05‏/10‏/2011

العلق... (قصة قصيرة)

بقلم/ كامل الدلفي
امتلأتُ حماساً وحيوية منذ إن ركبت طائرة العودة إلى بلدي ، وحين هبطت بي الطائرة في مطار العاصمة، لم أقم بتلك الحركات المستهلكة التي مارسها قبلي عائدون رومانتيكيون، فمنهم من قبل تراب المطار، ومنهم من احتضن أقرب عمود كهرباء، ومن نائح عند جذع شجرة، وما شابه.
لقد سألت الله في سري أن يوفقني في برنامجي، وأن لا أكون موضوعاً لتندر (سالي)، زوجتي الإفرنجية، التي ظلت، هي والأولاد في بيتنا هناك، حيث راهنت بتحدٍ على فشل رحلتي، مدفوعة بموقف مزاجي، ما زادني إصراراً على المضي قدما، فلم أترك ثغرة إدارية أو وثائقية تنال من قدرة التصميم على النجاح، فترجمت كل وثائقي وشهاداتي العلمية إلى اللغة الأم، وصدقتها لدى سفارتنا في بلد المهجر..

خرجت من الطائرة وأنا أقرب إلى صوص يتلمس العالم أول مرة، أرسلت من ذاكرتي المضطربة بطاقات حب إلى الأمكنة التي أخذت تمر بها سيارة الأجرة، التي أوصلتني بحسب الوصايا إلى فندق الإنترناشيونال المطل على النهر، فأنه يلقى شهرة بين الأوساط السياحية الخارجية، فقد وجدته يعج بحركة سياحية وإعلامية واسعة، حجزت من فوري بشكل مفتوح وطلبت من الإدارة دليلاً سياحياً، أو بالأحرى رفقة إستشارية لإنجاز بعض المعاملات التي سأحتاجها لإكمال إقامتي الدائمة، لم أفضل الاتصال بأحد من عائلتي أو علاقاتي القديمة، لأن ذلك سيأخذ مني وقتاً أطول.
جاء إلى صالة الانتظار وعرفني باسمه،حارث، ولد ممتاز ومتماسك، خفف عني أعباء كثيرة سألت الله أن يعوضه ويحميه..
من اللقاء الأول شرحت له مهمته، وطلبت منه أن يرسم لي خريطة المؤسسات التي أحتاج إليها لإنجاز موافقة التدريس في جامعات البلد، سيما وأن العام الدراسي أوشك على الابتداء، كان على درجة من المهارة والدقة، فأوجز مدة العمل في نصف زمنها، ما يدل على نقائه وحسن تربيته، سلمني موافقة الجامعة بعد وقت قصير، ومارست تخصصي في قاعة الدرس في علم وظائف الأعضاء بنشوة غامرة.
ليلتها اتصلت بسالي وسلقت أجدادها الإفرنج، وبطيبة خاطر مألوفة فيها، حيتني وباركت لي، وقالت: 
نلتحق بك أنا والأولاد بعد أن تستقر فعليا في العاصمة ، شجعني ذلك لشراء سكن مناسب، وحين فاتحت حارث بوصفه أول صديق لي في الوطن، ذهب معي إلى شركة عقار في الجانب الغربي من النهر، واتفقنا على شراء دار من طراز حديث، وأوكل حارث عملية التسجيل في دائرة الطابو إلى معقب تسجيل، وجاءني هذا بعد أسبوع ليوضح لي بأن دائرة التسجيل العقاري تطلب وثيقة تأييد من مؤسسة السكان الأصليين، وأن ذلك إجراء ضروري حسب قوله، فلم أتوانه ليقيني بعدم وجود مشكلة في هذا الأمر، وحين دلني على مكان المؤسسة، استأجرت سيارة أجرة، لكن السائق الذي استأجرته لم يوصلني في الوقت المحدد للدوام الرسمي، فالمؤسسة تغلق عند الساعة الثانية ظهراً، وكنت أتوسل إليه إن يكف عن الحديث، ويوصلني قبل نهاية الدوام، لكنه كمحترف من زمن الباشوية لم يحض بالتقاعد أو الضمان الاجتماعي، بدا لي كأنه مذياع كشكول.
وبما أن عمر الرجل لم يسمح لي بأن أرفع صوتي معه، فقلت في داخلي لقد استفدت هذا اليوم بأني قد عرفت المكان جيداً وسآتي غداً مبكراً ، لكنه حين أوقف السيارة في باب المؤسسة.. لكزني قائلا: "مفتوحة والحمد لله".
قلت: مستحيل، وأظنه لم يسمع ما قلت، إذ لم يتوان أن حرك سيارته بعيداً عني .
تقربت رويداً من الباب الذي يحتفظ بمعالم تراثية عهدت في العاصمة أبان ستينيات القرن الماضي، وقلت في سريرتي من الأفضل أن أعود إلى الفندق فلا جدوى من اللقاء بالحارس، إلا أن عيني تعرضت إلى شد خارجي، إذ وقع نظري على امرأة ممشوقة القوام، شعرها الأحمر يتكوم بغنج على كتفيها، ابتسمت، أو ابتسم كلانا، وبإيماءة ساحرة أذنت لي بالتقدم، انحنيت قليلاً وعرفت بنفسي، ردت بأحسن من تحيتي: 
قالت.. أنا الدكتورة فاطمة حسين غلام...
تشرفنا يا ست...
شممت رائحة شاي تأتي من الداخل، لكنها بادرت بالاعتذار، وبينت أن لا أحد في الداخل ليقوم بواجب الضيافة.
همهمت شاكراً لها، قلت سآتي غداً ، فأومأت لي بأن أقدم لها الطلب، قرأته، فدخلت سريعاً وخرجت، فرأيت أنها قد ختمته، وسجلت عليه رقماً للوارد، ثم انحنت على طاولة في طارمة المبنى، وكتبت : 
"الأستاذ عباس لإجراء اللازم".
وأدرجت اسمها ووقعت فوقه بالحبر الأخضر.
قالت غداً سيقوم الأستاذ عباس بالتفاصيل، شكرتها وتمنيت لها التوفيق وودعتها بلياقة تامة، قرأت الرقم الوارد فكان (33) في 10/10/2010.
استلقيت في سريري مرتاحاً نشوان إلى منتصف الليل.
دخلت الدائرة صباحاً متخطياً غرفة الحراسة، فقد فتشني الحرس وأخذوا هاتفي النقال، وأرشدوني إلى مكتب السيد عباس وقد تبين بأنه المدير العام وقد رحب بي وأستلم طلبي، لكنه ذهل حين قرأ ما كتبت .
سألني بغضب: من كتب لك على الطلب؟.
أشرت إلى اسمها.
قال : ومن تكون؟
قلت : لا أعرف ولكني وجدتها في الدائرة يوم أمس.
قال : لا تلعب بأعصابي، ليس لدينا أحد بهذا الاسم.
قلت: كيف؟
قال يا رجل سأحمل الأمر على حسن النية، وأمزق الطلب، وأنت تنسحب بعيداً عني وكأن شيئا لم يكن، وإلا، قسماً بشرفي، سأحيلك إلى شؤون الأمن بدواعي التزوير.
أرتفع صوتي احتجاجا، الأمر الذي جعل الرجل الجالس على يمين الطاولة يتحرك، ويتدخل في صراعنا أنا والسيد عباس، فاستفهم منه عن الأمر، وحين سمع باسم المرأة، توجه لي مخاطباً ومبطناً في خطابه سخرية لاذعة :
يا ولدي ذلك مستحيل لأن الأموات لا يذيلون الطلبات ولا يحضرون بيننا، وعليك أن تكف عن مقابلة الأشباح، وتعالج نفسك عند الأطباء النفسانيين، فأنا أعرف بعضهم.
قلت: ما الأمر؟
قال: إن هذه السيدة كانت صاحبة هذه الدار، وقد سفرتها الحكومة هي وآخرين في العام 1979، إلى دولة مجاورة بحجة أنهم سكان غير أصليين، أو يعودون بالتبعية إلى هذه الدولة الجارة، وكان ذلك محض هراء سياسي، فالدولة المجاورة نصبت لهم مخيمات على الحدود، وقد تواردت الأخبار عن موت غالبيتهم، بمن فيهم السيدة صاحبة الاسم الذي ذكرته، فأرجو أن تمزق طلبك وتغلق هذا الباب، الذي إذا فتح لا تحمد عواقبه.
ذهبت من فوري إلى منزل حارث وطلبت منه أن يبطل عقد الشراء مع الشركة العقارية لقاء أي خصم وعدت إلى الفندق متعباً، قلقاً، وقرفان..
لكن موظف الاستقبال أخبرني أن ثمة بريداً يخصني في الإدارة، جاءت به سيدة انتظرت أكثر من ساعة، أنه هناك، وأشار إلى الغرفة المقابلة، فتحت الظرف وأنا في المصعد فوجدت شريطاً أخضراً يشبه الأشرطة التي كانت أمي تجلبها من الأضرحة المقدسة وتشدها طوال العام على معصمي، قلبت الظرف، قرأت اسمها
"الدكتورة فاطمة حسين غلام".
اتصلت بسالي وأخبرتها بأني سأكون عندها غضون اليومين القادمين وسأجلب معي قطعة قماش بيضاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق