01‏/04‏/2019

توضيح الحقائق وكشف الغموض في فكر سيّد قطب


د. دحام إبراهيم الهسنياني
الأستاذ الأديب الكبير الناقد، والمفكر الداعية، والمجاهد الصُّلْب، صاحب القلم السيَّال، والأسلوب الرفيع، الإمام المجاهد: سيّد قطب، رحمه الله، أشهر شخصية في العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين!
وهذه السطور ليست دفاعاً عن الشهيد سيّد قطب، نحسبه كذلك ولا نزكى على الله أحداً، لأن دعوة سيّد قطب ومنهجه وعطاءه وفكره، ليست بحاجة إلى ردّ أو دفاع، ولكنها تذكرة ووقفة مع معاني الحقّ، وتوضيح وتأكيد الحقائق، وكشف الغموض عن أمور نعلمها جيداً، ويجب أن نذكرها ولا نسكت عنها في مسيرته، كما أنها دراسة سريعة حول مؤلفاته وإنتاجاته الفكرية والعلمية.. ونحن لا نرفع أحداً إلى مرتبة القداسة، وكلّ إنسان يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم (صلى الله عليه وسلم)، وميزان الأمر هو أحكام الشرع وقواعده.
ولا شك أن التعامل مع العلماء والدعاة والمفسرين والفقهاء يكون من باب التقدير والإعجاب، والاعتراف لهم
بالفضل، وسيّد قطب يستحق ذلك، مع الاستفادة من علمه وفكره، مع النظرة الموضوعية لما كتب وأثار من قضايا..
 من هو سيّد قطب ؟!
§     هو أوّل من وضع مصطلح (العدالة الاجتماعية) في الإسلام، بدلاً من (الاشتراكية)، التي افتتن بها أبناء جيله.
§     هو أوّل من أظهر للناس (التصوير الفني في القرآن)، بأسلوبه الجماليّ البديع.
§     هو أشهر من وقف في وجه طغاة القرن المنصرم، فأمر، ونَهى، حتّى قُتل.
§     هو أشهر من وضع للناس تفسيراً فكريّاً سياسياً حركيّاً اجتماعياً اقتصادياً للقرآن، بروح أدبيّة، ونظرة واقعية علمية.
§     هو أشهر مَن بذل دمه في سبيل كلماته، لتحيا بوفاته، في القرن المنصرم.
§     أحد عظماء الرجال في أمّتنا، في تاريخنا الحديث والمعاصر.
§     هو بحق، وبلا منازع: مجدّد فقه الدعوة، والسياسة الشـرعية، في زمانه، ومعلّم جيله، والأجيال من بعده، ثمن الكلمة التي فقدت قيمتها في عصر العبارات الجوفاء.

مراحل الأطوار الفكرية عند سيّد قطب
ولا بدّ لمن يريد أن يفهم حقيقة سيّد قطب، ومن يريد أن ينتقده، أن يحيط بمراحل حياته، وتطوّره فيها؛ الفكري والعلمي، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، في مجال الأدب والنقد، وفي مجال الدعوة والفكر، حتى يعرف حقيقة موقفه الذي انتهى إليه.
مرّ سيّد قطب - رحمه الله - في حياته، بمراحل أو أطوار، نستطيع حصـرها في ثلاثة: طور التيه والضياع الفكري، ثم الطور الأدبي الإسلامي، ثم الطور الإسلامي العملي أو (الحركي). ولنتحدث عن كلّ طور بإيجاز:
الطور الأوّل: طور التيه والضياع الفكري
وهو من سنيّ الدراسة الثانوية (1925م)، إلى سنة (1940م). كان هذا الضياع الفكري نتيجة لانتشار الثقافة الغربية، وتمكّنها من جيل تلك الحقبة. ولكن سيّداً، القرويّ الأصيل، لم يسقط في الجانب السلوكي، وإنّما كان هذا التيه فكرياً بحتاً([1]). وكتب سيّد في هذه المرحلة مقالات وكتب عديدة، وكان ملاصقاً لأستاذه (العقّاد)، منافحاً ومدافعاً عنه، فأخذ هذا منه جلّ وقته، وغلب على فكره.. وممّا ألّف سيّد في هذه المرحلة من الكتب:
1.                     مهمّة الشاعر في الحياة، وشعر الجيل الحاضر، سنة 1933.
2.                      الشاطئ المجهول، وهو ديوان شعر، سنة 1935.
3.                      نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر، الذي ألّفه طه حسين. 1939.
وهذه المرحلة يسمّيها محمد قطب بـ(مرحلة ما قبل التوجّه الإسلامي)، فيقول عن شقيقه: "حيث كان سيّد قطب متأثّراً بأفكار كلّ من طه حسين، وعباس محمود العقاد، وكلاهما -خاصّة طه حسين- كانت له مواقف سلبية تجاه الصحابة، وصلت حدّ السبّ والشتم والطعن، فوقع من سيّد، في هذه المرحلة، كلمات قاسية في حقّ كل من معاوية، وعمرو بن العاص (رض)، وذلك في كتابه (كتب وشخصيات)، وهو عبارة عن مقالات أدبية نقدية، نشرها الشهيد في عدة مجلات.."([2]).
لقد كان سيّد - رحمه الله - يُطلق على مرحلة ما قبل نضوجه الفكري: مرحلة (الجاهلية)، ويقصد بها بُعده عن الوحي القرآني، وانشغاله بسفاهات وتفاهات الشـرق والغرب الكفري. وهذا التعبير كان منه لوصف حاله، وتيهه بين ركام الأفكار المستوردة. ثم أعلن عن إسلامه الفكري – بعد أن بلغ مبلغ الرجال - وبعدها بقليل (إسلامه العملي)، تاركاً وراءه الجاهلية، موقناً بقول رسول ربّ البرية (صلى الله عليه وسلم): (الإسلام يهدم ما كان قبله)([3])، ولكنه لم يتوقّف عند هذا الحديث، وكأنّه أراد أن يستدرك ما فاته من الخير، فأعلن الحرب على كل مسخ قاده- وملايين المسلمين معه - إلى ذلك التيه، بسلاح القرآن الذي في حدّه حتف كل باطل، وفي نصله شفاء كل داء: سواء كان الباطل في الأفراد أو المجتمعات أو الحكومات أو التكتلات، وسواء كان فكراً أو عملاً.
لقد خاض سيّد في شبابه معارك أدبية كثيرة، ضدّ خصوم كبار في مجال الأدب، لم يُهزم فيها، لأن طبيعة سيّد لا تقبل الهزيمة. وهذه العزيمة، وهذا الإصرار، جعله رمزاً استثنائياً، في حقبة صعبة جدّاً من تاريخ البشرية عامة، والتاريخ الإسلامي خاصة.

الطور الثاني: الطور الأدبي الإسلامي
بدأ سيّد في هذه المرحلة دراسة القرآن، وبعض الدراسات الإسلامية، وكان في مرحلة التكوين العلمي الشرعي، وألّف بعض الكتب التي تحتاج إلى إعادة نظر في بعض جوانبها الشرعية. ولكونه تثقّف بثقافة عصره، وقطره: وقع في بعض الأخطاء، التي لم يسلم منها مَن كان مثله، أو حتى أفضل منه، في هذه الجوانب، ولكن لم تغب عنه في هذه الفترة: الثقافة الأدبية، وحبّ الأدب.
وهذه المرحلة سمّاها محمد قطب بـ(مرحلة بداية توجّهه الإسلامي)، فيقول عنها: "وفي هذه المرحلة ألّف أوّل كتاب له في الفكر الإسلامي، وهو (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، وذلك في عام 1948م، وفي هذا الكتاب يظهر أن سيّداً ما زال متأثّراً - شيئاً ما - بأفكار طه حسين، والعقاد، لذا فقد صدرت منه عبارات شديدة في حقّ عدد من الصحابة، منهم عثمان بن عفان (رض). وتصدّى للردّ عليه محمود شاكر -رحمه الله-، وبيّن سيّد قطب -عام 1952- في تعليقه على مقالة لشاكر؛ أنه لا يقصد الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم، وإنّما غايته الدفاع عن الإسلام مما نُسب إليه في كتب التاريخ والسير".
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: "مرحلة الأدب والنقد في حياة سيّد قطب، وظهر سيّد قطب في هذه المرحلة أديباً شاعراً، ثم ناقداً أدبياً.. فكان سيّد قطب شاعراً رقيقا،ً مرهف الحسّ، دافق العاطفة، ومن المعروف أنه كان في أدبه النثريّ محسوباً على (مدرسة العقاد)، وكان العقاد يمثّل (المدرسة الليبرالية)، والفكر الحرّ، ولم يكن قد ظهر توجهه الإسلامي الذي اتّضح في كتاباته الأخيرة.. وكان الذي يمثّل (المدرسة الإسلامية) في الأدب، هو: مصطفى صادق الرافعي. وكان بين الاتجاهين، أو المدرستين، صراع دامٍ؛ سلاحه القلم، وميدانه المجلات الأدبية؛ كالرسالة، والثقافة، وغيرهما، والكتب الأدبية. وقد هاجم الرافعي العقاد في مقالات، نشرت بعد ذلك في كتاب سمّاه (على السفود).
وقد توّج هذه المرحلة، من مراحل مسيرته، عملان كبيران من الأعمال الأدبية الأصيلة، التي لم يقلّد سيّد قطب فيها أحداً، بل كان فيها نسيج وحده.
أوّلهما: كتابه عن (أصول النقد الأدبي)، وهو - باعتراف مؤرّخي الأدب العربي - عمل متميّز، وإن لم يأخذ حقّه من الظهور، ربّما كان سبب ذلك هو تحوّل صاحبه إلى الدعوة الإسلامية، حيث أمسى محسوباً على عالم الدعاة، لا على عالم الأدباء والنقّاد. ولا سيّما أن النقد الأدبي تطوّر كثيراً بعد كتاب سيّد قطب، كما أنّ بعض النقّاد يرى أن مزيّة سيّد قطب، وتفوّقه في التذّوق الأدبي، والنقد التطبيقي، قد طغت على عمله النظري التأصيلي.
وثانيهما: عمله الأصيل المتميّز في خدمة القرآن، وإعجازه البياني، بمنهج لم يسبق له نظير، وهذا العمل يتمثّل في كتابيه الرائعين: التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن.. والكتاب الأوّل يجسّد النظرية، والثاني بمثابة التطبيق لها ([4]).
وقد أخرج في هذه الفترة الكتب التالية:
1-               التصوير الفني في القرآن: وهو أوّل كتاب له في موضوع إسلامي، سنة 1945، وقد قدّم القرآن بأسلوب أدبي رفيع قلّ نظيره، وأهداه لوالدته، رحمهما الله.. وقد قدّم الشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - شهادة لهذا الكتاب، ولكاتبه، قلّما تُعطى من أديب لأحد أقرانه، فقال رحمه الله: "كتاب التصوير الفني في القرآن فتح والله جديد، وسيّد قطب وقع على كنز من كنوز القرآن، كأنّ الله ادّخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد قبله، حتى جاء هو ففتحه...". وكلماته تحكي شدّة إعجابه - كعالم أديب - بهذا الكتاب القيّم.
2-               الأطياف الأربعة: مع حميدة ومحمد وأمينة قطب، في الأدب، 1945.
3-               طفل من القرية([5]): وهو تسجيل لحياته في القرية. 1946، وصاغ هذا التسجيل بأسلوب أدبي جميل.
4-               المدينة المسحورة: قصة خيالية، 1946.
5-               كتب وشخصيات: في النقد الأدبي، 1946.
6-               أشواك: قصة سيّد مع خطيبته، 1947.
7-               مشاهد القيامة في القرآن: 1947. وأهداه سيّد لروح أبيه، رحمه الله.
8-               روضة الطفل: قصص للأطفال، 1947.
9-               القصص الديني: للأطفال، 1947.
10-           الجديد في اللغة: في مناهج اللغة العربية لطلبة المدارس.
11-           الجديد في المحفوظات: من مقرّرات الوزارة المصرية لطلبة المدارس.
12-           النقد الأدبي؛ أصوله ومناهجه: 1948.
13-           العدالة الاجتماعية في الإسلام: 1949، قبل سفره لأمريكا. وهو أوّل من أطلق لفظ (العدالة الاجتماعية)، بدل (الاشتراكية)، التي كان يستخدمها الكُتّاب في عصـره، للدلالة على موافقة الإسلام للاشتراكية (في نظرهم). وانتقده محمود شاكر لإساءته لبعض الصحابة في هذا الكتاب، وحُذفت فقرات الإساءة في طبعة سنة 1964م، في حياة المؤلف (الطبعة السادسة).. وقد تبرّأ سيّد من هذا الكتاب، بعد أن زاد تعمّقاً في العلوم الشـرعية. والكتاب فيه من العمق السياسي، والبعد النظري، والتحليل الاقتصادي، ما ينبئ عن ميلاد مفكّر عبقريّ فذّ.
ونلاحظ هنا أن سيّداً لم يقتحم التأليف الشرعي في هذه الفترة (من 1945 إلى 1950) بثِقَله، وذلك لإدراكه بأنه في طور التكوين الشـرعي (إنْ صح التعبير)، فجلّ مؤلّفاته، في هذه الفترة، في الأدب. وختم هذه الفترة بكتاب (العدالة الاجتماعية)، ليردّ على بعض المفاهيم المكذوبة على الشريعة الإسلامية، في عصره، بأسلوبه الفذّ. ولكنه صادف بعض النقد، الذي ما فتئ كونه سيفاً في يده سلّهُ على أعمال غيره من الأدباء من قبل.
أدرك سيّد أن هذه المعركة ليست أدبيّة، فأخذ جانب الحيطة والحذر في كتاباته التالية، حتى تمكّن من صقل مواهبه، وصقل قدراته، وحتى فاق أقرانه، وأصبح سلاحاً فتّاكاً في وجه أعداء أمّته، في زمن يعدّ قياسيّاً وعجيباً في عالم التأليف!! 

الطور الثالث: الطور الإسلامي العملي الحركي
وهذه المرحلة في حياة سيّد قطب هي مرحلة الدعوة إلى الإسلام؛ بوصفه عقيدة ونظاماً للحياة، يقيم العدالة الاجتماعية في الأرض، ويرفع التظالم بين الناس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين، بوسيلتين أساسيتين، هما: التشريع القانوني، والتوجيه الأخلاقي.
وهذه المرحلة، في نظر محمد قطب، هي: مرحلة استقلاله في دراسة التاريخ. ويقول عن شقيقه سيّد قطب: "وفي هذه المرحلة أصدر طبعة منقحة من كتاب (العدالة الاجتماعية)، وهي الطبعة السادسة، التي أصدرتها (دار إحياء الكتب العربية) عام 1964م، وحذف منها الشهيد ما انتقده عليه الأستاذ محمود شاكر، وعدّل كثيراً من العبارات، وأضاف أموراً أخرى، تبيّن استقرار موقفه من الصحابة على جادّة العدل والإنصاف، وظهر ذلك جلياً في (الظلال)، و(هذا الدين)، حيث أثنى ثناءً طيّباً على (عثمان) و(معاوية) و(عمرو بن العاص) رضي الله عنهم، وكذا كال المديح لأصحاب رسول الله في الجملة. وفعل ذلك في كتابه (معالم في الطريق)، حيث وصف الصحابة (رضوان الله عليهم) بأنّهم (جيل قرآنيّ فريد)، وقال تحت هذا العنوان: "لقد خرّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم -، جيلاً مميّزاً في تاريخ الإسلام كلّه، وفي تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعُد تخرّج هذا الطراز مرةً أخرى"..
 مما سبق؛ نتيّقن أن الذي خلص إليه الشهيد سيّد قطب -رحمه الله-؛ هو الثناء على الصحابة (رضي الله عنهم)، وأن ما يطرحه الآن أعداء سيّد قطب -رحمه الله- إنّما هو كلام قديم تراجع عنه، وتبرّأ منه، واستقرّ على خلافه، والله تعالى أعلم"([6]).
وفي هذه الفترة بدأ يكتب تفسيره الشهير، الذي لم يسمّه تفسيراً، ولكنه رضي أن يسمّيه (في ظلال القرآن)، وصدق في تسميته، فلم يكن في طبعته الأوّلى يحمل الطابع الرسميّ للتفسير، ولكنها وقفات عقل متدبّر، وقلب حي، ووجدان مرهف، أمام القرآن الكريم، يلتمس عظاته، ويجلّي إعجازه، ويبيّن حقائقه، وينبّه على مقاصده، وإنْ تغيّر ذلك في الأجزاء الأخيرة، وفي الطبعة الثانية للأجزاء الأوّلى، فقد بدأ يهتمّ بالجانب التفسيري، حتّى أحسب أنّه أفرغ خلاصة (تفسير ابن كثير) في (ظلاله).
وكان سيّد قطب ينشر ما يكتبه من (ظلال القرآن) في مجلة (المسلمون)، التي كان الداعية سعيد رمضان يصدرها، وقد علّق عليه؛ منوّهاً ومبيّناً – في أحد أعدادها – العالم الأزهري الكبير. د. محمد يوسف موسى، حيث يقول: "لقد عني المسلمون بالقرآن منذ فجر الإسلام، فتناولوه بالدرس والبحث والتنقيب، من كل نواحيه، فمنهم من عني ببيان ناسخه ومنسوخه، ومن عني ببحث أسباب النزول لكثير من آياته، ومن عني ببيان وجوه إعجازه، ومن اهتمّ ببحث ما فيه من ألوان الفصاحة والبلاغة، ومن كان همّه بحث ما فيه من النحو والإعراب واللغة.. أمّا الأستاذ الفاضل سيّد قطب، الداعية الإسلامية، والباحث المعروف في مصر، والعالم الإسلامي والعربي عامة، فإنه يفسـّر القرآن في كتابه (في ظلال القرآن)، على غير النّحو الذي ألفناه، وقد اتّبع منهجاً سليماً في ذلك، وهو عمل جليل يتميّز بالبيان الرائع المشرق، والأسلوب السهل الممتنع.. زاد عن ما زخرت به كتب التفاسير المعروفة، من الإغراق في البحوث اللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية.. في بيان ما اشتمل عليه من نظم اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا نكاد نجدها في تلك المؤلفات، على قيمتها وجلالتها.. مع شدّة الحاجة لها".
وفي هذه الفترة بدأ سيّد قطب يقترب من الإخوان، ويرى بعينيه نشاطهم، والتزامهم، وما بينهم من رباط وثيق، وإخاء عميق، وما يتميّز به كثير منهم من وعي دقيق، وشعور رقيق. وكان المرشد العام حسن الهضيبي يصطحبه معه في رحلاته، ليرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويحكم بعد ذلك بعقله، ويختار لنفسه.
ومنذ سنة 1953 انضم سيّد قطب عملياً لحركة الإخوان المسلمين، وكلّفه الإخوان بتحرير لسان حالهم: جريدة (الإخوان المسلمين)، وإلقاء أحاديث ومحاضرات إسلامية، ثم أصبح مسؤول قسم التربية والتنظيم.. كما مثّل الإخوان خارج مصـر؛ في سوريا، والأردن، اللتين منع من دخولهما، ثمّ القدس.
وقد اختار بملء إرادته الانضمام إلى دعوة الإخوان، ولا سيّما بعد أن خاب ظنّه في رجال ثورة يوليو 1952، الذين علّق عليهم - في أوّل الأمر - آمالاً وأحلاماً، فتبخّرت وضاعت([7]).
وقد حاول سيّد قطب التوفيق بين عبد الناصر والإخوان. وانحاز سيّد قطب إلى الإخوان، ورفض جميع المناصب التي عرضها عليه عبد الناصر، مثل: وزير المعارف، ومدير سلطة الإذاعة.. وقد شهد له ذلك صديقه علال الفاسي بقوله: "لقد تعاملت مع سيّد قطب فرأيته متواضعاً، لم يتطلّع إلى شيء من المناصب، أو الألقاب..". 
وفي هذه المرحلة ألّف بعض كتبه القيّمة:
1-           معركة الإسلام والرأسمالية: 1951، بعد رجوعه من أمريكا. وقد قال الشيخ أبو الحسن الندوي عن هذا الكتاب، وعن مؤلّفه: "لقد أعجبتني قوّة الكاتب، وصراحته، في هذا الكتاب، وإيمانه. ومن فتوح الإسلام الجديدة أنه يسخّر لرسالته مثل هذا الكاتب الكبير، والأديب المثقّف"([8]).
2-           السلام العالمي والإسلام: سنة 1951، وهو من أجمل ما تقرأ في بابه، وقد كان في آخر هذا الكتاب، في الطبعة الأوّلى، فصل بعنوان: (الآن)، بيّن فيه زيف الادّعاءات الأمريكية، ممّا جعل الحكومة الأمريكية تتدخّل لدى مصـر لحذف الفصل في طبعات الكتاب التالية، وتمّ ذلك.. وحقّ على كل من يريد معرفة حقيقة السلام، من منظور إيماني، أن يقرأ هذا الكتاب العجيب.
3-           في ظلال القرآن: طبع الجزء الأوّل سنة 1952م، وطبع الجزء الأوّل، من الطبعة المنقّحة، سنة 1960م. واستطاع سيّد أن ينقّح الكتاب إلى الجزء الثالث عشـر، عند نهاية (سورة إبراهيم)، ثمّ أُعدم بعدها - رحمه الله-([9]).. والكتاب - بطبعته الشـرعيّة - جاء في ستة أجزاء من القطع الكبير، التي حوت على أكثر من (4000) صفحة.. يقول سيّد قطب عن تفسيره في ظلال القرآن: "عشتُ في ظلال القرآن أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود، أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدّد جوانبه".. ويقول: "الحياة في ظِلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه".. هكذا تحدّث سيّد عن كتابه (في ظلال القرآن)، الذي لم يكتب على غلافه كلمة (تفسير)؛ اعترافًا منه بأنه ليس من العلماء، وإنّما يعتمد على كتب التراث في فهم الآيات، والتحليق حولها بأسلوب أدبي، والربط بينها وبين الواقع.. وهو كنز حقيقي لا تخلو منه مكتبة إسلاميّة، حتّى لدى مخالفيه، ومنتقديه، لا يستطيعون مقاومة هذا الكتاب.. واقرأ ما شئت من كتب التفاسير، لكنك ستشعر بعد رحلتك أن الظلال يُدخلك في عمق الآيات، ويجعلك تحيا في ظلّها.. ولمن لا يعلم، فإنّ الرجل قد كتب أكثر من نصف هذا الكتاب في السجن، في فترة تضلّع فيها بالثقافة الإسلامية، وفي تلك الحالة الروحية التي تصنعها الخلوة والعزلة. وبعدما فرغ منه، ونظر فيه؛ وجد أنه لم يعطه حقّه، وقام بعمل نسخة محقّقة، لكنه لم يكملها؛ حيث حكم عليه القضاء بالإعدام.
يقول سيّد قطب: "وانتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم، حازم... أنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشـرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رفعة، ولا بركة، ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون، وفطرة الحياة، إلا بالرجوع إلى الله، والرجوعُ إلى الله - كما يتجلّى في ظلال القرآن- له صورة واحدة، وطريق واحد... واحد لا سواه... إنه العودة بالحياة كلّها إلى هذا الكتاب".
4-           دراسات إسلامية: وهي عبارة عن مقالات إسلامية في نقد مظاهر الفساد والظلم والانحراف في المجتمع (1953). وقدّم له محب الدين الخطيب، ولكن حُذفت مقدّمته في الطبعات اللاحقة([10]). يقول محب الدين الخطيب: ".. لقد برهن سيّد قطب، بمواقفه في عهد الطغيان، على أنه يحسن القول في تأييد الحقّ؛ يوم يتجهّم وجه الباطل القويّ للحقّ، إذا انصرف عنه جنوده. وهناك كثيرون من حملة الأقلام يحسنون تأييد الحقّ، إذا كانت له سوق يروج فيها، أو دولة تخطب ودّ مؤيديه، ولو إلى حين، وهم على استعداد لأنْ يقولوا غير ذلك أيضاً...".
5-           هذا الدين: أصدره وهو في السجن 1960.. كتبه لإخوانه السجناء، ليثبّت به فؤادهم، وبيّن فيه عظمة ديننا، وخصائصه التي تفرّد بها.
6-           المستقبل لهذا الدين: 1960، تُرجم هذا الكتاب، والذي قبله، إلى كثير من لغات العالم. وقد كشف في هذا الكتاب آفات التاريخ النصراني النّكِد، ثم أظهر بكلّ براعة عظمة الإسلام.. يقول الدكتور عبد الله عزام: "وأمّا عمق النظر عند سيّد قطب، فهذا يدركه كل من قرأ: (المستقبل لهذا الدين)، الذي صدر في الوقت الذي خيّم فيه الظلام على المنطقة، ولم تعد ترى فيها بصيصاً من نور في هذا الليل البهيم. وكثيرا  ما كان يردّد: (ستهبّ في المرحلة القادمة على المنطقة رياح من الإسلام الأمريكي!) وقد كان!"([11]).
7-           خصائص التصوّر الإسلامي، ومقوّماته: وهو كتاب في العقيدة من أجمل ما يكون، وهو خلاصة عقيدة سيّد - رحمه الله – الإسلامية، في مواضيع كثر الجدال حولها. وكأن سيّد - رحمه الله - علِم أنّه سيكون من يطعن في عقيدته، فألّف هذا الكتاب ليبيّن بكلماته حقيقة معتقده، وإنْ كان سيّداً لم يردْ هذا، وإنّما أراد تعليم الأجيال حقيقة العقيدة، وأهمّيتها. وقد ألّف سنة 1962.
8-           الإسلام ومشكلات الحضارة: 1962. دخل هذا الكتاب من باب التعريف بكتاب (الإنسان ذلك المجهول)، لألكسس كارل، ثم أتى بما لم يخطر على بال (الكسس كارل)، ولا غيره من الكفّار. فمن انبهر بكتاب (الكسيس)، فليقرأ هذا الكتاب، ليعرف الفرق بين النظرة الفلسفية الغربية المخلصة، وبين النظرة الإسلامية المعجزة، في العمق والوعي.
9-           معالم في الطريق: وهو آخر كتاب صدر في حياة سيّد، ألّفه سنة 1964. وهو من أهمّ كتب سيّد، مع كتابه (الظلال). وقد امتَحنَ الطغاةُ الناسَ بسبب هذا الكتاب، واتّخذوه ذريعة لمحاكمة سيّد، والحكم عليه بالإعدام.. وقد كان بعض تلاميذ سيّد يرجونه ألّا يطبع الكتاب!! فكان يقول لهم: (لا بدّ أن يتمّ البلاغ).. فهو الكتاب الذي أعدَمَ صاحبه. وهذا الكتاب يمكن أن يقال بأنه خلاصة كتب سيّد الإسلامية، ولبّها، ولذلك أحدث دويّاً هائلاً في الأوساط العلمية، والشعبية، وتخطّفته الأيدي، وحفظته القلوب، ووعته العقول النيّرة.. يقول حسن الهضيبي: (إن كتاب معالم في الطريق قد حصر أملي كلّه في سيّد قطب! فقد قرأته، وأعدت قراءاته! وإن سيّد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن، إن شاء الله!).  
10-        مقوّمات التصوّر الإسلامي: طبع بعد عشرين سنة من وفاته، في سنة 1986. وقد كتبه سيّد في آخر أيام حياته، كما قال أخوه (محمد) في مقدّمة الكتاب، وقال بأن سيّداً كتب آخر الكتاب على أوراق الادّعاء، التي أعطيت له قبل المحاكمة!! وهناك فصلان مفقودان من الكتاب، وهما بعنوان: (حقيقة الحياة)، و(حقيقة الإنسان)([12]).. والكتاب يتحدّث عن حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة الكون، والحياة، والإنسان.
هذه هي جميع كُتب سيّد المطبوعة. أمّا ما جُمع ونُسب إليه بعد ذلك، فهي: إمّا مقالات لسيّد في بعض المجلات، جمعتها دور نشر، وأودعتها كتباً، ونشـرتها بعناوين من عندها. أو مقتطفات من كتبه – وخاصة الظلال – نشرتها بعض دور نشـر بأسماء أخرى. أو ممّا نُسب لسيّد، وليس له حقيقة، وهذا قليل جداً، نظراً لقوّة وبلاغة وجمال كتابات سيّد - رحمه الله-.
وقد قامت الحكومة المصرية بإتلاف كثير من المخطوطات المهمة، والنادرة، من تأليف سيّد قطب، وبخطّ يده، منها على سبيل المثال: المجموعة الثانية من (معالم في الطريق)، و(في ظلال السيرة النبوية)، و(تصويبات في الفكر الإسلامي)، و(أمريكا التي رأيت)([13])، وكتب أخرى.
كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام
ونعود مرة أخرى إلى كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، وهو أوّل كتاب ألّفه سيّد قطب، ويتناول فيه خصائص النظام الإسلامي. وقام في هذا الكتاب بدراسة مكانة وحقيقة العدالة الاجتماعية في الإسلام، وقد أُعيد طبعه أكثر من خمس وعشرين مرّة حتى الآن.
ولمّا أصدر كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، اعتبرته الأحزاب الشيوعية عدوّها الأوّل، إذ إنه راح يوجّه المفكّرين، والمثقفين، والجماهير، إلى منهج آخر للإصلاح، وذلك لتطبيقه في عالم الواقع، ذلك هو المنهج الإسلامي. وقد اعتبرته الحكومة المصـرية، والملك فاروق الأوّل، انتصاراً للتيار الإسلامي الذي يمثله الإخوان المسلمون، وقد حسبه القصـر خطراً على النظام الملكي.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي: ظهر لسيّد قطب كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، الذي عرض الموضوع بطريقة منهجية، بيّن فيه أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام، وإن كان الشيخ الغزالي - رحمه الله - له فضل السبق بتناول هذه الموضوعات، في مقالاته التي كان ينشـرها في مجلة (الإخوان المسلمون)، ثم جمعها في كتبه: (الإسلام والأوضاع الاقتصادية)، (الإسلام والمناهج الاشتراكية)، (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين)، ولكن هذه الكتب لم تكتب بالطريقة المنهجية التي كتب بها سيّد قطب؛ لأنها في الأصل مقالات، تجلّي جوانب مهمّة في هذا الجانب الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام.
ولا شك أن الشهيد سيّد قطب قد استفاد من كتب الغزالي، وإنْ لم ينقل منها بالحرف، وإنّما اقتبس كثيراً من الأفكار. ولهذا جعل من مصادره في الطبعة الأولى للكتاب: (الإسلام والأوضاع الاقتصادية)، و(الإسلام والمناهج الاشتراكية)، للشيخ محمد الغزالي – رحمه الله ..
استقبلت الأوساط الإسلامية كتاب (العدالة)، بالحفاوة والترحيب؛ باعتباره أوّل مولود لسيّد قطب في عهده الجديد، واستبشروا بأن التيار الإسلامي قد كسب كاتباً له وزنه الأدبي، وقلمه البليغ؛ فهو يعتبر إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار، تعوّض الخسارة التي لحقت به بانضمام الشيخ خالد محمد خالد إلى التيار العلماني؛ فكأنّ عدالة الأقدار عوضت عن خالد بسيّد، وعن كتاب (من هنا نبدأ)، بكتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام)([14]).
ولكن سيّد قطب قد تراجع عن معظم ما كتبه في كتابه (العدالة الاجتماعية)، بعد أن نضج فكره إسلامياً، وقد أوصى بذلك، في كثير من الأحيان.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي: "هذه هي الأفكار المحورية في هذه المرحلة من حياة سيّد قطب، وفيها عدّل من أفكاره، واتجاهه، تعديلاً جذرياً، وأصبح ما كتبه قديماً، في (العدالة الاجتماعية)، وغيرها، يمثّل مرحلة من حياته، ولا يمثّل الخط الأخير الذي يتبنّاه، ويدعو إليه، ويدافع عنه..
وقد حدّثني الأخ د. محمد المهدي البدري أن أحد الأخوة المقرّبين من سيّد قطب -وكان معه معتقلاً في محنة 1965م- أخبره أن الأستاذ سيّد قطب (عليه رحمة الله)، قال له: إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: المعالم، والأجزاء الأخيرة من الظلال، والطبعة الثانية من الأجزاء الأوّلى، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، ونحوها ممّا صدر له وهو في السجن. أمّا كتبه القديمة، فهو لا يتبنّاها، فهي تمثّل تاريخاً لا أكثر.
فقال له هذا الأخ، من تلاميذه: إذن أنت كالشافعي، لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسّك به هو الجديد، لا القديم، من مذهبك.
قال سيّد رحمه الله: نعم، غيّرت كما غيّر الإمام الشافعي، ولكن الشافعي غيّر في الفروع، وأنا غيّرت في الأصول!.
فالرجل يعرف مدى التغيير الذي حدث في فكره. فهو تغيير أصولي، أو (استراتيجي)، كما يقولون اليوم"([15]).
وممّا يدلّ على أن سيّد قطب تراجع عن كثير ممّا كتب في أوّل حياته، ما قاله المستشار عبد الله العقيل: "إن سيّداً قد بعث لإخوانه في مصر، والعالم العربي، أنه لا يعتمد سوى ستة مؤلفات له فقط، وهي: هذا الدين، المستقبل لهذا الدين، الإسلام ومشكلات الحضارة، خصائص التصوّر الإسلامي، في ظلال القرآن، ومعالم في الطريق"([16]).
وسيّد قطب حذف الكثير من العبارات التي آخذه عليها (محمود شاكر)، في الطبعة السادسة، مثل قوله: إن خلافة عثمان كانت فجوة (وكان يقصد بها في سياسة المال، وإلا فقد سمّاه الخليفة الراشد في غير ما موضع، وترضّى عنه، وأثنى عليه). ومع ذلك فكثير من الذين ينتقدون سيّد ينقلون من الطبعة الخامسة، ويتجاهلون تعديلات الطبعة السادسة! ويعتمدون على كلام قديم له، قبل توجهه الإسلامي، وقد تراجع هو نفسه عن تلك الكتب.
شهادة شقيقه محمد قطب
وما قاله الشيخ القرضاوي، والمستشار العقيل، يتوافق مع ما ذكره شقيق سيّد: المفكر الإسلامي محمد قطب، في رسالة خطية إلى من يسأله عن كتابات سيّد قطب.
وهذه الرسالة عبارة عن شهادة شقيقه، الذي يعرف كلّ صغيرة وكبيرة عن أخيه السيّد، وهو يؤكّد بتراجع سيّد قطب عن تلك الكتب، ووصيته بعدم قراءتها:
"الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد الهرفي حفظه الله.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
سألتني عن كتاب: (العدالة الاجتماعية) فأخبرك أن هذا أوّل كتاب ألّفه، بعد أن كانت اهتماماته في السابق متّجهة إلى الأدب والنقد الأدبي، وهذا الكتاب لا يمثّل فكره بعد أن نضج تفكيره، وصار - بحول الله - أرسخ قدماً في الإسلام، وهو لم يوصِ بقراءته، إنّما الكتب التي أوصى بقراءتها، قبيل وفاته، هي: في ظلال القرآن، وبصفة خاصة الأجزاء الاثنا عشـرة الأولى، المعادة، المنقّحة، وهي آخر ما كتب من الظلال، على وجه التقريب، وحرص على أن يودعها فكره كلّه، و(معالم في الطريق)، ومعظمه مأخوذ من الظلال، مع إضافة فصول جديدة، و(هذا الدين)، و(المستقبل لهذا الدين)، و(خصائص التصوّر الإسلامي)، و(مقومات التصوّر الإسلامي)، وهو الكتاب الذي نشر بعد وفاته، و(الإسلام ومشكلات الحضارة(. أمّا الكتب التي أوصى بعدم قراءتها، فهي كلّ ما كتبه قبل الظلال، ومن ضمنها: (العدالة الاجتماعية في الإسلام).
أما كتاب (لماذا أعدموني) فهو ليس كتابًا؛ إنّما هو محاضر التحقيق التي أجريت معه في السجن الحربي، حذفت منها الأسئلة التي وجّهها إليه المحقق، وبقيت الأجوبة. وقد استخرجها محمد حسنين هيكل من ملفات السجن، وباعها لجريدة الشـرق الأوسط، فنشرتها في جريدة (المسلمون) مجزّأة، ثم نشرتها في صورة كتاب. ولمّا كنّا لم نطّلع على أصولها؛ فلا نستطيع أن نحكم على مدى صحتها، ومن المؤكّد أنّهم حذفوا منها ما يختصّ بالتعذيب (وقد اعترفت الجريدة بذلك)، أما الباقي فيحتمل صدوره عنه، ولكن لا يمكن القطع بذلك. وفضلًا عن ذلك، فهذه التحقيقات كلّها كانت تجري في ظل التعذيب... هذا جواب ما سألتني عنه. وبالله التوفيق.  محمد قطب"([17]).
وفي هذا المجال يقول الشيخ المحدّث ناصر الدين الألباني - رحمه الله-: (سيّد قطب كاتب، ومتحمّس للإسلام الذي يفهمه، وكتابه (العدالة الاجتماعية) هو من أوائل تآليفه، ولما ألّف كان محض أديب، وليس بعالم، لكن الحقيقة أنه في السجن تطوّر كثيراً، وكتب بعض الكتابات كأنها بقلم سلفي ليست منه، لكن أنا أعتقد أن السجن يُربّي بعض النفوس، ويُوقض بعض الضمائر، فكتب كلمات، يعني يكفي عنوانه الذي يقول: (لا إله إلا الله منهج حياة).. ويكفي أنه رجل مسلم، ورجل كاتب إسلامي - على حسب مفهومه للإسلام كما قلتُ أوّلا ً-، وأنه قُتل في سبيل دعوته للإسلام، والذين قتلوه هم أعداء الإسلام.. وأنه كان غيوراً على الإسلام، وعلى الشباب المسلم، وأنه يريد إقامة الإسلام، ودولة الإسلام.. إن كتابات سيّد قطب عليها نور، وعلم، ويكفي أنه قتله أعداء الإسلام"([18]).
وهو على كل حال مخلص في توجهه، مأجور في اجتهاده، أصاب أم أخطأ، ما دام الإسلام مرجعه، والإسلام منطلقه، والإسلام هدفه. وأشهد أن الرجل في المرحلة الأخيرة من حياته، كان كلّه للإسلام، عاش للإسلام، ومات في سبيل الإسلام! فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه، وغفر له ما نحسب أنه أخطأ فيه، وأجره عليه أجر المجتهدين الصادقين. وغفر لنا معه أجمعين: )رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(([19]).
ورغم تراجع سيّد قطب عن كتابه، إلاّ أن هناك من يرى أن في الكتاب طرحاً جديداً لم يسبقه مثيل، فهذا الدكتور فهمي جدعان يعلّق على كتاب العدالة الاجتماعية بقوله: "الصورة التي قدّمها عن العدالة الإجتماعية في الإسلام، هي أكثر الصور المعاصرة تداولاً بين المثقفين المسلمين المعاصرين"([20]).
نستنتج ممّا سبق أن كل ما وجّه إلى سيّد قطب من انتقادات في كتابه العدالة الاجتماعية، لا يعتدّ به، وليس له أيّة أهميّة، لأنّ المؤلّف نفسه قد تراجع عنها، وتبرّأ منها، واعتبرها من فكره القديم.. سواء كانت هذه الانتقادات من كلامه عن الصحابة الكرام، أم الثناء على القرامطة، أو غيرها..
ومن يقرأ (في ظلال القرآن) يجد فيه الترّضي عن الصحابة جميعاً، والثناء عليهم، ولم يذكر فيه عثمان (رض) بسوء، ولم يأت بأيّ كلام سيء عن صحابي، فيه.. و(الظلال) من آخر كتاباته، وتآليفه، و(العدالة) كان في بداية حياته، وكتاباته... ومن يقرأ له (معالم في الطريق)، وكيف أن الجيل الأوّل هو جيل قرآني فريد، لم يتكرّر مثله، وثناؤه عليهم.. لا بدّ وأن تدفعه نفسه لأن يتأوّل للرجل بكل يقين، فيقول لا بدّ وأنه تراجع عن كلامه الأوّل.
ونحن نؤمن بأنّه لا عصمة لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكلّ أحد غيره يؤخذ من كلامه، ويردّ عليه، وأن ليس في العلم كبير، وأنّ خطأ العالم لا ينقص من قدره، إذا توافرت النيّة الصالحة، والاجتهاد من أهله، وأنّ المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجراً واحداً، كما في الحديث الشريف، سواءً كان خطؤه في المسائل العلمية، أو العملية، الأصولية، أم الفروعية.

مصطلح الجاهلية، وإشكالية الاستعمال
الجاهلية المعاصرة، أو الجاهلية الحديثة، هي مصطلح يشير إلى ما يراه بعض الإسلاميين، من دعاة فصل الدين عن الدولة والحكم المدني، كتهميش الدين، وفصله عن مجالات الحياة الأخرى. من أوائل من استخدم هذا المصطلح: أبو الأعلى المودودي، واحتواه سيّد قطب، وطور هذه النظرية شقيقه محمد قطب.
ولفظ الجاهلية مصطلح قرآني. وهذه الصيغة، صيغة الفاعلية، لم ترد في استعمال العرب، قبل نزول القرآن الكريم. فقد استخدموا الفعل جَهِلَ، وتصـريفاته المختلفة، واستخدموا المصدر: الجهل والجهالة، ولكنهم لم يستخدموا صيغة الفاعلية (جاهلية)، ولا هم وصفوا أنفسهم، ولا غيرهم، بأنهم جاهليون، إنّما جاء وصفهم بهذه الصفة في القرآن الكريم، وفي سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
 والمصطلح القرآني - كل مصطلح قرآني - هو استخدام خاص للفظٍ من الألفاظ، يُخصّصه بمعنى معيّن، لا يفهم من المعنى اللغوي على هذا النحو الخاص إلا بتخصيص القرآن الكريم له، وإن كان يدخل في إطار المعنى العام.
والجاهلية - كسائر المصطلحات القرآنية - لها معناها المحدد، الذي يدخل في إطار المعنى اللغوي العام، ولكنه يتّخذ دلالته المحددة من استخدام القرآن له، وتحديده لمعناه. يقول ابن تيمية، في بيان المعنى اللغوي للجهل: "هو عدم العلم، أو عدم اتّباع العلم. فإنّ من لم يعلم الحقّ، فهو جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه، فهو جاهل جهلاً مركّباً.. وكذلك من عمل بخلاف الحقّ فهو جاهل، وإن علم أنه مخالف للحقّ"([21]).
 أمّا في القرآن الكريم، فاللفظ يرد في معنى خاص، أو في معنيين محددين: إمّا الجهل بحقيقة الألوهية، وخصائصها، وإمّا السلوك غير المنضبط بالضوابط الربانية، أي بعبارة أخرى: عدم اتّباع ما أنزل الله تعالى.

الجاهلية في مفهوم سيّد قطب
الجاهلية مصطلح استعمله سيّد قطب في (الظلال)، وفي (المعالم)، مرّات كثيرة، وأكّد عليه في كلّ موضع رآه مناسباً. وهذا المصطلح له معنى محدّد عنده، وله دلالة واضحة، وهو وصف ينطبق على حالة قائمة.
وسيّد قطب رجل أديب، له من أساليب البلاغة إطناب، وتصوير، قد يتسبّب فى إيقاع ما ليس مقصوداً في قلب القارئ، فيستدلّ بعبارته على غير وجهها، ولكن يجب أن يرّد كلام الرجل بعضه إلى بعض، حتى تتضح الصورة.
إن كلام الشهيد سيّد قطب عن الجاهلية، أحياناً، يقصد به جاهلية السلوك والعمل، وأحياناً جاهلية الاعتقاد.
وقد قرّر سيّد قطب أن الجاهلية ليست مقابلة للعلم والتقدّم، ولكنها مقابلة للإيمان والالتزام بمنهج الله، وتطبيق شريعته. ولذلك، فهي ليست فترة ماضية من الزمان، ولكنها وصف ينطبق على كل حالة ترفض فيها مجموعة من الناس الالتزام بمنهج الله!.
لقد عرّف الشهيد سيّد قطب بوضوح أن المجتمعات الجاهلية، هي المجتمعات الغربية، أو العلمانية، التي تعتنقها كمبدأ، أو تقوم على العقيدة الغربية غير الإسلامية في المعتقد والتصوّر، فضلاً عن السلوك والعمل، ثم تقدّمها لنا كنموذج للعمل به كعقيدة، ولا مانع لديها من لصق بعض الأسماء والعناوين، أو جزئية من السلوكيات الإسلامية، عليها.
لكنه بالنسبة للأفراد في هذه المجتمعات التي وصفها بالجاهلية، لم يقصد الحكم عليهم بالجاهلية، أو أنهم أصبحوا كافرين، فكلٌ حسب ما يدين به، ويعتقده.
كما أن مقصده في الحاكمية هو ردّ أصل التشريع والمرجعية لله، وأحكامه، وليس منع الاجتهاد البشري في استنباط الأحكام، واستخراج القوانين، وممارسة السلطة، ومواجهة المستجدات.
وللجاهلية أكثر من معنى، وأكثر من مجال، في اللغة والشرع؛ ففي اللغة جاءت مادة (جهل) على ثلاثة معان:
الأوّل: وهو خلو النفس من العلم.
الثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً.
أما الجاهلية في الشرع، فيقصد بها:
الجاهلية في جانب العقيدة والوحدانية، ويدخل في هذا النوع: من اعتمد منهجاً في الحكم، مقابل إنكاره منهج الله تعالى، وهو عالم بالتحريم. وهذا الفهم حدّده الله تعالى في قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}([22])، يقول سيّد في تفسير هذه الآية: "إنّ معنى الجاهلية يتحدّد بهذا النصّ. فالجاهلية -كما يصفها الله، ويحدّدها قرآنه- هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشـر للبشـر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشـر، وبالعبودية لهم من دون الله.. إن الجاهلية -في ضوء هذا النصّ- ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام"([23]).
جاهلية ممارسة الحياة اليومية: كما ورد في القرآن عن نهي نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أعمال الجاهلية: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأوّلىٰ}([24])، فلم يزعم أحد أن من فعلت ذلك تُعدّ كافرة، لأنّ الجاهلية المنهيّ عنها هنا جاهلية العمل – الممارسة –، وليست جاهلية الاعتقاد.
جاهلية المعصية: كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية)([25]).. ولم يقل أحد: إن أبا ذر (رض) قد كفر بهذا. فلو كانت الجاهلية هنا هي الكفر، لحكم بردّته، وطلب استتابته.
وهذان الأخيران لا يكفر أصحابهما، فالجاهليّ بالمعنيين الأخيرين ليس بكافر، وإنما هو عاص لأوامر إلهية محددة، بكلمة أخرى: مسلم عاص.
والحقّ أن لفظ (الجاهلية)، ولفظ (جهل)، ومشتقاته، قد ورد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، واختلفت معانيهما من موضع لآخر. وقد وردتا على لسان النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم يقصد بهما الخروج من الملة، أو الكفر الأكبر، وإنما قصد بهما كفر النعمة، لقوله (صلى الله عليه وسلم): (إني رأيت الجنّة – أو أريت الجنّة – فتناولت عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظراً أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير([26])، ويكفرن الإحسان، ولو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثمّ رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قطّ)([27]).
ولا يمكن لعاقل أن يقول: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال بتكفير النساء، إن غضبن من أزواجهن، أو أنكرن حسن العشرة.
وبعد هذا التوضيح لمصطلح الجاهلية، لنعد إلى سيّد قطب، واستعمالاته لهذا المصطلح، ومقصوده منه. يقول – رحمه الله -: "إن العالم يعيش اليوم كلّه في جاهلية، من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، جاهلية لا تخفّف منها شيئاً هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق.. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية.. إنها تسند الحاكمية إلى البشـر، فتجعل بعضهم لبعض أرباباً"([28]).
وهذه التعبيرات واضحة في أنه لا يقصد بها أفراد المسلمين، بل يقصد المصدر الذي يقنّن للحياة.
وفي موضع آخر، يعرّف سيّد قطب المجتمع الجاهلي، ويبيّن مقصوده منه – وهذا التعريف يندرج تحته كلّ ذكر لهذا المصطلح يأتي في كتاباته، فيقول: "إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم، وإذا أردنا التحديد الموضوعي، قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثّلة هذه العبودية في التصوّر الاعتقادي، وفي الشعائر التعبّديّة، وفي الشـرائع القانونية".. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار (المجتمع الجاهلي) جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً، تدخل فيه المجتمعات الشيوعية... و المجتمعات الوثنية... والمجتمعات اليهودية والنصـرانية في أرجاء الأرض جميعاً.. وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي، تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها (مسلمة)([29]).
ثم يبيّن مقصوده من هذه المجتمعات، فيقول: "وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة (علمانيّته)، وعدم علاقته بالدين أصلاً. وبعضها يعلن أنه (يحترم الدين)، ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلاً"([30]).
فهذا النصّ من كلام سيّد قطب يؤيّد أنه لا يصف بالكفر إلا المجتمعات التي يتبنّى نظام الحكم فيها المناهج اللادينية المناهضة للإسلام، ويحمل الشعب على هذه العقيدة الفاسدة. ولهذا فالحكم على المجتمع، إنّما يراد به الحكم على هذه المناهج، وعلى الأنظمة التى تفرضها، وليس حكماً على الشعب.
إن الجاهلية عند سيّد قطب مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالحاكميّة، فإذا كانت الحاكميّة في مجتمع ما ليست لله، فهذا المجتمع في جاهليّة. فلقد كان العرب قبل نزول القرآن في جاهلية، مع أنهم "كانوا يعرفون ويقرّون أن لله ما في السماوات والأرض. ولكنهم ما كانوا يرتّبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك، وعدم التصرّف فيه إلا بإذن الله وحده، وشرعه.. وبهذا اعتبروا مشـركين، وسمّيت حياتهم بالجاهليّة! فكيف بمن يخرجون الحاكميّة، في أمرهم كلّه، من اختصاص الله سبحانه؛ ويزاولونها هم بأنفسهم؟!"([31]).
ويبيّن سيّد أن القرآن كان يتحدّث عن الجاهلية ليحذّر الناس منها، وأنّ حديثه ليس عن جاهليات مضت ــ من خلال عرض قصص السابقين ــ، وإنّما هو يعطي مواصفات عامة، على اختلاف الزمان والمكان، "وإنها الجاهلية؛ تختلف أشكالها وصورها، وتتّحد جذورها ومنابعها، وتتماثل قوائمها وقواعدها.. وإنّنا لنبخس القرآن قدره، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنّه حديث عن جاهليات كانت! إنّما هو حديث عن شتّى الجاهليات، في كلّ أعصار الحياة. ومواجهة للواقع المنحرف دائماً، وردّه إلى صراط الله المستقيم.."([32]).

من أنواع ومظاهر الجاهليّة
وإنّ هذه الجاهليّة أنواع وألوان، فمنها: جاهليّة الاعتقاد، ومنها جاهليّة الاتّباع: "جاهليّة الاعتقاد والتصوّر والعبادة والشعائر! أو جاهليّة الدينونة والاتّباع والطاعة والخضوع.."([33]).
ومنها جاهليّة الأعراف والعادات والتقاليد: فنحن نشهدها اليوم، بصورة أوضح، في الجاهليات الحديثة.. هذه العادات والتقاليد التي تكلّف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرّاً.. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلّفهم – أحياناً - ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم. ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها..([34]).

المجتمع الجاهلي متخلّف حضارياً
إن المجتمع الإسلامي وحده هو المتحضّر، لأن الإسلام وحده هو الحضارة، وأن المجتمع الجاهلي هو المتخلّف.. المجتمع الإسلامي - بصفته تلك - هو وحده (المجتمع المتحضّـر)، والمجتمعات الجاهليّة - بكلّ صورها المتعدّدة - مجتمعات متخلّفة!([35]).
وسبب اعتبار المجتمع الجاهلي مجتمعاً متخلّفاً ــ رغم تقدّمه العلمي والمادي ــ هو أن "التصوّرات والمناهج، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد.. كلّها تشريع يخضع الأفراد لضغطه. وحين يصنع الناس - بعضهم لبعض - هذه الضغوط، ويخضع لها البعض الآخر منهم في مجتمع، لا يكون هذا المجتمع متحرّراً، إنّما هو مجتمع بعضه أرباب، وبعضه عبيد - كما أسلفنا -، وهو - من ثمّ - مجتمع متخلّف.. أو بالمصطلح الإسلامي.. (مجتمع جاهلي)!"([36]).
ونتيجة لذلك قرّر سيّد أننا نعيش الآن في جاهليّة: "نحن نعيش في جاهليّة. جاهليّة مجتمع. وجاهلية تشريع. وجاهلية أخلاق. وجاهلية تقاليد. وجاهلية نظم. وجاهلية آداب. وجاهلية ثقافة كذلك!!"([37])، وذلك لأن مجتمعاتنا، وتشريعاتنا، وأخلاقنا، وتقاليدنا، ونظمنا، وآدابنا، وثقافتنا، ليست مأخوذة من الإسلام، وإنّما مستمدة من التصوّرات والمناهج البشرية الجاهلية ([38]).
وخلاصة القول: إن سيّد قطب قد حدّد مقصده من الجاهلية بقوله: "إنها تعني العلمانيّة كمنهج في التشريع، وفي الحياة كلّها. وتعني - كذلك - كلّ ما وضعه البعض من قوانين من عند نفسه، تخالف شرع الله، وقال: هذا شرع الله"([39]).
ويقول محمد قطب: "إن سيّد قطب هو أبي وأخي وأستاذي وصديقي.. وإنني متأكّد كاملاً، إن شاء الله، أنه ليس في كتابات سيّد قطب ما يخالف الكتاب والسنّة..". ويقول: "وإن كتابات سيّد قطب قد تركّزت حول موضوع معيّن، هو: بيان المعنى الحقيقي لـ(لا إله إلا الله)، شعوراً منه بأن كثيراً من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان، كما وردت في الكتاب والسنة، وشعوراً منه بأن كثيرا من هذه المواصفات قد أُهمل، أو غفل الناس عنه! ولكنه مع ذلك حرص حرصاً شديداً على أن يبيّن أن كلامه هذا ليس مقصوداً إصدار أحكام على الناس، وإنّما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة، ليتبنّوا هم لأنفسهم: إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي، أم أنهم بعيدون عن هذه الطريق، فينبغي إليهم أن يعودوا إليه... ولقد سمعته بنفسي، أكثر من مرّة، يقول: نحن دعاة، ولسنا قضاة. إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة: (لا إله إلا الله)، لأن النّاس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله!". "كما سمعته، أكثر من مرّة، يقول: إن الحكم على النّاس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك! وهذا أمر ليس في أيدينا، ولذلك نحن لا نتعرّض لقضية الحكم على الناس، فضلاً عن كوننا دعوة، ولسنا دولة، دعوة مهمتنا بيان الحقائق للناس، لا إصدار الأحكام عليهم.."([40]).
نخلص من هذا الموضوع إلى أن سيّد قطب يرى أن الجاهليّة تتمثّل في حالة، أو وضع، أو نظام، يرفض الاحتكام لمنهج الله. وأنّ هذه الجاهلية تعمّ الأرض اليوم. وأنّ المجتمعات الموجودة مجتمعات جاهليّة، بسبب الأنظمة والتشـريعات التي تسودها، وهذا لا يمنع وجود الكثير من الأفراد المسلمين فيها. وأن الجاهليّة لا تعني الكفر دائماً، فقد تعني المعصية والذنب والخروج عن أحكام الله تعالى.
وأنّ رأيه في الجاهلية صحيح، وسديد، ومقبول، لا يتعارض مع مقرّرات الإسلام، ولا مع فهم علمائه. وإذا كان بعضهم قد ظلم سيّداً في فهم رأيه في الجاهليّة، فالواجب أن نبطل ذلك الفهم الأعوج، بدل إلغاء هذا المصطلح!!r


([1]) لم يكن سيّد هو الأول، ولن يكون الأخير، الذي مرّ بمرحلة التيه والضياع وعدم الاستقرار الفكري، في مشواره الثقافي. فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رض)، قبل إسلامه، يشهر سيفه لمحاربة سيدنا محمد (صلى الله عليه سولم)، ولكن الله أعزّ به الإسلام، بعد إسلامه، وأصبح فاروق الأمة، وأفضل الناس في هذه الأمة بعد أبي بكر (رض). وهذا الفضيل بن عياض، عابد الحرمين، كان قاطع طريق يخافه المسافرون. وبعض كبار علماء الأمة تأثّروا بالفلاسفة، وعلم الكلام، واختلطت عليهم الأمور، ولم يرجعوا إلى الحقّ، إلا في أواخر حياتهم.. وهذا الشيخ الأديب (محمود محمد شاكر) - رحمه الله- يذكر في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، أنه مرّ بمرحلة "حيرة  زائغة، وضلالة مضنية، وشكوك ممزقة..." استمرت لعشر سنوات!! وهذا كثير في العلماء والأدباء.
([2]) سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد: 531 للدكتور صلاح الخالدي.
([3]) رواه الإمام أحمد في المسند: 4/199، والبيهقي في دلائل النبوة: 4/351، وابن عساكر في تاريخه: 3/52.
([4]) في وداع الأعلام: 106.
([5]) وقد طبع الكتاب مؤخراً عن طريق (منشورات الجمل) بكولونيا الألمانية، في 155 صفحة من القطع المتوسط! أما طبعته القديمة فهي نادرة جداً، بل تكاد تكون في حكم المعدوم.
([6]) الصفحة الرئيسية لموقع المفكّر الإسلامي الأستاذ محمد قطب Mohamed Qutb.
([7]) الصفحة الرئيسية لموقع للشيخ يوسف القرضاوي، حلقة بعنوان: سيد قطب.. المفكر الإسلامي شهيد الدعوة والتربية والثقافة والفكر.
([8])  من كتاب مذكرات سائح في الشرق العربي، لأبي الحسن الندوي.
([9]) انظر كتب الشيخ صلاح عبد الفتاح الخالدي: مدخل إلى ظلال القرآن، والمنهج الحركي في ظلال القرآن، وفي ظلال القرآن في الميزان. وأصل هذه الكتب رسالته في الدكتوراة: في ظلال القرآن؛ دراسة وتقويم..
([10])  أطلق الشيخ محب الدين على سيّد، في مقدمته لهذا الكتاب، لقب: (لسان الدين)، وأطلق على أدبه لقب: (أدب القوّة)، وبيّن كيف أن قوّة كلمات سيّد كانت تُزعج قوى الظلم والطغيان في البلاد. (نقلاً عن كتاب: سيّد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد)، وقد نقل مقدّمة الشيخ محب الدين، الكاتب محمد علي قطب في كتابه: سيد قطب، أو ثورة الفكر الإسلامي.
([11]) عملاق الفكر الإسلامي سيد قطب، د. عبد الله عزام: 25.
([12]) يقول محمد قطب في مقدمته لهذا الكتاب: "قال لي كثير من الأصدقاء ونحن في فترة الإنتظار [انتظار بسبب البحث عن الجزئين] لماذا لا تكتب أنت الفصلين الناقصين على نسق الفصول الأربعة الموجودة، وتُخرج الكتاب كاملاً للناس، وأنت أقرب الناس إلى مؤلفه، وأولى الناس أن تقوم بهذا العمل من بعده ؟! وكنت أقول دائما، كما أقول اللحظة: "رحم الله امرءً عرف قدر نفسه"، وإن معرفتي بقدر نفسي ألا أتعرض لهذا العمل الذي لا أحسنه. فلست أحسن إلا ما أكتبه لنفسي، وعلى المستوى الذي أكتبه به، ولست أبلغ مستوى الشقيق، وخاصة في هذا الكتاب بالذات، الذي أودعه عصارة تجربته الإيمانية، كما بلغ فيه قمته التعبيرية، التي تُعبر عن قضايا غاية في العمق، في سيولة متدفقة، كأنما هي (نشيد) ينشد، لا (فكرة) تُصاغ!".
([13]) الموجود من هذا الكتاب ليس هو الأصل، وإنّما هو من جمع الشيخ صلاح الخالدي. الذي جمعه من بعض مقالات ورسائل سيد، رحمه الله.
([14]) الصفحة الرئيسية لموقع للشيخ يوسف القرضاوي، حلقة بعنوان: سيد قطب.. المفكر الإسلامي شهيد الدعوة والتربية والثقافة والفكر.
([15]) الصفحة الرئيسية لموقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ملف خاص، مع الأستاذ سيد قطب؛ محطات تاريخية ووقفات نقدية، بقلم الشيخ يوسف القرضاوي.
([16]) مجلة المجتمع العدد 112 عام 1972.
([17]) الصفحة الرئيسية لموقع المفكر الإسلامي الأستاذ محمد قطب Mohamed Qutb.
([18]) الصفحة الرئيسية لموقع (طريق الإسلام)، مقالة بعنوان: كلمة حق وإنصاف في سيد قطب.
([19]) في وداع الأعلام: 102-103
([20]) مقاصد الشريعة الإسلامية في فكر الإمام سيد قطب، نصير زرواق، أطروحة دكتوراه، جامعة أم درمان، دار السلام 2009، القاهرة: 319.
([21]) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ابن تيمية: 77.
([22]) سورة المائدة، الآية: 50.
([23]) في ظلال القرآن: 2/1048.
([24]) سورة الأحزاب، الآية: 33.
([25]) رواه البخاري (30) في كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها. ومسلم (1661) في كِتَابُ الْأَيْمَانِ، بَابُ إِطْعَامِ الْمَمْلُوكِ مِمَّا يَأْكُلُ، وَإِلْبَاسُهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا يُكَلِّفْهُ مَا يَغْلِبُهُ.
([26]) إن الطاعات كما تسمّى إيمانًا، كذلك المعاصي تسمّى كفرًا، لكن حيث يطلق عليها الكفر، لا يراد الكفر المخرج من الملة. قال: وخصّ كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قوله (صلى الله عليه وسلم): (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، فقرن حقّ الزوج على الزوجة بحقّ اللَّه، فإذا كفرت المرأة حقّ زوجها -وقد بلغ من حقّه عليها هذه الغاية- كان ذلك دليلًا على تهاونها بحقّ اللَّه، فلذلك يطلق عليه الكفر، ولكنه كفر لا يخرج عن الملة.
([27]) رواه البخاريّ: في "الإيمان (29) باب كفران العشير. ومسلم (907) في الكسوف: باب ما عرض عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ من أمر الجنة والنار.
([28]) معالم فى الطريق: 5.
([29]) معالم فى الطريق: 77.
([30]) معالم فى الطريق: 80.
([31]) في ظلال القرآن: 2/1048.
([32]) في ظلال القرآن: 2/1219.
([33]) في ظلال القرآن: 4/1944.
([34]) في ظلال القرآن: 2/1219.
([35]) معالم في الطريق: 142.
([36]) معالم في الطريق: 145.
([37]) في ظلال القرآن: 6/3619.
([38]) في ظلال القرآن في الميزان، د. صلاح الخالدي: 253.
([39]) مجلة المجتع العدد 1889 29 صفر 1431هـ - 13/2/2010م.
([40]) مجلّة المجتمع الكويتيّة. العدد (271) في 21/10/1975م.

هناك تعليق واحد:

  1. رحم الله سيدا وجمعنا به في الجنة

    ردحذف