31‏/12‏/2020

البُعد الإسماعيلي الباطني في معتقدات جلال الدين الرومي

 د. سنان أحمد

?  مما لا شك فيه أن جلال الدين الرومي (604-672هـ)، من الشخصيات الصوفية البارزة في تاريخ التصوف الإسلامي، لما تمتاز به طريقته من طقوس غريبة، تتمثل بالرقصة المولوية التي تصاحبها إيقاعات الناي والطبل بشكل خافت وحزين وانضباط في التأدية تحدده قوانين صارمة.

ولد الرومي في مدينة (بلخ)، وهي داخل أفغانستان الآن، وهو من أصول فارسية، واتخذ لقبه من محل سكنه في منطقة أرضروم (أرض الروم).

بدأت رحلة الرومي مع والده خارج مسقط رأسه في عام (608هـ)، إلى بغداد، ثم مكة، ثم رجع مع والده الذي توفي عام (628هـ)، واستقر في (قونية)، التي تقع غرب تركيا الحالية، والتي تحتوي على ضريحه إلى الآن، ويقال إن والده كان واعضاً رحل في طلب العلم.

بعدها تزوج، ورزق بولدين، هما: علاء الدين، وبهاء الدين.. وبعد فترة وجيزة توجه إلى دمشق، والتقى بالمتصوف الكبير محي الدين بن عربي (558-638هـ)، الذي له تأثير كبير في غرس العلوم الباطنية والصوفية في فكر الرومي، ثم رجع نهائياً إلى (قونيه) بعد وفاة ابن عربي عام (638هـ).

والعصـر الذي عاش فيه الرومي، والمكان، لهما تأثير كبير على سيرته، فالمنطقة التي ولد فيها وعاش (شمال فارس)، والمدينة التي استقر بها (شرق تركيا الحالية)، حيث كان الصـراع على أوجه آنذاك بين السلاجقة الأتراك، وهم على مذهب السنة والجماعة، وبقايا دولة الإسماعيلية – النزارية، وهي في غالبيتها من الفرس، والتي أسسها الحسن الصباح (483-518هـ)، في (قلعة آلموت)، شمالي فارس، وهو من أشهر دعاة الإسماعيلية؛ قولاً، وتنظيماً، وفعلاً.

ويجب أن نقف عند المذهب الإسماعيلي قليلاً لنكون في الصورة، وهو المذهب الذي انشق عن الشيعة الاثني عشرية بعد وفاة الإمام جعفر الصادق (148هـ)، وقد استغل مؤسسوه مبدأ انتقال الإمامة من الوالد إلى الإبن البكر في الفكر الإمامي، وبما أن إسماعيل توفي قبل والده (145هـ)، والذي تتفق المصادر الشيعية والسنية بأنه لم يكن على سيرة والده في العلم والزهد، فلم يعترفوا بإمامة موسى الكاظم، وقالوا إن الإمامة انتقلت إلى محمد بن إسماعيل (ت194هـ)، ولهذا يُسمون بالسبعية. وقد تحولت الإسماعيلية إلى جمعية سـرية باطنية ذات تركيب هرمي دقيق، لا يعرف أسرارها إلا قلة من رجال النخبة (الدعاة)، وكانت الغاية الكامنة إحياء المجد الفارسي بغطاء ديني. واتخذوا من التصوف الحلولي غطاءً لأفكارهم في تأويل الشرائع، فقالوا بأن الصلاة موالاة الإمام، والحج زيارته، والصوم هو الإمساك عن إفشاء سرّهم بغير عهد ولا ميثاق... إلخ. والعبادة عندهم على نوعين: عملية، وهي علم الظاهر، وما يتصل بفرائض الدين. وعبادة علمية، وهي علم الباطن والتأويل، وكان الحلاج (ت309هـ)، من أقطابها.

نجحت الإسماعيلية – الباطنية في تأسيس دولة في شمال أفريقيا (297هـ)، ثم امتدت لمصر والشام والحجاز، وصارت في صراع دائم مع الخلافة العباسية.

وللعلم، فإن القرامطة الذين غزوا الكعبة عام (317هـ)، هم عظم من عظام الإسماعيلية، ودم من دمائها، كما يقول المؤرخ الكبير (ميخال دي خويه).

وعلى قدر تعلق الموضوع بعنوان المقال، فقد انشقت الدولة الفاطمية في زمن الخليفة الثامن المستنصر (427-487هـ)، إلى قسمين: المستعلية، في (مصـر)، والنزارية، في (آلموت) - التي انبثقت حركة الحشاشين منها، والتي اشتهرت بالاغتيالات السياسية للخصوم- وذلك بعد نزاع داخل البيت الفاطمي (الإسماعيلي) على الخلافة وصل لحد القتل والاغتيالات.

انتهت الدولة الفاطمية في مصـر على يد صلاح الدين الأيوبي عام (567هـ)، وأما الإسماعيلية النزارية، التي أسسها الحسن الصباح في آلموت، فقد انتهت على يد المغول (654هـ)، وكان اسم الإمام فيها ركن الدين خورشاه، أي إن الرومي عاصـر زمن المغول، عندما اجتاحوا الشرق وأسقطوا الخلافة العباسية، ولم يتسامحوا مع الإسماعيلية، لسمعتهم المدوية في الاغتيالات.

وإذا رجعنا إلى موضوعنا حول الرومي، فإنه في عام (642هـ)، التقى بشيخ اسمه (شمس تبريز)، أي بعد وفاة ابن عربي. ولا نعتقد أن اللقاء كان صدفة، لأن هذا الشيخ لم يكن إلا شقيق الإمام ركن الدين خورشاه، أي من كبار دعاة الإسماعيلية النزارية، بحكم القرابة مع الإمام. وقد استمرت اللقاءات لمدة سنتين بين الشيخ ومريده جلال الدين، وشكلت انعطافاً كبيراً في حياة الرومي، حيث صار (شمس تبريز)، هادياً ومرشداً لأفكاره نحو الفلسفة الباطنية الإسماعيلية.

وتشيد معظم المصادر أن (شمس تبريز) قُتل في (قونية)، بعد فتنة مذهبية مع علاء الدين ابن الرومي، عام (644هـ). ولكن الرومي نفسه عاش متخفياً كصوفي معتكف في زاويته، وهذا هو البعد السياسي – الديني، لشخصية الرومي، لأن الفتنة ربما كانت صراعاً بين السلاجقة الأتراك والإسماعيلية الفرس!.

بعد هذه الأحداث، كتب الرومي ديوان (شمس تبريز)، وهو من أشهر مؤلفاته مع (المثنوي)، حيث يمثل انعكاساً لحزنه على شيخه، وما زرعه فيه من أفكار الاتحاد والحلول، ووحدة الوجود، ويقول فيه:

ما أسعد تلك اللحظة، حيث نجلس في الإيوان أنا وأنت..

بدون نقشين، وصورتين، ولكننا روح واحد أنا وأنت..

أنا وأنت بدون أنا وأنت نبلغ بالذوق غاية الاتحاد..

فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلى أنا وأنت..

إن فكرة الاتحاد والحلول، ووحدة الوجود، فكرة قديمة في الديانات البوذية والهندوسية، تسربت للمسيحية.. فالمسيح كان قبل إبراهيم، وهو رب داؤد، وهو والأب واحد، وفي نفس الوقت هو ابن الله، واستعارت الباطنية هذه الأفكار وأعطتها بعداً إسلامياً مهلهلاً.

لقد أحس كثير من الباحثين بالبعد الباطني عند الرومي، فيقول المؤرخ (جولد تسيهر)، في شرحه لإحدى قصائد الرومي: "إن آيات القرآن سهلة يسيرة، ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها معنى خفياً مستتراً. ويتصل بهذا المعنى الخفي معنى ثالث، يحير ذوي الأفهام الثاقبة، ويعييها. والمعنى الرابع، ما من أحد يحيط به سوى الله.. وهكذا نصل إلى معان سبعة، الواحد تلو الآخر"، وهي مراتب الإسماعيلية في تنظيمهم السري الباطني.

بينما يقول (فيليب حتى) بأن الرومي "خرج على المأثور من تقاليد الإسلام، فأقام للسماع – الموسيقى – مكاناً في مراسيم في طريقته الصوفية". في حين يلاحظ بعض الباحثين أنه اعتبر نفسه مهدياً، وأنه استعار مصطلح (الإنسان الكامل)، أو (القطب)، من ابن عربي، ليكون رأس الطريقة، وهو في الحقيقة الممثل الباطني للإمام الإسماعيلي.

ويغالي الرومي في حلول الله بخلقه، فيقول في المغالاة بعلي (رض):

في كل نفس يظهر ذلك (الصديق) في ثوب جديد..

فشيخاً تراه تارةً، وشاباً تراه أخرى..

ذلك الجميل فتان القلوب قد ظهر..

بصورة سيف في كف علي..

وأصبح البتار في زمانه..

لا، لا بل هو الذي ظهر في صورة إنسان..

وصاح: أنا الحق..

فهو يقصد بأن الله قد يتجلى بصورة شيخ أو شاب، وقد يظهر في صورة سيف في يد الإمام علي (رض)، وعلى كل حال يظهر بصورة إنسان ويصيح: أنا الحق، والحق كلمة يستعملها الصوفية بكثرة للدلالة على الله.

وكان للإمام علي (رض) مكانته العالية في هذا الفكر، فيقول الرومي:

منذ كانت صورة تركيب العالم، كان علي..

وكلما تأملت في الآفاق، ونظرت..

أيقنت بأنه في الموجودات كان علي..

لقد نزل بعض دعاة الإسماعيلية بزي الفقراء، فتركوا انطباعاً عن كونهم متصوفة ولا غير، فازدروا الاحتقار، سواءً بالقول أو بالفعل، ويسمون بالملامتية. ولهذا يقول الرومي: "اهجر فرقتك، وكن موضع احتقار، واخلع عن نفسك ثوب المجد، ودع نباهة الذكر، وأنشد نفور الناس، وأهوائهم"، وقد انعكس هذا الفكر على من يريدون دخول الطريقة المولوية، والتي صممها خصوصاً لذكرى شيخه (شمس تبريز)، فالداخلون يجب أن يمروا بمراحل، كلاً منها يستغرق أربعين يوماً، منها: علف الدواب، وكنس أبواب الدراويش، وحمل الحطب والمواد الغذائية لهم، وحراستهم، وإعلان التوبة، ثم يصبح عضواً في الجماعة.

وهذه المراحل هي جزء من تنظيم سـري، لا يطلع عليه إلا المقربون، قبل أن تصبح الطريقة مشاعاً موسيقياً يصاحب الرقص أو الدوران المنتظم!.

وللرومي ستة مؤلفات رئيسية، أهمها: الرباعيات، وتبلغ 1659 رباعياً، أي 3318 بيتاً، وديوان شمس تبريز، وعدد أبياته 43 ألف بيت، والمثنوي، أي العظم المزدوج، الذي يتحد به شطر البيت الواحد، ولكل بيت قافيته الخاصة. وكلها كُتب كتبت أساساً باللغة الفارسية.

ويحتل المثنوي مكاناً مقدساً لدى مشايعيه وأنصاره، فيقول الكاتب مصطفى غالب (ت1981م)، وهو إسماعيلي المذهب: "إن المثنوي هو أصل الدين، في كشف أسـرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشـرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، يشـرق إشـراقاً أنور من الإصباح، وهو جنان الجنان ...، يضل به كثيراً، ويهدي به كثيراً"!.

وفي هذه الكلمات استعارات لفظية نصاً من القرآن، وابتعادٌ عنه روحاً وعقيدةً، عندما يجعله أصلاً للدين بدلاً من القرآن والسنة النبوية الشريفة. ولذلك، فنادراً ما تجد انعكاساً للقرآن في أسفاره، ولا تجد إلا مكاناً لأحاديث غريبة.

وفي هذا الخضم، ينقل الشيبي حديثاً للرومي: "إن الله تعالى وتبارك قدم شراباً لأوليائه، إذا شربوا سكروا، وإذا سكروا طربوا، وإذا طربوا طابوا، وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا خلصوا، وإذا خلصوا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، لا فرق بينهم وبين حبيبهم..."!. وإذا كان المقصود بالحبيب هو الله تعالى، فهذا تعبير عن الاتحاد والحلول، ووحدة الوجود، وهي أركان الديانة الإسماعيلية.. ومن الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، يقفز إلى وحدة الأديان، وهي نظرية ظاهرها الرحمة ومن باطنها العذاب، ولا تخفي وراءها إلا خلط الحابل بالنابل في مسائل العقيدة، وتمويه في الأفكار الساذجة.. فالأديان تختلف في أهم مرتكز، ألا وهو معنى التوحيد، وما يتفرع عنه من مفاهيم عميقة، بين الخالق الواحد الأحد وباقي المخلوقات؛ في ممارساتهم، وعباداتهم، ومفاهيمهم حول شـرع الله، وحدوده. ولذلك، فهو يوجه خطابه للمسلمين، ليضعهم في شك حول عقيدتهم:

أين المسلمون؟.. ما التدبير؟.. وأنا نفسـي لا أعرف نفسـي...!!، فلا أنا مسيحي، ولا أنا يهودي، ولا أنا مجوسي، ولا أنا مسلم...!!، ولا أنا شرقي، ولا أنا غربي، ولا أنا بري، ولا أنا بحري، ولا أنا من عناصـر الأرض والطبيعة، ولا أنا من الأفلاك أو السموات". وهذه اللاءات هي رفض لكل مبادئ القرآن، ودعوة مبطنة للوجودية، فالمسلم تائه مع كل أتباع الديانات الأخرى.. وهذه المفاهيم لا تجسد مطلقاً مبادئ الأخوية الإنسانية المدعاة، أو التسامح، لأن الاختلاف في كل شيء أمر طبيعي جداً، ورفضه لا يعني الخلاف الدائم والاقتتال بعد اكتمال الوحي، لأن الله تعالى يقول (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١٧﴾ الحج)، فطالما الحساب عند الله الواحد الأحد، فالأمر متروك له، ولكن الأديان الأخرى تقف موقفاً سلبياً من هذا المبدأ.

كثيرة هي الأفكار الباطنية في عقائد الرومي، والاستعارات من قصص (كليلة ودمنة)، وأخذ الحكمة من قصص خيالية ساذجة، مثل: (البقال والببغاء)، و(الأسد والوحوش)،... إلخ، وهذا ما يؤكده مفكرو الإسماعيلية أنفسهم، كقول مصطفى غالب: "إن الرومي، وإخوان الصفا، نهلوا من نبع واحد، ألا وهو العقيدة الإسماعيلية"، علماً أن إخوان الصفا جمعية سـرية، ابتدأت حركتها منتصف القرن الرابع ،بعيداً عن مفاهيم القرآن والسنة النبوية.

ويؤكد المؤرخ (بندلي جوزي)، في كتابه (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام)، بأن البابية، التي انبثقت منها البهائية، على صلة قريبة بالإسماعيلية. ومن أشهر المفكرين الذين تأثروا بها: المفكر والشاعر الهندي (محمد إقبال) (ت1938م)، الذي جعل الرومي مرشده في رحلته السماوية، في كتابه (جاويد نامه)، والتي قابل فيها واحدة من أكثر الشخصيات البابية تحمساً لعقائدها، ألا وهي (قرة العين) (ت1852)، والتي نقضت شريعة الإسلام، فكيف نضع المسلمين في صف واحد مع مبادئها؟

إن هذه الأسطر تستدعي من الفكر الإسلامي الحديث أن يكون متوازناً في نظرته للتصوف، بعيداً عن العاطفة والكلمات المعسولة بحق الله جل جلاله الواحد الأحد، لأن كثيراً من طرق التصوف، أو باسمه، أضلت كثيراً من المسلمين، وأن مصطلح (التصوف) مصطلح مطاط، فإذا كان على هذا النهج، فهو تصوف حلولي – سياسي لا صلة للدين به، إلا محاولات هدم الدين من داخله وباسمه. وإن كان التصوف يعني الزهد والذكر والتسبيح، فذلك طريق آخر لا غبار عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق