01‏/04‏/2019

عبق الكلمات/ مشروع إعادة قراءة الآثار الأدبية والفكرية رواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي


عبد الباقي يوسف
  لا يكفي أن نكون قد قرأنا بعض الآثار الأدبية أو الفكرية التحوّليّة الكُبرى، وشكّلنا عنها مفاهيمنا في تلك الأعمار والتجارب التي كنّا فيها، ولكن إذا أعدنا قراءتها، نرى كم من أمورٍ جديدة أصبحنا نُدركها ونستنتجها من تلك الأعمال.. ولذلك فإن بعض المؤلفات تحتاج إلى إعادة قراءة، خاصة إذا كانت الفترة الزمنية طويلة عند القراءة الأولى لها.
إن إعادة القراءة هي بمثابة قراءة جديدة لهذه الأعمال، وهي تحمل معها مكتشفات جديدة، ربّما لم تلفت انتباهنا عند القراءة الأولى.
رواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي، قرأتها منذ نحو ثلاثين سنة، وقد شكّلت بعض الأفكار عنها، وبقي
هذا المفهوم لديّ عن هذه الرواية، لكنني في الآونة الأخيرة، أعدتُ قراءة هذه الرواية، وعندها استنتَجتُ من هذا العمل ما لم أستنتجه في قراءتي القديمة.. أجلْ، بدأتُ أقرأ كما لو أنني أقرأ رواية جديدة لم أقرأها من قبل، وذلك استناداً إلى كل المُستجدّات التي حصلت في الحياة خلال نحو ثلاثة عقود من الزمن.   
فما لفت نظري في أثناء متعة القراءة الجديدة، هو إصرار (همنغواي) بأن خطيئة العجوز كَمنَتْ في ابتعاده كثيراً، الأمر الذي جعل عودته إلى البيت، مع صيده الثمين، لا تكون بالأمر السهل، حيث سيستغرق ذلك أيضاً وقتاً طويلاً.
بطبيعة الحال، فإن ذلك جعل عجوز همنغواي يتعرّض لهجمات أسماك القرش، التي تجاوَزَت مقدرته في الدفاع عن السمكة الكبيرة التي اصطادها، وكذلك مقدرته على الاحتفاظ بهذا الظفر المميَّز في تاريخه المِهَني. وبذلك، فإنّ هذا الصيد الثمين تحوَّل بالنسبة إليه إلى وبال، فلا هو قادرٌ على التخلّي عنه، ولا هو قادرٌ على الدِفاع عنه، والاحتفاظ به، كعلامةٍ تاريخيةٍ من علامات حياته المِهَنيّة.
بدا لي الشيخ في هَول دوامةٍ لا يعرف فيها استقراراً، وقد غدا في قلب واقعٍ من الصراع بين الاحتفاظ بالغنيمة، وبين مجابهة أسماك القرش.
نهاية هذا العجوز ذكّرَتني بما آلت إليه نهاية بعض الحُكّام العرب الذين ابتعدوا كثيراً في بسط نفوذهم: اتّسعوا في الهَيمنة، بالغوا في نَمَط العَيش، تمادوا في الحُكم. فكان أنْ خرجوا مهزومين دون أن يحتفظوا حتى بذكرٍ طيّب، أو بماء الوجه، حتّى إنّ أحد الحُكّام كانت تعتريه هلوسات بأنه نور في الأرض، فأصبح الحُكم وبالاً عليهم، ألحق بهم الوَيل، وما ذلك إلاّ لأنهم ابتعدوا كثيراً عن الواقع، كما ابتعد عجوز همنغواي في البحر، وشَطَحَت بهم مخيلاتُهم بعيداً، وكان ذلك يظهر من البذخ الذي كانوا يمارسونه في وقائع حياتهم اليومية، التي كانوا يُصرّون على إظهارها في الإعلام، وهي إشارة أولى بأن ذلك لم يكن أكثر من جنوحٍ عن الواقع، يُكلّله ردّ الفعل على شعور عميق بالدونيّة.
إن مسيرة هؤلاء، لا تخلو من مواقف إنسانية، وكذلك مواقف بطولية، وقد عشتُ وشاهدتُ كثيراً منها، بحكم عملي الأدبي، والدعوات الكثيرة التي تلقّيتها ولبّيتها. بَيد أن الإيغال في الهَيمنة على كل المُقدّرات، وبَسط النفوذ على كل مفاصل الحُكم، جَعَلهم يشطحون بعيداً عن الواقع.
 فليس بوسع شخصٍ أن يحظى بالأولوية في كلّ مناحي الحياة، دون أن يترك شيئاً لغيره، أو حتّى يسمع رأياً لغيره، ومن يختارهم حوله، لا يعدون أن يكونوا أشباحاً في نَظَره.
لقد خرج عجوز همنغواي بهيكلٍ عظميٍ للسَمَكة الكبيرة التي ظفر بها، منتبهاً للتوّ بأنه لو كان قد اكتفى بقدراته وإمكاناته، لكان على الأقل يعود بسمكةٍ متوسطة الحجم.
 ولا يقتصر ذلك على هذه الوظيفة الشاقة دون غيرها، بل يأتي  على سائر الناس في مختلف وظائفهم ومهامهم، فنرى الذي يشطح في ممارسة سلطته الأبوية على أبنائه، ويبالغ في سلطته الزوجية على زوجته، ويتمادى في سلطته الإدارية على موظَفيه، ويغلو في ممارسة شعائر دينه، ويتطرّف في جمع الأموال، ويبالغ في مسكنه وطعامه.
لقد قدّم (همنغواي) حادثة بسيطة في شكلها، بَيد أنه استطاع أن يُسقط عليها رؤيته الفلسفية، من خلال ما تمتّعتْ به رواية (الشيخ والبحر) من تقنياتٍ فنيّة، ومقولاتٍ فلسفية، استطاعت أن تكون دعماً للبناء الروائي، وبالتالي تُقدّم رواية تستحق أن تُعاد قراءتها، خاصة وأن هذا العمل يُعدّ - نوعاً ما – كلاسيكياً، وقد قرأه الكثيرون من مجايلينا، وهذه المرحلة في واقعنا تحتاج إلى إعادة قراءة ذاك التراث الأدبي والفكري الغني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق