يقين عبد الله
التراث هو المقتنيات المادية وغير المادية التي جاءتنا من الأسلاف، هو التاريخ
والتقاليد والأعراف والرؤى والمعاييرالتي ورثناها من أجيالنا التي ذهبت وانقضت، هو
ذاكرتنا الجمعية وماضينا الشعبـي، ولهذا يمكننا التصرف فيه من حيث العبرة والأسوة،
ولكن لا يمكننا تغييره، لأن عامل الزمن هنا حاسم. يمكن أن نطمسها وننظر إليها وكأنها
لم تكن، ولكن إذا تجرأنا على تغييرها، فإننا ببساطة نقوم بتشويه متعسف. التاريخ مستودع
لخبرات الشعوب، وذاكرتها الحية، لاستنباط الدروس، ولهذا فقد نظرتُ دائماً إلى محاولات
إعادة كتابة التاريخ، أو مساعِ تنقية التراث، بعين الريبة والشك من عدم الموضوعية والعجز.
والشقيُّ
الشقيُّ في الأرض شعبٌ
يومه ميِّتٌ
وماضيه حيُّ
وإني أعتقد أن أحد أسباب نجاح الغرب، هو أنهم تركوا التاريخ في المكتبات، والتراث
في المتاحف، وانشغلوا ببناء الحاضر، وتخطيط المستقبل، وإلا لكان حالهم – على ما أظن
–لن يختلف كثيراً عن حالنا، لو أنهم ركَّزوا اهتمامهم على تحديد مسؤوليات الحروب، والنزاعات
التاريخية، وإلقاء التهم على شخوصها، وإصدار الأحكام عليهم، وسعوا إلى تنفيذها على
أنفسهم، كما نفعل نحن.
مع ذلك، فإنني أود أن أؤكد أنني هنا لا أبتغي مصادرة حق أولئك التوّاقين إلى إعادة
كتابة التاريخ، وتنقية التراث، من باب حرية التفكير، والتعبير عن الرأي، ولكني فقط
أدعوهم إلى الموضوعية، واعتماد أسس البحث العلمي، والتحقيق المنهجي. وأول متطلبات البحث
العلمي، هو الموضوعية، وفي مقدِّمة مستلزمات التحقيق المنهجي: المعلوماتية والإستقصاء.
إضافة إلى ذلك، هناك خصوصية لتاريخ المسلمين، قد لا تنظر إليها بقية الأمم بنفس الدرجة
من الحساسية والاعتزاز، وهي خصوصية دور التراث في تشكيل عقيدة المسلمين، وبلورة إيمانهم.
ولهذا، فإن على دعاة إعادة كتابة التاريخ، وتنقية التراث، التحلي بالمزيد من الاحتراس،
وإظهارالكثير من الحذر، قبل التعرض لثوابت عقيدة الأمة، وتراثها التشريعي.
أسوق هذا الإيجاز المركز، لنقد مقال (تصحيح مفاهيم خاطئة حول مسألة جمع القرآن
الكريم) لكاتبه الأستاذ (سالم بابه شيخ عبدالله) المنشور في العدد الأخير من مجلة الحوار.
وهو مقال أراه يفتقر إلى متطلبات البحث العلمي، والتحقيق الموضوعي، ويبتعد عن الاحتراس
الواجب، والحذر المطلوب، في التعرض لواحدة من المسائل المجمع عليها بين أهل السنة والجماعة.
بل يقال إن أول إجماع للأمة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كان على جمع
القرآن. كذلك يلاحظ وجود التباس في عرض دلالة المقصود بالجمع، وكيفيته، فيما ورد عن
تعهد الله تعالى به، ومن ثم جمع (أبي بكر)، وبعده جمع (عثمان). فلو أن المقصود كان
واحداً، لما كان لأحد: من نبـي مرسل، فضلاً عن صدّيق مؤمن، ولا إمام تقي، أن يعقّب،
أو يزيد، أو ينقص من جمع الله تعالى. وهو ما سنبينه لاحقاً، بإيجاز، لأن هناك الأهم
والأولى والأخطر، وهو رمي (البخاري) - ولو في رواية واحدة- بالكذب والافتراء والبهتان
العظيم.
إذا كان هذا حال (البخاري)، وكتابه، وهو ما أخذته الأمة كأصح كتاب بعد كتاب الله
تعالى، فكيف سيكون حال ما بعده من الكتب؟! وإذا تذكرنا أن الدين إنما وصلنا من خلال
هذه الكتب، فأي دين هذا الذي نعتنقه، ونؤمن به؟! وهو ما لم يقل به أحد من أهل السنة
والجماعة، من الأولين والآخرين، عبر تاريخ ألف سنة من النقد والتمحيص والدراسة والنظر
والبحث والتنقيب في علوم الحديث، سنداً ومتناً، روايةً ودرايةً، فقها وأصولاً.
وعندما ننظر في المقال نراه يدعو إلى:
"فلندقق في الروايات، ونمحصها، ونحققها، من جهة المتون (لم يذكر السند، وهو أساس
العلوم النقلية)، ونأخذ بأحسنها، وأسلمها، وأصحها، وأصلحها، إذا ما وافقت القرآن الكريم،
واتفقت مع روايات أخرى صحيحة مقبولة، ثم لا نقبل بالتي تخالف تلك الروايات الصحيحة
وتعارضها".. ولكن ما الذي فعله عندما حكم على الحديث الصحيح؟ لم يفعل شيئاً مما
دعا له البتّة، واكتفى بفهمه ونظره وتقديره لدلالات المتن، ومقاصده، ليحكم عليه ذلك
الحكم المنكر الشنيع. وراح يتحدث عما يسميه طامات الحديث وافتراءاته، التي لم ينتبه
لها المئات، بل الآلاف، من العلماء والمحققين والمختصين، خلال ألف سنة. طبعاً لا يضر
أن تغيب الحقيقة أحيانا عن كل أولئك، وقد تحدث، ولكن على من يدّعي اكتشاف مثل تلك الحقيقة،
أن يقدم الدليل والبرهان، ويقدم الحجة والسلطان، لا أن يقرر من رأسه، ويسطر من بنات
أفكاره. خصوصاً في مسألة تنسف قواعد الدين، وتزعزع أركان الشريعة. قرأنا عبارات مثل:
"لا يصح لنا أن نتصوّر"، و"فهل من المعقول"، و"لا يمكن أن
يقبل المؤمن"، ولكنه لم يوضِّح لنا علامَ نعوِّل في مثل هذه اللاءات، سوى تفسيراته،
التي ليس كمثلها تفسير في كتب الأولين والآخرين. وراح بسهولة يقرر: " إنّ كلا
القولين: بأن القرآن جمع في عهد الخليفة الأول، أو القول بأن الثالث جمعه، لا يصحان
البتة، وفي القولين خطورة كبيرة". زاعماً أن الخطورة خفيت على كثير من العلماء،
وفي الواقع خفيت على جميع علماء الأمة، من أهل السنة والجماعة!! لأن الجميع أخذوا بالروايات
الصحيحة في الحالتين، وفهموا مقاصد الجمع، والأسباب وراء الحالتين، بل إن علماء الجرح
والتعديل، وشيوخ الرواية والدراية، لم يجدوا ما يقدح فيها، وسلّموا بصحتها. وأرجو أن
ينتبه كاتب المقال، والسادة القراء، إلى خطورة القول بنقض ورفض الروايات الصحيحة في
مسألة جمع القرآن، وإلا تسلل الشك إلى جميع مصادر النقل، أو على الأقل قد يكون ذلك
سابقة خطيرة لمن سيأتي، ويرفض ما طاب له، دون حجة أو دليل.
لقد ذهب الأمر بالمقال بعيداً، إلى حد تعليق الحكم على أداء الرسول صلى الله تعالى
عليه وسلم، لعمله بشرط جمع القرآن. وهذه محاولة غير موفقة بتاتاً، لتحديد ما يجب على
الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يفعله. ومن نافل القول أن نقول إن ليس لغير الله
تعالى أن يحدد ما على رسوله أن يفعل، وقد فعل (جلّ وعلا)، وحدد ثلاث مهام رئيسة كبرى
لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليس بينها جمع القرآن، وهي: التبليغ {يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} المائدة/ 67. والبيان: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل/44. والحكم:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} المائدة/ 49. أما جمع القرآن،
فقد تكفّل به جلّ وعلا بالقول: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} القيامة/ 19،18،17،16. في التفسير، كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ،
وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له، ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه
وحيه، ثم يقفيه بالدراسة، إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي،
ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ {لِتَعْجَلَ بِهِ}، لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت
منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك، وإثبات قراءته
في لسانك: {فَإِذَا قَرَأْنَـهُ}، جعل قراءة جبريل قراءته: والقرآن القراءة: {فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ}، فكن مقفياً له فيه، ولا تراسله، وطمئنْ نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن
في ضمان تحفيظه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، إذا أشكل عليك شيء من معانيه.
كان ذلك هو الجمع الأول. جمع الله تعالى القرآن في قلب نبيه صلى الله تعالى عليه
وسلم، تنظيماً وترتيباً وتسلسلاً، على ما هو عليه الآن في أيدينا، تلاوةً وبيانا وتفسيراً،
وكان (جبريل) (عليه السلام) يعارضه به كل سنة مرّة واحدة. والمعارضة أن الرسول يقرأ،
وجبريل يستمع، حتى كان عام وفاته (صلى الله تعالى عليه وسلم)، الذي عارضه فيه مرتين،
وأدرك بذلك أن أجله قد دنا. عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي،
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: "مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ،
ثُمَّ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا، فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: اسْتَخَصَّكِ
رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِحَدِيثِهِ، ثُمَّ تَبْكِينَ.
ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا، فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ الْيَوْمَ فَرَحًا
أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ. فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ
سِرَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا،
فَقَالَتْ: "إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ
فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَأَنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا
أَرَاهُ إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ،
عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ.
ثم إذا انكشف الوحي قرأه الرسول (صلى الله تعالى عليه وسلم) على أصحابه، ودعا
كتاب الوحي ليدوّنوه. عن عُثْمَانُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ
ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ
يَكْتُبُ، فَيَقُولُ: "ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ
فِيهَا كَذَا وَكَذَا"وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآية، يَقُولُ: "ضَعُوا
هَذِهِ الآية فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا""، رواه
أحمد في مسنده، وأبو داؤد والترمذي في السنن، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. وكانوا
يكتبونه على العسب، وهي الجريد من النخل، والرقاع وهي الجلود، واللخاف وهي الحجارة
الملساء.
والكلام أكثر في المسألة، لكننا هنا نركز على المراد، الذي يقتضي أن الرسول (صلى
الله تعالى عليه وسلم) بلٌغ الرسالة: شفاهاً، وكتابة، كله، بلا استثناء. وكان يقول،
على رواية (البخاري)، و(مسلم)، وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو: "خُذُوا الْقُرْآنَ
مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،
وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفةَ".
قال الإمام (النووي)، في شرح الحديث: قال العلماء: "سببه أن هؤلاء أكثر ضبطاً
لألفاظه، وأتقن لأدائه، وإن كان غيرهم أفقه في معانيه منهم. أو لأن هؤلاء الأربعة تفرغوا
لأخذه منه (صلى الله عليه وسلم) مشافهة، وغيرهم اقتصروا على أخذ بعضهم من بعض. أو لأن
هؤلاء تفرغوا لأن يؤخذ عنهم. أو أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد الإعلام بما يكون بعد
وفاته، من تقدم هؤلاء الأربعة، وتمكنهم، وأنهم أقعد من غيرهم في ذلك، فليؤخذ عنهم).
من مميزات هذا الجمع، أنه كان على عرضة (جبريل)، بتسلسل الترتيل، وليس النزول،
على سبع أحرف، دون أن يجمع في مصحف واحد، بل ظل متفرقا عند الكتّاب. ولهذا اقتصر جمع
(أبي بكر) على جمعه في مكان واحد، أي في مصحف، بأحرفه السبعة. ولو كان الرسول (صلى
الله تعالى عليه) قد جمعه في مصحف واحد، لاكتفى به (أبو بكر)، وسعى إلى طلبه. أما جمع
(عثمان)، فكان جمعاً على حرف واحد، وإلا لكان اكتفى بمصحف (أبي بكر)، الذي كان قد وصل
إلى أم المؤمنين (حفصة)، وكان قد أرسل إليه، عندما قرر الجمع، والحرف كما لا يخفى غير
القراءة. أظن لو أن المقال تكلّف بيان المقصود بالجمع، لجنّب نفسه الإشكالات التي وقع
فيها، كما مرّ. والله من وراء القصد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق