05‏/10‏/2011

تأملات في قانون الزوال

صالح شيخو رسول

المعروف بـ(سامي الهسنياني)

   كم من حضارة دامت ثم تفتت، وكم من أمة سادت ثم تلاشت، وكم من ملوك ملكوا ثم مضوا، وكم من حكومات حَكـَمت ثم حُكـّـمت، وكم من دكتاتور طغى وتجبر ثم أزيل وتحسّر، وكم ممن جاءوا ونادوا بالبقاء والدوام ثم أزيلوا وتعفنوا في يوم من الأيام، وكم من سلطة قاومت ثم اضمحلت، وكم من طاغوت عتا وفسق ثم بحبال المشانق شنق؛ وهم الذين نعقوا ليل نهار، صغارا وكبارا، بالبقاء والكمال، وأنهم لا يتزحزحون ولا يقهرون. ناسين بأن قانون الزوال يعمل فيهم كل حين وهم غافلون.......



­(( عندما يلتقي نصفا الدائرة، النصف الظالم المستبد، مع النصف الخانع التابع، إشارة على اكتمال الدائرة والعظمة، وإيذاناً بنخر القواعد والأطراف، وتهاوي السقف والانكماش، ثم السير بخطوات نافسوها إلى التلاشي والزوال)).  
 يقول الدكتور عبدالحليم عويس: "وهو مؤشر خفي إلى أن اكتمال الأشياء هي بداية النقص، فعندما يكتمل البدر فهو في طريقه أن يصبح كالعرجون القديم، وقبل السقوط تأتي الكبرياء، ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه، وعندما يأذن الله بموت الأمم فلها ثلاث نهايات؛ اجتياح خارجي أو تحلل داخلي أو تجمد في مربع الزمن".
   سنة الله ولا تبديل لسنته، تمشي في الكون وتسير في الخلائق وتكشف الحقائق، إلى يوم تبلى فيه السرائر.
  قال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (46) سورة إبراهيم.
يقول الدكتور عبدالحليم عويس: " في قوانين الحضارة ‏:‏ المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا ‏.‏‏.‏ وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا ‏.‏‏.‏ وأن الخير أو الشر يتحولان إلى مادة خام ‏.‏‏.‏‏.‏ لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أو انبثاقة شر ‏.‏
تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلال والأسماك، ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى‏.‏‏.‏ أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية، والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد"‏.‏
   هؤلاء هم الذين أقسموا بأن لا زوال لهم ولا يوجد من يزحزحهم، اغترارا بقوتهم وثروتهم وجبروتهم، قال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (26) النحل.
يقول أبو السعود العمادي: "وعيدٌ لهم برجوع غائلة مكرِهم إلى أنفسهم كدأب مَنْ قبلهم من الأمم الخاليةِ الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجلِ، أي قد سوَّوا منصوباتٍ ليمكروا بها رسلَ الله تعالى فَأَتَى أمر الله وحكمُه {بُنْيَانُهُمُ مّنَ القواعد} وهي الأساطينُ التي تعمِده أو أساسُه فضعضَعَتْ أركانَه فسقط عليهم سقفُ بنيانهم إذ لا يتصور له القيامُ بعد تهدّم القواعدِ، شُبّهت حالُ أولئك الماكرين في تسويتهم المكايدَ والمنصوباتِ التي أرادوا بها الإيقاعَ برسل الله سبحانه، وفي إبطاله تعالى تلك الحيلَ والمكايدَ وجعلِه إياها أسباباً لهلاكهم بحال قومٍ بنَوا بنياناً وعمَدوه بالأساطين فأُتيَ ذلك من قِبل أساطينِه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا، فأتاهم الهلاك والدمار {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه منه بل يتوقعون إتيانَ مقابلِه مما يريدون ويشتهون".
معجلات الزوال:
أولا: بناء أماكن العبث واللهو الحرام.
  قال تعالى عن قوم هود (عليه السلام): {أتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (130) سورة الشعراء
العلامات:
 بيوت اللهو والعبث، قال تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ) (128) الشعراء
  جاء في تفسير الماوردي: قوله تعالى : {أَتَبْنُونَ بَكُلِّ رِيعٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الريع الطريق، الثاني : أنه الثنية الصغيرة، الثالث : أنه السوق،الرابع: أنه الفج بين الجبلين، الخامس : أنه الجبال، السادس: أنه المكان المشرف من الأرض.
{ءَايةٍ تَعْبَثُونَ} أي أن هذا البناء في عظمته وزخرفته وتصميمه أصبح علامة ورمزاً يشار إليه من بعيد، ويقول الماوردي: في الآية ثلاثة أوجه: أحدها: البنيان، الثاني: الأعلام. الثالث: أبراج الحمام. وفي العبث قولان: أحدها: اللهو واللعب، الثاني: أنه عبث العشّارين [ قطاع الطرق] بأموال من يمر بهم. ويقول ابن الجوزي :" أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليُشرفوا على المارَّة، فيَسْخَروا منهم ويَعْبَثوا بهم".
 اخذ بناء المصانع ترفاً وتسابقاً وتلاعباً، قال تعالى:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} لعله مصنع للأفكار والبرامج والخطط والخدع؛ أو مصنع للمواد والمنشئات، يقول الماوردي: فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: القصور المشيدة، الثاني: أنها مآجل الماء تحت الأرض. الثالث : أنها بروج الحمام.
فساد الفكر والعقيدة مع إطلاق العنان للشهوات والشبهات: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي كأنكم تخلدون باتخاذكم هذه الأبنية.
السلب والنهب والقتل بقانون أعمى ومشلول لا حيلة له ولا قوة، إلاّ على الضعفاء والفقراء فهو صارم بتار، حتى الأجنة لا تسلم. قال تعالى:{وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}  يقول الماوردي: فيه ثلاثة أوجه: أحدها : أقوياء. الثاني : هو ضرب السياط. الثالث: هو القتل بالسيف في غير حق. ويحتمل رابعاً: أنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء.
  خلاصة القول: يقول سيد قطب:  "والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنياناً يبدو للناظر من بعد كأنه علامة. وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثم سماه عبثاً. ولو كان لهداية المارة، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم:  { تعبثون } . . فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد، وتنفق البراعة، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة .
ويبدو كذلك من قوله: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أن عاداً كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغاً يذكر؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور، وتشييد العلامات على المرتفعات؛ وحتى ليجول في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشئونه بوساطتها من البيان كافية لحمايتهم من الموت، ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء،{وإذا بطشتم بطشتم جبارين} . .فهم عتاة غلاظ، يتجبرون حين يبطشون؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون".
ثانيا: السكن في مساكن الظالمين
 قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (45).
نوعية السكن: هو السير على خطى الظالمين والإقتداء بهم في التنكيل بالشعوب، واضطهاد المستضعفين، وسلب الحقوق والحريات، وكتم الأفواه وحجر العقول والأفكار... والغريب في هذا السكن هو سكن الظالمين في نفس القصور والدور التي منها صدرت الأحكام والقوانين التي أدت باستعجال نهايتهم المأساوية؛ وفي تفسير الآية يقول أبو السعود العمادي:" {وَسَكَنتُمْ} من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان، وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل: {فِي مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}... أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم بالكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقِه فيما سلفه إيذانٌ بأن غائلةَ الظلم آئلةٌ إلى صاحبه... {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ} بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد،{وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم، لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفر واستحقاقِ العذاب، والجملُ الثلاثُ في موقع الحال من ضمير أقسمتم، أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لكم فعلُنا العجيبُ بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثالِ".
ثالثا: الاستبداد
 لابد وأن في هذه السكنى عشعشت وعسعست  ثقافة الاستبداد، وعن الاستبداد  يقول عبدالرحمن الكواكبي:  (الاستبداد يد الله القوية الخفية يصفع بها رقاب الآبقين من جنة عبوديته إلى جهنم عبودية المستبدين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندون جهارا، وقد ورد في الخبر: " الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه"، كما جاء في أثر آخر: "من أعان ظالما سلطه الله عليه".
  الاستبداد هو نار غضب الله في الدنيا، والجحيم نار غضبه في الآخرة، وقد خلق الله النار أقوى المطهرات فيطهر بها في الدنيا دنس من خلقهم أحرارا وبسط لهم الأرض الواسعة وبذل فيها رزقهم، فكفروا بنعمه ورضخوا للاستعباد والتظالم.
  الاستبداد أعظم بلاء، يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا... نعم، الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي، وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدا، ولا يولي المستبد إلا على المستبدين؛ ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبدا في نفسه ولو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم.... تابعين لرأيه وأمره).
صناعة الطواغيت
يقول الدكتور خالص جلبي: " الشعوب إذن هي التي تصنع الطواغيت كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات، كل ما تحتاجه حتى تصبح ملكة هو تغذيتها برحيق خاص، وفي عالم البشر يمكن لأي مغامر من أمة مريضة أن يقفز على ظهر حصان عسكري إلى مركز الصدارة والتأله، كل ما يحتاجه أمران: عدم التورع عن سفك الدم وتجنيد الأتباع بغير حساب وضمير".
إمهال المستبدين:    
    يمهل الله تعالى الظالمين  والمستبدين وقتا كافيا من الزمن فإن تابوا وأصلحوا كان جزاؤهم الإحسان، وإن كانوا غير ذلك أصاب طرفي الأحداث الدوامات والمفارقات المسلية والعجيبة، كان الإمهال؛ وثم الزوال حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة ويوم نهايتهم يوم مشهود على مر التاريخ، حتى إذا أخذهم لم تبك السماء والأرض عليهم، وقصص نهاية المستبدين فيها من الطرافة والغرابة ما يسلي ويفرح، حيث صاروا إلى النقيض مما كانوا فيه من الترف والنعيم والسطوة والجاه... إلى البؤس والشقاء والتخفي والمحاكمة والسجن والقتل.
   أليست حياة هؤلاء القوم ملغومة ونهايتهم معلومة وفق سنن الله في الكون والمجتمعات، وما مصير الأقوام الماضية والحكومات السالفة عنا ببعيد {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}  (89) سورة هود.
يقول الدكتور عبد الحليم عويس: "وعندما تصل حركة التاريخ إلى طريق مسدود بعد أن يفسق أهل القرى ويخلعوا طاعة الله، في هذه الحال يكون لا أمل إلا في شيء واحد؛ هو الزوال، وهذه هي المعادلة الوحيدة الصحيحة في تفسير التاريخ:‏ خروج على قوانين الله؛ إمهال نسبي من الله قد يغري الخارجين على القانون بالتمادي ‏.‏‏.‏ تجمع لعوامل الفناء، إغلاق لباب العودة،‏ إبادة وموت في شكل مجموعة من الكوارث، وحين يصل إنسان ما إلى الحكم دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة، ودون أن يكون في مستوى أمته، يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم" ‏.‏‏.‏ 
 الجبال تزول ... بالمكر
   قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (46) سورة إبراهيم.  المَكْرُ: الخديعةُ والاحتيال. أعدوا للمكر عدة وقننوا له قوانين، وعقدوا المؤتمرات، وصرفوا المليارات، وبنو الأحلاف، ونبذوا الخلافات؛ للديمومة والبقاء، ناسين أن أمر الجبال الراسيات الشامخات ملايين السنين إلى زوال، فكيف بمكرهم الجرثومي الخبيث؟ الذي به يريدون أن يصنعوا حضارة، ويبنوا دولة بأساسات مبنية بالدم؛ يقول الدكتور عويس:" لكن ‏.‏‏.‏ أن تصنع حضارة وأن تبني دولة تبقى ‏.‏‏.‏ أن تمد التاريخ بصناع مبدعين ‏.‏‏.‏ أن تفعل ذلك وأكثر منه، فهناك طريق آخر ‏.‏‏.‏ طريق ليس ‏"‏الدم" من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه،هذه حقيقة من حقائق الحضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ.
وكما يقول اللورد (أكتون) إن القليل من السلطة يعني القليل من الفساد أما السلطة المطلقة فهي مساوية للفساد المطبق".
  يقول أبو السعود العمادي في تفسير الآية السابقة: "قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادئ البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ، فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه، {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العِظَم والشدة {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ، وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك".
 ويقول البقاعي:" أي الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم بحيث لم يبق لهم مكر غيره في تأييد الكفر وإبطال الحق؛ والمكر: الفتل إلى الضرر على وجه الحيلة {و} الحال أنه {عند الله} أي المحيط علماً وقدرة {مكرهم} هو وحده به عالم من جميع وجوهه وإن دق، وعلى إبطاله قادر وإن جل {وإن كان مكرهم} من القوة والضخامة {لتزول} أي لأجل أن تزول {منه الجبال}".
قبيل الزوال:
     قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (16) سورة الإسراء.  يقول الشيخ محمد محمود حجازي: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية من القرى وقد دنا وقت إهلاك أهلها، ولم يبق من زمان إمهالها إلا قليل- أمرنا مترفيها- بالطاعات ففسقوا عن أمر ربهم، وخرجوا عن طاعته، والأمر للجميع مترفا أو كان غير مترف، غنيا كان أو فقيرا، ولكن لما كان الأمراء والأغنياء هم القادة وغيرهم يتبع، والعامة شأنها التقليد دائما، قيل أمرنا المترفين الأغنياء حتى كان الفقراء غير مأمورين).
ويقول سيد قطب: ( والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها؛ ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها، والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون).
ويقول الدكتور عماد الدين خليل: ( على مستوى القيادة يحدثنا القرآن أن ساعة السقوط تحين يوم يتسنم المسؤولية حفنة من المترفين أو الإداريين الظلمة أو المجرمين الطغاة، فيمارسون من مواقع السلطة تلك كل أسلوب من شأنه أن يؤدي إلى إلحاق التفكك والدمار بالجماعة أو الأمة التي ارتضتهم قادة لها: الترف،الفسوق، الطغيان، الفوضى، الاستغلال،المكر، رفض الدعوات الجديدة،واستخدام أقصى درجات القسوة والطيش لصد قومهم عن الانتماء إليها، واعتبار مبادئهم ورؤاهم وتشريعاتهم الذاتية القاصرة المفككة الحدود النهائية لموقف الإنسان في العالم، وهو اعتبار يقوم على أقصى درجات الطغيان وأشد المواقف بعدا عن مفهوم التوحيد العادل، وأروع ما في التعبير القرآني أنه يصور هؤلاء الطواغيت وهم في قمة الجاه والثروة والسلطان، أدوات بيد الله، يسخرهم من حيث لا يدرون، لإنزال عقابه العادل على طرفي الجريمة، السلطة التي تظلم والقاعدة التي ترضى الظلم).  
ويقول الدكتور عبدالحليم عويس: "والتاريخ في دوراته غريب، وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود‏!‏ إن حجم العلاج لا بد أن يكون مساويا لحجم المرض، كما أن من الضروري أن تكون نوعية الدواء مناسبة لنوعية المرض؛ أما علاج ظاهرة اقتصادية بالوصول على قمة السلطة السياسية ‏.‏‏.‏ فهو جرعة كبيرة من العلاج قد تكفي للقتل والموت‏،‏ وكعادة الدول التي ترتبط بأشخاص تسقط بسقوطهم".r
المصادر:
- تفسير أبو السعود العمادي
- تفسير الماوردي
- تفسير ابن الجوزي
- تفسير البقاعي
- التفسير الواضح، محمد محمود حجازي
- في ظلال القرآن، سيد قطب
- دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، د. عبدالحليم عويس
- الزلزال العراقي،د. خالص جلبي
- طبائع الاستبداد، عبدالرحمن الكواكبي
- التفسير الإسلامي للتاريخ، د. عماد الدين خليل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق