02‏/04‏/2019

مشروع الأمّ والأبدية والعلوم الإنسانية القانون أنموذجا


تحسين حمه غريب
مستخلص:
هذا البحث يتعلّق بفلسفة القانون، حاول الباحث فيه كشف موقع القانون في مشروع (الأمّ والأبديّة) للباحث الكوردي (تحسين حمه غريب)، وهو مشـروع للتجديد الديني والتغيير الحضاري. حيث يعتبره صاحب المشروع الرابع من نوعه كمشـروع معرفي يجعل الدين كدين - وبشكل عام - موضوعه: ويتكون المشروع من مرحلتين؛ تعتبر الثانية تغييراً في الأولى، إلا أن البنية  الأساسية باقية في المرحلة الثانية، كما هي في المرحلة الأولى.
قسّم صاحب المشروع التعامل الديني إلى جانبين: جانب ذاتي روحي (أنفسـي)، سمّاه بجانب (الأمّ)، وجانب موضوعي خارجي (أفقي). وخصص الجانب الثاني لحلّ المشاكل الإنسانية: كالأخلاق، والسياسة، والاقتصاد، ولم يتطرّق إلى القانون. فحاول الباحث أن يستعمل منهجية المشروع في القانون أيضاً، كحقل من
الحقول الإنسانية والاجتماعية، لأنّ ما ذكره صاحب المشروع من العلوم ليس على سبيل الحصر، بل (المثال). ووصل البحث إلى أن بإمكان المشروع معالجة موضوعات، والإجابة عن أسئلة، في الفكر القانوني وفلسفة القانون

 المقدمة
مشـروع (الأمّ والأبدية) للباحث الكوردي (تحسين حمه غريب)، مشـروع فلسفي للتجديد الديني والتغيير الحضاري، وهو بالأساس يتكون من مشروعين؛ يعتبر الثاني تغييراً جوهرياً في الأول؛ على غرار المشروعات الفكرية التي وصل أصحابها إلى أفكار جديدة غير التي نشروها من قبل. فالباحث طبع مشـروعه الثاني على شكل كتاب باللغة الكوردية بعنوان (دايك و ئةبةدييةت)، في عام (2018)، ذاكراً التغييرات التي أحدثها في مشـروعه الأول، بناءً على تحقيقات وصل إليها بعد إعلان مشروعه الأول. واعتبر الثاني آخر ما تبنّاه في هذا المجال، وإن كانت البنية الأساسية للمشروع الأول محفوظةً في الثاني. (تحسين حمه غريب،2018)
والذي نبحث عنه هنا هو التحقيق في موقع (القانون) في المشروع الأول، وليس الثاني، بناءً على البنية المشتركة في كلا المشروعين. وبما أن الثاني هو  تغيير في الأول، فيعتبر الأول بمثابة معيار له، فإنّ البحث في المواضيع المتعلّقة بالأول يفتح الباب للتحقيق فيها في الثاني. وبما أن كلا المشروعين مستقلين، فيمكن التحقيق في مسائل الأول دون الرجوع إلى المشروع الثاني، على غرار مشاريع فكرية مثيلة، كما هو الحال في المشـروعين الفكريين للفيلسوف النمساوي (فيتغنشتاين): الأول والثاني، اللذين فرّق الباحثون بينهما في بحوثهم، فهناك بحوث حول الأول، دون الرجوع إلى الثاني.(دباغ، 1387)
فما هو موقع القانون في مشروع (الأمّ والأبدية، الأول)، وهل بالإمكان إدخال القانون في مضمون ذلك المشروع، وإنْ لم يخصّص الباحث فصلاً له فيه، كما هو الحال لحقول أخرى غير القانون؛ كالأخلاق، والسياسة، والأدب، والثقافة؟.(تحسين حمه غريب،2018)

  وما هي الإضافات في الفكر القانوني، إنْ افترضنا أن جواب السؤال السابق هو الإيجاب، أي إننا نحصل على أن المشروع له علاقة بالقانون، وأن ذكر الحقول الأخرى هو على سبيل المثال وليس الحصر.(حمه غريب، 2018)
فمن خلال الجواب على السؤالين السابقين تظهر إشكالية البحث.
أما فيما يتعلّق بأهمية البحث، فإنّ البحث في هذا النوع من البحوث التي تتعلّق بفلسفة القانون، من حيث إنّ أحد موضوعات فلسفة القانون هو ضرورة الكشف عن مرجع فلسفي للقانون، حتى لا يقتصر القانون على قواعد تكليفية تأمر وتمنع، من غير معرفة عمقها وأساس مشـروعيتها في تصوّر المجتمع والأفراد. وبالتالي لا يصبح القانون وسيلة بيد جماعات الضغط، لفرض إراداتهم على المجتمع.
أما فيما يتعلّق بالدراسات السابقة في الموضوع، فهناك دراسات مماثلة كثيرة بالنسبة لعلاقة القانون بالمشـروعات الفكرية، بيد أنّ هذا البحث يعتبر هو الأول، فيما يتعلّق بالمشروع الآنف الذكر.
  أما بالنسبة لمنهجية البحث، فإن الباحث اعتمد على المنهج العقلي، والتحليلي، كما هو  الحال في موضوعات فلسفة القانون.
   ومن أجل تحقيق أهداف البحث، فقد قسّم البحث إلى مبحثين:
 المبحث الأول خصّصه للتعريف بمشروع (الأمّ والأبدية) الفكري؛ بنيته، وموضوعاته، ومسائله، افتراضاته، ولوازمه.
   أمّا المبحث الثاني، فيتناول علاقة القانون بمشروع (الأمّ والأبدية).
  واختتم الباحث البحث بخاتمة تضمّ أهم ما توصل إليه من نتائج، من غير أن تكون مستغنية عن التفاصيل التي وردت في ثنايا البحث.

المبحث الأول
التعريف بمشروع (الأمّ والأبدية)

المطلب الأول: ماهيّة مشروع (الأمّ والأبدية)
مشروع (الأمّ والأبدية) مشروع للتجديد الديني والتغيير الحضاري، بناءً على العلاقة الطردية بينهما، على ما يذهب إليه صاحب هذا المشـروع، وخاصة في الأديان الجماعية، كالإسلام والكونفوشية واليهودية والمسيحية. فالإسلام كدين عالمي له حضارته، وله شريعته الخاصة به، لتنظيم هذه الحضارة في مراحلها المختلفة، فالتفكير في هذه الحضارة لا يكون إلا من خلال التفكير في هذا الدين ذاته. (حمه غريب، 2018)
  وهذا ما قام به مشروع (الأمّ والأبدية): فهو تفكير في الدين كدين، وليس كأيّ شيء آخر يتعلّق به. ويعتبر الباحث مشروعه رابع مشروع في العصر الحديث تعامل - معرفياً - بهذا الشكل، أيْ دراسة الدين كدين، وبعمقه، بعد مشـروع الفيلسوف الهندي (محمد إقبال اللاهوري): (تجديد الفكر الديني) (إقبال،1395)، ومشروع الفيلسوف الإيراني (آرش النراقي): (رسالة في معرفة الدين) (نراقي، 1387)، ومشروع الرئيس البوسني الأسبق (علي عزت بيجوفيتش): (الإسلام بين الشرق والغرب). (بيجوفيتش، 1994). وليس هذا حكماً معيارياً، قيمياً، باعتبار أنّ ما قام به هؤلاء هو أدقّ وأهمّ وأحسن فكرياً، مقارنة بما قام به غيرهم من العلماء والمفكرين والفلاسفة العظام في أنحاء المعمورة، مسلمين وغير مسلمين، من الباحثين في الفكر الديني وفلسفة الدين. بل إن ضرورة الموضوعية العلمية، وتحديد مسار هذا النوع من التحقيق، جعل الباحث يركّز على هؤلاء  الباحثين، حتى وإن كان ما قام به غيره، أعظم وأهم علمياً وفكريا ً(تحسين حمه غريب، 2018)
وبما أن موضوع بحثنا يتعلّق بالمشـروع الأخير منها، فلا يمكننا الدخول في المشاريع الثلاثة الموجودة قبله. لذا علينا البحث عن ماهيّة مشروع الأمّ والأبدية، ومضمونه.
 كما قلنا إن مشروع (الأمّ والأبدية) مشـروع عن التجديد في الفكر الديني، والتغيير الحضاري، كلازمة هذا التجديد. والتجديد الديني (أو بالأحرى: تجديد التديّن)، لا يمكن القيام به من غير معرفة الدين الذي يتعلّق به هذا التجديد.
فصاحب المشروع يحاول التعريف بالدين (الدين هنا هو الإسلام الذي تتدين به مجتمعاتنا المسلمة)، ويعتبر هذا التعرّف المعرفي هو أساس التجديد، وأصل إبداع  مشروعه. (تحسين حمه غريب، 2018)
  فالمشروع يقسّم الإسلام إلى جانبين رئيسين، مكمّلين لبعضهما البعض:
الجانب الأول هو الجانب الذاتي (الأنفسـي)، والذي سمّاه صاحب المشـروع بجانب (الأمّ)، وشرح وجه التسمية بهذا الاسم (تحسين حمه غريب، 2018)
  والجانب الثاني هو الجانب الموضوعي (الآفاقي)، الذي سمّاه بجانب (الأبدية)، وبيّن أسباب ووجوه تسمية هذا الاسم أيضاً. (تحسين حمه غريب، 2018).
  وذكر أنّ الإسلام يتكوّن من الجمع بين هذين الجانبين جمعاً عضوياً ديناميكياً، لا يمكن الفصل بينهما، إلا في عالم الافتراض، ومن أجل البحث والتفكير، وليس جمعاً ميكانيكياً يمكن التفريق بين أجزائه بسهولة. (تحسين حمه غريب، 2018)
  وإذا أردنا التعريف بالمشروع المذكور، فعلينا التعرّف على كلا الجانبين في مطلبين، باختصار مفيد:



المطلب الثاني
الجانب الذاتي للمشروع (الأمّ)
الشقّ الأوّل للمشروع مخصوص للجانب الذاتي للدين، المسمّى بـ(الأمّ)، وخصّص له الباب الأول من بابي المشروع:
ترتكز فكرة (الأمّ)، في المشـروع، على أنه - من الناحية الداخلية - أن الذات الإنسانية ليست مكوّنة بالشكل النهائي، بل إنها في نمو وتطور مستمرين. وهذا هو أساس السلوك المعنوي والأخلاقي في جميع الأديان الكبيرة، سواءً كانت فردية أو جماعية، والترقّي إلى القيم العليا. وعلى هذا يدلّ مفهوم (التزكية) في كل من علمي الأخلاق والتصوّف الإسلاميين، كما يبدو أن هذا هو مقصوده - سبحانه وتعالى- حينما قال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(القرآن الكريم، الشمس)، فالنفس الإنسانية تتزكى وتنضج حتى تصل إلى مقام يسمّى بمقام الأمّومة.. فاعتبر المشـروع مقام الأمّومة مقاماً روحياً يصل إليه الإنسان، ولا يختصّ بالجانب الجسمي الفسيولوجي الخاص بالجنس المؤنث.
 واعتمد الباحث في رأيه هذا على أدلة نقلية، وتجارب إيمانية، وصفات موجودة في (الأمّ)، تجعلها لائقة أن تعتبر من المقامات العليا التي تصل إليها الروح الإنسانية. ولهذا قال مولانا جلال الدين الرومي في أشعاره:
إنه دخل في صدري الحليب لمريدي.
 كما وصف معشوقه الحقيقي، في بيت آخر: (إنه جنين في رحمه).
  ومعلوم أن مولانا جلال الدين لا يقصد بالحليب الموجود في صدره، الحليب المادي العادي، بل هو حليب  معنوي يقطره في فم طلابه وأولاده المعنويين.
وكذا وصفه للمعشوق الأزلي بالجنين، ليس مقصوده الجنين الإنساني الموجود في الرحم، بل هو إحساس ذوقي روحي بأنه أصبح أمّاً. فهو، وغيره، استعمل كلمة الأمّ كاستعارة لقِمّة أحواله الروحية.
وقد أخذ العلماء هذا اللفظ لبيان ما في داخلهم من تشبيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - اللطيفة في الأحاديث، وخاصة حديث: (لله أرحم بعباده، من هذه بولدها) (البخاري/2002)( ومسلم/2006).
ثم بيّن الوسائل التي يصل بها الفرد إلى هذا المقام المعنوي، فخصّص لكل مفهوم من المفاهيم الموصلة إليه فصلاً خاصاً. فاعتبر الإيمان هو الطريق، فجاء بفصل خاص له. ثم بحث عن متعلّق الإيمان الذي نؤمن به، وهو  الله سبحانه وتعالى: إ{ِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (القرآن الكريم، آل عمران193)، فخصّ موضوع (الرب) بفصل خاص. كما خصّص فصلاً خاصاً لمسألة الموت، وأن التأمّل في الموت مسألة إيمانية أخلاقية للوصول إلى المقامات العليا، ذاكراً أنه إذا كانت جميع الكائنات الحيّة تموت، فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي هو عالم بأنه يموت قبل موته. كما قال (نيتشه)، الفيلسوف الألماني: أنا أموت والهرّة تموت، إلا أنها لا تنتبه إلى موتها.
وذكر الكاتب أن التربية الدينية تعتمد على هاتين الحقيقتين (الله، والموت) لتربية الإنسان، غير أن فلسفة التربية الحديثة لا تعتمد عليهما، ولا يوجد لهما موقع خاص فيه، حسبما ذهب إليه الباحث. (تحسين حمه غريب، 2018)
  وخصّص الفصل الأخير لمفهوم الأمومة نفسه، واعتبره الهدف للتربية والسلوك الديني، ونهاية نضوج فاكهة الروح. فالإنسان عندما يصل إلى هذا المقام تصبح روحه لطيفة، وتتصف بالصفات الموجودة في الأمّ. فالأمّ هي الأعدل في التعامل بين أولادها. ويستنتج الباحث أن الإنسان يكون عادلاً عندما يصل إلى هذا المقام. (تحسين حمه غريب، 2018)
                        
المطلب الثالث
الجانب الموضوعي (الأبدية)
إن ما ظهر في الفكر الديني، منذ بدايات القرن العشرين حتى الآن، هو علاقة العلوم والحقول الإنسانية، كالأخلاق والسياسة والفن، بالدين. هذا وإن كان الأصل، في القرون الوسطى، والقديمة، أن تلك الحقول لم تكن مستقلة عن الدين، بل إنها تأخذ قواعدها من القواعد الدينية.(سروش، 1380)
   فبعد عصر التنوير وظهور التحديث بالتدريج، أخذ كل حقل من تلك الحقول استقلاله من الدين، وأصبحت لها مفاهيمها ونظرياتها وأنظمتها المستقلة، على غرار العلوم التجربية، حيث إنها استقلت قبل العلوم  الاجتماعية. أمّا في العلوم الاجتماعية، فأصبحت إمكانية استقلاليتها موضع نقاش، فادّعى بعض المتفكرين أن تلك العلوم يجب أن تكون مستقلة، كما هو الحال في العلوم التجربية، وإلا لم تعتبر علوماً، بينما ادّعى بعض  آخر بأن تلك العلوم لا يمكن أن تعتبر مستقلة، لأنها تنظّم سلوك الإنسان، وبالتالي تتعلّق بأفكار وتصوّرات الإنسان، وإنها لا يمكن أن تكون لها قوة تبيينية من غير أن يكون وراءها رؤيا كونية أو آيديولوجيا. ولهذا حاول المفكّرون في الأديان المختلفة أن يكشفوا أنظمة خاصة بالأديان تتعلق بتلك الحقول.(سروش، 1380). فظهرت حقول معرفية جديدة، كالنظام الاقتصادي الإسلامي، والنظام السياسي الإسلامي، وهكذا. (صبحي الصالح، 1978). بل حاول بعض المفكرين التنظير للمعرفة، بشكل عام، على هذا الشكل: فهناك محاولات كإنشاء نظريات في المعرفة والأبستمولوجيا خاصة بالأديان، مثلاً هناك مشاريع تحت عنوان (إسلامية المعرفة)، حاول أصحابها استنباط نظريات معرفية خاصة بالنصوص الدينية.(سروش، 1380)
فذهب صاحب مشروع (الأمّ والأبدية) إلى ضرورة وجود ما يوصل هذه الحقول إلى عالم أكبر، ووجود أرضية تقف عليها، حتى لا تقتصـر تلك العلوم على رؤية ووظيفة وضعانية آحادية النظرة، وبدون تعمّق، وتصبح آلة بيد أصحاب القرار وقوى الضغط، تستعملها في تحقيق مصالحها. كما يذهب بعض علماء العلوم الإنسانية إلى ذلك، اليوم، وهذا لا يقتصر على علوم كالسياسة والاقتصاد، بل تجاوز إلى القانون أيضاً. (آلان سوبيو، 2012)
  ولكن هذه المشكلة لا تحلّ بربطها بأيديولوجيا تكون أسّها وبنيتها التحتانية، وتصبح هي الوجه المرئي والوجود الفوقاني لتلك البنية. ولا أن تصبح ذاتها آيديولوجيا جامدة محوّلة من تلك العلوم، لا تقبل التحليل ولا النقد والمناقشة، لأن الآيديولوجيا توزّع ما تواجهه بين الأبيض والأسود، والصديق والعدو.(سروش، 1380).
 ولهذا اقترح المشروع، بدل تغيير الموضوع في تلك العلوم وتحويلها إلى آيديولوجيا، تغيير النظر إليها، أو تغيير العلاقة مع تلك العلوم، أي التغيير من موقع الناظر، ورؤيته، بدل تغيير موقع المنظور إليه وتغيير تركيبه.(حمه غريب،2018). وذهب صاحب المشـروع أن هذا المنهج، أو بالأحرى الأسلوب، موجود في الـتاريخ الفكري والديني والعلمي منذ العصور القديمة، وفي العلوم الجديدة أيضاً.. إن موقع ونوعية التعامل مع العلوم يتغيّر بتغيّر موقع  النظر إليها. فذهب (آدم سميث)، عندما بحث في نظرياته الفلسفية الاقتصادية، إلى أن نوعية التعامل والمعرفة تتغيّر بتغيّر موقع الشخص الناظر، الذي سمّاه هو بـ(الناظر المحايد).(أمارتيا سن،2010 )
  وفي الفن والعلوم الجمالية يوجد تعامل شبيه، كما يذهب الفيلسوف (فيدغنشتاين) إلى أن ماهيّة الفن لا تتعلّق بموضوعه، بل ترتبط بنوع النظر إليه. فصورة فوتوغرافية لوردة لا تتحول إلى عمل فني برسمها باليد بدل آلة التصوير، بل بالنظر إليها نظرة فنية أبدية. وهذا هو الحال بالنسبة للدين والأخلاق أيضاً. فنفس السلوك الخارجي لا يجعله موصوفاً بالعمل الأخلاقي، بل بالنظر إليه خلال رؤية أبدية. والفرق بين العمل الديني وغير الديني لا يكمن في السلوك الخارجي، بل بنوعية النظرة والرؤية الفوقانية إليها. وهذا هو الحال بالنسبة للاقتصاد والسياسة والقانون أيضاً.(دباغ،1387)
  وقال صاحب المشروع: وهذا هو المسمّى في فلسفة التربية بالنظرة الكشتالطية. ولتوضيح مدّعاه جاء الباحث بمثال، فقال: عندما ننظر إلى بناء في جانب من جوانبه، فلا يمكننا معرفته، فإذا أردنا أن نكشف حقيقته، فعلينا بالدوران حوله، بل الصعود إلى ما هو أرفع منه، حتى يكشف لنا حقيقته. (حمه غريب، 2018)
   وذهب المشروع إلى أن الرسول لم يغيّر المواضيع الأساسية للثقافة العربية (التجارة، والملك، والهجرة)، عندما أرسِل من قبل ربّه - على ما يذهب إليه الفيلسوف الياباني والباحث القرآني المعروف (تشيهيكو ايزوتسو) - بل غيّر من نظرة العرب، والبشـرية، إليها. فكأنما قال لهم: إنكم كنتم تنظرون إليها نظرة شركية، فتعالوا إلى أن نغيّر موقعنا في الوجود، ونغيّر القبلة، وننظر إليها نظرة توحيدية. فالمسألة هنا ليست في تغيير الموضوعات، بل في  تغيير موقع الناظر، والرؤية. (تشيهيكو، ايزوتسو، 1383)
    ويرى الباحث أن المشكلة الأساسية في العلوم الاجتماعية، ومنها القانون، ليست في موضوعاتها، بالدرجة  الأساس، بل في النظر إليها.. فالمحرّمات في السلوك الإنساني كانت موجودة منذ وجود الإنسان في المعمورة، إلا  أنها كانت تؤدي وظيفتها في سياق أبدي أكبر من وظيفتها الجزئية، وليس كما هو الحال في العلوم الجديدة، والتي يقتصـر الهدف فيها على نتيجتها القريبة. ومن ثم يقتصر علم الاقتصاد في تحقيق المنفعة الشخصية للفاعل  الاقتصادي، وتكون غاية العمل السياسي تحقيق مصالح الفئة الحاكمة، بدل أن يكون الهدف تحقيق الخير العام، وهو موضوع أبدي. (حمه غريب، 2018).
وكذلك الحل بالنسبة للقانون، عندما يكون وسيلة بيد جماعات الضغط، بدل أن يحقق وظائفه الإنسانية الأبدية؛ من حقوق واجبات. (آلان سوبيو،2012)

المبحث الثاني
القانون و(الأمّ والابدية)
المطلب الأول
القانون؛ نظرة فوقانية
إذا كان القانون أحد العلوم الاجتماعية التي توجّه السلوك الإنساني، ويعرّف بأنّه "مجموعة من القواعد القانونية التي تنظّم (العلاقات الاجتماعية)؛ العيش في الجماعة، والتي يجب على الكافة احترامها، احتراماً تكفله السلطة العامة بالقوة عند الضـرورة، وإلاّ تعرّضوا للجزاء القانوني الذي تفرضه سلطة عامة". (عبد الباقي البكري، زهير البشير، 1989 ص21)
  فهو حقل معرفي حول سلوك اجتماعي مستقل عن الدين والأخلاق والمعاملات، وإن كان له علاقة معها، ومع العلوم الأخرى، ومنشئه يرجع إلى وجود الحياة الجماعية عند البشر. إلا أن العلماء يذهبون إلى أن القانون في العصـر الحديث يختلف اختلافاً نوعيّاً، وليس كميّاً، عنه في العصور القديمة.. فالقواعد القانونية لم تكن منفصلة عن القواعد الدينية، ولا القواعد الأخلاقية، في العصور القبلية. ولهذا لم يكن البشـر يفكّر في وجود قواعد آمرة وناهية يمكنها أن تخالف معتقداته الدينية والخلقية، بل عاداته وأعرافه، كما هو الحال في العصر الحديث.
ولهذا ذهب بعض العلماء أن القانون جديد بذاته، ظهر في العصـر الحديث، ولم يكن موجوداً في العصور القديمة. (سروش 1380). لذا ذهب العلماء إلى استقلال القانون عن الحقول الاجتماعية الأخرى، بل هناك تعارضات بينه وبينها في بعض المسائل والقواعد، كما هو الحال بالنسبة لعلاقة القانون بالأخلاق. فهناك – مثلاً - مسألة التقادم، والتي يتعارض فيها الحكم القانوني مع الحكم الأخلاقي، حيث إن القانون يحكم بأنّه إذا كان صاحب الحقّ لم يتابع حقّه في المدة المحدّدة قانوناً، وبشروطه، فليس له طلب حقّه، وإن كان لم يزل هو صاحب حقّه من الناحية الأخلاقية. وكذلك الحال بالنسبة للاعتصام الجماعي عندما يخالف القانون، فإن القانون بشكل عام يتعارض مع قواعد العدالة، وإن المعتصم يتحمّل النتائج القانونية المترتبة على اعتصامه من أجل الحكم الأخلاقي والعدالة (مارك تبيت،  1384).
  ولهذا، وحتى نعرف الوظائف الأساسية للقانون، يجب علينا أن لا ننظر إليه نظرة تحتانية قصيرة المدى، أي كقواعد جزئية متعلّقة بمسألة أو موضوع معيّن في مجال السلوك الإنساني، بل يجب أن ننظر إليه نظرة فوقانية من الأعلى، ونجعل كل الواقع تحت رؤيتنا، وننظر إلى جميع أبعاده.(حمه غريب، 2018).
ومن هنا نحتاج إلى أن نعرف القانون معرفة درجة ثانية، وليس معرفة درجة أولى. ويعتبر هذا غير ذاك. وهما من إبداعات الفلاسفة وعلماء المعرفة، فإنهم يقصدون بالمعرفة الدرجة الأولى في كل علم معرفة موضوع ذلك العلم، إذ المعرفة الدرجة الأولى في القانون هو معرفة القواعد القانونية التي تعتبر موضوع القانون. (سروش، 1380)
أما موضوع المعرفة الدرجة الثانية في كل علم ليس موضوع ذلك العلم (كالقواعد القانونية بالنسبة للقانون)، بل هو العلم نفسه، أي إن موضوع المعرفة الدرجة الثانية في القانون هو القانون نفسه، وليس القواعد القانونية، أي بنيان القانون، ونظرياته، ومفاهيمه، وفرضياته، وهذا هو المقصود بفلسفة القانون عندما يضاف لفظ الفلسفة إلى القانون، (محمود حكمت نيا،1390) أي: فلسفة القانون.
فمعنى فلسفة القانون هو الحقل الذي يبحث عن القانون وليس الفلسفة بمعناها الشائع، وهو البحث عن الوجود كوجود. وهذا هو الحال لجميع الفلسفات المضافة، أي التي تضاف الفلسفة فيها إلى العلوم والمفاهيم، كفلسفة العلم، وفلسفة الأخلاق... إلخ. (مارك تبيت،1384)
  ولهذا يبيّن صاحب مشروع (الأمّ والأبدية) أن أهمية الموضوع تظهر عندما ننظر إلى المسألة من الفوق والمعرفة الدرجة الثانية، ولا يمكن أن يدرك في المستوى العادي، إلا عندما يصل إلى مرحلة النهاية في العلاج الأرضي (في المعرفة الدرجة الأولى) دون نتيجة، بل عندها نرفع رأسنا (أو نتأمل في الداخل) ونقلّب وجهنا في السماء بحثاً عن العلاج في المعرفة الدرجة الثانية. (حمه غريب،2018)
  فعند التحول من المعرفة الدرجة الأولى للقانون إلى المعرفة الدرجة الثانية، نكشف مسائل لم نكن كاشفيها لو بقينا في المعرفة الدرجة الأولى. أي عندما كنّا نبحث في القواعد القانونية – مثلاً - لم نكن نعرف بأن القانون يحتاج إلى تصوّر أكبر، ورؤية كونيّة، حتّى نعرف موقع القانون فيها، وعلاقته بالعلوم الشبيهة والقريبة منه. ومن ثم يجب انتقال النظرة إلى القانون من كونه آلة أو وسيلة بيد جماعات وفئات اجتماعية معيّنة، وأصحاب السلطة يستغلونه لتحقيق مصالحهم الخاصة، إلى أن يكون له وظيفة انثروبولوجية في حياة الإنسان، يؤدّيها مع العلوم الاجتماعية الأخرى. ولا يرتبط هذا بموقعه في الجغرافيا والهندسة الاجتماعية السطحية، وهذه هي مشكلة الآيديولوجيا، بل يرتبط بوظيفته العمودية والسطوح العميقة في الحياة الإنسانية. (سروش، 1380)
فحصـر وظيفة العلوم الإنسانية، بشكل عام، وقصـرها في تحقيق أغراض آيديولوجية، يجعلها غير قادرة على الرسوخ إلى أعماق الوجود الإنساني العميق، ومن ثم تفقد المشـروعية والرضا بها على مستوى الجماعة، ومن ثم يلجأ أصحاب السلطة والمصلحة لفرضها بالقوة (سروش، 1380). وحتى إن كانت تعتبر آيديولوجيا لجماعة تؤمن بها، فإنها - وبناءً على حقيقة التنوّع الإنساني - غير ممكنة الحذف في المجتمع الإنساني، فلا يمكن أن تكون تلك الفئة إلا أقليّة في المجتمع. وبالتالي يبدأ الصـراع بين تلك الأقليّة، التي تريد أن تفرض مصلحتها، بناءً على القانون في الظاهر، والقوّة في الباطن، وأكثرية المجتمع الذي يضطر إلى الخضوع إلى القانون، الذي لم يتحوّل إلى مبادئ داخلية عندها، بل هي قواعد خارجية تبحث عن فرصة لكي تخالفها، بل تثور عليها متى استطاعت. وهذا لا يمكن كشفه في الوضع الطبيعي، والمسائل والدعاوى العادية، كما ذهب إلى هذا فيلسوف القانون المشهور (هارت)، بل يظهر في المسائل والدعاوى الصعبة). 1995.(Hart، L،A
 أما في مسألة الأبدية، فالأمر مختلف، لأن النظر من الأبدية هو تغيير في العمق، ولا يكفي التغيير السطحي من تغيير القاعدة القانونية الفلانية بغيرها خارجياً، دون تحوّل في النظرة العميقة وما يجول في الباطن.
إذاً السؤال هو: ما هو الذي يمكن أن تحقّقه النظرة الأبدية للقانون؟  هذا ما نبحث عنه في المطلب التالي:

المطلب الثاني
الأبدية والقانون
ذكرنا في المطلب السابق العيوب التي تصيب القانون عندما يقتصـر على معاملة وقواعد شكلية وضعية، تفرض من خارج على الإنسان، وبالإكراه واستعمال القوة عند الحاجة، دون أن ينظر إلى مضمونها الأخلاقي الداخلي. وكذلك عندما تتحوّل العلوم الإنسانية، ومنها القانون، إلى آيديولوجيا.
ولا يمكن كشف الحل في المدرسة الطبيعية، التي تربط وجود القانون بمضمونه الأخلاقي، وبالعدالة. فالقانون غير العادل لا يعتبر قانوناً، على ما تذهب إليه هذه المدرسة، في قرائتها الشمولية، لأنها لا يمكنها أن تعترف بالاستقلال للقانون، ولو كان استقلالاً نسبياً. (كاتوزيان،1385).
 ولهذا تنازل رواد تلك المدرسة المتأخرون، من ادّعائها المطلق في ربط القانون بالأخلاق (وبالتالي تبعيّة القانون للأخلاق في جميع الأحوال)، واعترفوا بالاستقلال النسبي بين كل من القانون والأخلاق، وإن كانوا لا يعترفون بالقانون الذي يخالف مضمونه الأخلاقي. وإن كانت تلك المدسة تتميز باهتمامها بمضمون القواعد، بدل الاهتمام بالجانب الشكلي في إنشاء قواعدها. وهذا هو السرّ في أن أكثر روادها، وخاصة المتأخرين منهم، يركّزون على المبادئ القانونية بدل القواعد الخارجية، في صدد بيان حقيقة القانون. (كاتوزيان،1385)
 أما مشروع (الأمّ والأبدية)، وخاصة الجانب الموضوعي (الأبدية)، فيحاول حلّ المشكلة من جانب آخر، وإن لم يخصّص فصلاً خاصاً في المشروع للقانون. إلا أننا يمكننا البحث عن القانون في المشروع بناءً على المنهج المتّبع فيه في دراسة الحقول والعلوم الشبيهة والقريبة من القانون من العلوم الإنسانية، كالسياسة والأخلاق والاقتصاد وحتى الثقافة. (حمه غريب،2018)
فيذهب صاحب المشروع أن أساس المشكلة لا يكون في جزئيات تلك العلوم، بل في نوعية النظرة إليها. بتغيّر النظرة تتغير ماهيّة تلك العلوم، فنوعية النظرة لها أثر في تكوين تلك العلوم، وهذا يقوم على نقطتين، وهما:
أولاً: إن أيّاً من تلك العلوم، وحتى العلوم التجريبية، لا تخلو من تأثير النظرة القبْلية التي يُنظر بها إلى تلك  العلوم، كما قال فيلسوف العلم المعروف (كارل بوبر): "ليس هناك نظرة بريئة". (رضا حبيبي، 1387). ولهذا يقلّل الفيلسوف (فيدغنشتاين) من دور الفلسفة في تفسير وبيان ما لا يظهر تحت اللغة والمكائد اللغوية. ويذهب الفيلسوف الإيراني مصطفى ملكيان إلى أن عمل الفلسفة ليس إلا كشف المفروضات غير المرئية في العلوم (الإنسانية منها والتجريبية). (مصطفى ملكيان،1380)
ثانياً: إن النظرات القبْلية تكون جزءاً من النظريات المتعلّقة بتلك العلوم، بل هي أساسها الذي تبنى عليه. فإذا أردنا أن نحقّق حل تلك العلوم، فعلينا البدء بتغيير تلك النظرات، علينا غسل عيوننا أولاً، علينا النظر من جديد، كما يقول الشاعر الإيراني (سهراب سبهري). (دباغ، 1378)
إنْ كان تكوين تلك العلوم ليس إلا نظرياتها، فدراسة أيّ علم هو دراسة نظريات ذلك العلم. فنوعيّة النظرة تحدّد، بل تشكّل، النظرية. فعندما يتغيّر النظر إلى علم ما، من نظرة أرضية إلى نظرة أبدية، تتغيّر تلك العلوم (تلك النظريات)، وإنْ بقيت جزئياتها كما هي (ليندا زاكزبسكي، 1396).
وهذا هو ما قام به الأنبياء (عليهم السلام) عندما دعوا أقوامهم للإيمان برسالاتهم، كما قال الفيلسوف (ايزوتسو)، وكما ذكرنا. (تشيهيكو، ايزوتسو، 1383)
فالرسول لم يقم بتغيير الموضوعات الأساسية للثقافة العربية الموجودة في حينه (الهجرة والتجارة والسلطة والملك)، بل غيّر نظرة العرب، بل العالم، إليها، وأراد منهم أن ينظروا إليها نظرة أبدية. حتى في المسائل القانونية، والقواعد الآمرة والناهية عندهم، تعامل معها معاملة إمضائية - كما ذهب إلى ذلك المؤرّخ العراقي (جواد علي) - وغيّر موضعها، وأعطاها مكاناً وموقعاً آخر، في عالم ينظر فيه إليها نظرة أبدية، ومن ثم تحولّت من قواعد لتحقيق مصالح وأهداف الطبقة المترفة، والمتّبعة لهواها، إلى قواعد للعدالة وتحقيق مصالح الجميع. (تشيهيكو، ايزوتسو، 1383)
  إلا أن تغيير النظرة - بطبيعة الحال - ليس تعاملاً ميتافيزيقياً لا علاقة له بالجانب الخارجي، والسلوك الاجتماعي الظاهري، بل له تأثير وتوجيه خارجي، وتحديد له، وتغيير في تكوينها الخارجي، وإنشاء قواعد جديدة لم تكن موجودة (ليندا زاكزبسكي، 1396)، وهذا هو المسمّى بالقواعد الإنشائية في الشـريعة الإسلامية - وهي قليلة، بطبيعة الحال- وحذف ما ليس بالإمكان أن يجتمع والنظرة الأبدية، وهي - في الغالب - قواعد غير أخلاقية، لا يقبلها الوجدان الإخلاقي للإنسان، وتحجب الروح الإنسانية من التزكية والتعالي، وهي القواعد الناهية المسمّاة بالمحرّمات الشرعية. (الزلمي، 2002)
  وبهذا لم تقتصر وظيفة الشـرع على الأوامر والنواهي الخارجية، بل وضعت في موقع انثروبولوجي، وأعطيت بعداً ثقافياً عميقاً. وهذا ما يفتقده القانون في العصـر الحديث، ولهذا أصبح وسيلة لتحقيق مصالح جماعات ودول قوية تملك السلطة والقرار، رغم ادّعاء استقلاله. (سوبيو، 2012)
فالمشـروع يقدّم جواباً جديداً لمسألة قديمة، وإنْ لم تكن مِن كشْفه. وقد حاول فلاسفة القانون التفكير فيها، وربما محاولاتهم هي التي مهّدت الطريق لصاحب المشـروع للتغيير في الرؤية، والنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى.
فمثلاً هذا (دوركين)، فيلسوف القانون المشهور، يذهب إلى أن القانون ليس قواعد قانونية خارجية فحسب، بل مبادئ داخلية نؤمن بها ونطبقها، حتى وإن كنّا لا نخاف من عقوبة مخالفتها (Dwokin Ronald1990).
 وإنْ كان (دوركين) وقف عند هذا الحدّ، فإنّ مشروع (الأمّ والأبدية) ذهب إلى أبعد من ذلك، والنظر من  الأبدية، وادّعى أن أية شريعة قانونية كونية لا تخلو من هذا، سواء كانت أرضية أم سماوية، وإن كانت في  الشـرائع السماوية أكثر وضوحاً وبياناً. (حمه غريب،2018)

المطلب الثالث
انتقاد الأمّ والأبديّة
  على الرغم من التحوّل الذي أحدثه صاحبه في المشروع، إلا أن مشروع (الأمّ والأبدية) وجّهت إليه انتقادات من قبل المهتمين الكورد بالمجال الفكري، نحن هنا لسنا بصدد ذكرها، إلا ما يتعلّق منها بالقانون. ولهذا سنركّز على النصف الثاني من المشـروع، وهو جانب الأبدية:
أولاً: إن أوّل انتقاد يمكن أن يوجّه إلى المشروع، هو اعتماده على مفهوم ميتافيزيقي كالأبديّة، في تفسير علم (بل علوم) عينية ظاهرة توجّه السلوك الإنساني، كالقانون مثلاً. كما أن المفهوم هو مفهوم نظري غير مرئي، وبالتالي لا يمكن تحديد المقصود منه.
 إلا أن الباحث صاحب المشـروع أجاب عن هذا الانتقاد بأن مفهوم الأبدية يتعلّق بالجانب الفكري النظري لتلك العلوم، وهو يتعلّق بالعنصـر الأول من العناصـر الثلاثة لكل تحليل فكري، وهي: بيان المفروضات، وتوضيح المدّعى، وسوق الأدلة. فالمفروضات غير المرئية لكل بحث، والتي تسمّى بالأسطر البيضاء، هي المسؤولة عن توجيه وتحديد مسلك البحث، ووظيفة الباحث هي كشف الحجاب عنها، وإظهارها. فنحن في مشـروعنا الفكري قمنا بكشف المفروضات غير المرئية لتلك العلوم، وبيان إمكان جعل مفهوم الأبدية إحداها، بل نعتبره أهمّ تلك المفروضات، إذا كنّا بصدد حلّ المعضلة الأساسية لتلك العلوم. (حمه غريب،2018)
ثانياً: إن تحديد مفهوم واحد كالأبدية، كمفروض أساسـي لعلوم عديدة، يكفي لكي يحوّل تلك العلوم إلى أنظمة آيديولوجية، تحتاج إلى نظام وقوّة سياسية تضمن تطبيقها بالقوة عند الضرورة. في حين إن كاتب المشـروع، عندما قام بكتابة المشـروع، أراد التخلص من التعامل الآيديولوجي، الذي يعدم التنوّع الموجود في المجتمع، ويكبت من لا يرضى بتلك الآيديولوجيا. (حمه غريب،2018)
    ويجيب كاتب المشـروع بأن مفهوم الأبديّة لا يحوِّل تلك العلوم إلى أنظمة آيدولوجية يرضى بها بعض أفراد المجتمع ويرفضها البعض، بل - وبما أن المفهوم يتعلّق بموقع النظر، وتغيير زاوية النظر - فإنه لا يضيّق المرأى، بل يوسّع الأفق، ويجنّبنا النظر السطحي، ويوسّع أرضية عمل تلك العلوم، ويعطيها مكاناً انثروبولوجياً، بل يعطيها أصالة أكثر؛ بأن يمنع أفراداً أو فئات معينة أن تستغلها لمصالحها، أو تدّعي البديل لها بناءً على أنها تتعلّق بآيديولوجية معينة: بأنها علوم غربيّة تتعلّق بالفكر والمجتمعات الليبرالية، ونحن لنا علومنا الإنسانية الخاصة، كما لنا شريعتنا الإسلامية الحنيفة الخاصة، ويريدون بالشريعة ليس العمق الأبدي في الدين الإسلامي، بل المخزون الفقهي الإنساني، الذي إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على اجتهادات البشر عند التعامل مع الوحي الرباني من جانب، وحلّ المشاكل العملية في المجتمع، من جانب آخر. (سروش، 1380). وبالتالي، فهو تراث تاريخي إنساني يقبل الصحة والخطأ، ويمكن أن ينتقد ويصحح. وهذا  ما أراد القيام به في مشـروعه. (حمه غريب،2018)
ثالثاً: إن المشـروع ليس جديداً، بل هو يعتبر نسخة جديدة لما بيّنه المفكّرون قبله، عندما قالوا: إن المشكلة في العلوم الإنسانية الحديثة هو عدم بنائها على تصوّر كوني، وبالتالي اقتصار وظيفتها في تضمين المصالح الآنية الأنانية القريبة للأفراد. فمثلاً مبدأ (العقد شريعة المتعاقدين) في القانون، ليس إلا بيان بأن الأمر يقتصـر على ما يجري بين المتعاقدين، وكأنه ليس له أيّ علاقة بالعالم، وما يدور في المجتمع، وليس له علاقة بالكون الذي سهّل للمتعاقدين حصولهما على الموضوع ومحل العقد. (حمه غريب،2018)
 يجيب كاتب المشـروع على هذا النقد، بنقطتين أيضاً:
1-             إن المشروع عندما يوجد له خلفية عند الباحثين السابقين، فهذا يدلّ على أصالته، وأنه يقع في سياق التطوّر الفكري والعلمي الذي يشترك فيه علماء الأمّة في تكوينه.
2-             إلا أن كون المشروع في السياق التكاملي للفكر الإنساني، لا يعني أنه لا يعتبر إبداعاً، وليس فيه الجديد. بلى إن الإتيان بمفهوم كالأبديّة، كاصطلاح ديناميكي، وكاتجاه للنظر يوسّع الأفق، من غير أن يكون اصطلاحا جامداً ميكانيكياً، لا يدع مجالاً للتفكير والحرية، كما هو الحال في مصطلح (التصوّر) الموجود من قبل، وهو لا يقبل من غير المؤمنين به العيش مع أصحابه بالتساوي. (حمه غريب،2018)
رابعاً: إن المجتمعات الحديثة المتنوعة، القائمة على الديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة، لا يمكن أن تدار بمعرفة وعلوم تتعلّق بمفهوم واحد كالأبدية، ويعتبر هذا قيداً على حرّية الأفراد الفكرية والعملية في تلك المجتمعات. وقد أجاب الباحث على هذا الانتقاد بـ :
  أولاً: مشروع الأمّ والأبدية - إنْ أردنا أنْ نترجمه إلى لغة الفكر الحديث - يمكننا أن نعتبره (بارادايم)، وبنية تحتيّة عميقة، للتوجيه، ولا يتعلّق بالجزئيات الفوقية التي لها حرية واسعة داخل البارادايم، كما هو الحال في العلوم الإنسانية الجديدة. (غلام حسین مقدم حیدري، 1387). فإن أساس تلك العلوم يعتمد على التجربة والعلوم التجربية: فإن العلوم الوصفية والمعيارية الجديدة لا تجيز للأفراد مخالفة حقائق تلك العلوم، وإنْ تعلّقت المسألة بحقّ أساسي كحرية الأفراد، مثلاً، فإنّ أيّ قانون في المجتمعات الحديثة لا يجيز الانتحار لأي شخص، وإنْ كان الفرد يؤمن بحرّية التعامل مع نفسه، أو نشـر المرض بين أفراد جماعة معيّنة، حتّى إنْ كان المرض يحسّن ضمن معتقداتها. (سروش، 1380)
فلا يوجد علم - في أيّ حقبة تاريخية، وأيّ مجتمع - إلا يدخل ضمن سياق أكبر، يعتبر أساساً جامعاً لها، مع المعرفة الموجودة في تلك الحقبة، وذلك المجتمع. (حمه غريب،2018)
ثانياً: إن مشروع (الأمّ والأبدية) له وظيفة تفسيرية أيضاً (غير التوجيهية) للأبعاد والمسائل الإنسانية، التي لم تتمكن العلوم والأفكار الإنسانية المخالفة أن تعطي فهماً معقولاً لها. منها معنى الحياة، وتحمّل الألم، وتحمّل الأذى والمشقة في الحياة، بل القيام بالواجب (وليس الحصول على الحقوق فقط)، بل الجواب على أسئلة وجودية مثل: لماذا أتعامل أخلاقياً؟ ولماذا أطيع القانون؟.. الأبعاد والأسئلة التي يبدو أن كثيراً من مشاكل العلوم الإنسانية، كالقانون، يكمن في الجواب عنها، وإيجاد الحل لها. (حمه غريب، 2018)
خامساً: الانتقاد الآخر، وليس الأخير، الذي وجّه إلى المشروع هو الجواب عن سؤال: ما هو دور الإنسان في المشروع؟ حيث إنْ فرض علينا النظر من الأبدية، فما هو دور أعمالنا في حلّ مشاكلنا؟
  حاول الباحث الإجابة عن السؤال والانتقاد، ولكن ربما لم يقنعه الجواب، ولهذا قام بتجديد النظر في مشـروعه، وكتابة مشروع (الأمّ والأبدية الثاني)، والذي يقتضي البحث عنه مجالاً آخر.
 

   الخاتمة
وأخيراً نختتم البحث بخاتمة تضمّ أهم ما توصّلنا إليه من نتائج، من غير أن تكون مستغنية عن التفاصيل التي وردت في ثنايا البحث:
أولاً: إن مشروع الأمّ والأبدية مشروع للتجديد الديني، والتغيير الحضاري، له وظيفة توجيهية وتفسيرية للعلوم الإنسانية، ومنها: القانون، ويمكنه الجواب عن بعض الأسئلة الجديّة الموجودة في فلسفة القانون، والتي لم يجب عنها الفقهاء وفلاسفة القانون.
ثانياً: إن صاحب المشروع لم يخصّص فصلاً خاصاً للقانون، كما خصّص للعلوم الأخرى، كالسياسة والاقتصاد والأخلاق، إلا أن المشروع يعتبر منهجاً يمكن أن يعتمد في تلك العلوم، وهذا الذي قمنا به في البحث.
ثالثاً: إن مشروع (الأمّ والأبدية) له جانبان: جانب ذاتي، يتعلّق بداخل الإنسان (الأمّ)، وجانب موضوعي (سمّاه بالأبدية). والجانب الثاني هو الذي  يتعلّق بموضوع القانون.
رابعاً: إن المشكلة الأساسية في القانون، هو تحوّله من علم انثروبولوجي له وظيفة داخل الثقافة الكونية للإنسان، إلى آلة ووسيلة في يد جماعات الضغط وأصحاب القرار داخلياً (في القانون الداخلي)، ودولياً (في القانون الدولي). وقد حاول صاحب المشـروع حلّ تلك المشكلة.
 خامساً: فيما يتعلّق بالجانب القانوني من المشروع، هو محاولة كشف جواب جديد لمسألة قديمة انتبه إليها فقهاء القانون وفلاسفته، عندما ذهبوا إلى أنه لا يجوز حصـر القانون في قواعد قانونية خارجية، بل يجب البحث عن الماهيّة الحقيقية في المبادئ القانونية داخل الإنسان. كما هو الحال عند الفيلسوف القانوني المشهور (دوركين).
سادساً: إن صاحب مشروع (الأمّ والأبدية) استعار مفهوم الأبدية من فلاسفة، مثل (اسبينوزا) و(فيدغنشتاين)، واستعملها هو في العلوم الإنسانية. ونحن بحثنا عن موقع القانون في المشروع، وتعلّق المفهوم به.
سابعاً: أجاب مشروع (الأمّ والأبدية) عن أسئلة فلسفية تتعلّق بالقانون، كسؤال: (لماذا يجب على الفرد إطاعة القانون؟).
  ثامناً: هناك مستويان لكل علم من العلوم: مستوى يبحث فيه عن موضوع العلم، وهو هنا - في القانون - البحث عن القواعد القانونية. ومستوى آخر يجعل نفس العلم موضوعاً له، وهو البحث عن القانون كقانون؛ فمشـروع (الأمّ والأبدية) يتعلّق بهذا المستوى الثاني.
تاسعاً: حاول مشـروع (الأمّ والأبدية) تجاوز تقسيم القانون إلى كل من المدرستين: الوضعية والطبيعية، وكشف عيوب كل منهما. كما حاول كشف خطأ من حاول تحويل العلوم الإنسانية (ومنها: القانون) إلى أنظمة آيديولوجية تحقّق مصلحة فئة، أو طبقة، أو فرد معيّنr

قائمة المصادر والمراجع:
1-محمد بن إسماعيل البخاري أبوعبدالله، صحيح البخاري، دار ابن كثير، دمشق_ بيروت، الطبعة الأولى،  2002.
2-مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، المحقق: نظر بن محمد الفاريابي أبوقتيبة، دارطيبة، الطبعة الأولى، 2006.
3-             تحسين حمه غريب، دايك و ئةبةدييةت، پرۆژه‌ى كتيێبی هه‌ژان، ژماره (22)، خانه‌ى چاپ و په‌خشی رێنما، چاپی یه‌كه‌م، ساڵی 2018.
4-             الان سوبيو، الإنسان القانوني (بحث في وظيفة القانون الانثروبولوجية)، ترجمة: عادل بن نصر، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، ايلول(سبتمبر)2012.
5-             البشير، عبدالباقي البكري زهير، المدخل لدراسة القانون، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي - جامعة بغداد، 1989.
6-             سن أمارتيا، فكرة العدالة، ت: مازن جندلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمە: مؤسسة بن راشد آلمكتوم، الطبعة الاولى، 2010م.
7-             الزلمي، الدكتور مصطفى أبراهيم، أصول الفقه في نسيجه الجديد، الجزء الأول، شركة الخنساء للطباعة المحدودة، بغداد، طبعة تاسعة،  2002.
8-             د مصطفى الزلمي، فلسفة القانون، منظمة نشـر الثقافة القانونية، مؤسسة  O.P.I.Cللطباعة والنشـر (مشـروع الحقوق للنتاجات القانونية )، السلسلة رقم(95)، أربيل، 2008 م.
9-             الدكتور نبيل محمد سعد، المدخل إلى القانون، نظرية الحق، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى، 2010.
10-          علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مجلة النور الكويتية، مؤسسة بافاريا، الطبعة الأولى، 1994.
11-          صبحي الصالح، النظم الاسلامية نشأتها وتطورها، دار العلم للملايين، 1978.
12-           آدوين آرثر برت، مبادى ما بعد طبيعى علوم نوين، ترجمةى: عبدالكريم سروش، شركت انتشارات علمى و فرهنكى، تهران، چاپ دوم، 1374ه ش.
13-          آرش نراقى، رسالة دين شناخت، انتشارات طرح نو، چاپ أول، تهران، 1387ه.ش.
14-          إقبال محمد لاهورى، احياى فكر دينى در اسلام، شركت سهامى انتشار، تهران، اسفند، 1395ه. ش.
15-          تبيين در علوم اجتماعى (در آمدى بر فلسفه علم الاجتماعى) ترجمه‌ی: سروش، عبدالكريم، مؤسسه فرهنكى صراط، چاپ أول، سال
16-          توشيهيكو ايزوتسو، آفرينش، وجود و زمان، ترجمة: مهدى سررشتهداري، انتشارات مهر انديش، تهران، 1383.
17-          دباغ، سروش، سكوتو معنا (جستارهايي در فلسفه ويتكنشتاين)، مؤسسة فرهنكى صراط، تهران، 1387ه.ش.
18-          دباغ، سروش، آيين در آينه، مؤسسة فرهنكى صراط، تهران، 1387ه.ش.
19-          سروش، عبدالكريم، تفرج صنع، مؤسسة فرهنكى صراط، تهران، چاپ پنجم، 1380 ه. ش.
20-          غلامحسین مقدم حیدرى، قیاس ناپدیرى پارادایمهاى علمى، نشـر نى ، تهران، چاپ دوم، 1387ه.ش.
21-          كاتوزيان، دكتر ناصر، فلسفه حقوق، جلد أول، شركت سهامى انتشار، تهران، چاپ چهارم، 1385.
22-          رضا حبيبى، در آمدى بر فلسفة علم (سلسلة كتب آموزشى غير حضورى) زير نظر أكبر ميرسياه، انتشارات مؤسسة آموزشى وپژوهش آمام خمينى، چاپ عترت، قم ، نوبت و تاريخ چاپ دوم، بهار 1387.
23-          ليندا زاكزبسكى، فضايل ذهن (تحقيقي در ماهيت فضيلت و مبانى أخلاقى معرفت)، ترجمة: أمير حسين خدا پرست، چاپ دوم، 1396 ه ش.
24-          محمود حكمت نيا، فلسفه حقوق در ( فلسفةهاى مضاف،) بة كوشش: عبدالحسين خسـرو پناه، جلد دوم،  سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه‌ اسلامي، چاپ دوم" تهران 1390ه ش. 
25-          مصطفى ملكيان، راهي به رهايی، نشر نگاه معاصر، تهران، 1380 ه ش.
26-          مارك تبيت، فلسفه حقوق، ترجمه: حسين رضايى خاورى، دانشگاه علوم اسلامى رضوى، مشهد 1384.
27 -Hart، L،A.(1961) The concept of law.oxford; Clarendon: revisededn 1995

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق