29‏/12‏/2020

قصة قصيرة/ مرارة حُلم

قصة وترجمة: عبد الخالق البرزنجي
 ?  الوقت كان يقترب من بداية المساء، كنتُ أتجول داخل مدينة غريبة، من شارعٍ إلى شارع، ومن زقاق إلى آخر.. ظللتُ طريق البيت.. كنتُ حائراً في أمري، لم أكُ أعلم كيف أسلك طريق العودة.. بدا لي الناس غرباء أمام عينيَّ.. حين كنت أنظر إليهم، لم يكُ أي منهم يشبه بني جلدتي، ولا ألسنتهم كانت تنطق كما نحن ننطق.. أردتُ أن أحصل على جوابٍ لأسئلتي، لكني لم أتجاسـر في تكرارها، لأن سيمائي وجلدي لم يكونا يشبهانهم.. كانوا ينظرون إليَّ بحذر..  وخشية من ردة فعل غاضبة، كنتُ أكتم كل ما تجول به أعماقي..  وخلال مواصلتي السير كنتُ أستنجد ببعضهم، قائلاً لهم:

 هلا أرشدتموني كيف أعود إلى بيتي؟

فيما هم كانوا يبتعدون عني ويقولون :

   -  دعنا وشأننا،.. نحن لا نعرف عنوان إقامتك..

وبعضهم بهزات رؤوسهم كانوا يقولون لي:

  - لا نعلم.

 بينما بعضهم الآخر لم يكونوا يرُدّون عليَّ أبداً.

قلتُ من الأفضل أن ألزم جانب الصمت ريثما أصادف شخصاً لا يجفل مني ويدلُّني على عنوان البيت.

     تخطيتُ الشوارع.. واصلتُ مسيري، حتى كلَّت قدماي بالمرّة.. في نهاية المطاف بلغتُ زقاقاً شبه خَرِبْ.. تقدمتُ بضع خطواتٍ إلى أمام، وإذا بي أرى على مقربة أمتار قليلة، عمارة سكنية متهالكة.. وعلى حين غرّة سقطتْ طفلة، ناهزت أربع أو خمس سنوات، من أعلى العمارة على أديم الأرض الصلدة بجانبي، وتخضبتْ بدمائها.. صدمني هذا الحادث كثيراً..  دققتُ النظر ، كانت ضعيفة البنية، ذات شعر أسود وطلعة سمراء، وقلة التغذية بادية على جسدها.. اندهشتُ إزاء هذا المشهد المُفجِع، ووقفتُ مكتوف اليدين، وأجهشتُ بالبكاء.. تجمع أفراد الحيِّ، وراحوا يرمقون الجثة الهامدة بنظراتهم، لكنهم لم يتجرأوا على لمسها.. وشيئاً فشيئاً كانت الأرجاء تكتظ بالناس.. لاحظتُ شاباً يبادر مندفعاً وهو يتوجه إلى الجثة، ثم يحملها بين يديه لينقلها إلى المشفى.. كنتُ لم أزل واقفاً بين الحشد، أبكي بحرارة.. أدهشتني ضوضاء الناس.. كانت النسوة يبكين، ويرَدِّدن بينهن العبارات التالية:

    - الحكومة هي المذنبة، فهي لم تسمح له بالتكسب والحصول على قوت أطفاله.

    - نعم صحيح، هي التي افتعلت هذه الأزمة الاقتصادية!

    - كلا، الآثم له مساهمته في ارتكاب هذه الجريمة، لأنه تزوج في سن مبكرة، ولم يكن له مقدرة توفير قوت عائلته!

    - لا، مهما كانت الأسباب، لا يجوز لأي فرد أن يقْدِم على قتل أطفاله، كان من الأفضل أن يقتل نفسه لا طفلته الصغيرة!

    - نعم أختي، هذه ناجمة عن عنف السلطة الأبوية في مجتمعنا! يا ترى ما الفرق بين الولد والبنت؟ فالمهم هنا من يكون مفيداً أكثر من الآخر لوالديه!

    - لا يا أختي.. فالبنات حتى لو كن غير مذنبات، ينبغي أن يكن ضحيات هذا الدهر!

    - قسماً بالله يا أختي، أنا كنتُ آمل أن يمنحني الرحمن الرحيم بنتاً لكي أحفظها مثل قُرة عيني وأستريح في ظلالها!

    - وقالت أخرى: يا ويلتاه! فالزمن ليس زمن الجاهلية حتى يقوم الرجال بوأد بناتهم؟! متى ورد هذا في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة؟!

     ووصل رجال الشـرطة إلى مكان الحادث. كبلوا يدي المجرم الأثيم بالأصفاد، وأخذوه معهم إلى سطح البناية، وأرغموه على تمثيل ما ارتكبته يداه من الجريمة الشنعاء، ثم أنزلوه إلى وسط الناس المتجمهرين بجوار العمارة..

كان موقع الحادث مُحاصـراً برجال الشـرطة.. كنتُ متعباً جداً، ولم تتح لي فرصة مغادرة المكان.. لم تستشرني الشـرطة، بل قامت بسحب يدي مع أيدي بعض الشهود المتواجدين هناك إلى مركز التحقيق.

     كنا مازلنا في الطريق، استمعتُ إلى بعض أفراد الشـرطة وهم يردِّدون: يا ترى هل هذا إنسان؟! هل هذا يُعَدُ في مصافي الأناسي؟! أنىّ يُعدُّ هذا إنساناً وذا ضمير حي؟! اللعنة على أولياء الأمور المجردين من الضمير!

مع ترديد هذه العبارات كنت أهتز من أعماقي، وأتلوّى مع التفكير في موبقة ذلك المجرم العديم الضمير.. بينما كانت العبرات تنحدر على وجنتيّ بغزارة.. وفي تلك اللحظة أحسستُ بيد رجل الشرطة وهو يشد قبضته على ذراعي قائلاً لي:

     أخي تفضل بالدخول.

     تملكني الهلع جراء ذلك، واستيقظتُ من حُلمي.

كل جسدي كان يرتجف، كنتُ مغموراً داخل العرق المتصبب من أنحاء جسدي، حين فتحتُ عينيَّ، رأيتُ نفسي مستلقٍياً على فراشي في بيتي، وكانت يد زوجتي ممسكة بذراعي، وهي تهزّني لتوقظني من الكابوس الجاثم على صدري.. وقتئذٍ علمتُ بأن هول تلك الجريمة التي رأيتها في قناةٍ تلفزيونية مساء الأمس هي التي أخذتني إلى أعماق مرارة هذا الحُلم.

                                                                          أواخر شهر حزيران 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق