بسام الطعان
في أصيل سماؤه حمراء، كانت المدينة تعـيش حالة سـبات، وحين داهمها الخبر بدت كخلية نحل، وزفت الخلايا إلى الهذيان، النسوة عند الأبواب جلسن، حللن الشعر، كشفن الصدر، ونثرن الويل، وخرج الرجال والأطفال إلـى الشوارع مذهولين، ولم تمض دقائق، حتى نبتت في النفوس عناقيد من نار تخلع قافية القلب.
عندما جاؤوا بجثته وألقوها في سـاحة القرية، قالوا كلمات كثـيرة وهم يصرخون، هددوا وتوعدوا، ثم ناموا، وأنت يا صديقي ملقى على الأرض المشتعلة بدمائك، وتسخر في إباء، تسخر من غدر ترتج منه الأرض والسماء، وأنا تشتعل الأرض تحت قدميّ، أحملق فيك، ولا أرفع عينيّ عنك أبداً، كانت بقع الدم على وجهك، وشعرك، وثيابك البيضاء الممزقة، ووجهك كان صافياً مثل الحقيقة، ترفرف حول شفتيك ابتسامة صغيرة هادئة.
كان الحزن يتأبط زند مساماتي، يراقص جسدي، ويلقي به في أشداق القهر، وكنت أتكلم معك، أطلب منك أن تنهض، ولم أكن أعبأ بنظرات الاستغراب التي ترمقني بها أعين الجيف المتحركة، وحين تقدم أحدهم ليغطي وجهك أبعدته بهدوء وقلت:
ـ إن صديقي يريد أن يضحك.
حينها تدلت الرؤوس من فوق الأكتاف، وطلعت الألسنة، وتمتم الكثيرون، وتهامسوا فيما بينهم، وقالوا إنني أصبت بالجنون.
إيه.. يا صديقي، في الحضـور كنت نجماً، وفي الغياب ستبقى نجـماً، أتذكر يا صديقي زيارتك الأخيرة لي، بعد أن تعاقبت علينا الأعوام الكثيرة، زرتني في صباح شمسه باردة هزيلة هزالة جسمك، جلست للحظات ثم قلت بتعب واضح: "نحن غريبان هنا، بين الأحياء الموتى". ثم طلبت مني أن ندور في الجهـات، وندخل في مفازات الضجيج، فقلت لك:" لنسـترح قليلاً ثم نمضي". لكنك نهضت دون فرح، أو كآبة، وأخرجت من حنجرتك الواهنة هذه الكلمات:" أريد أن أغتسل مــن غبار الرتابة وبلادة الأوقات". ثم أضفت، وأنت ترسم لوحة مصبوغة بالبراءة والبكاء: "ما أبعدني عن هذه الدنيا، التي مات الإنسان فيها، وما أقربها مني". ولم أفهم قصدك، غير أنني قلت: "أنت السنديان، الذي يتعـب الحطابين قبل أن يتهاوى. فقلت: "أرى الدنيا يغطيها الغمام". سعيت إلى المعرفة. نبأتني: "ضاعت مفاتيح الأيام، وفشلت في الولوج في حب الحياة". وحين فتح الليل عباءته، لاحظت أن الموت يحوم حولك، ويرسم وروده السوداء على كل خلية من خلاياك، وعلى كل شريان يجري في عروقك، حينئذ حزنت وبكيت.
وحين حملوك على الأكتاف، بعد أن قضيت ليلة في العراء، وبعض الدم الجميل تيبّس على الخد والذقن، شاهدت مئات البلابل تطلق تغاريدها، وكأنها تزفك إلى أجمل أيام عمرك، وكانت أمك تدور حول نفسها كمهرة دائخة، تبعثر شعرها، تعفّر وجهـها بالتراب والوحل، وحيث تدوس بقدميها الحافيتين، تنبت وردة سوداء.
كنت في أودية الصمت، أصطنع العقل، أسـير مع الموكب خلف جنازتك، أعبر السيول المدمرة، أذهب إلى الموت، أتحـول إلى ظلام أبدي، وثمة أطياف من الجـن تتراقص من حولي، وتحاول الانقضاض عليّ. جسدي كالقصب في الريح كان يرتجف، وكنت أنظر إليك، أصادق البكاء، وأحس أنك تنهض من النعش، وتقول:
ـ يا لبرودة دمكم، أرى بينكم منافقين ودجالين، أرى بيـنكم شياطين، موتي نكتة، أنزلوني لأبوحها في يديكم.
ما إن وصلنا إلى المقبرة، حتى سمعتك تقول:
ـ لا أريد أن أكون كاليتيم على مائدة اللئيم.
وحين دفعوا بك إلى الحفرة، انفجرت ضاحكاً ضحكة كئيبة، أكثر من البكاء، ثم رحت تصرخ بأعلى صوتك:
ـ اردموا الحفرة، واغربوا عن وجهي، لا أريد أن أراكم.
حينئذ هتفت، وأنا أحس بأن صخرة كبيرة جاثمة فوق صدري:
ـ آه يا صديقي، تقصد من؟
وعندما انتهوا من عملهم، رفعت راية الانتصار، وصحت:
ـ انتظروا يا تنابل، أريد أن ألقي كلمة في حفل موتكم هذا.
لكنهم لم ينتبهوا إليك، لأن عيونهم كانت تشع رعباً كاذباً، ودماً جامداً، وناراً باردة.
مع الفجيعة والغياب بقيت وحدي فـي المقبرة، ارتميت فوق التربة، يبللني عرق كثيف، ودموع ساخنة، ويكويني العذاب حتى الوريد: "إيه..إيه.. كنت مستقيما مثل وتر، وتوزع رغيفك على عابري السبيل، والآن عدت إلى الصفر الذي بدأت منه.. نم قرير العين يا صديقي، لقد غدروا بك، والطعان لن ينام، ولن ينسى القتلة".
أحسست لحظتـئذ بأنك تنهـض، وتقبلني، وتقول: "لست ميتاً يا صديقي، بل هم الميتون". ثم أضفت، وأنت تبتسم: " لا تتأخر في المجيء إليّ، وهناك سنظل معاً، وسنجلس تحت جدارات فيء علـى الضفاف، ولن نرى المنافقين والدجالين والبرابرة الظالمين".
إيه يا صديقي.. لقد سرقوك، وخاصموك في حياتك، وأكلوك في مماتك، فلماذا لم ترفع سيفك ؟ ولماذا عشقت الموت، ولم تعشق الحياة؟! وها أنت الآن تمضي، وسيمضي بعدك الكثيرون، ولم تحك لنا عن فكاهة الموت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق