! وليس الجزاء والحساب بصورة مطلقة، التي قد تكون في غير الاعتقاد، جاءت الكلمة معبّرة ومحدّدة وواضحة أنه (مالك يوم الدين)، أي الجزاء في الاعتقاد للإله الحق، ويتّضح فيه دين الحق. فانظروا إلى دقّة اللفظ في اللسان القرآني.
 وعندما يقول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ}، ويقول في بداية سورة البقرة: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، فالكتاب هدى للمتقين، والكتاب هو كل القرآن، لكن القرآن هدى للناس!
فالقرآن هنا هو جزء من الكتاب، لانه بدأ بالنزول في شهر رمضان، وكان ينزل بشكل آيات على رسول الله لهداية الناس، أي هي الرسالة إلى الناس جميعاً، لكن بعد اكتمال نزول الآيات القرآنية أصبح كتاباً، وأصبح هداية للمتقين!
أي إن القرآن هي الآيات التي كانت تنزل على الرسول، وهي الرسالة التي كانت للناس كافة في حينها، فكانت كتاب هداية وتبليغ، وقريباً منهم، وبين أيديهم يقرؤنه. فذكر مع القرآن كلمة الناس، لأن الرسالة كانت ما زالت تنزل. أما الكتاب، فهو القرآن بعد اكتمال تنزيله، لذلك ذكر مع الكتاب أنه للمتقين الذين آمنوا بالكتاب كلّه، وهم المعنيون بالرسالة الخاتمة. ونحن - الذين آمنوا بهذا الكتاب - عليهم مهمّة تبليغ آيات القرآن للناس، وللعالمين، كما نزل على الرسول، أي كما هو مراد الله في آياته البينات في كل عصـر وحين..
فالقاعدة الموجودة في لسان العرب قبل القرآن -كما قلنا - كانت تقول: (إنه إذا تغيّر مبنى الكلمة، تغيّر معنى الكلمة)، فما بالك بلسان القرآن؟! لكن للعلم يوجد في اللسان القرآني كلمات تسمّى بالمشترك اللفظي، أي بمعنى هناك كلمة واحدة لها أكثر من معنى، فالروح لها ستة معان:
١-{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} (الوحي المطلق).
٢- {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا}  (القرآن).
٣- {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (السكينة)، والسكينة ليس معناها الطمأنينة، بل المراد منها الثبات.
٤- {وَرُوحٌ مِّنْهُ} (عيسى).
٥-  {وَالرُّوحُ فِيهَا} (جبريل).
٦-{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}: (قوام الحياة).
كذلك الدين: فكلمة (الدين) في: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، هي غير كلمة {دين الحق}، أو {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، فكل كلمة في كل آية لها المراد منها، وفي مواضع قليلة يكون لها معنيان، والكلمة تتغيّر معانيها عندما تنظر إلى الفاعل. وقد انتقينا كلمات، ومدلولاتها، حتى نبسط المفهوم ونقرّبه، ونتعلّم مراد الله في كل كلمة:
١- الفرق بين (الاصطفاء) و(الاختيار): فاصطفى هو من الله، أي إن الاصطفاء الذي يدخل فيه التصنيع، وليس مجرد اختيار!! فالاختيار من البشـر!
٢- (العتيق) و(القديم)
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، فالعتيق جاء من العتق، وليس لقدمها، كما هو موجود في التفاسير، ومتى كانت الأقدميّة دليلاً على الأحقيّة والتقديس؟
٣- ولا يمكن أن يكون لـ(ضلّ) و(غوى) نفس المعنى!
فـ(ضلّ) هو العصيان بدون تخطيط، و(الغواية) هي العصيان بتخطيط وغاية مسبقة.. وهو ما لم تجده معاجم اللغة العربية، وشتّان بين الكلمتين: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا (ضَلَّ) صَاحِبُكُمْ وَمَا (غَوَى)}.. فكيف يستخدم القرآن الحشو في الآيات، وهو محكم ومفصّل من لدن حكيم خبير؟!
لذلك جاء القرآن ليصحّح ويحرّر الكلمة، ويعطي لها مراد الله فيها، ويضبط لهم هذا اللسان الذي سيبلّغون به للعالمين.
٤- (جاء) و(أتى):
كل كلمة تأتي حسب سياق الآية، ودلالاتها: (جاء) تأتي تعبيراً عن الشدّة والمشقّة، كما هو موجود في (سورة الصافات)،
أمّا في (سورة الشعراء)، فجاءت كلمة (أتى) تعبيراً عن السهولة في التعبير.. فكلمة (جاء) استخدمت في القرآن تعبيراً لما هو أشدّ وأشقّ، وللدلالة على عدم التخطيط، وعنصـر المفاجئة.
 أمّا كلمة (حضـر): {إِذَا حَضَـرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، فالحضـور قد لا يدلّ على المجيء، بل قد يكون المرء موجوداً بالأصل، وهو في الأصل نقيض الغياب. والموت هنا من الشهود،
وهي تدلّ على الجمع في الحضـور.
أمّا استخدام كلمة (جاء) في قوله تعالى:{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، فهي للظالمين، جاءت في سياق الشدّة والتخويف. وكلمة (أتى): {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، فهي خصوصية للمؤمنين للتخفيف والتسهيل عليهم.
٥- ( الجلوس) و( القعود):
يطلق الجلوس عندما تغيّر حركتك من الاضطجاع مثلاً نحو الجلوس. والقعود يطلق عندما تغيّر حركتك من الوقوف نحو الجلوس. ويطلق على القعود أيضاً عندما يكون القعود دائمياً، بينما الجلوس يكون مؤقتاً.
٦- {ألم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} الريب هو ليس الشك، الريب هو الكذب، وإذا كان الشك، فأين الشك فيه؟ فالشك هو ٥٠٪ علم بالشـيء، و٥٠٪ جهل بالشيء، فإذا كان ٦٠٪ علم، و٤٠٪ جهل، فهو (ظنّ)، وإذا كان ٤٠٪ علم و٦٠٪ جهل، فهو (وهم)!
وقول العرب: (راب اللبن)، أي فسد.
٧- وانظر الى التعبير البلاغي والتصوير الفني البديع في سرد بعض مقاطع القرآن في سور متفرقة، وفي نفس القصة بإتقان واختلاف معبّر عن مضمون كل سورة:
-{إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}النمل
-{فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}القصص
-{إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}طه
- القَبَس: عام. وهو أخذ أي شيء من النار، سواءً كان شهاباً من النار، أي ما تقبسه من النار.
- الشهاب، هو شعلة من النار الساطعة.
- الجذوة، هي الجمرة من النار، أي الغصن الذي فيه نار دون لهب، وإذا أصبح فيه لهب يصبح شهاباً، كالشعلة، فإذا أخذت (قبست) غصناً ملتهباً، يكون شهاباً قبساً، وإذا أخذت (قبست) غصناً غير ملتهب، يكون (جذوةً) يتضمن الجمرة غير الملتهبة. فالقبس عام للجذوة والشهاب. فعندما ذكر القبس قال: (سآتيكم) تحديد قطعي، والمرّة الأخرى قال: (لعلي آتيكم)، الكلام غير قطعي! فنحن عندما نتكلّم نقول مثلاً: سآتيكم في الليل، ثم تقف برهة قد تستغرق ثواني وتقول: لعلي سآتيكم بالليل.
ففي (سورة النمل) تظهر القصة بتصوير فني بديع أن موقف موسى كان قوياً، أمّا (سورة القصص) فهي مملوءة بالخوف، فجاءت كلمة (لعلّي). وفي (سورة طه) لم يقل شهاب أو جذوة، بل قال فقط: قبس، أي ما يقبسه، والقبس عام؛ إمّا جذوة أو شهاب! فالظرف كان يحكمه في هذه الحادثة، كما يحصل لنا في واقع الحياة كثيراً، فحسب إيقاع المشهد جاء التعبير الصوري القرآني في سرد القصة.
المصادر:
 ١- (تيسير القرآن الكريم للقراءة والفهم المستقيم)، الذي حرص على تنقية التفسير من الإسرائيليات.
و(المصحف الميسر) وهو أقرب إلى بيان مفردات القرآن، للشيخ عبدالجليل عيسى الأزهري.
٢- سلسلة طريق الهداية للدكتور محمد هدايه، ماجستير في اللغة العربية، دكتوراه تحقيق التراث العربي والإسلامي.
3- بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، د فاضل السامرائي.


([1])  القصد أن الكلمة القرآنية ليس لها معنى محدد! أي الكلمة ومعناها، كما هو وارد عندما تبحث عن الكلمة في القواميس.. أما الكلمة القرآنية، فتكون الكلمة، ومراد الله من تلك الكلمة في سياق تلك الآية.. مثلاً: كلمة الروح، ماهو معناها؟ لا تستطيع أن تقول أن معناها كذا جزماً، فلها معاني عدة.. وقد بينت ذلك في المقال.

هناك تعليقان (2):