01‏/10‏/2023

السياسة والكذب!

بكر أبو بكر - فلسطين

 (الكذب ملح الرجال)، و(أعذب الشعر أكذبه)، لا تعبر عن حقيقة قيم العرب مطلقًا، فلم يثبت قط نسبتها لهم، خاصة الأولى. فالعرب هم روّاد الصدق والشجاعة؛ بالقول والفعل، والمروءة والقيم والأخلاق السامية، التي جاء الإسلام لإتمامها وإكمالها.

لذلك كانت كل أمثال العرب تحضّ على الصدق والأمانة، وليس منها بتاتًا ما يمدح الكذب، فكما قال حكيم العرب أكثم بن صيفي: (الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة)، وقال أبوبكر الصديق: (الصدقُ أمانة، والكذبُ خيانة).

وكذلك الأمر ما جاء في القرآن الكريم: [فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه]، والكثير من الآيات الكريمة. وأحاديث سيد الخلق، وسيرته، واضحة. وفي ذلك أيضاً يقول ابن القيم: "الإيمان أساسُه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذبٌ وإيمان".

إذن، لنفسّـر - إن شئت - جملة (الكذب ملح الرجال)، إن لجأت لاستخدامها، باعتبارها عبارة تهكمية - أو هكذا من الممكن أن تستخدم - وليست تقريرية. أي أنها  تستخدم - وعدم فعل ذلك أولى - حين يكذب أحدهم ولا تريد الإساءة له، وإنما تنبهه إلى الخطأ بمودة، تقول له هذه العبارة، مع حدجة عين تعني ألا يكررها.

الكذب في الشعر والأدب:

أمّا (أعذب الشعر أكذبه)، فهي مما لا أتفق معه، فالشعر الصادق هو بالحقيقة العذب، وإن قصد بالكذب هو التصوير الفني، فهذا ما أراه نقصاً بالفهم، إذ لطالما استخدم الأدباء، وحتى الساسة، التصوير الفني لإعطاء صورة مرئية لما يريدون قوله.

(أعذب الشعر أكذبه) فيها آراء عديدة للقبول والتبرير أو التفسير، أو الرفض.. قرأناها بالقديم والحديث، ولكننا نسوق في ما يَلي نصّاً مُفيداً للشّيْخ عبد الرّحمن حَسَن حَبَنَّكَه المَيْدانيّ، من كتابِه (البَلاغة العربيّة، أسُسُها وعُلومُها وفُنونُها)، دار القلم، دمشق، الدّار الشّاميّة، بيروت، ط.2، 2007 ج: 1 ، ص: 55 ، حيث يقول: أما "دعوى (أعذب الشعر أكذبه)، فهي دعوى لا أساسَ لها من الصحّة، لدى التحليل والبحث عن العناصر الجماليّة في الأدب. إنّ الحقّ إذا لَبِسَ ثوباً أدبيّاً جميلاً كان أجملَ من الباطل لا محالةَ، مهما لبس من أثواب جميلة مزخرفة."

ما بين الكذب في الحياة الاجتماعية ما نرفضه، والكذب في الشعر أو الكتابة ما لا نقبله، يأتي دور الكذب في السياسة، وهو مما يمكن القول فيه أن الكذب على الأعداء، والخديعة، خاصة أثناء الحرب، يعتبر من مقومات الاستراتيجية العسكرية. أما في التعاملات بين الدول، وخاصة فترات السلم، وبين التيارات المختلفة داخل البلد، فإن الكذب - مهما قلنا عنه - فإنه مستخدم وبأشكال مختلفة، تقترب أو تبتعد عن معنى الكذب الذي قد يتخذ أشكالًا عدة.

الكذب في السياسة:  
  إن "السياسي مطـالب بأن يكون براغماتياً في تعامله مع كل المكوّنات في الدولة؛ من الشعب والمؤسسات والأحزاب، غايته في ذلك تحقيق الهدف المنشود، وهو الحفاظ على البلاد. وهذه البراغماتية تفترض حضور الدهاء السياسي والقوّة والتبصـّر والمكر واختيار أنجع الوسائل لتحقيق السيطرة "[1]

ويورد أستاذ الفلسفة د. نبيل بن عبداللطيف[2] أن: "كذب رجل السياسة مبني أساساً على أهداف تكتيكيّة، تقوم إمّا على فرضيّة استغفال الشعب، وعدم تثمين قدراته الذهنيّة وكفاءاته الحقيقية، وإمّا على اعتبار المصلحة العامة للبلاد. وفي الحالتين هناك تهميش واضح للقوى الشعبيّة.

ومع ذلك، فإنّ "كذب السياسي يكون مدروساً ومخططاً له مسبقاً، عن طريق حسن اطّلاع الحاكم على ميول الناس وطبائعهم الحقيقية. إنّه بالأحرى، لا يكذب من أجل الكذب، بل يكذب لأنّ هناك أرضيّة تسمح له بالكذب، وهذه الأرضية تتمثّل في سذاجة المحكومين، وميلهم إلى التصديق، وطمعهم الظاهر، وحرصهم على إظهار حاجتهم للسلطة".

ويزيد ليقول: "وهكذا، فإنّ ما يدفع السياسي إلى الكذب هي بنية التفكير الخرافي لدى الناس، التي تجعلهم يصدّقون كل الوعود التي يتلقونها. والغريب في الأمر أنّ تصديق كذب السياسيين لا يقتصـر على المجتمعات ذات البنية التقليدية فقط؛ مثل المجتمعات البدوية أو القبلية، بل ينتشـر كذلك في المجتمعات (المتحضـّرة) و(المتقدمة)، ولعلّ أبرز مظهر لتجلّي الوعود الكاذبة هي الانتخابات، حتى ولو كانت هذه الانتخابات ديمقراطية في شكلها، إذ تكون فرصة لإطلاق الأحزاب لترسانة ضخمة من الوعود، التي سرعان ما تذوب وتتبخّر بمجرّد وصول الحزب إلى سدّة الحكم".

"الكذب والصدق صفتان منطقيّتان لا غير، وفي السياسة والحكم ينبغي أن نترك جانباً الدلالات الأخلاقية أو الجمالية لهذين المعنيين، لأنّ كل شيء يصبح ذا منطق خاص يرتبط بالمنفعة وجلب المصلحة للشعب، أي باختصار، السياسة هي مجال الجدوى."

 ويختم بالقول الفصل: "مهما يكن من أمر، فإنّ السياسة تفلت دائماً من دائرة العلوم الصحيحة، التي تقتضي منهجاً واضحاً وموضوعيّاً دقيقاً ومحدّداً، يمكن إخضاعه إلى منطق السببية والضـرورة. بل يمكننا اعتبارها فنّاً أكثر من كونها علماً. فالسياسي هو فنّان بدرجة أولى، لأنّه مطالب أوّلاً وبشكل خاص، بأن يبني نمطاً مجتمعياً ناجحاً، انطلاقاً من مادة معقّدة وشديدة التركيب، وهذه المادة هي ما يسميها فلاسفة السياسة (الطبيعة البشـرية). ومع ذلك، فإنّ توفّر حدّ أدنى من (علم الواجبات الأخلاقية = الإيثيقا) السياسيّة والقيم الأخلاقية، كفيل بأن يُحافظ على الأبعاد الإنسانيّة لفنّ السياسة، ويُجنّب البشريّة ويلات الشر المتربّص بها."

فإن اعتبرنا الصدق والكذب في السياسة تقع في مجال الجدوى، فما هي الجدوى بتكرار السياسي لكذبةٍ مكرّرةٍ لم تعد تنطلي على أحد؟ بمعنى أنها أصبحت مكشوفة، مما كان يردّده صديقنا السياسي الفلاني، الذي كان ينسب القول لنفسه بسـرقته من الآخرين، وينسب التحليل أو المعلومة أو الفكرة لنفسه؟ وهو يكذب علنًا فيما هي أفكار مسروقة من الآخرين؟

وما الجدوى من تكرار الوعود في محافل لا تعد ولا تحصـى، وحين التحقق من صدقيتها فإن أصحابها قد (عادوا بخفي حنين) من عند السياسي؟ لذا يجب أن يتوفر حد أدنى من المصداقية المقوننة، والتي عبرها يتمّ القياس والحكم.

 

الهوامش:

[1]   عبد الحق منصف، كانط في مواجهة الحداثة، بين الشرعية الأخلاقية والشرعية السياسية، أفريقيا للشرق، الدار البيضاء، 2010، ص 253.

[2]  د.نبيل بن عبداللطيف، مقال في الميادين، تحت عنوان: السياسة والكذب: لماذا يكذب السياسيون؟


t مجلة الحوار ǀ العدد 185  ǀ السنة الحادية والعشرون ǀ خريف 2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق