01‏/10‏/2023

مشهدان للقيم الجمالية في مطلع سورة النحل

 أ. د. منجد مصطفى بهجت

  الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه، وبعد.

فالثنائيات كثيرة، وهي تأخذ وجوهاً متنوعة، منها ما يكون في اللغة، ألّف فيها المحبّي، المتوفى سنة 1111هـ، كتابه (جنى الجنتين في تمييز المثنيين)، ورتبه على حروف المعجم. وقد وجدت في القرآن الكريم ما جاء في حال التثنية، لا ثالث لهما، بسملتان في سورة واحدة، سجدتان في سورة واحدة، سكتتان في موضعين من القرآن كله([1]).

وتأخذ الثنائيات بعدها الحضاري، ولا سيما عند الدكتور عماد الدين خليل، في مواضع كثيرة من كتبه. لكن موقفي سيكون معكم في مشهدين من مشاهد القرآن الكريم، في إحدى عشـرة آية متصلة من (5- 16)، تفصل بين المشهدين آية واحدة برقم 9. وسورة النحل مكّية، وعدد آياتها 128 آية، وتأخذ تسلسل 16 من ترتيب سور القرآن الكريم.

والقرآن الكريم، نزل على معهود العرب في لغتهم وبلاغتها، وقدّم لنا قيماً جمالية، أصبحت مأثورة وموروثة، ومثلاً محتذى عند العرب في خطاباتهم المتنوعة، شعراً ونثراً، دون أن يكون ذلك مدعاة لمعارضة الأدباء، فيما ينصـرف إليه مفهوم المعارضة، في محاولة التفوق على النص المحتذى. والمشهدان يرتبطان بالإنسان؛ قيم جمالية في الأرض، وأخرى في البحر، وقيم جمالية في عالم الحيوان، الحياة المتحركة، وأخرى في عالم النبات، الحياة الصامتة. والمشهدان متجاوران - كما ذكرت سابقاً- والأول يتمثل في أربع آيات، والثاني في سبع آيات.

       جاء المشهد الأول في الآيات (5-8) يستعرض الطبيعة الحية، في كلمة ذات دلالة واسعة، هي (الأنعام). ففي الآية:5 جعل المنافع وسطاً بين الدفء والأكل، وفي كليهما منفعة، واختار صيغة الجمع، للإشارة إلى سعة ميدانها. ولا شك أن النفع كثيراً ما يقترن بالقيم الجمالية، في المدارس النقدية.

 وفي المشهد العام عن الأنعام: 6، يقدم صورتها في حالتين مختلفتين، ولا يخفى أن لكل من الحالتين، زاوية جمالية مختلفة، فهذه الأنعام تراها في الصباح غيرها في المساء. وهذه القيمة الجمالية مطّردة في كثير مما حولنا، فالشمس في شروقها غيرها في غروبها! والقمر كذلك تتعدد صوره وفق منازله.

 وتعود الآية: 7، للمنافع، منفعة لاحقة، ممثلة في حملها الأثقال، مقرونة بثلاثة أنواع من الأنعام: الخيل والبغال والحمير، ويأتي التعبير بليغاً، عن المهمة الشاقة، وأنها ليست مما يدركه الإنسان بسهولة، بل بشقّ الأنفس.  

        [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ 5 وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْـرَحُونَ-6، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ- 7، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ- 8].

  ويأتي المشهد الثاني في الآيات: (10-16) ما ينزل من السماء، يشـربه الإنسان، وكذلك الأنعام ترعى ما ينبته. والشجر والزرع عام، ينتقل منه إلى الخاص، الزيتون والنخيل والأعناب، وحيثما اجتمع النخيل بالأعناب، فهي جنة. وبعد الخاص يعود للعام، فيذكر الثمرات مسبوقة بـ(كل)، ثم يعقب بالقيم الجمالية المرتبطة بالمظاهر الكونية المتنوعة، لليل والنهار، وما يرتبط بهما من شمس وقمر ونجوم. وكل ذلك يستدعي التفكر والتدبر، فهذه المظاهر ليست عبثاً، بل تقترن، في مفهوم القرآن، بتوحيد الله، إذ نجد كثيرين ذهبوا إلى تقديسها، ونسيان خالقها، الحري بالتقديس والعبادة. 

 [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ- 10 يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ- 11 وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ- 12 وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ- 13 وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ- 14 وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ- 15 وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ- 16].

ويسدل الستار بعد المشهدين المتقدمين، بالتذكير، بأن ما تقدم هو من الخالق، وبون شاسع بينه وبين المتأمل في الخلق، العاجز عنه، وأنه من نعمه التي جدير بنا معرفة فضله بها علينا، وهي تخرج عن العدّ والحصـر، ومن كرم الله تعالى أنه يغفر للإنسان عدم قيامه بشكرها! ولا يقطعها عنه!

[أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ- 17 وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا، إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 18].

ونسأل الله أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وأن يوفقنا لتأمل آياته وتدبرها، فيما تقدم من القيم الجمالية في الأرض والبحر، والقيم الجمالية في عالم الحيوان، الحياة المتحركة، والأخرى في عالم النبات، الحياة الصامتة.. والله ولي التوفيق.

بطاقة تعريف:

 

* الأستاذ الدكتور منجد مصطفى بهجت، ولـد في مدينة كركوك عام 1947، وأنهى تعليمه المدرسي في أربيل عام 1964. التحق بجامعة بغداد، وحصل منها على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية سنة 1968، وعلى الماجستير من جامعة الأزهر عام 1973، وأعقبها بالدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1982.

* عمل مدرِّساً بجامعة الموصل ابتداءً من عام 1976، واستمرّ بالعمل فيها، ونال درجة الأستاذية عام 1990.

* اضطر لمغادرة العراق عام 1992، إلى اليمن، حيث عمل في جامعة صنعاء، واستمرّ بها حتى عام 1994. انتقل بعد ذلك إلى ماليزيا؛ ليعمل محاضراً في الجامعة الإسلامية العالمية.

* ألّف وجمع وحقّق العشـرات من الكتب التي تعنى بالأدب الأندلسـي. ومن أشهر كتبه:

- الاتجاه الإسلامي في الشعر الأندلسـي في عهدي ملوك الطوائف والمرابطين.

- روضة المحاسن وعمدة المُحاسن، وفصول من كتاب بادرة العصـر وفائدة المصـر، لأبي يحيى الجزار السـرقسطي، دراسة وتحقيق.

- الأدب الأندلسـي من الفتح حتى سقوط غرناطة.

- تراجم مختارة للأدباء الإسلاميين في القرن العشـرين.

- عقود الجمان في شعراء هذا الزمان، كمال الدين أبو البركات بن الشعار الموصلي (ت 654 هـ) دراسة وتحقيق.

- عقود الجمان ذيل وفيات الأعيان، برهان الدين الزركشـي، دراسة وتحقيق.

- النقد السياسي والاجتماعي في شعر الرصافي.

- الإسلامية في الأدب والنقد.

* نشـر ما لا يقل عن خمسين بحثاً في المجلات العلمية المحكمة في جامعة الموصل، والجامعة المستنصـرية، وكذلك في مجلات المورد ببغداد، واتحاد الجامعات العربية في الأردن، ومجمع اللغة العربية الأردني، ومعهد المخطوطات العربية بالكويت، ودراسات أندلسية بتونس، ودعوة الحق بالمغرب، وكلية الإنسانيات بقطر، ومجلة الأدب الإسلامي بالرياض، وكذلك مجلة الدراسات اللغوية والأدبية في الجامعة الإسلامية العالمية، ومجلة الإسلام في آسيا التي تصدر في ماليزيا.


[1]  أما البسملتان ففي سورة النمل، وأما السجدتان ففي سورة الحج، وأما السكتتان ففي سورة القيامة- 27، وفي سورة المطففين- 13.


t مجلة الحوار ǀ العدد 185  ǀ السنة الحادية والعشرون ǀ خريف 2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق