نتحدث في هذا الجزء عن قرابين الدم عند اليهود، ومغزى هذا النوع من القرابين في ديانتهم، حيث ظهر بينهم تقديم الأطفال كقربان للمعبود في القرن الثامن ق.م، واستمر قروناً عديدة، فكان الإنسان يقدم مع القرابين الأخرى كالحيوان والثمار، فبقيت ممارسة هذه العادة مدة طويلة عند اليهود، امتدت إلى عهد الانقسام، الذي قدم فيه الملك (أحاذ) ابنه قرباناً للآلهة. ثم اقتصرت على جزء من الإنسان، بدلاً من الأضحية بالإنسان كله، بل بما يقتطع منه في عملية الختان، التي
بقيت رمزاً للتضحية بالإنسان. فكان هناك قربان يقدم في الصباح، وآخر في المساء، وكان يصحبه احتفال طويل، وشعائر يؤديها الكهنة. وفي يوم السبت، وأيام الأعياد، تُقدم قرابين إضافية، واحتفالات دينية أكمل وأشمل. وتقديم القرابين لـ(يهوه) إله اليهود، دليل على وجود ارتباط بين الشعب والإله، وعلى وجود يهوه بين الشعب. وكان تقديم القرابين يعد مرحلة من مراحل التقدم عندهم، الذين كانوا يلجئون للسحرة والعرافين. فكان الكهنة يقاومون هذا الاتجاه بين الناس، ألاّ يعتمدوا إلا على قوة سحرية واحدة، هي قوة القربان والصلوات والتبرعات، ويعتقدون أن القرابين تكفر ذنوب الناس وخطاياهم، مادامت يد الكاهن قد باركتها. فقد كان (يهوه) في بادئ الأمر إلهاً يحب الدم، وكانت اليهودية دين فزع وخوف، ولم يكن يطفئ حقد الإله، إلا الدم المسفوك، حسب اعتقادهم. فلما تطورت فكرة اليهود عن الإله، وقالوا بإله بر وصلاح، أصبحوا يكتفون بالختان، بالإضافة إلى الحيوان والثمار. ولما اتصل الإسرائيليون بالكنعانيين، أخذوا عنهم فكرة جديدة عن القربان، والغاية منه، وأن القربان عطية للمعبود، فهو يُحرق ولا يُذبح، أو يحرق دهنه فقط، فيصعد الدخان إلى السماء، حيث يقيم هذا الإله الذي خصص له القربان. فيمضي الزمن على الإسرائيليين، وعقيدة القربان تتطور، وأخذت تدل على أن الغاية من القربان (إطعام المعبود). ثم قالوا إن القربان كفارة عن عمل، ارتكبه العبد، فأغضب المعبود. وكما قلنا سابقاً إنهم يعتقدون أن الغضب من طبيعة المعبود، ثم أصبح سبب غضب المعبود لخطيئة ارتكبها. وهذا القربان يعرف باسم (فداء)، فهنا نجد الحيوان (الفداء)، يتحمل العقوبة التي يستحقها الإنسان الخاطئ. وبينما نجد القربان الفداء هنا، قيمة إيجابية، أي أن شيئاً له قيمته يقدم للمعبود، إذ بنا نجد في حالات أخرى، أن القربان الفداء شيء سلبي، والمقصود أن الإنسان مقدم الفداء، يكتفي بحرمان نفسه من شيء عزيز جداً، فقيمة الفداء هنا، استغناء الإنسان عن أشياء ضرورية له، ومن هذا النوع، تقديم الأطفال، أو الابن البكر، أو الابن الوحيد، فداء. ونجد في الطقوس السحرية، التي تتضمن التبخر ببعض الحيوانات الصغيرة كالعقارب وغيرها، بعد رميها حية في لهيب المجامر، والتي مازالت تمارس على نطاق واسع، فإن الدخان المنبعث من جثث الحيوانات، يطهر في اعتقادهم من التأثيرات الشريرة، وينقل البركة، ولذلك كانوا يعتبرون قرابين النار مفيدة للزراعة، ولقطعان أغنامهم. وهناك أمم يقدمون القرابين، يتقربون بها لروح الميت، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الميت يبقى في القبر جائعاً، ويحتاج إلى الغذاء، فكانوا يذبحون فرس الميت وعبيده، ليخدموه في قبره. ودافع آخر لتقديم الناس القرابين، حيث يذبحونه كفارة لذنوبهم وذنوب قبيلتهم، وأصل هذا القربان أنهم كانوا يعتقدون، أنه إذا مرض المريض، فذبحوا قرباناً، فالمرض ينتقل منه إلى الحيوان المذبوح، ثم تطورت عقيدة نقل المرض من المريض إلى الحيوان المذبوح، إلى اعتقاد أن ذنوب الأمة تنتقل في الحيوان المذبوح.
وبشكل عام يمكن التمييز بين أربعة أنواع رئيسة من قرابين الدم:-
أولاً: القرابين التي تنحر من أجل التقرب إلى ولي، وهذه العادة الشائعة، لا علاقة للمستوى التعليمي أو الاجتماعي بانتشارها، وهذه القرابين تقدم في فترات الموسم السنوي للولي، أو بغير مناسبة.
ثانياً: القرابين التي يتوسل مقدموها من
الولي، إبعاد الشر عنهم، والتطهر من الآثام، وطلب الشفاء.
ثالثاً: قرابين الدم التي يطلب أصحابها من القوى المقدسة الخفية، إنجاح مشروع، أو صفقة نجاح في الأعمال.
رابعاً: القرابين المقدمة استيفاء لنذر، سبق لصاحب النذر قطعه على نفسه. ففي حالات معينة يقطع الزائر، أو الزائرة، على نفسه عهداً، بأن يحمل إلى الولي ذبيحة، في حال ما تحقق مراده، وحين يقضي الغرض، يصبح على كاهل صاحب النذر، دَين ينبغي عليه أن يوفيه، وإلا انقطعت عنه بركة الولي.
والنذور جمع نذر، هي وعدٌ على شرط، يتوسل الناذر إلى آلهته، بأنها إن أجابت طلباً عيّنه، وحققت مطلباً نواه، فعليه كذا نذر يعيّنه ويذكره، فهنا عقد ووعد بين طرفين، في مقابل تنفيذ شرط أو شروط، أحد طرفيه السائل، صاحب النذر، أما الطرف الثاني فهو الإله أو الآلهة، وأما الشرط فهو تنفيذ المطلب الذي يريده الناذر. واشتهر عند العرب النذر، الذي يُعَدُّ نوعاً مهماً من أنواع القرابين. والنذر بأشياء مختلفة، قد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقوداً أو فاكهة أو زرعاً أو أرضاً أو تمثالاً، وقد يوهب ما في بطن امرأة، أو ما في بطن الحيوان. وكان (عبد المطلب)، جد الرسول(صلى الله عليه وسلم)، قد نذر إن توافى له عشرة رهط، أن ينحر أحدهم، فلما اكتمل العدد، قرر الوفاء بنذره، وذلك بذبح أحدهم، ولم يكن قد عين الولد الذي سيذبحه، وذهب كعادة أهل مكة إلى صنم (هُبل) يَسْتَقْسِم عنده، فلما أصاب النصيب على (عبد الله)، ذهب إلى إساف ونائلة، فقامت إليه قريش من أنديتها، وقالوا: "ماذا تريد يا عبد المطلب؟" قال:"أذبحه" فقالوا له:" لا تذبحه أبداً، لئن فعلت هذا، لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا ؟". ثم سألوه أن يذهب إلى عرافة، كانت بالمدينة، لترى رأيها في الموضوع، وتفتي فيه، فلما ذهب إليها وجدها بـ(خيبر)، فأشارت عليه أن يعود إلى مكة، ثم يضرب بالقداح على ابنه، وعلى عشر من الإبل، وهو مقدار الدية عندهم، فإن خرجت القداح على (عبد الله)، ضربوا القداح مرة أخرى، فإن خرجت القداح على (عبد الله) مرة أخرى، أعادوا الضرب حتى يقع على الإبل، فيكون الرب قد رضي عنه، فتنحر الإبل عندئذ، فسمع نصيحتها وفعل، ونحرت الإبل فدية عن ابنه (عبد الله). فهم يقربون ذبائحهم لله، ويشركون به غيره، ويذبحونها على غير اسمه، فجاء الإسلام بذبح القرابين من الهدايا والأضحيات لله وحده، وعلى اسمه وحده، وأمر بالأكل منها، وإطعام الفقراء والمساكين. إن الناذر الذي أوجب على نفسه نذراً، يراعي الجنس، في اختيار الذبيحة، فإذا كان مقرب القربان ذكراً، اختار قربانه حيواناً ذكراً، وإن كان المقرب أنثى، اختيرت الذبيحة أنثى، ونجد هذه العادة عند غير العرب، فقد كان أهل العراق يقدمون كتف حيوان في مقابل شفاء كتف إنسان، ورأس ذبيحة في مقابل رأس ناذر. وعرف شهر رجب عند العرب، بكثرة ما كان ينحر فيه من عتائر للأصنام، فلابد أن يكون لذلك أصل وسبب، كأن يكون هذا الشهر من الأشهر التي كان لها حُرمة خاصة في الجاهلية القديمة، وشهر رجب هو من الأشهر الحُرم المعظمة، التي لم يكن يحل فيها القتال، وقد سمي الذبح في هذا الشهربـ(الترجيب)، وقيل للذبائح التي تقدم فيه: (العتائر). والتي عدت من شعائر الجاهلية، وأطلق علماء اللغة كلمة (العتائر) على ذبح الحيوانات الأليفة، وأطلق لفظة (النافرة) على ذبح الحيوانات المتوحشة. وكان العرب في الجاهلية تُسيب الحيوانات تقرباً للأصنام، وهي العادات التي يسميها القرآن باسم (البحيرة والسائبة والوصيلة والحام)، كما قال سبحانه وتعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (سورة المائدة: آية 103). ويمكن القول إن طقوس القرابين، ذات طبيعة دينية اقتصادية، فالدينية تستهدف تقوية العلاقة بين الإنسان والآلهة، والاقتصادية تبدو في دعم الكهنة، أو الزعماء الروحيين، هذا الوضع يسمح لهم بالحصول على بعض الامتيازات، كما نجد في حصولهم على أجزاء هامة من القربان، هذا في حد ذاته، يعطيهم الفرصة في الحصول على كميات مناسبة من الطعام، بدعوى أن هذه أمور يتطلبها دورهم العقائدي، حيث يتحقق لهم نوع من الاكتفاء الاقتصادي، نتيجة تقديم هذه القرابين. ويمكن القول إن طقوس القرابين كان لها دور حيوي في التماسك الاجتماعي القبلي أو العشائري، والذي قد يحقق التجانس بين الأجيال المتعاقبة، من خلال الالتزام بأداء هذه الشعائر والطقوس. فلم تترك الكهنة طقوس القرابين، تفلت من أيديهم، فبعد أن كان رب الأسرة، هو الذي يقدم القربان، إذ نجد الكهنة يعيّنون مكان التقديم، فقصروه على كل مكان مقدس. وقد ركّز (يشوع بن نون/ عام 621 ق.م)، العبادة في (أورشليم)، وقضى على سائر المذابح الأخرى. وفي القرآن الكريم ذكر عزم (إبراهيم) (عليه السلام)، على ذبح ابنه (إسماعيل)، تنفيذاً لأمر ربه عز وجل، وحرصه على امتثال ما أمر به ربه، فالله تعالى لم يرد له أن يذبح ابنه، وإنما أراد أن يمتحنه، ليبين مدى إخلاصه وطاعته له سبحانه، قال تعالى: (( فَلَّمَا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ))،أي فلما كَبُرَ إسماعيل، وترعرع، وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه إلى الجبل ليحتطب، وكان ابن ثلاث عشرة سنة (( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِي أرَى فِي المَنَامِ أَنِي أَذبَحُكَ فَانظُر مَاذَا تَرَى))، أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم (عليه السلام) في المنام أن يذبحه، فرؤيا الأنبياء كما هو معلوم وحيٌ. قال مقاتل:"رأى ذلك (إبراهيم) (عليه السلام) ثلاث ليال متواليات، فلما تيقن ذلك، أخبر به ابنه". وإنما أعلم ابنه بذلك، ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وعزمه، على طاعة الله، وطاعة أبيه. ولكن أعطاه الحرية الكاملة، فلم يكرهه، ولم يجبره على ذلك، عندما قال له: ((فَانظُر مَاذَا تَرَى))، فإبراهيم (عليه السلام) متيقن أن ابنه لا يخالف أمر ربه، فهو رباه على طاعة الله تعالى: ((قَالَ يَاأَبَتِ افعَل مَاتُؤمَر))، أي امض لما أمرك الله من ذبحي: (( سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَابِرِينَ))،أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. (( فَلَمَّا أَسلَمَا))، انقيادا وخضوعـا لأمر الله تعالى. قال قتادة:" أسلم (إبراهيم) (عليه السلام) ابنه، وأسلم الابن نفسه". ((وَتَلَّهُ لِلجَبِيِنِ))، أي: صرعه على وجهه، وأضجعه على جبينه على الأرض، ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه، ليكون أهون عليه. فوضع السكين على حلقه. ((وَنَادَينَاهُ أَن يَا إِبرَاهِيمُ)): أوحينا إليه، فنودي من الجبل: ((قَد صَدَّقتَ الرُؤيَا))، قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنْتَ نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه. ((إِنَا كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ)): إنا كما جَزَيْناك بطاعتنا يا إبراهيم، كذلك نجزى الذين أحسنوا، وأطاعوا أمرنا، وعملوا في رضانا. ((وَفَدَينَاهُ بِذِبحٍ عَظِيمِ))/ سورة الصافات: الآيات 102-07)، صار بدله ذبح كبشٍ عظيم، ذبحه (إبراهيم) (عليه السلام)، فكان عظيما، من جهة أنه كان فداء لإسماعيل (عليه السلام)، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قرباناً وسنة للمسلمين إلى يوم القيامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق