01‏/04‏/2019

اللامعقول وحداثة الوعي ما بعد المصلوب

ا. م. د. سامي محمود ابراهيم

رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق
لكي يباع الغباء، ويسوّق الشقاء، يكفي أن نجد لذلك صيغة. هكذا غنّى الغرب سمفونية الحداثة على وجه القمر.
والشمس التي رافقت ابن رشد إلى أن تجاوز وادي الشـرق الكبير، تركته في مغيب الغرب، يغرق في التنوير، ويتمتّع بنعومة الحداثة السائلة.. جعلته يحاور الوجود بلغة الوعي، ولذلك يتعيّن علينا استعادة هذه اللغة، ومنحها الكلمة، من أجل الشهادة على جرائم التيار الظلامي الذي قام بتخريب روح العصر. فقد ظل سؤال الوعي مقلوباً، لأنّ العدمية مزّقت الكينونة، ولم يعد الوجود سوى مصدر للوهم والفزع.

   ففي عالم مشحون بظواهر الظلم التي تمزّق كبد العاقل، كما يتمزّق قلب المؤمن من دلالات الفسوق والتفريط في المقدّسات على مذابح الشهوات، يستهلك الضمير، ويصبح العري الفكري والأخلاقي سمة العصر بامتياز.
تحوّل العالم إلى لعبة كونية خطيرة، تحكمها القوانين السائلة ونهايات اللايقين. استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب والفوضى والعدمية واللامعنى واللانظام. حداثة مجنونة تعمل في فضاءات اللامعنى، تتميز بقوة التحرّر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد، وما هو متعارف عليه، وممارسة الاختلاف والتفكيك والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة البنية والانغلاق والتكامل، وتعرية الإيديولوجيات، والاهتمام بالمدنّس والهامش والغريب والمتخيّل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب المابعديات المفتوحة.
يتفق الفلاسفة الألمان على أن مشروع الحداثة لم ينته بعد، حيث يواصل هذا المشـروع سعيه لتحقيق أهدافه، حيث الدور الفعّال لوسائل الإعلام. فكل شيء هو النص والصورة؛ إقناع المشاهد بكابوس من عالم الخيال العلمي، أو العالم الافتراضي، فهذا العالم هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الواقع.
كما ترتبط ما بعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية، التي هيمنت على الثقافة الغربية من (أفلاطون) إلى يومنا هذا. فهي موقف متشكّك لجميع المعارف البشرية، وقد أثّرت هذه المواقف على العديد من التخصّصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني.
كما تعدّ ما بعد الحداثة عدمية، تقوّض أيّ معنى للنظام والسيطرة.. حداثة سائلة بمنتهى السيولة.
لذلك اعتمدت على التناصّ واللانظام واللاانسجام والنسبية، وإعادة النظر في الكثير من المسلّمات التي تعارف عليها الفكر الإنساني. ومن ثمّ، تزعزع ما بعد الحداثة جميع المفاهيم التقليدية المتعلّقة باللغة والهوية.
هذا يعني أن نصوص ما بعد الحداثة لا تتقيّد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة للنصّ، بل قراءات مفتوحة. خاصة أن فكر ما بعد الحداثة جاء كردّ فعل على المقولات التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاستلاب.
 كما استهدفت ما بعد الحداثة تعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكّم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية. كما عملت ما بعد الحداثة على انتقاد اللوغوس والمنطق، عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.
هذا، وقد ظهرت ما بعد الحداثة في ظروف سياسية معقّدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلّح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسـرح اللامعقول، وظهور الفلسفات اللاعقلانية؛ كالسـريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية، والعدمية.. وقد كانت التفكيكية معبراً رئيساً للانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
ومن ثمّ، فقد كانت ما بعد الحداثة مفهوماً مناقضاً، ومدلولاً مضاداً للحداثة. ولذلك، احتفلت ما بعد الحداثة بأنموذج التشظّي والتشتيت واللاتقريرية، كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بقوانين العقل والسببية والأنموذج الكوني، وحاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة، تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلّها الضـرورات الروحية والتغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن، واتخذت التأويل والتأويل المضاعف قاعدة ومنهجاً.
وقد غزت نظرية ما بعد الحداثة جميع الفروع المعرفية؛ كالأدب، والنقد، والفن، والفلسفة، والأخلاق، والتربية، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والسياسة.
وتستند ما بعد الحداثة، في الفلسفة الغربية، إلى مجموعة من المكوّنات والمرتكزات، يمكن حصرها في المبادىء التالية:
-      التقويض: تهدف نظرية ما بعد الحداثة إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية، وذلك عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك. بمعنى أن ما بعد الحداثة قد تسلّحت بمعاول الهدم والتشريح، لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض.
-      التشكيك: أهمّ ما تتميّز به مابعد الحداثة هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة.
-      العدمية: من يتأمّل جوهر فلسفات ما بعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات ما بعد الحداثة هي فلسفات لا تقدّم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.
-      التفكّك واللاانسجام: إذا كانت فلسفة الحداثة، أو تيارات البنيوية والسيميائية، تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنيات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية. فإن فلسفات ما بعد الحداثة هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكليّة. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ما هو منظّم ومتعارف عليه .
-      هيمنة الصورة: رافقت ما بعد الحداثة تطوّر وسائل الإعلام، فلم تعد اللغة هي المنظّم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرّك الأساس للتحصيل المعرفي، ومعرفة الحقيقة. لهذا نجد (جيل دولوز) يهتمّ بالصورة، ويعتبر العالم خداعاً، كخداع السينما.
-      الغرابة والغموض: تتميّز ما بعد الحداثة بالغرابة، والشذوذ، وغموض الآراء والأفكار والمواقف.. فتفكيكية (جاك دريدا)، مثلاً، ما زالت مبهمة وغامضة، من الصعب فهمها واستيعابها، حتى إن مصطلح التفكيك نفسه أثار كثيراً من النقاش والتأويلات المختلفة في حقول ثقافية متنوّعة، وخاصة في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية. كما أن فلسفة (جيل دولوز) معقّدة وغامضة، من الصعب بمكان تمثّلها بسهولة.
-      التناصّ: يعني التناصّ استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية. بمعنى أن أي نصّ يتفاعل ويتداخل نصيّاً مع النصوص الأخرى امتصاصاً وتقليداً وحواراً. ويدلّ التناصّ في معانيه القريبة والبعيدة على التعددية، والتنوّع، والمعرفة الخلفية، وترسبّات الذاكرة. وقد ارتبط التناص نظرياً مع النقد الحواري .
-      تفكيك المقولات المركزية الكبرى: استهدفت ما بعد الحداثة تقويض المقولات المركزية الغربية الكبرى، كالدال والمدلول، واللسان والكلام، والحضور والغياب، إلى جانب مفاهيم أخرى؛ كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود، والهوية..
-      الانفتاح: إذا كانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي والمرجعي، فإن ما بعد الحداثة قد اتّخذت لنفسها الانفتاح وسيلةً للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح. ويعدّ التناصّ آلية لهذا الانفتاح، كما أن الاهتمام بالسياق الخارجي هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي التعددي.
-      قوّة التحرّر: تعمل فلسفات ما بعد الحداثة على تحرير الإنسان من قهر المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضاً من أوهام الإيديولوجيا والميثولوجيا، وتحريره كذلك من فلسفة المركز، وتنويره بفلسفات الهامش والعرضي.
-      الدلالات العائمة: تتميّز نصوص وخطابات ما بعد الحداثة بخاصيّة الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محدّدة بدقة، وليس هناك مدلول واحد لها، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة، تأجيلاً وتقويضاً وتفكيكاً. وبتعبير آخر: يغيب المعنى، ويتشتّت عبثاً، في فلسفات ما بعد الحداثة.
-      التخلّص من المعايير والقواعد: ما يعرف عن نظريات ما بعد الحداثة، في مجال الفلسفة والنقد والأدب، تخلّصها من النظريات والقواعد المنهجية.. فـ(ميشيل فوكو) يسخر من الذي ينطلق من منهجيات محدّدة يكرّرها دائماً، ويحفظها عن ظهر قلب، فيرى أن النصّ أو الخطاب متعدّد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة.. كما أن (ديريدا) يرفض أن تكون له منهجية محدّدة ؛حيث لا يوجد المعنى أصلاً ما دام مقوّضاً ومفكّكاً ومشتّتاّ، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها، كما يقول جاك ديريدا.
-      ما فوق الحقيقة: تنكر فلسفات ما بعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة.. فـ(نيتشه)، مثلاً، ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة، وأوهامها. و(جان بودريار)، الفيلسوف الفرنسي، ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهماً وخداعاً، كما يربط الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.
ومن ثمّ، فقد أدلى (جان بودريار) بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، وما فوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند (فرديناند دوسوسير)، حيث أنكر - كجاك ديريدا- وجود معنى واضح، بل قال بالمعنى المغيّب، حيث لا يمكن لأحد أن يعيش أيّ تجربة، وأصبح للعبث لهجة واضحة؛ تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو القائل إنّ حرب الخليج لم تكن حقيقية، بل كانت حدثاً إعلامياً، إنها حرب دون أعراض الحرب. وهذا ما قاد العديدين للشك في أن (بودريار) نفسه قد ابتعد إلى ما فوق الحقيقة، ولم يعد يسكن جسداً دنيوياً.
وعليه، فقد دفعه مفهوم ما فوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية.. وكما سبقت الإشارة إليه، وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصاً في ذلك النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميّز عن العالم الحقيقي.
ونستدعي أيضاً من رواد فلسفة ما بعد الحداثة: المفكر الفرنسي (جان ليوتار)، الذي أنكر الحقيقة (مثل نيتشه)، فالمعرفة برأيه لا يمكنها أن تقدّم الحقيقة؛ لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة، التي هي دائماً ذات صلة بسياقات محددة.
وأهمّ مايطرحه (جان فرانسوا ليوتار)، في إطار ما بعد الحداثة، هو التحرّر من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة.
ويعدّ (جاك ديريدا) كذلك من أهمّ فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث اهتمّ بتفكيك الثقافة الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشـريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة. ومن ثمّ، فقد ثار (دريدا) على مجموعة من المقولات البنيوية؛ كالمدلول، والصوت، والنظام، والبنية، وغيرها من المفاهيم، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. كما أن (دريدا) ينكر القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمّها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب، وذلك عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم، لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.
هذا، وقد انتقد (جاك دريدا) الميتافيزيقا الغربية، التي تمثّل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثمّ، قوّض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل: الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول، والظاهرة، والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والواقعية، والحقيقة، واليقين.
هذا، ويعدّ (ميشيل فوكو) - كذلك - من رواد ما بعد الحداثة ، وقد اهتمّ كثيراً بمفهوم الخطاب والسلطة والقوّة، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوّة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف في عصر ما تشكّل خطاباً يتضمّن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكّل قوّته وسلطته الحقيقية. هذا، ولقد اهتم (فوكو) كثيرا بتحليل الخطاب، ورفض التقيّد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكرّرة، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنصّ منفتح ومتعدّد، لا يمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن (فوكو) يؤمن بتعدّد القراءات واختلافها من قارئ إلى آخر.
ومن جهة أخرى، اهتم (جيل دولوز) بالتعدّدية والانفتاح على الآخر، إدراكاً وتفاعلاً، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية. ومن ثم، فقد انتقد الهويّة، وفلسفة الواحد، والتطابق.
بيد أن من أهمّ سلبيات ما بعد الحداثة، اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدّم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصوّرات ما بعد الحداثة واقعياً، لغرابتها وشذوذها. وبذلك، استهلكت ما بعد الحداثة قدرتها الاستراتيجية الفعالة في إبراز التحيّزات المجحفة، دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيّزات، والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثيرين إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية، التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لا غرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة مجال العلوم الإنسانية حديثاً جداً، وحتى هذا الدخول لم يتّسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية، وغيرها من مشارب الحياة اليومية، التي لا يترّتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمسّ حياة الإنسان مباشرة. ولعلّ المفارقة القارّة التي تجعلها عاجزة، هي معاداتها للثنائية الضدّية، إذ إن التضادّ أساس المعرفة، وأساس التحيّز، وبدون التضاد لا يمكن معرفة ما إذا كان توجّه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع ما بعد الحداثة عن الهامش، جعلها تتقمّص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغيّر من الواقع شيئا. وككل هامشـي، أصبحت ما بعد الحداثة تتمنّى أن يتحقّق الوئام فجأة، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيّز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت، أو ما بعد حداثية.
ويلاحظ أن نظرية مابعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها؛ نظراً لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول (دافيد كارتر): "وقد اجتذبت ما بعد الحداثة نقداً إيجابياً وسلبياً، على حدّ سواء. فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوّة محرّرة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوّض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن حقبة ما بعد الحداثة تعتبر أيضاً أنها تقوّض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة. وبالنسبة للكثيرين تعدّ غير مؤثّرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية.
إلى هذا الحدّ، نجد أن ما يهمّ الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف، بدلاً عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق