01‏/10‏/2023

نقض مزاعم وشُبهات إلحادية

 خالد كبير علال/ المغرب 

أولا:  زعم الملاحدة بأن عبء الإثبات يقع على المؤمنين لا الملحدين.

ثانيا: زعم الملاحدة بأن إيمانهم بالمادية يؤيد الإلحاد.

ثالثا : زعم الملاحدة بأن وجود الشر يُشكك في وجود الله.

رابعا : زعم الملاحدة بأن العلم يدحض الدين ويؤيد الإلحاد.

خامسا : اعتراضات إلحادية.

سادسا : زعم الملاحدة بأن المؤمنين يعتقدون بإله الفجوات.

سابعا : أسباب الإلحاد في الله.

  أثبتنا فيما سبق أن الإلحاد قام في أصله الأول على نتيجة كاذبة من مقدمة صحيحة، لأن الملاحدة تعمدوا إنكارها كفراً بالله وجحوداً له ؛ فلا شك أن كل أصول الإلحاد الأخرى ستكون كذباً وتحريفاً، غشاً وتزويراً. ولن يكون عند الملاحدة، في انتصارهم لإلحادهم، إلا المزاعم والشبهات، والأكاذيب والأباطيل، من جهة؛ ولن يكون عندهم أصل واحد صحيح، من جهة أخرى. وسأذكر منها شواهد كثيرة ومتنوعة تُثبت صحة قولي في الإلحاد وأصوله وأتباعه، وأن العلم يدعو إلى الإيمان، فهو مؤمن، وأن الإلحاد يدعو إلى إنكار وجود الله، فهو كافر بالعلم والمنطق والوحي.

  أولاً:  زعم الملاحدة بأن عبء الإثبات يقع على المؤمنين لا الملحدين:

      يزعم الملاحدة أن عبء الإثبات يقع على عاتق المؤمن لا على عاتق الملحد([1]). فالمؤمن - حسب زعمهم - هو المطالب بتحمل عبء إثبات ما يؤمن به، ولا يتحمل الملحد عبء إثبات إلحاده!!

  أقول: ذلك زعم باطل ومضحك، وفيه غش وخداع، وكذب وتغليط، واعتراف خفي بعجزهم، لأنه أولاً: ذلك الزعم باطل، لأمر قطعي هو أن كلاً من المؤمن والملحد يُثبت موقفه، وينفي الموقف الآخر، فكل منهما ينفي ويُثبت. وهذا يستلزم حتماً أن الطرفين عليهما إثبات ما يعتقدانه، ونفي ما لا يعتقدانه. لأن الملحد يؤمن بالإلحاد، فهو مطالب بالإثبات، ونفي الموقف الآخر، والمؤمن يؤمن بالله، فهو مطالب بإثبات وجوده، ونفي موقف الإلحاد. فلا يصح عقلاً ولا علماً أن يقال بأن الإثبات يقع على طرف واحد، لأن كل طرف يثبت عقيدته. ومع أن هذا أمر طبيعي وعادي ولا حرج فيه ولا يصح التهرب منه، فإن قول الملاحدة بذلك الزعم هو من تحريفاتهم ومغالطاتهم، ويشهد عليهم بالضعف والتهرب والإفلاس.

   لا يصح القول بأن المؤمن هو المطالب بالإثبات أولاً ولا المُلحد، وإنما الصحيح هو أن المتكلم الأول هو المطالب بالإثبات، فإن تكلم الملحد أولاً، فعليه إثبات زعمه بعدم وجود الله. وإن كان المؤمن هو الأول، فهو المُطالب بالإثبات أولاً.

  ثانياً: يجب الانتباه إلى أن قول الملاحدة بحكاية عبء الإثبات، التي يقول بها الملاحدة، هو فعلاً عبء بالنسبة لمن يحاول إن يثبت الإلحاد.. فهو عبء ثقيل حقاً وجداً، لأنه يحاول إثبات باطل، وهذا باطل ولن يستطيع إثباته. لكن بالنسبة للمؤمن، لا يوجد عبء عليه ليُثبت وجود الله، فبسهولة وقطعية يثبت وجود الله تعالى. فيقول مثلاً: أنا مخلوق، فالله خلقني. الكون مخلوق، فلا بد له من خالق. والكون مُنظم ومُحكم ومُتقن، فلا بد له من خالق جعله كذلك. لكن الملحد لن يستطيع أن يستدل على إلحاده بتلك القوة والسهولة التي يُثبت بها المؤمن وجود الله. فلن يثبت إلحاده إن قال: أنا مخلوق، فأنا خلقتُ نفسـي ولم يخلقني الله!! والكون مخلوق، فليس له خالق!! والكون مضبوط ومُحكم ومُتقن، فليس له خالق!! علماً بأن استدلال المؤمن علمي منطقي شرعي، لكن استدلال الملحد وهمي ظني خرافي. ويُمكن القول أيضاً إن استدلال المؤمن غيبي علمي، كما هو حال التاريخ الطبيعي للأرض مثلاً؛ لكن استدلال الملحد غيبي وهمي خرافي. فانظر إلى بطلان استدلاله، وهو استدلال يثير الضحك والسخرية. وليس عند الملحد ولا دليل واحد صحيح يثبت به عدم وجود الله. فاستدلاله عبء وحمل ثقيل جداً على نفسه وعقله وبدنه، ولن يستطيع الإتيان بدليل واحد صحيح. وهذا خلاف المؤمن، فإن إثباته لله - بما أنه سهل - فقد أورثه صدقاً وصحة، وحلاوة وثباتاً واطمئناناً واتزاناً في عقله ونفسه وجسده، من جهة؛ وهو سهل لأنه حق يُثبت حقاً، من جهة أخرى.

    لذلك، لما أحس الملاحدة بثقل ذلك العبء عليهم، وعَلِموا به، أصبحوا يتهربون من الاستدلال على عدم وجود الله، وحاولوا إشغال المؤمنين ومطالبتهم بالاستدلال، واكتفوا بالسماع والنفي والتهرب وممارسة التحريف والتغليط، مهما كانت أدلة المؤمنين قوية بل وقطعية. فموقفهم هذا هو دليل دامغ على إفلاسهم وبطلان إلحادهم. ولذلك من الأحسن مطالبتهم بالإثبات أولاً، لإظهار إفلاسهم وضعفهم وبطلان مزاعمهم، وإضحاك الناس عليهم!!

ثانياً: زعم الملاحدة بأن إيمانهم بالمادية يؤيد الإلحاد:

    ينتسب الملاحدة إلى المادة - وهي الطبيعة، بكل ما فيها من مخلوقات (أشياء) - وتَسَمّوا بالماديين. وزعموا أن المادة تدل على الإلحاد لا على الله، بدعوى أنها عمياء ولا روح فيها ولا وعي ولا عقل، وكل ما يظهر من ذلك هو انعكاس للمادة. وانطلاقاً من ذلك قالوا: لا إله، والحياة مادة([2]). وهنا لا أناقشهم في موضوع الروح والعقل، لأن وجودهما هو أمر قطعي الثبوت، وقد أثبته فيما سبق، وإنما أناقشهم في المادة نفسها، وسأثبت فساد وزيف انتسابهم إليها، واعتمادهم عليها، في إلحادهم، وطعنهم في وجود الله تعالى بدعوى المادة. وسيتبين أن المادية مؤمنة وتتبرأ منهم، ولا يحق لهم الانتساب إليها، ولا التسمي بها.

  1- : لا يصح، ولا يحق للملاحدة - عقلاً ، ولا علماً، ولا شرعاً - أن ينتسبوا إلى المادة، ولا أن يتسمّوا بها، من جهة؛ ويجب عدم التسليم لهم بذلك، من جهة أخرى. لأن هذا الكون المادي مخلوق بعد عدم، وليس أزلياً - كما بيّناه في بحوث سابقة-، وهذا يعني قطعاً أن خالقاً خلقه. وباختصار: الكون مخلوق، فلا بد له من خالق، فنحن هنا أمام نتيجة منطقية صادقة، وصحيحة بالضـرورة، فعندنا مقدمة صحيحة ونتيجة صادقة. فالمادة لها خالق، فهي مؤمنة. لكن الملحد إذا قال: الكون المادي مخلوق، فليس له خالق، تكون النتيجة كاذبة، وجاحدة للحقيقة التي تضمنتها المقدمة. وهنا تكون المقدمة صحيحة، لأن الكون مخلوق، ونتيجتها كاذبة، لأنها أنكرت ونفت النتيجة الضـرورية التي تعني أن المادة لها خالق خلقها. وهنا تكون المادة مؤمنة، والملحد كافر، لأنه تعمد تحريف النتيجة التي تضمنتها المقدمة الصحيحة. 

2- : بما أن الملاحدة انتسبوا إلى المادة، وتسموا بها، بالكذب والتحريف، وإنكار الحقيقة عن عمد؛ فإن المادة مؤمنة وليست ملحدة. وموقف الملاحدة من المادة ليس صحيحاً عقلاً، ولا علماً، ولا شـرعاً، ولا يحق ولا يصح لهم الانتساب إليها، والتسمي بالماديين، والمادة بريئة منهم من دون شك!!  وموقفهم منها هو من التحريف والتغليط، ويشهد عليهم بالعجز والإفلاس المنطقي والعلمي في تعليل إلحادهم!! فتعلقوا بأكبر دليل على وجود الله  - هو الكون - وانتسبوا إليه زوراً وبهتاناً، وجعلوه مُستندهم في إلحادهم وكفرهم بخالقهم!! وموقفهم هذا باطل قطعاً، لأن الكون يشهد بنفسه بأن له خالقاً، ولا يشهد بخلاف ذلك، لكن الملاحدة استدلوا بالمخلوق على عدم وجود الخالق، وهذا مستحيل!! يقول: الطبيب الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل في الطِّب لعام 1967م، (جورج والد): الإله الذي أوجد العالم - سمّاه عقلاً - كان "موجودًا دائمًا كأصل ومصدر وحالة للواقع الفيزيائي، وأنَّ​​ المادَّة التي تَشكَّل بها الواقع الفيزيائي هي​​ نِتاج​​ عقل. هذا هو العقل الذي كوَّن الكون الفيزيائي،​​ والذي بدوره ولَّد الحياة، وفي نهاية المطاف، أدَّت إلى ظُهُور كائنات قادرة على إيجاد العُلُوم​​ والفنّ​​ والتكنولوجيا"([3]).  

     ويجب أن لا يغيب عنا أن الإلحاد الذي قام في أصله الأول على الكذب والتحريف ونفي الحقيقة، لا يُمكن أن يكون عنده ولا دليل واحد صحيح يُؤيده، من جهة؛ ويستحيل أن يكون الكون دليلاً على عدم وجود الله، من جهة أخرى. فأين أدلتكم أيها الملاحدة، لا المادة معكم، ولا العقل، ولا الروح؟!! لن تجدوا ولا دليلاً واحداً صحيحاً يؤيدكم، لأن الإلحاد ليس حقيقة، وإنما هو كذب وتحريف وإنكار للحقيقة!!

      ومن أباطيل الملاحدة في انتسابهم للمادة، وتسميهم بها، ومع علمهم بأنها مخلوقة، من جهة ؛ فإنهم - من جهة أخرى - يُؤلهونها، فينسبون إليها أفعالاً وكأنها إله. يقول  الملحد (ريتشارد دوكينز): "إن الطبيعة ليست شريرة، لكنها للأسف غير مبالية، وهذا من أصعب الدروس التي ينبغي أن يستوعبها الإنسان، فمن الصعب علينا الإقرار بأن كل الأمور ليست خيرة أو شريرة، ليست رحيمة أو شرسة، إنها لا مبالية بكل آلام الإنسان، إذ ليس لدى الطبيعة أي هدف"([4]). إن الأمر ليس كذلك، وهو من تخبطات وضلالات الملاحدة، لأن الكون مخلوق فلا بد له من خالق، من جهة؛ ولا يصح الاستدلال بالمخلوق على عدم وجود الخالق، ولا تأليه المخلوق، من جهة أخرى!! 

ثالثاً: زعم الملاحدة بأن وجود الشر يُشكك في وجود الله:

   يزعم الملاحدة أن وجود الشـر في العالَم يُشكك في وجود الله، ويطعن في حكمته([5]). وبعضهم جعله دليلاً قوياً على إلحادهم ضد الإيمان بالله، حتى أنه قال: إذا كان الله موجوداً، فلماذا الشـر؟؟!!([6]). ووصفه بعضهم بأنه من أقوى أدلة الإلحاد ضد الإيمان([7]).

   1- : هل حقاً أن وجود الشـر في حياة الإنسان يدل أو يُشكك في وجود الله تعالى، كما يدعي الملاحدة؟! إن الأمر ليس كذلك، فبما أن الشـر الطبيعي والبشـري جزء من الكون، والكون مخلوق وليس أزلياً، ولا بد له من خالق خلقه؛ فلا يُمكن أن يكون الشـر دليلاً على عدم وجود الله، ولا أن يُشكك في وجوده. ويستحيل أن يكون المخلوق دليلاً على عدم وجود خالقه!! فزعم الملاحدة باطل من أساسه، كحال إلحادهم الذي أقاموه على الكذب والتحريف ونفي الحقيقة عن عمدٍ.

    والصحيح هو أن وجود الشـر، بنوعيه، في حياة الإنسان، هو دليل على وجود الله، وليس العكس. فكيف ذلك؟! هو كذلك، لأن الشـر جزء من الكون، والكون أكبر دليل على وجود الله، فالشـر دليل على وجود الله بالضرورة، وليس دليلاً على عدم وجوده.

    والشـر، من جهة أخرى، هو ضروري لحياة البشر، ولا تستقيم حياتهم إلا به!!، وهو على نوعين: الأول، شـر طبيعي لا دخل للإنسان فيه؛ كالأضـرار التي تلحقه به الأمطار والفيضانات والزلازل، إلى جانب الخيرات الكثيرة التي تُحدثها أيضاً. وهذا الشـر الطبيعي ضـروري، بحكم أنه جزء من هذا الكون المخلوق المُحكَم المُتقَن الدقيق، كما بيّناه سابقاً، ولا تستقيم حياة الإنسان بدونه، إلى جانب الخيرات الكثيرة التي يزخر بها الكون. وبما أن الكون مخلوق، والشـر جزء منه، فلا شك أن الله تعالى خلقه لفوائد وحِكَم كثيرة؛ نعرف بعضها، ونجهل بعضها الآخر .

    والنوع الثاني من الشـر يتعلق بالإنسان، وبما أن الإنسان مفطور على الخير والشـر في طبيعته وأفعاله، ليبتليه الله عندما حمله الأمانة، كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشـَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّـِرِ الصَّابِرِينَ}(البقرة:155)، و{وَنَبْلُوكُمْ بِالشّـَرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35)، فوجود الشر في حياة الإنسان ضـروري. لكن منه شـر ينتج بسبب فساد الإنسان وظلمه لنفسه ولبني آدم، وهذا شر مذموم، يتحمل الإنسان الظالم وزره. ومنه الإلحاد، فهو من أكبر الشـرور التي أصابت الإنسان ودمرته، بدليل أنه يقوم على الكذب والتحريف، ومخالفة العقل والعلم والشـرع، كما بيناه سابقاً. فالإلحاد ليس أخلاقياً، ولا يُمكن أن يكون كذلك، وقد أفسد أخلاق أتباعه، وجعلهم ميكيافليين الغاية عندهم تُبرر الوسيلة!!

    ومنه شـر هو عدل، وفيه خير، يوجد عندما يُعاقِب به الإنسان العادل المجرمين والأشرار، ويرد به الحقوق لأصحابها. ومنه شـر هو من فعل الله، يختبر به عباده في إيمانهم، ويُعاقب به بعضهم، ليُرجعهم إلى الطريق المستقيم. لكن ليس في أفعال الله تعالى ظلم أبداً، وكلها لا تخرج عن العدل، والرحمة، والحكمة، ولا يُمكن أن يوجد فيها ظلم لعباده. قال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الكهف:49)، و{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(فصلت:46). وكل الشرور التي تحدث في الكون، وغيرها من حوادث الكون، تندرج ضمن التقدير الإلهي المعروف بالقضاء والقدر، قدره عن كمال وقدرة  وحكمة، من جهة؛ وكل ما فيه لا يخرج عن العدل، والحكمة، والرحمة، وليس فيه ظلم ولا عبث، من جهة أخرى.

    علماً بأنه يجب أن لا يغيب عنا، أن الشيء يُعرف بضده، فبالشـر تُعرف قيمة الخير، وبالخير يُعرف خطر الشر. وعليه، فالشـر ليس في وجود الشـر، وإنما هو في وضع الشـر والخير في غير موضعهما الصحيح. والخير هو وضع الخير والشر في مكانهما الصحيح. وعليه، فمن يحتج بالشـر على إلحاده فهو جاهل أو صاحب هوى. ولا يُمكن أن يكون وجود الشر في الأرض دليلاً على عدم وجود الله. ولا يصح للملحد أن يحتج بوجود الشـر لتأييد إلحاده. بل إن وجود الشر هو من أدلة وجود الله تعالى، كما بيناه آنفاً.   

  2- : من مغالطات الملاحدة المتعلقة بوجود الشـر في حياة الإنسان، أن عالم الأحياء الملحد الأمريكي (جيري كوين) وضع في مدونته صورة منذ سنوات لطفل صغير كان في سرير بالمستشفى يعالج من سرطان الدم. بدا الطفل مريضاً جداً، وتحت الصورة كتب: (إذا كان الله موجودًا، فكيف يمكن أن يحدث هذا؟) . فرد عليه الجراح (مايكل إجنور) بقوله: (إذا لم يكن الله موجودًا، فلماذا تهتم؟).

   أقول: ذلك الفعل هو من مغالطات الملاحدة، وجهلهم ، وفساد منطقهم، لأن الجواب موجود عند المؤمنين بالله، فلماذا لا يطلبونه منهم. كما أن قوله هو شاهد على جهله وتغليطه وتحريفه، لأن الله تعالى أخبرنا أنه خلقنا وحمّلنا أمانة العبادة وعمارة الأرض، وأنه يبتلينا بالخير والشـر، فاعتراضه زائف وحاقد، وليس منطقياً، وإنما هو اعتراض إلحادي باطل من أساسه.

    كما أن موت الصغير والكبير بالأمراض ليس أمراً مستهجناً، وله جوابه الواضح في الدين. وقد يكون سبب مرضه فعل بشـري؛ كتناول الغذاء غير الصحي، أو مرض وراثي بسبب والديه أو أحدهما، وقد يكون موته خيراً له ولوالديه ولمجتمعه. كما أن الأعمار بيد الله، فهو الذي يحددها، فيموت الصغير والكبير، والصحيح والمريض، ويعتبر بها الأحياء. وقد يستفيد من وفاته الطب والأطباء أنفسهم، من خلال تجربتهم في علاجه. وفي كل الحالات إن موته ليس شـراً ولا عيباً، بل هو من سنن الكون، ولا يُمكن أن يكون دليلاً لصالح الإلحاد وضد الإيمان.

      وتجب الإشارة هنا إلى أنه يوجد غلو في تعظيم أمر وجود الشـر في الكون، والمبالغة في الاهتمام به، من جهة الملاحدة والمؤمنين معاً. حتى أن الملاحدة يعتمدون عليه كثيراً في إلحادهم كدليل قوي على إلحادهم ضد الإيمان بالله، وكأن الأمر كما يزعمون. حتى أن بعضهم قال: "الحُجّة المركزية للإلحاد هي حجة الشر" ، ووصف حجة الشـر بأنها (صخرة الإلحاد)([8]). لكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً، وهي أن وجود الشـر في العالَم هو دليل على وجود الله، وليس دليلاً على عدم وجوده، كما بيناه سابقاً. وعليه، فيجب عدم مسايرة غلو الملاحدة في اعتمادهم على الشـر كدليل على الإلحاد ضد الإيمان، من جهة؛ وبيان أن وجود الشـر في الكون هو دليل قطعي على وجود الله وبطلان الإلحاد، من جهة أخرى!! لكن الملاحدة لما كانوا مُفلسين وليس عندهم دليل واحد صحيح يؤيد إلحادهم، ضخموا وجود الشـر، وغالطوا به كثيراً من المؤمنين بالله، مع أن الأمر ليس كذلك، ويجب عدم مسايرتهم في ذلك. ولا يُمكن أن يكون وجود الشـر دليلاً على عدم وجود الله، وإنما هو دليل قطعي على وجود الله وبطلان الإلحاد، كما بيناه أعلاه.

    وبذلك يتبين قطعاً أن وجود الشـر في العالَم هو دليل قطعي على وجود الله، وليس دليلاً على عدم وجوده، كما زعم الملاحدة. ووجود الشـر هو أمر عادي وطبيعي، بل وضروري في حياة الإنسان، ولا تستقيم حياته إلا به، إلى جانب الخيرات الكثيرة التي هي أكثر من الشر الموجود في الكون. فوجود الشـر في الكون هو دليل ينقض الإلحاد، من جهة؛ ويتفق تماماً مع ما ذكره الدين عن غاية وجود الشر في حياة الإنسان، من جهة أخرى.

 

رابعاً: زعم الملاحدة بأن العلم يدحض الدين ويؤيد الإلحاد:

    يزعم الملاحدة أن العلم يدحض الدين ويؤيد الإلحاد، وهذا زعم باطل قطعاً، لأنه أولاً، فقد أثبتُ - في كتابي - أن العلم مؤمن ويدعو إلى الإيمان، وأن الإلحاد يرفض العلم ويكفر به عندما يخالفه. فالعلم لا يُمكن أن يؤيد الإلحاد، وإنما يدحضه بأصوله وفروعه، وسيتأكد هذا أكثر من مزاعم الملاحدة التي سترد في هذا المبحث. 

     علماً بأن الدين، في أصوله الأساسية، كقوله بخلق الكون ونهايته، ودعوته إلى الإيمان بالله، وتحريم الظلم، والتحلي بالأخلاق الحسنة، يتفق تماماً مع العلم، والعلم نفسه يتطابق مع الدين في تلك الأصول. وبذلك أيد العلم المعاصر الدين تأييداً مؤزراً، ودمر الإلحاد تدميراً. لكنه من جهة أخرى، فإن تطابق العلم مع الدين في تلك الأصول لا يعني أنه يتطابق مع كل الأديان في كل أصولها وفروعها، وإنما وافقها في أصولها الصحيحة، وخالفها فيما لم يصح منها. لكنه يتفق اتفاقاً تاماً مع الدين الحق بقواعده وفروعه، وهو دين الإسلام. فالعلم هادم للإلحاد بأركانه وفروعه، ولا يُمكن أن يكون مؤيداً له، لأن الإلحاد ليس عنده ولا أصل واحد صحيح، من جهة؛ لكن العلم - من جهة أخرى - قد وافق الأديان في أصولها الصحيحة، وناقضها في أصولها وفروعه الباطلة، واتفق مع الدين الصحيح منها في أصوله وفروعه كلها.

    وأما مزاعم الملاحدة المتعلقة بالعلم والدين والإلحاد، فمنها الشواهد الآتية:

 أولها، ادّعى أحد الملاحدة أن الدين يحفّزه الخوف، في حين أن العلم مدفوع بالحقيقة ([9]).

     أقول: قوله فيه حق وباطل، والصواب هو أن الدين الحق يأمر بالبحث عن الحقائق؛ أكبرها وجود الله تعالى، ويحرك الناس بدافعي الخوف والرجاء، وليس الخوف فقط، وهذا أمر طبيعي وضروري لحياة الإنسان، ولا تستقيم الحياة بدونهما، فلا عيب في ذلك. والعلم هو أيضاً يبحث عن الحقائق، وأكبر حقيقة أثبتها العلم هو وجود الله تعالى، كما أن العلم يتحرك ويبحث بدافعي الخوف والرجاء، ولا يُمكن أن يتطور بدونهما. فالعلماء يحدوهم الرجاء في أبحاثهم، ويتخوفون من عدم تحقق ما يبحثون عنه، ولو فقد العلم الخوف والرجاء لتوقف. والإلحاد ليس مدفوعاً بالحقيقة، وإنما هو مدفوع بالكذب والتحريف، لأنه يقوم عليهما لا على الحقيقة. والإلحاد هو أيضاً يقوم على الخوف والرجاء، فأتباعه يخافون من الدين والعلم في دعوتهما إلى الإيمان بالله، ويرجون أن لا يتحقق لهما ذلك، لكي لا يُدحضا إلحادهم فيسقط، وينهارون معه!!.

        الزعم الثاني: يدعي أحد الملاحدة أن مما يدحض الاحتجاج بالوحي على وجود الله، هو أن الكتب المقدسة؛ ككتاب الهندوسية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، ليست متسقة فيما تقوله عن الله، ووصفِها له، من جهة؛ وأنها احتوت على تناقضات واضحة فيما بينها، وفي الكتاب الواحد، وبينها وبين الحقائق العلمية المعروفة، من جهة أخرى([10]). و"تَخلُص حجة (الاستقراء التاريخي) إلى أنه نظراً لأن معظم الديانات الألوهية عبر التاريخ - مثل الديانة المصرية القديمة، والديانة اليونانية القديمة وآلهتها، أصبحت في نهاية المطاف ينظر إليها على أنها خاطئة أو غير صحيحة، فإن جميع الديانات الألوهية، بما في ذلك الديانات المعاصرة، هي على الأرجح - خاطئة/ غير صحيحة - عن طريق الاستقراء"([11]).   

   أقول: إن وجود الوحي الإلهي الصحيح عند الناس هو دليل قطعي بأن الله له وجود وليس وهماً، كما يدعي الإلحاد وأهله. كما أن إثبات العلم بأن الكون ليس أزلياً، وإنما هو مخلوق بعد عدم، وستكون له نهاية، فإن هذا يعني أن وجود الوحي الإلهي بين البشـر طبيعي جداً، بل ومطلوب بقوة، لأنه لا يُعقل أن يخلق الله تعالى الكون، ولا يتصل بالإنسان، لكي يُعرّفه بخالقه، والغاية من خلقه، ومصيره الذي ينتظره، والدين الذي يتعبد به لخالقه. فوجود الوحي الإلهي عند البشـر، دليل يُثبت وجود الله وينقض الإلحاد بلا شك.  

    ولذلك، نجد أن مما يستدل به الملاحدة في كفرهم بالله، كما ورد في قولهم السابق، أنهم يذكرون اختلافات الأديان فيما بينها، من جهة العقائد والتشـريعات، ووجود أباطيل ومُستحيلات، وأخطاء علمية في كل كتبها المقدسة تقريباً. لكنهم - من جهة أخرى - لا يهتمون بالبحث عن وجود الوحي الإلهي من بين تلك الأديان، ولا أن يبحثوا عن السبب الصحيح لاختلاف تلك الأديان، ووجود الدين الحق بينها. لا يفعلون ذلك لأنهم يعلمون أن تلك الأديان لها أصل صحيح يجمعها، وأن الدين الحق موجود بينها، وجوده يُثبت وجود الله وينقض الإلحاد.

     ولذلك وجدنا هؤلاء الملاحدة يتعلقون بتناقضات تلك الأديان وأخطائها، دون البحث عن أسبابها، ولا البحث عن الدين الحق من بينها، ويحكمون عليها كلها بعدم الصحة، ثم الاستدلال بها على صحة إلحادهم وإنكارهم لوجود الله. وهذا السلوك هو من أباطيلهم وتحريفاتهم، ولو كانوا محايدين ونزهاء ما فعلوا ذلك.

     وحتى لو فرضنا جدلاً أن كل الأديان باطلة، فلا يُمكن أن يكون ذلك دليلاً على عدم وجود الله، وإنما يعني أن تلك الأديان، بكتبها المقدسة، ليست صحيحة، اختلقها أصحابها حسب أهوائهم، ولا تعني أبداً عدم وجود الله. لأنه لا توجد علاقة حتمية بين بطلان تلك الأديان وعدم وجود الله؛ لأنه من الممكن أن دين الله تعالى قد تعرض للتحريف، واختلط بالأديان الباطلة، أو أننا نعيش في فترة توقف فيها الوحي الإلهي لقرون ثم يعود، أو أن الله تعالى أوقف وحيه نهائياً بسبب ظلم الإنسان وتحريفه للكتب التي جاءت بها الرُسل، وتركه يتخبط ينتظر مصيره.

   ومن مغالطات معظم الملاحدة وتحريفاتهم في دراساتهم للأديان، أنهم يُعممون حكمهم على كل الأديان بعدم الصحة، انطلاقاً من الأديان الظاهرة البطلان، والمملوءة بالمستحيلات والأخطاء العلمية، كما هو حال الكتاب المقدس، والأفستا الزرادشتي، وغيرهما. ومسلكهم هذا ليس علمياً، لأنه لكي نصل إلى حقيقة تلك الأديان يجب عرضها على ثلاثة احتمالات: أولها، تلك الأديان كلها صحيحة، وهذا لا يصح، لأن تلك الأديان متناقضة فيما بينها؛ في عقائدها، وتشريعاتها، ومفاهيمها، ومعطياتها الكونية.

  الاحتمال الثاني: تلك الأديان كلها باطلة، وهذا مُمكن. الاحتمال الأخير- الثالث- تلك الأديان كلها باطلة، إلا دين واحد منها فقط صحيح، وهذا أيضاً مُمكن. وللتحقق من الاحتمالين الثاني والثالث يكفي التحقق من أحدهما ليظهر الاحتمال الصحيح. وبالنظر في الاحتمالين بحياد ونزاهة، سيتبين قطعاً أن الاحتمال الثالث هو الصحيح، ويعني أن دين الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح من بين كل أديان البشـر الموجودة اليوم على وجه الأرض. وقولي هذا ليس رغبة ولا تعصباً بالباطل لدين الإسلام، وإنما هو موقف علمي مُحايد، أقمتُه على منهج علمي صارم طبقته في دراستي للأديان الموجودة اليوم على الأرض، وقد ألفتُ في ذلك كتباً([12])، تبين منها أن الإسلام هو  آخر رسالات السماء التي نزلت إلى الأرض، جاء بها خاتم الأنبياء النبي العربي الأمي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، كتابه القرآن الكريم، وهو كتاب مُعجز تحدى الله به الإنس والجن منذ نحو 15 قرناً، فلم يستطع منهما أحد الرد على تحديه إلى اليوم. وهذا أغرب تحدٍ في العالم، فلا يوجد كتاب في الأرض تحدى الإنس والجن على الإتيان بمثله إلا القرآن الكريم. وهو معجز بنظمه ولغته، وبتشريعاته ومفاهيمه، وبإعجازه التاريخي والعلمي والرقمي. وليس هنا موضع تفصيل ذلك، وقد أُلفت كُتب كثيرة جداً عن مظاهر إعجاز القرآن الكريم، وتخصص فيه علماء كثيرون، وأقاموا له معاهد ومراكز علمية تفرّغت لدراسة مختلف أشكال إعجاز القرآن الكريم.  

    الزعم الثالث : زعم أحد الملاحدة أن النظريات العلمية غير الخارقة للطبيعة-  تكفي لتفسير تاريخ الأديان بشكل كافٍ، دون الحاجة إلى العوامل الخارقة للطبيعة، ولا لزوم لها، ويُمكن رفضها([13]).

  أقول: لا تناقض بين قوانين الطبيعة الجارية، وقوانينها الخارقة، وكل منهما له مجاله ودوره، وكلها خاضعة لإرادة الله تعالى. والقوانين الطبيعية لا تنفي القوانين الخارقة، وهي لا تنفي الجارية. وليس صحيحاً أن القوانين الخارقة لا لزوم لها، فقد أدت دورها قديماً، وظهرت في وقتها المناسب، وهي لا تتناقض مع قوانين الكون الطبيعية، ولا مع العلم، لأن الكون نفسه خُلق بطريقة خارقة، ولم يُخلق بطريقة طبيعية، كما بيناه في الفصل الأول من كتابنا (العلم مؤمن والإلحاد كافر). فالكون في أصله مخلوق من عدم بمعجزة خارقة، بقول الله: (كُن): {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشـَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل:40). فالأمر ليس كما زعم ذلك الملحد، وتناسى أن الإلحاد هو المخالف للعقل والعلم والوحي، والقائم على الكذب والتحريف، ورفض حقائق العلم. فالمعجزة الإلهية بعد التأكد من أنها وقعت حقاً، وليست من الأكاذيب- تتفق تماماً مع المنطق والعلم والوحي، لكن الإلحاد هو المناقض لها، فهو كذب وتحريف، وليس علماً. 

  الزعم الرابع: يعتقد بعض الملاحدة أن مما يُعد سببًا كافيًا لتبرير اعتناق الإلحاد هو حقيقة -  كما يزعمون- "أننا لم نعد في حاجة إلى الله لتفسير الظواهر الطبيعية، مثل البرق والرعد، فلدينا الآن العلم"([14]).

  أقول: ذلك الزعم لا يقوله إلا جاهل أو صاحب هوى، لأن حاجة الإنسان إلى الله تعالى هي أمر لا شك فيه، ولا يُمكن أن تنتهي، ولا تتعلق بتفسير ظواهر الطبيعة فقط. فلا يُمكن أن نعلل خلق الكون تعليلاً علمياً وعقلانياً وشرعياً إلا بأن الله خلقه، خلقه وأحكمه بقوانين وسنن تسيّره لا تزول إلا بإذنه. وحاجة الإنسان إلى هذه الحقيقة لا تزول حتى ولو عرفنا كل قوانين الطبيعة. فلا بد للكون من خالق، ولا بد لتلك القوانين من خالق، فحاجة الإنسان إلى الله لا نهاية لها، ولا يُمكن أن تنتهي.

      ومن جهة أخرى، فإن من شواهد حاجة الإنسان إلى الله عز وجل الأبدية، أننا في حاجة دائمة إليه لمعرفة لماذا خُلقنا؟، وما هو مصيرنا؟، وبأي شريعة نعبده؟ ، وهذه المطالب لا يمكن معرفتها يقيناً إلا من عند الله. وأما زعم ذلك الملحد بأن رأيه يُبرر الإلحاد، فهو دليل باطل قطعاً، لأن الإلحاد ليس له أي مُبرر منطقي ولا علمي، وأصله يقوم على الكذب والتحريف وإنكار كبرى يقينيات الكون، وهي وجود الله تعالى.

   الزعم الخامس : من مزاعم الملاحدة المعاصرين أنهم روجوا بين الناس أن معظم العلماء ملاحدة([15]). هذا زعم باطل قطعاً، ولا يقوله إلا جاهل أو جاحد معاند. علماً بأن الحق لا يُعرف بقلة ولا بكثرة، وإنما يُعرف بالدليل الصحيح الذي يحمله فقط. فوجود الله لا تثبته أساساً كثرة ولا قلة، لأن أدلة وجوده هي أدلة علمية قطعية الثبوت والدلالة. وفي المقابل ليس عند الإلحاد ولا دليل واحد قطعي، ولا صحيح، ولا راجح، بل ولا حتى ضعيف، وإنما كل ما عنده من أدلة مزعومة هي أكاذيب وتحريفات، وأهواء وأوهام، بل ويستحيل ولا يُمكن أن يكون للإلحاد دليل واحد من تلك الأنواع. وسبب ذلك أن الإلحاد في أصله الأول، عندما علل خلق الكون، استنتج نتيجة باطلة من مقدمة صحيحة عندما قال: الكون مخلوق، فليس له خالق!!. وهو هنا قد كذب وحرّف، وأنكر حقيقة كبرى هي أن الكون المخلوق لا بد له من خالق، فأنكرها بالكذب والتحريف. فالإلحاد قام قطعاً على الكذب والتحريف، وسيتسع مجال كذبه وتحريفه، وغشه وخداعه، كلما اتسع نشاطه وانتشاره، وسيبقى كذلك ما بقي الإلحاد موجوداً. فالعلم مؤمن ويدعو إلى الإيمان، والإلحاد كافر يدعو إلى الكذب والتحريف، ويرفض المنطق والعلم والوحي.

   ومن الأدلة والمعطيات التي تثبت أن معظم العلماء والناس ليسوا بملاحدة، وإنما هم يؤمنون بالله، أن علماء مؤسسـي الجمعية البريطانية %90 منهم من المؤمنين بالله. ونجد "معظم كبار العلماء من مؤسسـي فيزياء الكم، والحاصلين على جوائز نوبل، كانوا من المؤلهة، وعلى رأسهم (أينشتاين)، و(ماكس بلانك)، و(هيزنبرغ)، و(شرودنجر)، و(بول ديراك). وكذلك أشهر الرواد من علماء المخ والأعصاب كانوا من المؤمنين، ومنهم: (روجر سبيري)، و(ويلدر بنفليد)، و(تشارلس نجتون)، و(جون إكلز)..."([16]).

     ومنها أيضا أن العلماء الذين تحصلوا على جائزة نوبل خلال 100 عام كان معظمهم يؤمنون بالله، وليس منهم إلا 15 من اللادينيين من الملاحدة واللاأدريين وأمثالهم([17]).

      وفي دراسة أجرتها مؤسسة (بي بي سي) سنة 2004م، في عشـر دول أوروبية "كانت نسبة الملاحدة 8%. وفي الولايات المتحدة أجرى (معهد غروب) عام 2005م دراسة أظهرت أن نسبة الملاحدة تبلغ 5%. وهناك دراسات عديدة أخرى أظهرت نتائج قريبة مما سبق"([18]). وأشار الفيلسوف الأمريكي المعاصر (وليام كريچ) إلى أن نسبة الملحدين في الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 2013م، كانت تتراواح ما بين: 2 3 % فقط([19]).

    ومنها أيضاً أقوال مهمة عن مدى انتشار الإيمان والإلحاد بين العلماء؛ الأولى لعالم الطبيعة الأمريكي (أندرو كونواي)، قال: "وفي أثناء الحديث الذي دار بيننا قال أحد رجال الأعمال: سمعتُ أن معظم المشتغلين بالعلوم ملحدون، فهل هذا صحيح؟، ثم نظر رجل الأعمال إليّ، فأجبته قائلاً: إنني لا أعتقد أن هذا القول صحيح. بل إنني على نقيض ذلك، وجدتُ في قراءاتي ومناقشاتي أن معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم، أو أساءوا فهمهم"([20]).

    والثانية للكيميائي (فِرتز)، الحاصل على جائزة نوبل، قال: "إنه من النادر جداً أن تجد عالماً في الفيزياء ملحداً"([21]). ومعنى كلامه أن علم الفيزياء علم مؤمن بالله وليس ملحداً، لأن الغالبية العظمى من المشتغلين به ليسوا ملاحدة، وإنما هم من المؤمنين بالله .

   وذكر الفيلسوف الأمريكي المعاصر (وليام كريچ) أن العلماء المؤمنين بالله -عز وجل- موجودون بكثرة وقوة في المجتمع العلمي، وأن منهم طائفة هم من أفاضل وكبار العلماء، منهم: (جورج چالاس - في جامعة كيب تاون - والذي وصفه لي أحد علماء فيزياء الكون - أو علم الفلك، بأنه أعلم رجل لا يزال حياً في الكوزمولوجيا على مستوى العالم، وهو مؤمن بوجود الخالق سبحانه. وأيضاً (كريستوفر آيشم)، وهو عالم بريطاني في علم الكونيات الكمي، تم وصفه على أنه القمة البريطانية في علم الكونيات الكمي، وهو مؤمن بالخالق. وعندنا أيضاً (آلان سانديچ)، من أعظم علماء الفلك، والذي توُفّيَ حديثاً، وهو مؤمن بوجود الله سبحانه. أيضاً (فرانسيس كولن)، الرأس في مشـروع الجينوم البشـري، وهو مؤمن بوجود الخالق أيضاً .. إلخ"([22]).

     وقال أيضاً: "إنك إذا نظرت إلى الدراسات العلمية حول معتقدات العلماء، ستكتشف أن إنكار وجود الخالق ليس نتيجة لعلمهم، بل لأنهم قد أتوْا إلى هذا الحقل - أعني حقل العلم - وهم أصلاً ملاحدة، قد كانوا ملاحدة من فترة المراهقة قبل أن يدخلوا حقل العلم ويصبحوا علماء. وهذه الحقيقة تم إظهارها بوضوح عن طريق سلسلة من المسوحات، قام بها أخصائي علم الاجتماع (إيلاين إكلاند) بين 2005 - 2008 تقول: إن أغلب الملاحدة من العلماء لم يصبحوا ملاحدة كنتيجة للعلوم التي اكتسبوها، بل كانت نتيجة الظروف المحيطة، مثل حصول بعض التجارب الحياتية السيئة لهم، أو أنهم لم يتربوا في بيت متدين، إلى غير ذلك"([23]).

    وقال الفيزيائي (جورج إير دافيز): "وليس معنى ذلك أننا ننكر وجود الإلحاد والملحدين بين المشتغلين بدراسة العلوم، إلا أنَّ الاعتقاد الشائع بأن الإلحاد منتشـر بين رجال العلوم أكثر من انتشاره بين غيرهم، لا يقوم على صحته دليل، بل إنَّه يتعارض مع ما نلاحظه فعلاً من شيوع الإيمان بين جمهرة المشتغلين بالعلوم"([24]).

   ولا شك أن تلك الإشاعة هي من أفعال الملاحدة، فهي تتفق مع دين الإلحاد القائم على الكذب والتحريف، وهو الذي أورث أتباعه أخلاقه السيئة، وجعلهم أكثر الناس كذباً وتحريفاً، وغشاً وخداعاً، وأكثرهم نفعية وانتهازية، تطبيقاً لمقولة: الغاية تبرر الوسيلة!

     الزعم السادس: قال أحد الملاحدة: "لا يمكن مقارنة العلم بالدين، فالعلم يختبر الفرضيات دوماً، وخاضع للتغيير عندما تتعارض الأرصاد مع الفرضيات، في حين الدين يعتبر افتراضاته مطلقة، ولا تخضع لأي اختبارات، الاعتقاد أن الكون يسري وفق قوانين عقلانية ليس إيمانًا، بل شيء تدعمه الأرصاد الكونية، وصحيحٌ أن العلماء يعتقدون بوجود هذه القوانين هكذا بدون تفسير مصدرها، لكن هذا يعني أن مصدرها غير معروف فقط، وربما نعرفه بعد ذلك"([25]).

     أقول: نعم، العلم يقوم على الفرضيات، والأديان تعتبر ما تقوله مطلقاً، لكن لا يصح التسليم لها بذلك، وإنما يجب اختبارها، كما تُختبر فرضيات العلم ونظرياته. والأديان لا يُمكن أن تكون كلها صحيحة، لأنها مختلفة ومتناقضة فيما بينها. ويجب اختبارها كلها ليتبين أمرها؛ أهي باطلة كلها أم يوجد من بينها دين واحد صحيح. ويُمكن اختبارها من مضامينها، فإذا وجدناها احتوت على معطيات خرافية، أو مناقضة للعقل، أو مخالفة للعلم، أو احتوت كل ذلك، فلا شك أنها باطلة ولا نسلم لها بما تدعيه. وأنا أعتقد جازماً، بدليل العلم والعقل والوحي، أن دين الإسلام هو دين الله تعالى، وهو الدين الحق الوحيد في العالَم. ومن أراد أن يختبره فليختبره بموضوعية وصدق وعقل وعلم. والإسلام قد تحدى الإنس والجن بالقرآن الكريم، فهو معجزة علمية قطعاً. ولذلك ووجدنا القرآن كما وصف نفسه بأنه كتاب مُحكم حكيم، وأمر بالإيمان به والتسليم له، كما أنه - من جهة أخرى - قد أمرنا بالتدبر فيه واختباره للتأكد من صدقه، بل وتحدى الإنس والجن بالإتيان بمثله إن استطاعوا، ولا يتم الرد على التحدي إلا بالنظر في القرآن وتدبره واختباره. من ذلك قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}(النساء:82)، و{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد:24)، و{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(ص:29).

     وليس صحيحاً أن العلماء "يعتقدون بوجود هذه القوانين هكذا بدون تفسير مصدرها، لكن هذا يعني أن مصدرها غير معروف فقط، وربما نعرفه بعد ذلك"، لأن المؤمنين منهم يعلمون بدليل العلم أن الكون؛ بقوانينه وظواهره الأخرى، مخلوق له بداية، وستكون له نهاية، ولا بد أن خالقاً خلقه؛ والملحدون منهم يعلمون أيضاً أنه مخلوق، لكنهم يكفرون بخالقه. والملاحدة هم الذين أنكروا خالق الكون بقوانينه ومخلوقاته الأخرى، وليس العلم ولا المنطق هو الذي قال ذلك. وليس صحيحاً أن مصدر الكون غير معروف، فهو معروف وظاهر وجلي لمن يتبع العقل والوحي والعلم، لأن الكون مخلوق فلا بد له من خالق. وكل كلام يخالف ذلك فهو كذب وتحريف وإنكار للحقيقة، كما فعل الإلحاد وأهله.

    وقال ملحد آخر: "إن العلم هو الشكل الأكثر موثوقية للمعرفة عن العالَم، لأنه يعتمد على فرضيات قابلة للاختبار. على النقيض من ذلك، يقوم الدين على أساس الإيمان... في العلم، يعتبر الشك ضرورة مهنية، بينما في الدين، يعتبر الإيمان بدون دليل فضيلة"([26]).

   أقول: نعم إن ذلك ينطبق على الأديان الباطلة، فهي لا تقوم على وحي صحيح، ولا عقل صريح، ولا على علم صحيح، بل تقوم على مناقضة ذلك غالباً، ولذلك فهي تربي أباعها على التسليم الأعمى لها، وتقزّم العلم والعقل، وتطعن فيهما، إلا إذا كانا في صالحها. وينطبق أيضاً على الإلحاد وأهله، فهو دين زائف قام بالكذب والتحريف، عندما خالف المنطق والعلم والوحي وقال: الكون مخلوق، فليس له خالق!!  فالإلحاد من أعدى أعداء المنطق والعلم والوحي، ولا يُمكن أن يكون منطقياً ولا علمياً، لأن أصله الكذب والتحريف وإنكار الحقيقة. لكن ذلك لا ينطبق أبداً على دين الإسلام، وهذا أمر مؤكد قطعاً، لأن الإسلام يأمر الإنسان أن يقرأه بعقل ومنطق، ويتأكد من صدقه باختباره والرد عليه إن استطاع، وقد أشرنا إلى هذا سابقاً. والقرآن يأمر الإنسان بالبحث عن الحقيقة بالدليل، ويأمره بالنظر في الكون، وفي القرآن نفسه، ليتدبره ويتأكد من صحته. ويأمر أيضاً باتّباع الدليل القائم على العقل والعلم في كل الأحوال، كما في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(النمل: 64). ثم بعد ذلك يأتي الإيمان، ثم التسليم، بل وحتى إن كان الإيمان قد سبق النظر، فمن حق الإنسان أن ينظر في القرآن بعد إيمانه ويختبره، وهذا موقف صحيح عقلاً وشرعاً وعلماً. فلا يوجد في الإسلام إيمان دون دليل، وهو ليس فضيلة أصلاً، وإنما هو عجز وضعف.

     وبذلك يُستنتج مما أوردناه أن العلم مناقض قطعاً للإلحاد في أصله وفروعه، ولكنه يوافق الأديان في قولها بخلق الكون ونهايته، وفي إيمانها بالله تعالى. لكنه يُخالف الأديان الباطلة فيما تضمنته من أباطيل وأساطير وأخطاء علمية، ويتطابق تماماً مع دين الإسلام بأصوله وفروعه، وهو المهيمن على العلم، لأنه وحي الله.

 

خامساً: اعتراضات إلحادية:

    طرح الملاحدة اعتراضات وشبهات إلحادية كثيرة ألبسوها ثوب المنطق والعلم في مناقشاتهم مع المؤمنين، طرحوها ظناً منهم بأنهم سيُفحمونهم بها. لكنهم نسوا، أو تناسوا، أن اعتراضات الملاحدة وشبهاتهم لن تكون منطقية ولا علمية، لأن الإلحاد كذب وتحريف، ولن تكون اعتراضاته ضد الإيمان صحيحة، مهما تفنن أتباعه في الكذب والتزوير والغش والخِداع!!.

    فمن اعتراضاتهم وتساؤلاتهم: إذا كان هناك إله، فهل ستكون قدراته مقيدة بقواعد الفيزياء وقوانينها؟([27]).

  أقول: إن الكون وقوانينه خلقه الله تعالى بإرادته وقدرته، وهو على كل شيء قدير، فهو خاضع لله، ويتصـرف فيه متى يريد، وكما يريد، وسيُنهيه عندما يريد. وبما أن الله تعالى وصف نفسه بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}(هود:107)، و{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشـَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(النحل:40)، فالله تعالى هو المُهيمن والمُتحكم في الكون، بإرادته وقدرته، ويتصـرف فيه كما يريد. وقوانين الكون هي من فعل الله، وقدرته ليست محدودة ولا مقصورة على ذلك، فهو يستطيع خلق عوالم أخرى بقوانين مخالفة لقوانين كوننا. وعدم تغيير الله لقوانين كوننا ليس عجزاً، ولا أنه مقيد بها، وإنما هو الذي أراد لها أن تكون كذلك إلى أن يحين وقت نهاية العالم، فيُنهيها. فالله تعالى ألزم نفسه بذلك، ليس عجزاً، وإنما هو التزام بما قرره بنفسه، ولم يُلزمه بها أحد غيره؛ فلا يصح وصف الله تعالى بأنه مُقيد بقوانين الفيزياء، لأنه هو الذي خلقها، والمُتحكم فيها، ويتصـرف فيها كما يشاء. فذلك الاعتراض ليس صحيحاً، ولا يستقيم مع كون الله تعالى فعالاً لما يريد، وعلى كل شيء قدير.

    ومنها قولهم: بما أن الله، عند المؤمنين، على كل شيء قدير، فهل "يستطيع الله أن يخلق صخرة كبيرة جداً، بحيث لا يستطيع تحريكها؟"، أو "إذا كان الله كلي القوة، فهل يمكن أن يخلق الله كياناً أقوى من نفسه؟"([28]).

     أقول: بما أن الإلحاد يقوم عل الكذب والتحريف والانتهازية، ولا يقوم على المنطق ولا العلم ولا الوحي، فإنه يطرح اعتراضات وتساؤلات باطلة، لأنها ليست منطقية ولا علمية، وإنما هي من أكاذيبه وتحريفاته وانتهازيته. كما أنه لا يفرق بين الخالق والمخلوق، فلا يعرف - أو لا يُريد أن يعرف - ما يجوز في حق الله وما لا يجوز، وما يجوز في حق المخلوق وما لا يجوز. فالإلحاد لا يقوم على منطق العقل، وإنما يقوم على منطق الهوى، وعنده كل شيء ممكن، وكل شيء مستحيل، حسب هواه. فمن ذلك أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات، وإنما تتعلق بالممكنات فقط، لأنه لا يصح أن تتعلق بالمستحيلات، لأنها مستحيلة الحدوث بالنسبة لله، وهي تتنافى أيضاً مع صفات الكمال التي يتصف بها الله تعالى. من ذلك مثلاً، أن الله سبحانه لا يموت، فلا يصح للملحد أو غيره أن يسأل: هل الله يموت، أو هل يستطيع أن يقتل نفسه؟! لا يصح، لأنه سؤال باطل، وليس منطقياً، بمعنى أنه سؤال ليس بصحيح، ولا يسأله إلا جاهل، أو صاحب هوى.

  ونفس الأمر فيما يخص تعلق إرادة الله بالممكنات، فهو سبحانه على كل شيء قدير، بمعنى أنه قدير على فعل كل الممكنات، لأن الشيء هنا يعني الممكنات لا المستحيلات، لأن المستحيلات لا تتعلق بها إرادة الله، كما بيناه. وعليه، فمن الخطأ أن نسأل سؤلاً يتعلق بالممكنات، ثم نقول: إن الله لا يستطيع أن يفعله. هذا سؤال غير منطقي، ولا يصح طرحه، لأن الله قادر على فعل كل المُمكنات، إن أراد ذلك.

    وبناءً على ذلك، فالسؤال الأول الذي طرحه ذلك الملحد: هل يستطيع الله أن يخلق صخرة كبيرة جداً بحيث لا يستطيع تحريكها؟([29])، ليس بصحيح، لأنه يتنافى مع قدرة الله المطلقة في تعلقها بالممكنات، من جهة، ولأنه لا يوجد شيء من الممكنات لا يقدر الله عليه، من جهة أخرى . فهو سؤال غير منطقي، اختلقه ذلك الملحد بهواه لا بمنطقه.

    ونفس الأمر ينطبق على سؤاله الثاني: "إذا كان الله كلي القوة، فهل يمكن أن يخلق الله كياناً أقوى من نفسه؟"([30])، فهو سؤال ليس بصحيح، لأنه مخالف للمنطق، ويتعلق بالمستحيلات لا الممكنات، بحكم أنه لا يوجد أعظم من الله تعالى، وهذا كمال وليس نقصاً، فلا يصح طرحه، ولا يسأله إلا جاهل أو معاند .

   ومنها اعتراضه أيضاً: "بالمثل، فإن مفارقة المعرفة الكلية تجادل بأن الله لا يمكن أن يكون كلي المعرفة، لأنه لن يعرف كيفية صنع شيء غير معروف له"([31]). سؤاله هذا دليل على جهله بالله تعالى، فبما أن الله لا يوجد أعظم منه، وهو علام الغيوب، ولا يعزب عنه شيء، فإنه لا يصح قول ذلك الاعتراض بحكم أنه لا يوجد شيء لا يعرفه الله، أو لا يُمكن أن يعرفه!!

    ومنها اعتراضه: "هناك حجة أخرى تشير إلى تناقض المعرفة الكلية والقدرة الكلية، من حيث إن الله مُلزم باتباع ما يعرفه الله بنفسه مسبقاً"([32]). لا يوجد تناقض، والاعتراض يدل على جهل صاحبه، أو أنه معاند، لأن الله تعالى هو الذي ألزم نفسه بذلك، ولا أحد ألزمه بأن يفعل ما يعلمه مُسبقاً، ويستطيع أن لا يفعل إن أراد، وهذا كمال وليس نقصاً. كما أنه يستطيع أن لا يفعل بما يعلم بأنه سيقع من أفعال عباده مثلاً.

    ومنها اعتراضه: "تزعم حجة الإرادة الحرة، أن المعرفة الكلية والإرادة الحرة للإنسانية تتعارضان، وأن أي تصور لله ينطوي على كلتا الصفتين يتناقض بطبيعته: إذا كان الله كلي المعرفة، فإن الله يعرف بالفعل مستقبل البشـرية، ما يتناقض مع ادعاء الإرادة الحرة"([33]). هذا الاعتراض ليس بصحيح أيضاً، وشاهد أن صاحبه جاهل بما يقول، أو أنه صاحب هوى، لأن سبق العلم لا يعني بالضـرورة الجبر، ولا القهر، وإنما بالنسبة لعلم الله أنه يعلم مُسبقاً ما سيعمله الإنسان باختياره دون تدخل منه. وهذا من كمال علمه سبحانه، بل من ضروريات علمه، فلا يصح - عقلاً ولا شرعاً - أن يكون الخالق جاهل بما سيحدث مُستقبلاً!!  ويُمكن توضيح ذلك بمثال الأستاذ الذي يتوقع بجزم أن تلميذه الفلاني سينجح في امتحان البكالوريا، وأن تلميذه الفلاني سيرسب فيه.. وفي نهاية العام يتحقق ما توقعه الأستاذ.. فهل الأستاذ هو الذي أجبر الأول على النجاح، والثاني على الرسوب؟!  طبعاً ليس هو السبب، وإنما هو توقع بناء على نشاط التلميذين في القسم، وهذا من فهمه ونباهته. وبما أن الأمر كذلك، فالله تعالى - وله المثل الأعلى- لكمال علمه وعدله، فمن باب أولى أن يكون عالماً بما سيفعله عباده مُستقبلاً، ويحاسبهم حسب أفعالهم.

    ومنها أنه قال: "تنص الحجة البشـرية على أنه لو كان الله كلي المعرفة وكلي القدرة وكامل أخلاقياً، لكان قد خلق كائنات مثالية أخلاقياً، بدلاً من كائنات غير كاملة، مثل البشر"([34]).

   أقول: ذلك الاعتراض ليس منطقياً ولا صحيحاً، لأنه لا يصح الاعتراض على الله بمثله، لأن الله تعالى فعال لما يريد ويفعل ما يشاء، وعليه لا يصح إلزام الله بخلق كائنات كما نريد نحن، وإنما هو الذي يخلق ما يشاء. كما أن المخلوق لن يكون كاملاً بكل صفاته، لأنه مخلوق، والمخلوق سيبقى ناقصاً، ولن يكون كاملاً، لأنه ليس خالقاً. وبما أن الأمر كذلك، فقد شاء الله أن يخلق الإنسان، وحمّله أمانة العبودية لله وعمارة الأرض، وابتلاه بالخير والشر، فإن آمن وعمل صالحاً دخل الجنة، وإن كفر وعمل طالحاً فسيدخل جهنم يوم القيامة. ولذلك خلق الله الإنسان على ما هو عليه، ويتفق مع الدور الذي خلقه من أجله. علماً بأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وقدّره تقديراً. وهو بهذا الخلق كامل مع نقصه، وناقص مع كماله، فهو كمال المخلوق ونقصه!!

     ومنها أنه قال: "مشكلة الجحيم هي فكرة أن اللعنة الأبدية تتناقض مع كلية القدرة، وكلية الوجود الإلهي"([35]).  

  أقول: الظاهر أنه يقصد الخلود الأبدي اللانهائي للكفار في جهنم، وقد استبعده لأنه رآه يتناقض مع كمال الله تعالى. هذا الموضوع اختلف حوله علماء الإسلام منذ عصـر الصحابة إلى اليوم، وقد توسع فيه المحقق الناقد ابن قيم الجوزية في كتابه: (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، وذكر أقوالهم بين من يقول بالخلود المؤبد اللانهائي للكفار في جهنم، وبين من يقول بخلودهم  المؤبد الذي ينتهي بفناء النار فيفنون معها، ورجح ما رآه صواباً. وأنا أقول: يتبين من نصوص الكتاب والسنة أن الخلود الأبدي الذي أشارت إليه نصوصهما عن خلود الكفار في النار، هو خلود مؤبد ينتهي بفناء النار فيفنون معها. لكن من الكفار المؤمنين بالله من يخرج من النار، والباقون منهم يفنون مع فناء النار، بدليل النصوص الآتية:

    أولها : ورد في الحديث أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال بأن الله تعالى سيُخرج من جهنم من كان في قلبه ذرة من إيمان([36]). وهذا الإيمان أقله الإيمان بالله، ولم يُقيده بالإيمان بالإسلام. وعليه، فإن كثيراً من الكفار المؤمنين بالله سيخرجون من جهنم بعدما مكثوا فيها أحقاباً، وستبقى منهم طائفة أخرى من كبار الكفار والمجرمين من الملاحدة وأمثالهم مصيرهم مؤبد ببقاء النار.  

  النص الثاني: قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}(هود:106-108). واضح فيما يتعلق بالكفار في جهنم أن الله تعالى لم يقل بأن عذابهم فيها لا ينقطع، وإنما وصفه بأنه خالد، ثم أرجعه لمشيئة الله. لكنه عندما تكلم عن المؤمنين وصف دخولهم الجنة بأنه عطاء خالد (غير مجذوذ)، بمعنى غير مقطوع.

    النص الثالث: قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}(ص:54)، بمعنى أن نعيم الجنة لا ينتهي. وقال أيضاً: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}(الواقعة: 32-33)، فنعيم الجنة لا ينقطع.

    واضح من تلك النصوص أن نعيم الجنة الخالد الأبدي وصفه الله تعالى بأنه لا ينقطع ولا ينتهي، لكنه لم يصف عذاب النار الخالد الأبدي بأنه لا ينقطع ولا ينتهي، وهذا يعني أن عذابها مؤبد ببقاء النار وليس عذابا لا نهائياً. ويُضاف إلى ذلك، أن العقل البديهي يقول بما قالته تلك الآيات، لأنه لا يُعقل أن يعذب الله تعالى الكفار عذاباً أبدياً لا ينتهي لذنوب وجرائم ارتكبوها لا بد لها أن تنتهي. كما أن عدل الله ورحمته لا يتفقان مع العذاب الأبدي غير النهائي للكفار. والله تعالى أعلم بالصواب.

    آخرها قوله: "تحاول حجة (بدون سبب) إظهار أن كائناً كلي القدرة، وكلّي المعرفة، لن يكون لديه أي سبب للتصرف بأي شكل من الأشكال، على وجه التحديد لخلق الكون، لأنه لن يكون لديه أي احتياجات أو رغبات، لأن هذه المفاهيم تحديداً إنسانية ذاتياً. بما أن الكون موجود، فهناك تناقض، وبالتالي، لا يمكن أن يوجد إله كلي القدرة"([37]).  

      أقول: اعتراضه لا يصح، ودليل بأنه جاهل بالله تعالى جهلاً كبيراً، وأنه لا يعرف أو لا يريد أن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق. لأن هذا الكون المخلوق من عدم يشهد بأن خالقه خالق عظيم مُتصف بكل صفات الكمال، وإلا لن يستطيع خلقه. وعليه، فإن خلق الله لهذا الكون لا يعني أبداً أنه ناقص ومُحتاج له، أو له رغبات يريد تحقيقها، كما هو حال الإنسان. وإنما يدل على أن خالقه خلقه عن كمال وغِنى، وحكمة وكبرياء، ومصلحة للذي سيخلقه، وليس لله. قال تعالى؛ رداً وتوضيحاً: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ  مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ  إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(الطور:56-58). وعبادتنا لله هي مصلحة لنا وليس لله، لأنه جعل سعادتنا في عبادته، وشقاءنا في الكفر به وعصيانه. فخلق الله للكون هو دليل قطعي على كماله وغناه وحكمته، وليس دليلاً على نقصانه.

   وبذلك يُستنتج من تلك الاعتراضات والشبهات الإلحادية أنها باطلة، وتشهد بنفسها بأن الملاحدة ليسوا بمنطقيين ولا علميين، وإنما هم أهل أهواء وكذب وتحريف في كل ما يدعونه، إلا ما وافق هواهم. ولن يخرجوا من ذلك، لأن الإلحاد يقوم على الكذب والتحريف وإنكار الحقيقة. فهو رافض للمنطق والعلم وكافر بهما، وليس من العلم في شيء.

سادساً: زعم الملاحدة بأن المؤمنين يعتقدون بإله الفجوات:

    زعم أحد الملاحدة أن المؤمنين يحتكمون إلى الجهل، وإلى إله الفراغات (الفجوات) في الأمور التي لا يعرفونها. كما أن "كل شيء لم يفسره العلم، يتخذونه دليلاً على وجود الخالق!!"([38]).

      أقول: ذلك زعم باطل، وفيه تغليط وتحريف وافتراء. لأنه لا يوجد في دين الإسلام الاحتكام إلى الجهل، وإنما هو الاحتكام إلى العلم بأنواعه الثلاثة: علم الوحي، وعلم الطبيعة، وعلم العقل وتطبيقاته في الواقع. وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}(الحج:8). وجَمَع كل أنواع العلم في علم واحد، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}(الحج: 3) .

     ولا يوجد في الإسلام حكاية إله الفراغات، أو الفجوات، لأن كل ما في الكون هو دليل على وجود الله، سواء فسـّره العلم أم لم يفسره، وتوجد أمور كثيرة فسرها العلم ودلت على وجود الله، من جهة، ووافقت ما قاله القرآن، من جهة أخرى، فحدث توافق بينهما، فكانت من أقوى حجج وجود الله. كما أنه لا يوجد تناقض في دين الإسلام بين وجود الله وخلقه للكون وتسييره بقوانين كونية. فالله تعالى هو خالق الكون والمتحكم فيه، وهو المُسيّر له بالقوانين التي أحكمه بها، وسيُنهيها عندما يحين وقت إنهاء الكون. وعندما يقول المسلم: إن الشمس تسبح في فلكها، فهو يعتقد أن الله خلقها كذلك، فهي تدل عليه، وهو خالقها، بدليل قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(يس: 40)، و{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(33) .

   وعندما يقول المسلم: إن الرياح تُسيّر السحاب وتلقحه فينزل المطر، فهو يعتقد بأن الله تعالى هو الذي خلقها كذلك، فهي تدل عليه، وهو خالقها. بدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}(النور:43)، و{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}(الحجر: 22). 

     والحقيقة إن حكاية إله الفجوات هي، وإن وُجدت في أديان أخرى، فهي موجودة بقوة وببشاعة وكذب في دين الإلحاد، وذلك أن الملاحدة أنكروا وجود الله وخلقه للكون بالكذب والتحريف، ثم بنوا عليهما أصولهم، التي هي بمثابة آلهة عندهم، فسـروا بها الكون وظواهره، فأصبحت عندهم آلهة الفجوات. من ذلك مثلاً أنهم عندما جحدوا وجود الله كذباً وتحريفاً ورفضاً للحقيقة، فسـروا نشأة الكون بإلهٍ عدم، فزعموا أن العدم خلق الكون من العدم!! وهذا مستحيل عقلاً وعلماً وشرعاً. وعندما رفضوا قول العلم في ظهور الحياة، فسـروا نشأته بإله الصدفة!! وعندما قالوا بخرافة التطور العضوي، اختلقوا إله الانتخاب الطبيعي، فسـّروا به آلية عمل التطور العضوي في الكائنات الحية عبر ملايين ومليارات السنين!! وعندما عجزوا في تفسير وجود الظواهر التي تدل على العقل والروح والوعي والحكمة في الإنسان، وغيره، اختلقوا إله المادة، وزعموا أن تلك الظواهر هي مجرد تراكيب وتفاعلات مادية، وليس في الكون إلا المادة!! فالملاحدة كفروا بخالقهم الحق الواحد الأحد، واختلقوا آلهة كثيرة عمياء عبثية، لا تحاسبهم ولا تعاقبهم، أقاموا عليها إلحادهم!!

سابعاً: أسباب الإلحاد في الله:

      أنكرت قلّة من البشر وجود الله تعالى، فألحدت فيه، واختارت الإلحاد ديناً لها، رغم أنه عقيدة زائفة مناقضة للمنطق والعلم والوحي، ولا فائدة منه في الدنيا والآخرة!! فما هي أسباب إنكارهم لخالقهم؟! تبين من تتبعي لأحوال الملاحدة وأسباب إلحادهم، أنه توجد أسباب كثيرة ومتعددة، متداخلة ومركبة ومتراكمة، جعلتهم يُلحدون ويخالفون الغالبية العظمى من البشـر في إيمانهم بالله. منهم من ألحد لشبهات هجمت عليه تتعلق بالأنبياء والأديان، فلم يجد لها جواباً يُقنعه، فشكك فيها، وانتهى به الأمر إلى الشك في وجود الله، ثم الإلحاد. وهذا الموقف ليس بصحيح، لأن تلك الشكوك - حتى وإن كانت صحيحة - لا تعني عدم وجود الله أبداً، وإنما تعني أن تلك الأديان، وكتبها، وأنبيائها، باطلة، ولا يصح الانتقال منها إلى إنكار وجود الله.

    ومنهم من استعبدته شهوات البطن والفرج، فأصبح عبداً لها، وغايته في الدنيا إشباعها بكل ما يستطيع. وليتسنى له ذلك كما يرغب، أنكر وجود الله، ليتخلص من ضوابط الإيمان والدين وتأنيبات الضمير!! وموقفه هذا ليس بصحيح، ولا يتطلبه إشباع الشهوات، فقد كان بمقدوره أن يستجيب لشهواته كما يريد دون أن ينكر وجود الله، كما هو حال كثير من البشـر، فهم غارقون في شهواتهم ويؤمنون بالله، بل وبعضهم يستعين بالله ويطلب منه أن يوفقه لمزيد من الشهوات!!

     ومنهم من نشأ في بيت ومجتمع لا يحبان الله تعالى ولا الدين، ويشيع فيهما الشك والسخط وعدم الرضا بقضاء الله وقدره، فأورثه ذلك رفض الإيمان والدين، والتعلق بالشكوك والشبهات، والانتصار لها، حتى انتهى به الحال إلى إنكار وجود الله. وسلوكه هذا ليس بمقبول ولا بصحيح، لأن تربيته الرافضة للإيمان والدين، لا تستلزم الإلحاد، فقد كان بمقدوره عندما كَبُر أن يراجع نفسه وفكره ولا يُلحد.

   ومنهم من نشأ في بيت متدين، وفيه خشونة وتطرف وتضييق لا مبرر له على الأولاد، فينشأ بعضهم رافضاً للدين وأهله، وحاقداً عليهم؛ وعندما يكبر ويتحرر من سلطة والديه يتمرد على الدين وأهله ومجتمعه، وينتهي به حاله إلى إنكار وجود الله. وسلوكه هذا ليس مقبولاً ولا صحيحاً، لأنه كان عليه أن يعلم ويفهم أن نشأته ليست مبرراً للإلحاد، وليست لازمة له. فكان من السهل عندما يكبر أن يدرك أن نشأته المتطرفة ليست من الدين، وبإمكانه تغيير نظرته إليه.

        ومنهم من يُلَقَّن الإلحاد، أو ما يُؤدي إليه، في المؤسسات التعليمية، فيتربى عليه، أو يتأثر به، وعندما يكبر يصبح ملحداً. وهذا الصنف من الملاحدة يُوجد عادة في الدول الغربية والشيوعية، لأن مؤسساتها علمانية وتدعو إلى الإلحاد علانية، أو بطرق أخرى.

    ومنهم من ألحد بسبب أزمات نفسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، ألمت به، فنشأ مضطرباً حاقداً على الناس والدين، ثم انتهى به الأمر إلى التمرد على الدين وإنكار وجود الله تعالى. وتصـرّفه هذا ليس بصحيح ولا بمقبول، لأنه كان عليه من الواجب أن يتقبل تلك الأزمات بصبر وإيجابية فيرضى ولا يسخط على الناس ولا على الدين، ويرجع إلى الله بصدق وإخلاص، ليُنجيه من تلك الأزمات. لكنه أخطأ التصرف، فبدلا من أن تقربه تلك الأزمات من الله، وتزيده إيماناً وصلاحاً، أبعدته منه وزادته ضلالاً وانحرافاً، حتى رمت به في جحيم الإلحاد!!  

     وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه "عند الحديث عن الأسباب النفسية للإلحاد، فإنّ ذلك لا يعني التقليل من دوافع الإلحاد الأخرى بعيداً عن الدافع النفسـيّ؛ مثل الشبهات التي تثار حول الدين، أو توظيف العلم في معركة الإلحاد، أو شتّى الأسباب المجتمعيّة؛ مثل الكبت الاجتماعيّ، والتفكّك الأسريّ، أو قرناء السوء، فكلّ هذه الأسباب تفسـّر الظاهرة، وتبيّن أبعادها من زوايا مختلفةٍ، لكنّ البعد النفسـي -وبحسب العاملين في مجال الإلحاد- يبقى هو العامل الأكثر تأثيراً في قرار الإلحاد .لهذا نجد أنّ الكثير من حالات الإلحاد لدى الشباب لا تجدي معها الحوارات والنقاشات الدينيّة، ولا تقديم الأدلّة والحجج والبراهين؛ لأنّ الأصل في المشكلة ليس دينيّاً أو عقليّاً، بل هو أسبابٌ نفسيّةٌ أدّت بكثيرين لاتّخاذ خَيار الإلحاد دون نظرٍ في الأدلّة العلميّة والعقليّة"([39]).   

     و"في عام 2016م نشـرت جمعيّة علم النفس الأمريكية دراستَين لقياس الدوافع النفسيّة التي أدّت بالملاحدة إلى إنكار وجود الله تعالى، أظهرت الدراسة الأولى أنّ 54% من الملاحدة الذين أُجرِيت الدراسة عليهم عانوا من فترات إحباطٍ ويأسٍ أدّت إلى إلحادهم. بينما ارتفعت النسبة في الدراسة الثانية إلى 72%. وجاءت هاتان الدراستان متوافقتَين مع دراسةٍ سابقةٍ نشـرت عام 2011م ذكرت أنّ 44% من الملاحدة قد اتّخذوا قرار إلحادهم بناءً على أسبابٍ عاطفيّةٍ محضةٍ"([40]).

   و"بيّنت الدراسات كذلك أنّ الأحداث السلبية في حياة الإنسان، وطريقة تعاطيه معها؛ بالصبر والرضا، أو بالسخط، تؤثّر تأثيراً مباشراً في قرار الإلحاد والإيمان. كلّ ذلك يعني أنّ البعد النفسـيّ له دورٌ كبيرٌ في قرار الإلحاد، وهو ما يعني أنّ قرار الإلحاد ليس قراراً علميّاً خالصاً، وإنّما له أسبابٌ بعيدةٌ كلّ البعد عن نطاق العلم والتجربة والبرهان، بل إنّ الملاحدة يحاولون استخدام الأسباب العلمية تلك لتسويغ إلحادهم([41]).

    ومن الشواهد التي توضح أحوال بعض من ذكرناهم أعلاه، الأمثلة الآتية: أولها، يقول الملحد الأمريكي عالم الأحياء (جورج وايلد)، معترفاً بالحقيقة رغم عناده وغروره وجهله: "عندما نأتي لمسألة أصل الحياة، فإن أمامنا احتمالين لكيفية نشأتها: الأول هو النشوء التلقائي عن طريق التطور، والآخر هو خلق إبداعي خارق لله، لا يوجد أمامنا خيار ثالث... النشوء التلقائي تم دحضه علمياً منذ مئة سنة على يد (باستور) و(سبيلنزاني) وآخرين. هذا ما يقودنا علمياً لنتيجة محتملة واحدة فقط، وهي نشوء الحياة عن طريق الخلق الإبداعي لله. لن أقبل هذا فلسفياً، لأني لا أريد أن أُومن بالله. وبالتالي اخترت أن أُومن بشـيء مستحيل علمياً، وهو النشوء التلقائي عن طريق التطور"([42]).

 

    هذا الملحد المسكين عدو نفسه، فمع اعترافه ببطلان ما يعتقده علمياً، فإنه رفض ما أثبته العلم عن نشأة الحياة، وتعلق بخرافة التطور العضوي انتصاراً للإلحاد. فعل ذلك من أجل لا شيء، وكل ما في الأمر أنه كان لا يُحب الإيمان بالله، وهذا جنون وغرور. ولو كان محايداً ونزيهاً وعلمياً لترك الإلحاد وأجبر نفسه على قبول الإيمان بالله، ليس لأنه يحبه، وإنما لأن المنطق والعلم يفرضانه عليه بحكم أنه من أهل العلم. ولو فعل ذلك لتغير حاله وحَسُن، وأصبح يُحب الإيمان بالله حباً كبيراً، و{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(التغابن:11)، لكنه رفض نور الإيمان الذي يُسعده في الدنيا والآخرة، ورضي بظلام الإلحاد الذي يُهلكه في الدنيا والآخرة!!   

   المثال الثاني: صرّح الفيلسوف الأمريكي الملحد (توماس ناجل) أنه ببساطة "لا يود أن يوجد هناك كائنٌ ذو صفات كالله"([43]). و"أتكلم من تجربة، كوني خاضعاً بقوة لهذا الخوف النفسي: أريد أن يكون الإلحاد صحيحاً، كما أنني لا أشعر بالارتياح بسبب وجود أشخاص من معارفي أذكياء ومثقفين ومع ذلك مؤمنون ومتدينون. الأمر ليس فقط أنني لا أؤمن بوجود إله، وطبيعياً آمل أن يكون إيماني هذا صحيحاً. بل إني آمل أن لا يكون هنالك إله! لا أريد أن يكون هنالك إله"([44]).

    واضح من كلامه، أنه مريض نفسياً، ومتكبر وأناني، ومتعصب لنفسه بالباطل، وفيه غرور ورعونة نفس. لأن أمر وجود الله تعالى لا يرجع إلى رغباتنا وأهوائنا وظنوننا، وإنما يرجع إلى العلم والوحي والعقل والواقع الموضوعي الذي نعيشه، ولا يرجع إلى رغباتنا. فإذا كان لا يريد إن يكون الله موجوداً، فهذه رغبته، ولا يُغير ذلك من الواقع شيئاً، والذي يشهد بنفسه أن الكون خلقه الله تعالى. والذي يترك هذا ويبني موقفه من الله برغباته في أن لا يكون الله موجوداً، فهو ليس إنساناً سوياً ولا عاقلاً ولا عالماً، وإنما هو إنسان مريض مغرور عبد لهواه وشيطانه، ولا يعرف مصلحته.  وهذا الرجل سبب إلحاده ذاتي مرضي، وليس سبباً موضوعياً. والظاهر من كلامه أنه يريد أن يعيش كما يريد ويحب، ويرفض تدخل الخالق في حياته، وهذا موقف ذاتي أناني زائف، ولا ينفعه في الدنيا ولا الآخرة. وهو عابد لهواه وشيطانه ومغرور جداً عندما ظن أنه سيكون حراً عندما يكفر بخالقه. والإيمان بالخالق هو موقف علمي شرعي عقلاني، لكن الإلحاد ليس كذلك قطعاً.

   المثال الثالث: عندما قدّم الباحث الأميركي الملحد (مورتيمر أدلر) حجج وجود الله ولم يأخذ بها ولا آمن بالله، قال: "إن الحقيقة البسيطة للأمر هي أنني لم أرغب في العيش كشخص متديّن مخلص، لأن هذا يتطلّب تغييراً راديكالياً في طريقة معيشتي"([45]). وهو هنا قد أخطأ عندما اختار الإلحاد بدلا من الإيمان بالله، لأنه كان يُمكنه أن يكون مؤمناً بالله وغير ملتزم بالدين، كما هو حال معظم أتباع الأديان، فلا يلحد ويبقى مؤمناً بالله، لأن الإيمان بالله شيء، وإتباع دين من الأديان والالتزام به شيء آخر. وفي كل الحالات يبقى الإيمان أفضل من الإلحاد.                      

     المثال الرابع: تُمثل "معضلة الشـر أزمة كبرى لدى العديد ممن يلحدون، فمع كل كارثة بشرية/طبيعية يعلو سؤال الشباب -خصوصا-: لماذا خُلِق هذا الشـر؟ ولماذا يحدث كل ذاك؟ ذلك السؤال الذي يتسرّب من ورائه الإلحاد برجّة عاطفية، كان قد رصدته دراسة أميركية وجدت أن 17% من أسباب الإلحاد تنطلق من هذا السؤال، وهو ما توافق معه طالب عشريني أثناء الحرب على غزة، إذ أعلن في تقرير عن التعددية الدينية في المغرب، عن إلحاده بسبب ما حدث حينذاك للمستضعفين، وهو السؤال الذي يميز ظاهرة (إلحاد ما بعد الثورات)"([46]).

   أقول: الحقيقة هي أن الأمر ليس كذلك، أخطأ هؤلاء الذين ألحدوا بسبب موضوع الشر، ولم يكن لهم فهم صحيح لوجوده. وقد سبق وأن بينا أن وجود الشـر في حياة البشـر هو أمر طبيعي جداً، ومن ضروريات الحياة، ولا يُمكن أن يكون دليلاً على عدم وجود الله، وإنما هو من أدلة وجود الله تعالى. ووجود الشـر في حياة البشـر له أسباب ومبررات موضوعية تجعله من ضروريات حياة البشـر. والله سبحانه وتعالى نهانا عن فعل الشـر، وأمرنا بفعل الخيرات، ضمن تكليفه لنا بحمل أمانة العبادة وعمارة الأرض، وابتلائه لعباده بالخير والشـر فتنة. والشـرور التي يرتكبها الظالمون في هذه الأرض، سيعاقب الله  الظالمين منهم في الدنيا والآخرة، والغالب أنه سيُعاقب أكثرهم في الآخرة فقط، لأن الانتقام منهم كلهم في الدنيا قبل الآخرة يُعطل مبدأ ابتلاء البشـر وامتحانهم وإرسال الرسل وإنزال الشـرائع الإلهية. قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة:74)، و{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}(إبراهيم:42). فالذي ينتظر أن الله لا بد أن يُعاقب الظلمة في الدنيا قبل الآخرة، فهو مُخطئ قطعاً. ومن ألحد بسبب عدم اقتصاص الله تعالى من كثير من الظلمة في الدنيا، فقد أخطأ خطأ فاحشاً، وخسر الدنيا والآخرة. وحتى لو افترضنا جدلاً أن الله لم يقتص من كل الظلمة في الدنيا، فهذا لا يعني عدم وجود الله، وليس مبرراً للكفر به، وإنما يعني أن الله تعالى أعطى لهم الحرية التامة في الدنيا، وسيحاسبهم ويُعاقبهم في الآخرة. ومن كفر بسبب ذلك، فقد فشل في الامتحان وخسـر الدنيا والآخرة، واستحوذ عليه الشيطان وأوقعه في الإلحاد!! 

   المثال الخامس: توجد شواهد تُثبت أنه يوجد توجيه إلحادي مُتنفذ في الجامعات الغربية ينشر الإلحاد بين الطلبة والأساتذة، ويحارب الإيمان وأهله بمختلف الطرق، حتى يصل الأمر إلى ممارسة الإرهاب الإداري والفكري ضدهم، كما بيناه سابقا بعدة شواهد. وهنا أضيف إليها مثالاً آخر: يقول عالم الرياضيات والفلك البريطاني (تشاندرا ويكر اماسينجي): "منذ أول تدريب لي كعالم، تم غسل دماغي بقوة للاعتقاد بأن العِلم لا يمكن أن يكون متسقاً مع أي نوع من الخلق المتعمد. وكان لا بد من التخلص من هذه الفكرة بشكل مؤلم للغاية. أنا غير مرتاح تماماً، والحالة الذهنية التي أجد نفسي فيها الآن. ولكن لا يوجد مخرج منطقي من ذلك؛ بل إنه لا يوجد أي سبيل منطقي للخروج منه. ليس من الممكن أن تكون الحياة قد نشأت من حادث كيميائي"([47]).    

     المثال السادس: يتعلق بتلقين الإلحاد في المدارس العامة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو العامل المُسبب للإلحاد، فمن "المدرسة الابتدائية حتى مرحلة الدراسات العليا، يتم تقديم طريقة واحدة فقط للنظر إلى العالم (العلماني). يتلقى الفرد النموذجي في العالم الغربي تلقيناً علمانياً، مثلما تلقى الأوروبي العادي أسلوبًا دينيًا في العصور الوسطى"([48]). و"ركز الملحدون جهودًا كبيرة على المدارس العامة، من أجل تلقين الشباب المعتقدات الإلحادية. تاريخيًا، فيما يتعلق بالتعليم العام والتدابير الأخرى، على الرغم من أن التلقين الإلحادي الذي ترعاه الحكومة يمكن أن يكون له تأثير على المجتمع، إلا أن محاولات الحكومة للتلقين الإلحادي لم تظهر أنها فعالة في القضاء على الإيمان بالله في المجتمعات الدينية"([49]).

   المثال الأخير (السابع): يتعلق بأهمية السبب النفسـي في إلحاد الملحدين، ففي عام 1999 م أصدر (بول فيتز Paul Vitz) أستاذ علم النفس الأمريكي، كتابه (سيكولوجية الإلحاد)، والذي تُرجم إلى العربية بعنوان: (نفسية الإلحاد إيمان فاقد الأب). أثار الكتاب لغطاً كبيراً بين علماء النفس الغربيين، وسبب اللغط تمثّل في أنّ المعتاد داخل الأوساط الأكاديميّة الغربيّة هو دراسة سيكولوجية الإيمان، وليس سيكولوجيا الإلحاد، وهو الأمر الذي بات غريباً على الغربيّين، لكن ما يزيد من أهميّة الكتاب هو شخصيّة مؤلّفه نفسه؛ فـ(فيتز) عِلاوة على كونه أستاذ علم النفس، فقد كان ملحداً أيضاً فترةً طويلةً من الزمن، وفي شجاعةٍ كبيرةٍ يعترف في كتابه أنّ دوافعه للإلحاد لم تكن دوافع علميّةً، وإنّما كانت أزماتٍ نفسيّةً، يقول (فيتز): "بالنظر إلى خبرتي الخاصّة، فقد صار من الواضح بالنسبة إليّ أنّ الأسباب التي جعلتني ملحداً ومتشكّكاً، عندما كان عمري 18 عاماً إلى 38 عاماً، كانت أسباباً سطحيّةً وغير منطقيّةٍ، وبلا نزاهةٍ فكريّةٍ أو أخلاقيّةٍ، وأنا مقتنعٌ أنّ الأسباب نفسها هي الشائعة الآن بين المفكّرين". وكما ذكر في موضعٍ آخر: لقد كان تبنّي الإلحاد: قرار شابٍّ مراهقٍ. استخدم (فيتز) في هذا الكتاب أدوات التحليل النفسيّ لرصد ظاهرة الإلحاد، واتّبع المنهجيّة ذاتها التي يتّبعها كثيرٌ من المحلّلين النفسيّين لتفسير إيمان المؤمنين([50]).

   و"عمد (فيتز) إلى برهنة نظريته بتحليلٍ لحياة مشاهير الملاحدة من فلاسفة الغرب، وتتبّع حياتهم الخاصّة، التي كتبوها بأنفسهم، أو كتبت عنهم، خصوصاً الذين عرفوا بالعدميّة أو العبثيّة، أو الذين كان لهم موقفٌ معادٍ للإيمان. وبسبره هذا استطاع (فيتز) الوصول إلى لبّ مشكلة الإلحاد الحقيقية، بعيداً عن الشبهات السطحيّة التي يحاول الملحدون التخفيّ من ورائها، ساعده على ذلك تجربته الإلحاديّة السابقة؛ ما يعني معرفته ببواطن الأمور من الجانب الشعوري للملحد، وكذلك الجانب الظاهري الخاضع للدراسة العلميّة"([51]).

     و"لا شك بأنّ الكتاب يحتوي على أفكارٍ مثيرةٍ تستحقّ النظر والمناقشة والتقويم، خاصّةً في تركيزه على أنّ الدافع لاعتناق الإلحاد هو دافعٌ نفسيٌّ لا صلة له بقوّة الأدلة أو موضوعيّة المنهج، وهذا طرحٌ لا ينبغي أن يمرّ دون إخضاعه للتفكير المعمّق؛ فهناك شواهد عمليّةٌ تدعمه وتؤكّده، وكأنّ أكثر الملاحدة لديهم مشكلةٌ شخصيّةٌ مع الدين، فتتمثّل مواقفهم بناءً على نفورٍ نفسيٍّ متراكمٍ، وكراهيةٍ متناميةٍ تحول بينهم وبين تحكيم المنهجيّة العلميّة والمعايير الموضوعيّة في الأدلّة بأنواعها العقليّ منها، والتجريبيّ، والحسيّ (الباطنيّ) أو ما يُسمّى صوت الفطرة الداخليّ"([52]).

   و"قد أحدث صدور هذا الكتاب ضجّةً في العالم الغربيّ، إذ نبّه فيه كاتبه إلى حقيقةٍ عاشها بنفسه، لكنّها لم تَرُقْ لروّاد الإلحاد المعاصرين الذين عدّوا نشـره أمراً في غاية الخطورة، لهدمه الأبراج العاجيّة التي عاش فيها أغلب منكري الخالق، ومحاربي الأديان، ومناهضي فطرة البشر، في عصرنا الحالي. ومنذ صدوره تنبّه علماء النفس لدور المشاكل النفسية المترسّبة في تبنّي الإلحاد"([53]).

     و"المزعج عند الملاحدة في تنبيه (بول فيتز) على دور المشاكل النفسية في تبني الإلحاد، أنّ الدراسات الميدانية، وسير كبار الملاحدة من روّاد التنوير الأوروبي، تؤكّد ما ذهب إليه. فقد نشر عالم النفس اليهودي (بنيامين هلاهمي)، عام 2007 م، دراسةً مهمّةً بعنوان: (النمط النفسـيّ للملحد)، أجراها على أعضاء (الاتحاد الأمريكي للإلحاد المتقدّم). وقد كشفت هذه الدراسة أنّ نصف الذين أنكروا وجود الإله قبل عمر العشـرين، من الشباب الذين أُجريت عليهم الدراسة، ألحدوا بسبب مشاكل نفسيّةٍ تتعلّق بفقد أحد الوالدين، أو معاناة في الطفولة، أو اختلالٍ أُسريٍّ"([54]).

  و"لذلك لم يَعُدْ باحثو علم النفس والخبراء المهتمون بالإلحاد ينظرون لمظاهره كإشكالات علمية نابعة من النظر والتفلسف، أو تضارب الأدلّة وتهافتها. فكلّ ذلك حيلةٌ مكشوفةٌ تستّر بها علماء النفس الملاحدة قرناً من الزمن، حاولوا عن طريقها ترسيخ بحث الإيمان وقضاياه ضمن الإشكالات النفسيّة، هرباً من مواجهة عُقَدهم النفسيّة والاجتماعيّة"([55]).

    وأقول: لا شك أن العامل النفسي من أهم أسباب الإلحاد، لكن لا يصح الغلو فيه حتى يصبح هو الأصل، والأسباب الأخرى عرضية ليست مهمة، وإنما يجب وضعه في مكانه الصحيح. لأنه إذا كان كثير من الملاحدة ألحدوا بسبب أزمات نفسية، فإنه من جهة أخرى يوجد ملاحدة كثيرون كانوا عاديين وليسوا بمرضى، ثم ألحدوا لأسباب علمية وفكرية اعترضتهم في حياتهم العلمية، أو كانت هي السبب الأساسي في إلحادهم؛ كاليهود والنصارى الذين ألحدوا بسبب وجود أباطيل ومستحيلات وأخطاء علمية في الكتاب المقدس، منهم - مثلاً - عالم الرياضيات الأمريكي (جيفري لانج)  كان نصـرانياً ثم ألحد عندما لم يجد حلاً صحيحاً لأسئلته في الكتاب المقدس، ثم ترك الإلحاد واعتنق الإسلام([56]). وأنا شخصياً أعرف طالباً مسلماً ألحد عندما سمع أن الإسلام يُبيح الرق، فلم يتقبل ذلك لقلّة علمه وعدم معرفته بالموضوع، لكنه بعد البحث ترك الإلحاد وآمن بالله ورجع إلى الإسلام بعد عام من إلحاده. 

    وإنهاءً لهذا المبحث، يتبيّن أن مزاعم وشبهات ومغالطات واعتراضات الملاحدة التي عرضناها، أنه لم يصح ولا واحد منها، لأنها لم تكن منطقية ولا علمية، وإنما كانت مزاعم واعتراضات للتشويش بها على المؤمنين، من جهة؛ وقامت أساساً على أصل الإلحاد، وهو الكذب والتحريف وإنكار الحقيقة تعمداً، من جهة أخرى. وبما أننا نقضناها بعلم الطبيعة والمنطق والوحي؛ فإن هذا يعني قطعاً أن العلم يدعو إلى الإيمان، فهو مؤمن، والإلحاد يدعو إلى الكذب والتحريف، فهو كافر بالمنطق والعلم والوحي!!  

 

*****

·              هذا فصل مستل - بإذن من الكاتب - من كتاب: العلم مؤمن والإلحاد كافر،

 للأستاذ الدكتور خالد كبير علال.



[1]- العلم يفضح الإلحاد: الحجج الملحدة، https://www.scienceandatheism.com/atheist-arguments.

[3]- محمد شاهين التاعب، اعتراف العُلماء بحقيقة الضَّبط الدقيق للكون، 02/مارس/ 2019 ، مدونة التاعب: https://alta3b.com/2019/03/02 .

[4]- عمرو شريف: خرافة الإلحاد، ص: 334 . وشيماء عمارة: هل يكفل الإلحاد المساواة بين الناس؟ 06‏/06‏/2021، جداريات: https://jedariiat.net/news/10849 .

[5]- جينيفر قباني، أستاذ الفيزياء: فرصة نشأة الحياة من تلقاء نفسها من خلال العمليات الطبيعية هي صفر، 11 أغسطس 2021،    https://www.thecollegefix.com/physics-professor-chance-of-life-originating-on-its-own-by-natural-processes-is-zero/ .

[6]- إذا كان الله موجوداً فلماذا الشـر؟ 5 أكتوبر 2021 ، موقع مسائل العقل، https://mindmatters.ai/.

[7]- مركز يقين: أين الله مما يحدث في الغوطة؟ 24/02/2018،  http://yaqenn.com .

[8]- مركز يقين: أين الله مما يحدث في الغوطة ؟ 24/02/2018،  http://yaqenn.com .

[9]- العلم يفضح الإلحاد: الحجج الملحدة، https://www.scienceandatheism.com/atheist-arguments .

[10]- وجود الله، https://ar.wikipedia.org/wiki .

[11]- نفسه.

[12]- انظر: خالد كبير علال: الكتاب المقدس ليس وحياً إلهياً، ومعجزات القرآن من مقارنات الأديان، ونقض الخرافات القائلة بتأثر القرآن بالكتاب المقدس والأفستا الزرادشتي، وليس في القرآن الكريم أخطاء علمية. وهذه الكتب متوفرة إلكترونياً.

[13]- وجود الله، https://ar.wikipedia.org/wiki .

[14]- هل الإلحاد لا عقلاني ؟، حوار (جاري جتنج) مع (ألفن بلانتنجاترجمة عبد الله الشهري، 2015، مركز براهين ،https://www.braheen.com .  

[15]- عمرو شريف: خرافة الإلحاد ، ط 1، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة ، 2014 ، ص: 77 .

[16]- عمرو شريف: خرافة الإلحاد، ط 1، مكتبة الشـروق الدولية، القاهرة ، 2014 ، ص: 77.

[17]- أبو حب الله – أحمد حسن- : العلم بين الإيمان والإلحاد، موقع الألوكة في الشبكة المعلوماتية.

[18]- عمرو شريف: خرافة الإلحاد ، ط 1، مكتبة الشـروق الدولية، القاهرة ، 2014 ، ص: 28.

[19]- تعليق الفيلسوف (وليام كريچ) على فيلم "The Unbelievers" لـ ريتشارد دوكنز و لورنس كراوس، مدونة على الشبكة المعلوماتية: أنا مسلم، أنا مفكر، مدونة تختص في نقد الفكر الإلحادي والمذهبي ونظرية التطوّر.، 21/ ماي/ 2014 ، الصفحة على الفيسبوك: https://www.facebook.com/Iamagainstclosedboxes.و محمود المغيربي: تعليق الفيلسوف وليام كريچ على فيلم "The Unbelievers" لـ ريتشارد دوكنز و لورنس كراوس ، منتدى التوحيد، موقع التوحيد على الشبكة المعلوماتية .

[20]- نخبة من العلماء الأمريكيين: الله يتجلى في عصر العلم، ترجمة: الدمرداش عبد المجيد سرحان، دار القلم، بيروت، ص: 156.

[21]- الزمان قبل بلانك، مدونة نسف الإلحاد، موقع http://antishobhat.blogspot.com/، على الشبكة المعلوماتية.

[22]- تعليق الفيلسوف (وليام كريچ) على فيلم "The Unbelievers" لـ ريتشارد دوكنز و لورنس كراوس، مدونة على الشبكة المعلوماتية: أنا مسلم، أنا مفكر، مدونة تختص في نقد الفكر الإلحادي والمذهبي ونظرية التطوّر.، 21/ ماي/ 2014، الصفحة على الفيسبوك: https://www.facebook.com/Iamagainstclosedboxes. و محمود المغيربي: تعليق الفيلسوف وليام كريچ على فيلم "The Unbelievers" لـ ريتشارد دوكنز و لورنس كراوس ، منتدى التوحيد، موقع التوحيد على الشبكة المعلوماتية .

[23]- المصدر السابق نفسه .

[24]- جورج إير دافيز: الكشوف العلمية تثبت وجود الله، مدونة لا للإلحاد، على الشبكة المعلوماتية.

[25]- بول ديفيز:  هل العلم قائم على الإيمان؟، ترجمة: سهيل محمود، موقع: أثارة، https://atharah.com.

[26]- بول ديفيز:  هل العلم قائم على الإيمان؟، ترجمة: سهيل محمود، موقع: أثارة، https://atharah.com.

[27]- مونيكا غرادي: هل يمكن للفيزياء إثبات وجود إله؟، 9 مارس/ آذار 2021. https://www.bbc.com/arabic .

[28]- وجود الله، https://ar.wikipedia.org/wiki.

[29]- وجود الله، https://ar.wikipedia.org/wiki.

[30]- نفسه.

[31]- نفسه.

[32]- نفسه.

[33]- نفسه.

[34]- وجود الله، https://ar.wikipedia.org/wiki.

[35]- نفسه.

[36]- البخاري: الصحيح، ج 9 ص: 129، رقم: 7439. والنسائي: السنن ، ج 4 ص: 396، رقم:2598 .

[37]- وجود الله، https://ar.wikipedia.org/wiki.

[38]- أحمد عبد العزيز: أشهر الاعتراضات على حجة الضبط الدقيق والرد عليها: 1 ، 13 أكتوبر 2021، موقع أثارة، https://atharah.com/the-most-famous-objections-to-the-fine-tuning-1.

[39]- إلحاد اليأس.. دوستوفسكي أنموذجاً، 7/جوان/ 2020، موقع مناصحة، http://www.mnasaha.twjih-sy.net.

[40]- إلحاد اليأس.. دوستوفسكي أنموذجاً، 7/جوان/ 2020، موقع مناصحة، http://www.mnasaha.twjih-sy.net.

[41]- نفسه.

[42]- مقتطفات صفع الإلحاد: 2 ، منتديات حراس العقيدة على الشبكة المعلوماتية. والعشـرة الكاملة في دحض نظرية التطور الباطلة، منتديات الـشروق، http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=317715.

[43]- هل الإلحاد لا عقلاني؟، حوار (جاري جتنج) مع (ألفن بلانتنجا)، ترجمة: عبد الله الشهري، 2015، مركز براهين https://www.braheen.com.  

[44]- يوسف نظيف: مشكلة الملحدين مع الله.. مشكلة نفسية، مركز يقين : http://yaqenn.com/.

[45]- إسماعيل عرفة: حيلة نفسية أم خيار عقلي؟ هكذا بدأ الإلحاد، 25/07/2017 ، الجزيرة، https://www.aljazeera.net.

[46]- سامح عودة: لماذا ينتشر الإلحاد، 26/7/2018، الجزيرة:   https://www.aljazeera.net.

 

[47]- موشي افيريك: من السهل أن تكون ملحداً إذا تجاهلت العلم، 10/ أغسطس / 2016، https://www.algemeiner.com/2016/08/10/its-easy-to-be-an-atheist-if-you-ignore-science/#disqus_thread.

[48]- التلقين المُلحد: https://conservapedia.com/Atheist_indoctrination.

[49]- التلقين المُلحد: https://conservapedia.com/Atheist_indoctrination.

[50]- إلحاد اليأس.. دوستوفسكي أنموذجاً، 7/جوان/ 2020، موقع مناصحة، http://www.mnasaha.twjih-sy.net.

[51]- نفسه.

[52]- نفسه

[53]- نفسه.

[54]- نفسه.

[55]- إلحاد اليأس.. دوستوفسكي أنموذجاً ، 7/جوان/ 2020، موقع مناصحة، http://www.mnasaha.twjih-sy.net.

[56]- أحمد أبو رتيمة: رحلة جيفري لانج مع القرآن، https://arabi21.com/story/1305803.


t مجلة الحوار ǀ العدد 185  ǀ السنة الحادية والعشرون ǀ خريف 2023 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق