01‏/10‏/2023

الحلاج في زمن الغيبة الصغرى ­­­­­­­­­­­­

د. سعد سعيد الديوەجي

   يعتبر الحسين بن منصور الحلاج (240-309هـ)، من أشهر الشخصيات في تاريخ التصوف الإسلامي الحلولي، والذي أثبتت الدراسات الجادة انتماءه للإسماعيلية الباطنية، واتخاذه لمظاهر التصوف غطاءً في نشـر أفكاره، ومنها الاستغناء عن ركن الحج في (مكة)، لذلك صار الحج والكعبة هدفاً للقرامطة، وهم الذراع العسكري للإسماعيلية، فهاجموا الكعبة، وقتلوا الحجيج بأبشع صورة عرفها التاريخ عام (317هـ)، ويمكن الاطلاع على كثير من التفاصيل في كتاب (القرامطة) لميشال دي خويه.

في ذاك الزّمن تبلور الفكر الإسلامي إلى عدة تيارات، سواء داخل الحركة السنيّة أم الشيعيّة، وصار الحلاج من أبرز دعاة الإسماعيلية الباطنية، وتَنقّل في سبيل ذلك في طول البلاد وعرضها.

ولعلّ أبرز الحركات الشيعية هي الاثني عشـرية، حيث يؤمن أتباعها باثني عشـر إماماً؛ أولهم علي بن أبي طالب (رض)، وآخرهم المهدي بن الحسن العسكري (رض)، الذي ولد عام (255هـ)، ثم دخل الغيبة عام (260هـ)، وإلى حد الآن، وهو الذي سيقيم دولة العدل الإلهي في آخر الزمان، كما يعتقدون.

تنقسم الغيبة إلى فترتين رئيستين؛ الغيبة الصغرى، وهي من (260هـ) إلى (329هـ)، والغيبة الكبرى، من التاريخ الأخير إلى ظهور المهدي في آخر الزمان.

في زمن الغيبة الصغرى كانت حلقة الوصل بين الإمام الغائب وشيعته هم من يسمون بالسفراء، الذين ينقلون استفسارات الناس وأسئلتهم إليه، ويستلمون توجيهاته وإرشاداته، من خلال ما يسمى بالتوقيعات، وهي رسائل بتوقيع الإمام، وبخط يشابه خط الإمام الحادي عشر!

وهؤلاء السفراء هم: أبو عمر عثمان بن سعيد العمري (260-268ه)، ثم ابنه محمد بن عثمان العمري (268-305ه)، ثم الحسين بن روح النوبختي (305-326هـ)، وهو فارسي، وأخيراً: أبو الحسن علي بن محمد السمري، الذي انتهت بوفاته الغيبة الصغرى عام (329هـ)، والأخبار عنه قليلة جداً.

وكان لهؤلاء السفراء وكلاء، كلاً حسب منطقته، يجمعون الأسئلة والاستفسارات، وينقلونها للإمام الغائب، وكذلك يجمعون أموال الخراج والخمس، ثم يوصلونها إليه كذلك.

يقول الدكتور جواد علي، في كتابه (المهدي المنتظر- عند الشيعة الاثني عشـرية)، نقلاً عن رسالة لمحمد حسين كاشف الغطاء، بأن السفراء أخذوا مناصبهم بتوصية من الإمام نفسه. ويرى كاشف الغطاء أن المسألة من أخبار الآحاد، ولكنها أمينة، بحيث يمكن إقامة رأي علمي عليها دون حرج!

في هذا الزّمن كان الوضع السياسي داخل الدولة العباسية ضعيفاً، ومضطرباً، ويشهد اختراقاً وصراعاً على النفوذ بين كل التيارات. ولكسب ود أتباعه من الشيعة مثلاً، فقد ألف الخليفة المعتضد (279-289ه) كتاباً يلعن فيه عدو العلويين معاوية بن أبي سفيان، وطلب من جميع رعاياه قراءته!

ولعل أسوأ ما وصل إليه الصـراع داخل القصـر العباسي، كان في زمن الخليفة المقتدر بالله (295-320هـ)، الذي فوض أمور الدولة إلى نسائه ورجال قصره، وتفرغ هو للهو واللعب.

في هذا الزمن الذي شهد بدايات عصـر الفوضى العسكرية، نشأت الدولة الفاطمية عام (297ه)، في شمال أفريقيا على يد عبيد الله المهدي، وهي على المذهب الإسماعيلي الباطني، وكانت على خلاف مع المذهب الاثني عشـري، خصوصاً بما يتعلّق بأمور الولاية والمهدوية.

وفي الشـرق قامت عدّة إمارات، مثل الضاهرية (204-385هـ)، والصفارية (254-298هـ)، والسامانية (204-392هـ)، والحمدانيون في الموصل (291-381هـ)، وغيرها.

ولعلّ أخطر هذه الكيانات على الدولة العباسية كانت الدولة الفاطمية، التي قامت على أُسس نظامية غاية في الدقة والسـرية باسم الدعوة لآل البيت، تحت غطاء أن الإمامة في نسل إسماعيل بن جعفر الصادق (ت138هـ).

وقسمت الإسماعيلية الإمامة إلى قسمين، إمامة مستقرة، وإمامة مستودعة، والإمام المستودع (الظاهر) هو الذي يكون وصياً على الإمام المستقر الحقيقي (المُستتر)، في حال كونه صغير السن، أو بسبب الخوف عليه.

وبقي الحال على ما هو عليه إلى أن أعلن عبيد الله المهدي أنه هو الإمام المستقر الحقيقي، وأنهى فكرة الازدواجية في الإمامة، وقال بأنه هو الإمام المستقر والمستودع.

انتشـر دعاة الإسماعيلية قبل قيام الدولة الفاطمية بصورة كبيرة، وكان الحلاج أحد دعاتها الأكثر نشاطاً وسريةً في عدة مجالات.

لقد صرح الحلاج بأشياء كثيرة، كالاستغناء عن فريضة الحج، وإمكانية أن يؤديها كلّ في بيته، كما ذكرنا آنفاً. وأما أشعاره، فمملوءة بأفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، كقوله:

 رَأَيتُ رَبّي بِعَينِ قَلبي               فَقُلتُ مَن أَنتَ قالَ أَنتَ

فَلَيسَ لِلأَينِ مِنكَ أَينٌ              وَلَيسَ أَينٌ بِحَيثُ أَنتَ

فَفي فَنائي فَنا فَنائي                 وَفي فَنائي وُجِدتَ أَنتَ

في مَحو اِسمي وَرَسمِ جِسمي    سَأَلتُ عَني فَقُلتُ أَنتَ

أَشمارُ سِرّي إِلَيكَ حَتّى            فَنَيتُ عَنّي وَدُمتَ أَنتَ

أَنتَ حَياتي وَسِرُّ قَلبي             فَحَيثُما كُنتُ كُنتَ أَنتَ

                  أَحَطتَ عِلماً بِكُلِّ شَيءٍ            فَكُلُّ شَيءٍ أَراهُ أَنتَ

إلى جانب ذلك، فقد رفع من منزلتي إبليس وفرعون بصورة مبهمة في كتابه المسمى (الطواسين)، فيقول: "ما صحت الدعاوى لأحد إلا إبليس وأحمد، غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد (ص) كشف له عن عين العين. وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس"!.

لقد ساعد على بزوغ نجم الحلاج اضطراب الوضع السياسي داخل القصـر العباسي، وكثرة التيارات الفكرية المتلاطمة، ولعل أبرز تلك الصـراعات ما كان يدور بين الإسماعيلية من جهة، وكلاً من السنة والشيعة الاثني عشـرية، من جهة أخرى، لما شكلته الإسماعيلية، وجناحها العسكري (القرامطة)، من خطر داهم على الجميع.

ويشير الدكتور جواد علي، في كتابه آنف الذكر، أن ذلك شجع الحلاج على إعلان نفسه سفيراً للإمام الغائب بين الأوساط الاثني عشـرية لاستمالتهم وكسبهم إلى جانبه، وكان ذلك في زمن السفير الثالث، وكان قد سبقه غيره في هذه المسألة، وأشهرهم محمد بن علي الشلمغاني (ت322هـ).

في الوقت عينه، كان الحلاج قد اخترق البلاط بواسطة أحد كبار الموظفين، وهو نصر الحاجب، واكتسب ثقة بعض أفراد عائلة الخليفة، حيث استطاع بإحدى حيله إحياء ببغاء ولي العهد الراضي محمد بن جعفر المقتدر. وتقول بعض المصادر بأنه على الأغلب قام بجلب طائر آخر مشابه للأول بطريقة خفية!.

لقد أحس السفير الثالث الحسين بن روح، بأن شهرة الحلاج بلغت أوجها، وأن دعاويه قد انتشـرت، وعليه أن يسكته، فللحلاج موهبة الساحر الفتان والخطيب المفوه.

لقد كانت صورة الحلاج خليطاً حسياً مزركشاً من الألوان، فكان يدعي أمام الشيعة أنه شيعي، وأمام السنة أنه سني، وكانت طريقته تتغير بتغير الجمهور الملتف حوله، حيث ينقل الدكتور جواد علي عن كتاب (الغيبة) للطوسي، بأنه كان يظهر نفسه أمام بسطاء الناس بوصفه نائباً للمهدي، وعندما يثقون به يحدثهم عن زندقته المتصلة بتناسخ الأرواح.

لقد اشتهر الحلاج بإمكانية إحضار المال والطعام والشـراب عن طريق السحر (الحيلة)، وكل ما تشتهيه أنفسهم، فقد كانت (دراهم القدرة) جملة شائعة في ذلك الحين.

اصطدم الحلاج بأحد كبار علماء الاثني عشـرية، وهو أبو سهل بن علي النوبختي، وهو من نفس عائلة السفير الثالث الحسين بن روح، فتجرأ الحلاج على كتابة رسالة إلى أبي سهل طالباً فيها أن يؤمن بوكالته للإمام الغائب إيماناً صادقاً، وقد كتب هذه الرسالة باسم الإمام. وكان أبو سهل أكثر ذكاء من أن يصدق بكرامات الحلاج الكثيرة، فطلب منه طلباً يُعد شيئاً قليلاً مقارنة بتلك الكرامات، وذلك بأن يصبغ كل يوم جمعة شعره الأبيض ثم يعيده إلى لونه الأصلي، وهو الأسود، وعندها سينتهي من الشك فيه، وسيكون تابعه المتحمس له، والمبشر بتعاليمه.

عجز الحلاج عن هذه الكرامة، ونشـر أبو سهل الحكاية، وقضـى على الحلاج عن طريق السخرية منه، والتندر به، في مجالس العامة والخاصة. كذلك نجح أبو سهل بإقناع ابن داود، معلم الفقه السني، وأقنعه بإصدار فتواه الشهيرة بتكفير الحلاج وحرمانه من حماية القانون.

بعد فشله في بغداد، توجه الحلاج إلى مدينة (قم)، وسكانها كلهم من الشيعة الاثني عشـرية، وهم يؤمنون بعودة المهدي، فتصور الحلاج أنها تربة مناسبة لنشاطه، وأن أهل قم سيرحبون به، وكان في الحقيقة يريد نشر تعاليمه الباطنية الإسماعيلية، فتصدّى له علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، وأبعده عن المدينة، هذا ما جاء في كتاب (الغيبة) للطوسي.

عاد الحلاج إلى بغداد، وتصدى له مرة أخرى أبو سهل النوبختي، الذي طلب منه إحضار دراهم القدرة مكتوباً عليها اسمه واسم أبيه، وعندما عجز الحلاج عن ذلك تعرض للسخرية مرة أخرى.

جاءت هذه النكسات بعد أن كان الحلاج قد أقنع قسماً كبيراً من علية القوم بأنه هو الرئيس المحجوب، على حد قول الاصطخري، وكان فيهم الوزراء والأمراء والولاة والأشراف الهاشميين، وكانت لهم معه مراسلات فيها (هدايا روحية)، مما هيأ له الخوض في السياسة العامة، على حد قول المستشـرق (ماسينيون) (ت1961م)، بدون أن يشـرح لنا معنى (الهدايا الروحية)، سوى أنها الاختراق الفكري - على الأغلب - للكتل السياسية المتصارعة.

لقد شعر الوزير ابن الفرات، وهو على المذهب الاثني عشـري، بخطورة الحلاج، واكتشف أن هنالك مؤامرة تحاك داخل بغداد لنصـرة المذهب الإسماعيلي، وجناحه العسكري المتمثل بالقرامطة، فأصدر أمراً بالقبض على الحلاج وأتباعه، فقبض على أربعة منهم، ونجا الحلاج، وشخص آخر يدعى الكرنبائي، وذهبا إلى بلدة (سوس) بالأهواز، وكانت على المذهب الحنبلي.

تم القبض على الحلاج عام (301هـ/913م)، وجيء به إلى بغداد محقوراً ومشهوراً على جمل، ونودي عليه: هذا أحد القرامطة، فاعرفوهم.

ولكنه لم يوضع في السجن، وإنما وضعه الخليفة المقتدر بدار الحاجب نصـر القشوري، والذي يدعي البعض بأنه من تلامذة الحلاج المخلصين، على حد قول (ماسينيون).

لم ينخدع بعض المؤرخين بصوفية الحلاج، كابن النديم (ت385هـ)، صاحب (الفهرست)، حيث قال: "إنه أي الحلاج، كان محتالاً مشعبذاً، يتعاطى مذاهب الصوفية،... وكان يعرف شيئاً من صناعة الكيمياء، ... ويظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، ... وأنه يروم قلب الدول،...".

والكل يعلم نهاية الحلاج، ومحاكمته التي جرت بين عامي (308-309هـ)، والتي جرت علناً على منصة عالية، واستمرت سنة و٧ شهور و٨ أيام، والتي أدت إلى إعدامه، تحت تأثير قرار شيعي اثني عشـري، على حد قول (ماسينيون)، فقد كان أوّل الشهود الذين أحضـرهم الوزير حامد بن العباس، وهو سني؛ السفير الرابع والأخير: علي بن محمد السمري.

لقد طغت على معظم الدراسات حول الحلاج نهايته المأساوية مقتولاً على الصليب، وهي دراسات عاطفية في معظمها، شأن كثير من دراساتنا التاريخية.

t مجلة الحوار ǀ العدد 185  ǀ السنة الحادية والعشرون ǀ خريف 2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق