د. سعيد
سليمان سعيد
التجربة
العلمانية الحاكمة في المنطقة، المتحالفة مع السلطة العسكرية، مع عمالتها الواضحة للأجندات
الخارجية – خارج دولها القُطرية – بحجة حفاظها على النظام العام، جسَّدت -وبدون حياء-
عدم الإيمان بالديموقراطية، وآلياتها، في التداول السلمي للسلطة، وفي تقبُّل التعددية
السياسية، وحتى الفكرية، وذلك بتشبُّثها بالسلطة، واحتكارها لمؤسساتها الوطنية، واستغلالها،
من أجل البقاء على كرسي الحكم، وعدم التنازل عنه، ولو كان على حساب مصلحة الوطن العليا،
والحفاظ على سيادته واستقلاله. وهذا الأمر واضح، من خلال إفساحها المجال للقوى الخارجية
بالتدخل السافر في دولها، وبطلب منها، بحجة محاربة الإرهاب والمتطرفين، فأصبحوا عملاء،
وبدرجة امتياز.
وقد التجأ
أصحاب هذه التجربة الفاشلة إلى الثورة المضادة، القائمة على أسس التخريب والتشويش والتشويه،
لسرقة ثورات الشعوب، وتطلعها نحو حياة الحرية والرفاهية، وذلك بتحريك الشرائح والفئات
المريضة من المجتمع، التي أنتجتها الأنظمة الفاسدة في الاتجاه المعاكس للثورات، فعملت
على إفشال التجارب الوطنية المخلصة، من خلال المؤسسات التي أصبحت أعمدة راسخة للدولة
العميقة. هذا الكيان المشوَّه، القائم على أسس ومبادئ الفساد والتبعية والمحسوبية والرشوة
وأكل المال العام. وهذه المؤسسات توغلت فيها العلمانية، لا من أجل خدمة الوطن والمواطن،
بل من أجل ترسيخ وتجذير تواجدها المُستَبِّد والمتسلِّط على رقاب الشعب، وبجميع فئاته
وشرائحه، ومن قِبل قلة قليلة فاسدة، لا يهمُّها في الحياة غير التحكُّم والتسلُّط والتلذُّذ
بمقدرات الشعوب، ولو كان على حساب جميع المبادئ والقيم الإنسانية.
علماً بأن
المؤسسات العامة ينبغي أن تكون وطنية وعامة مفتوحة للجميع، ولكن النظرة العلمانية الأحادية
الاحتكارية قامت باستغلال هذه المؤسسات، وبشكل سيء جداً، ليس من أجل الحفاظ على بنية
الدولة واستقلالها، بل من أجل الحفاظ على النخبة العلمانية، وأجنداتها الداخلية والخارجية،
فأصبحت وبالاً على الشعب ومُقدَّراته، وأصبحت معاول هدم لبنية الدولة، بدلاً من تقويتها،
وأصبحت وسيلة لانتهاك حقوق المواطنين، والاعتداء على كرامتهم، بدلاً من الحفاظ عليها.
وكنموذج
للمؤسسات، التي توغّلت فيها النخب العلمانية الفاسدة، واحتكرتها: المؤسسة العسكرية.
هذه المؤسسة الوطنية أصبحت مؤسسة مغلقة لهذه الفئة، من خلال سيطرتها الكاملة على الكليات،
والأكاديميات، العسكرية، وسيطرتها على مقدراتها، واستغلالها من أجل التسلُّط، وتحقيق
الثراء الفاحش، عن طريق عقود التسليح والتموين..إلخ، وهذه المؤسسة، وخاصة في الدول
العربية، لم تدخل معركة، وكسبتها، رغم الميزانيات الهائلة، ولعقود من الزمن.
وقد تم التحكّم
في هذه المؤسسة لتكون الأداة بيد السلطة العلمانية، لقهر وإخضاع المعارضين لها، بدلاً
من القيام بمهامها في الحفاظ على سيادة الدولة وحدودها.
فالنخبة
العلمانية، التي فشلت في تسيير الدولة نحو التطور والتقدم، والتي تدير السلطة بقوة
الحديد والنار، بعيداً عن الأساليب المشروعة في الحكم، قد سقط القناع عنها.
هذه النخبة،
التي تمثِّل جميع الأحزاب العلمانية، وبكل توجهاتها ومشاربها المتنوعة والمتعددة، والتي
تتشدق ليل نهار بالديموقراطية والحرية والتعددية، فشلت ورسبت في امتحان الديموقراطية،
وذلك بعدم تقبلها وعدم اعترافها بالفشل، وعدم تقبلها بآليات الديموقراطية؛ من صناديق
الاقتراع، وإلى موضوع التداول السلمي للسلطة، وإنما التفّت حولها، ضاربةً عرض الحائط
كل المبادئ والقيم والشعارات، التي رفعتها، ولعقود، حول الحرية والمساواة والتعددية
والديموقراطية. نعم لقد رسبت، وبامتياز، والواقع المعاصر، والأحداث الجارية والمتسارعة
اليوم، في منطقتنا، أكبر شاهد ودليل على ذلك.
نعم، لقد
سقط القناع.
سقط القناع عن النخب العلمانية، في منطقتنا، في معركة
المساواة السياسية، الصفة التي ينبغي أن تتوفر في أي حكومة تدعي الديموقراطية، من خلال
عدم توفير الفرص، وعدم إفساح المجال لجميع فئات الشعب، ومن كافة التوجهات والرؤى، للمشاركة
في صياغة القرار السياسي، وبالتساوي، ودون تمييز.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، في معركة الاستجابة لمطاليب الشعب، والنزول عند إرادته، وذلك بتشبثهم
بالسلطة وكرسي الحكم، وعدم النزول عند إرادة الشعب، فهم يحكمون على أنهم أوصياء وأولياء،
والأصل أنهم ينبغي أن يدركوا جيداً بأنهم ليسوا أوصياء ولا أولياء، بل إنهم يحكمون
بالوكالة عن الشعب، فهم وكلاء وليسوا أصلاء، فالشعب هو الأصل. ولكن الواقع يشهد بأن
النخب العلمانية تُعدُّ نفسها الأصل، والشعب ليس إلا تبع لها ..
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، في معركة عدم إقرارهم بحقوق الأقلية في الدولة، فالحكم يكون للأكثرية
في النظام الديموقراطي، ولكن مع الحفاظ على حقوق الأقلية، وعدم إقصاء أي طرف.. فلم
تتكفل هذه النخبة في حكمها بحق معارضيها في التعبير الحر عن الرأي والمعارضة ومراقبة
الأداء الحكومي، بل عملت على تهميش كل من يعارضها، وإقصائه، ومنعته من التمتع بحقوقه
كمواطن وليس كمعارض..!!!.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عندما فشلت في القدرة على التواصل مع إرادة الشعب، في تحقيق الرفاهية
والتطور والتقدم المنشود، الذي رفعت من أجله الشعارات البراقة، والخطط الخمسية العملاقة.
نعم هذه النخب فشلت في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية..إلخ،
والشاهد والدليل هو مرتبتها في قوائم الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، حول المسائل
والقضايا المتنوعة، فهي دائما في ذيل القائمة: في الشفافية، وفي الرفاهية، وفي تمتع
شعوبها بالحريات العامة، وفي الإدارة، وفي، وفي... إلخ.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عندما فشلت في توفير المستلزمات الضرورية لبناء دولة مؤسساتية
قائمة على آليات وأنظمة وقوانين، تحافظ على وحدة الوطن، وتجمع فئات الشعب المختلفة
على مائدة المصلحة العليا. بل إن هذه النخب عملت على العكس من ذلك، فقامت بتقريب فئات،
وتجميع أشخاص، واستبعدت الآخرين، وعملت على تأجيج الصراعات المتنوعة: الطبقية، والطائفية،
والمناطقية، في المجتمع، وقامت بتشكيل مراكز قوى، تتصارع داخل المؤسسات على الفتات
والمناصب. وكل هذا، الهدف والغرض منه: الإشغال والإغفال، والعمل على تمكين وترسيخ تحكمها
وتسلطها على جميع مؤسسات الدولة.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عندما قصّرت في الوفاء بالتزاماتها، وعدم أدائها لواجبها بالشكل
المطلوب، ولم تفسح المجال للرقابة الشعبية والبرلمانية باتخاذ مجراها الطبيعي، للوقوف
أمام الفساد الإداري والمالي، المستشري في جميع مفاصل الدولة، وذلك من خلال العمل على
إفراغ الهدف والغاية من المضمون، والإبقاء على الشكليات، عن طريق وضع قوالب وتوجيهات
وإداريات روتينية، لا تسمن ولا تغني من جوع. والمماطلة في اتخاذ القرارات الحاسمة حول
الفساد، والالتفاف على القوانين، للحفاظ على امتيازات الفئات الفاسدة؛ من المسؤولين
والمتنفذين والمستفيدين من بقاء وديمومة الدولة العميقة المهترئة الفاشلة.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عندما التفّت على مبدأ التداول السلمي للسلطة، من خلال عدم احترام
أصوات الناخبين وإرادتهم في التغيير والتعبير، وعملها المستمر في تزوير إرادة الشعب،
وذلك بالتلاعب بنتائج الانتخابات في كل جولة. فلم تسمح هذه النخبة الفاسدة بإجراء انتخابات
حرة ونزيهة وشفافة في دولها، وعملت على فرض نمط من الحكم على الشعب، ولو كان خارج إرادته.
ولم تعمل من أجل توفير وتأمين التعددية الفكرية والسياسية في البلاد، بل كان الاحتكار،
ومصادرة الآراء، واستخدام القوة والتهديد والوعيد هي السمة البارزة لحكمها. وهذه النخبة
هي أكثر من يتحدث عن الحرية، والمساواة، واحترام الحقوق، وعدم المساس بكرامة الآخرين!!!
وتتشدق كثيرا بمصطلحات الديموقراطية، والتداول السلمي للسلطة، والتعددية الفكرية والسياسية،
وحقوق الإنسان!!!.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عند رسوبها في امتحان (ماهية الديموقراطية)، والتي هي عبارة عن
توفير حق المنافسة القانونية والسلمية لاستلام السلطة. فلم تقم بتوفير هذا الحق للمواطنين،
بل عملت على العكس من ذلك.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عندما فشلت في إيجاد المناخ الذي تكون فيه الحريات والحقوق محفوظة
لجميع المواطنين. وأيضا، عندما فشلت في الحفاظ على كرامة مواطنيها، وعدم مطالبتها بحقوقهم،
وخاصة إذا كانوا خارج حدود الدولة.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، عندما فشلت في امتحان التداول السلمي للسلطة والحكم، فاستخدمت
القوة والمؤامرات والتحايل على القوانين لإدامة حكمها وتسلطها على رقاب الشعب، فلم
تُعطِ المجال للجولات الانتخابية، كسبيل للتداول السلمي للسلطة، كي يتسلّم الحكم، من
يعطيه الشعب صوته وثقته، وبصورة دورية وشفافة ونزيهة.
وسقط القناع
عن النخب العلمانية، وظهر جلياً، وبشكل سافر، من هم حملة الفكر الاستبدادي، ومن هم
الذين يحملون المشروع السلطوي الدكتاتوري، الذي لا يؤمن بالتعددية، والآليات الديموقراطية
لتداول الحكم والسلطة، ولا يؤمن بنظرية الشراكة، ولا يعمل من أجل ترسيخ النظام السياسي
المستقر في البلد.
نعم، هذه
النخب العلمانية هي التي سمحت للاجتياح الدموي للمجتمع، وأجّجت الحروب الأهلية، وأباحت
قتل المعارضين، وقامت بالاغتيالات السياسية. وهي تفرح بهذه الأوضاع، لأنها ليست قادرة
على التحكّم كما تريد، وعلى أخذ زمام الأمور، إلا في الأحوال غير الاعتيادية، وغير
المستقرة، ولأنها بارعة في الاصطياد في الماء العكر.
هذه النخب
العلمانية مستعدة للعمل على إيجاد وافتعال الأزمات، وخلق الصراعات الوهمية، والقيام
بترتيب تفجيرات إرهابية، يذهب من جرائها المئات من الأبرياء، تقوم بها أجهزتها المخابراتية
والأمنية، وفرق المرتزقة من الشبيحة والبلطجية، وبمساعدة المال الأجنبـي والدعم اللوجستي
الخارجي، كل ذلك من أجل ضمان بقائها في السلطة، وتثبيت نفوذها، وتحقيق مصالحها الآنية
الحزبية والشخصية، على حساب أية نهضة شعبية ووطنية.
وهذه النخب
العلمانية، ولتحقيق هدف استمرارها في السلطة والحكم، مستعدة لإفساح المجال للدول الأخرى،
لتثبيت نفوذها، وتحقيق مصالحها الاستراتيجية، سواءً كانت سياسية أم اقتصادية، على المدى
القريب، أو التحكم والتوغل في مفاصل الدولة، والسيطرة عليها، واستعمار البلد بثوب جديد،
على المدى البعيد، هذا كله مقابل استمرار هذه النخبة في السلطة. وهذه النخب هم أكثر
الناس تحدثاً عن الوطنية...!!! فعن أية وطنية يتحدثون؟؟
نعم، إن
هذه النخب العلمانية الحاكمة في منطقتنا، تحمل الحقد والكراهية، والتتبع الدموي، والتخوين
الوطني والسياسي للخصوم. وقد تجرَّدت من إنسانيتها، وفقدت كل المعاني الإنسانية، في
تعاملها مع الآخر المخالف لها في نظرتها ورؤيتها. فكان الأسلوب الذي سيطر على عقليتها
في التعامل، هو تجريد الخصم من كل الحقوق، وحتى وجوده المعنوي في البلد.
وسقط القناع
عن هذه النخب العلمانية، عندما قامت بترسيخ الحكم الشمولي المستبِّد، الذي نقض كل فُرص
الشعب في حياة حرة كريمة، ومَنَع منحَهُ الأمل للتعلق بمشروع التطوير السياسي، وإقامة
النظام العادل، فكانت الاضطرابات، والأوضاع غير المستقرة، هي السمة الغالبة للواقع
السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلدان التي يحكمونها، وهي نتيجة لما أفرزته عقلية
هذه النخب من تصرفات وأعمال، قامت على الإقصاء والتهميش، بل حتى التقتيل والتعذيب والتعامل
الوحشي.
نعم، لقد
سقط القناع عن النخب العلمانية في المنطقة ..
وإنّ أي
استقراء للواقع الذي تعيشه منطقتنا، سيتوصل إلى نتيجة مفادها:
فشل الأنظمة الحاكمة، ومنذ أكثر من عشرة عقود، أي
ما يقرب القرن من الزمان، في سياساتها، والشعارات التي رفعتها، وتبجحت بها. وسقوط الأقنعة
عن النخب العلمانية، التي كانت الأداة لهذه الأنظمة، بل المسيِّرة لها، والممثلة بالأحزاب
العلمانية، وبكافة مشاربها وتوجهاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق