عمر علي غفور
ترجمة: آسو أحمد
من حق كل تيار
سياسي مدني، إسلامياً كان أم علمانياً، أن يسعى من أجل نشر أفكاره وبرامجه في المجتمع،
وتضمينها في الدستور، ولكن لا يحق لأي طرف مصادرة حق الناس، دونما تفويض من أكثريتهم،
وبالاعتماد على تحليل عابر، أو حتى دونما تحليل أصلاً، ربما بمجرد تأثير من عاطفة ذاتية،
والتحدث باسم أكثرية، والأنكى أن تكون تلك الأكثرية 95% من الشعب، وجعلها سنداً وهمياً
لشعاراته ومطالبه، وكأنها مطالب تلك الأغلبية من شعب كوردستان.
أتحدث هنا كباحث،
ولا أخلط موقفي حول الجدل الإسلامي - العلماني بالموضوع، أي أنني لا أدافع عن أي من
القطبين، فأنا لا أؤمن أساساً بهذه الثنائية. ولكني أرى من الضرورة توضيح التناقض واللامنطقية
في الفهم السالف الذكر، لدى المنتمين للقطب الديني، ولا أدري هل أنهم يدركونه ويخفونه،
أم لا يدركونه أصلاً؟.
فلنقف بدايةً
على كلمتي (مسلم) و(إسلامي)، وعلى العلاقة بين هذين المفهومين وتطبيق الشريعة. من الواضح
أنه من بين نسبة الـ95% من المسلمين في كوردستان، فإن (الإسلاميين) هم من يحملون شعار
(تطبيق الشريعة الإسلامية)، وسيادتها. وهؤلاء، وحسب الانتخابات المتتالية، وبالإضافة
إلى السلفيين -الذين يساندون لحد الآن السلطة، وهي سلطة علمانية بطبيعة الحال، مع الاختلاف
على درجة علمانيتها-لا تتجاوز نسبتهم، في أحسن الأحوال،الـ 20% من ناخبـي كوردستان.
النسبة الباقية من الناخبين مسلمون، ولكنهم غير مستعدين للتصويت لمشروع إسلامي سياسي،
ومنهم ذوو عاطفة والتزامات دينية متفاوتة، كما أن منهم من لا يعتبر نفسه مسلماً أصلاً،
بل وقد يناصب الدين العداء.
فلندع جانباً
غير الملتزمين والمعادين، ولنتحدث عمن يملكون نسبة من الالتزام، حيث يصلون، ويصومون،
ويراعون بعض الأوامر والنواهي الدينية، أو أنهم لا يلتزمون بالواجبات، ولكنهم يؤمنون
بالدين ويقدسونه. وهؤلاء يعلمون– بالطبع- أن الإسلاميين يطالبون بسيادة الشريعة، بدليل
أنهم يركزون - في حملاتهم الانتخابية- على إفهام الناخبين أن التصويت شهادة يسأل عنها
المرء يوم القيامة. ولكن الناس، مع ذلك، لا يصوتون لهم، لماذا؟ إما لأنهم لا يثقون
بكونهم يعملون للدين حقيقة، بل يرون أنهم يستغلونه لأغراض سياسية. أو أنهم واثقون من
أن الإسلاميين أناس ملتزمون متدينون حقاً، ويبغون تطبيق الشريعة، ولكنهم مع ذلك لا
يؤيدون هذا المشروع، ولا يريدون أن تسود الشريعة بهذا الثقل والشمولية في المجتمع.
لا حاجة إلى
تحليل موقف الفريق الثاني، لأنه واضح، ولكن الفريق الأول -أي غير الواثقين- فإنهم إن
كانوا مع سيادة الشريعة حقيقة، بالشكل الذي يريده الإسلاميون، ولكنهم لا يثقون بهم،
فعليهم – جدلاً- البحث عن مصدر آخر معتمَد، للقيام بذلك العمل! ولكننا لا نراهم يبحثون،
بل إنهم وضعوا ثقتهم في أحزابهم، والملالي المنتمين لها، الذين يتحركون في إطار السياسة
العامة لأحزابهم العلمانية، ويعملون بشكل كلاسيكي وعفوي للدين، ولا يبغون تثبيت نظام
ديني، أو جعل الشريعة نظاماً لحياتهم السياسية والاقتصادية، حتى وإن كانوا يرغبون بها
في قرارة أنفسهم.
وفي حال كهذه، أنّى يكون للشخصيات الدينية، والأحزاب
الإسلامية، اعتبار هذه الأغلبية عمقاً وسنداً لها، في حين أنهم ليسوا مع النظام الديني،
ولا يسعون، بل ولا يرغبون في (تطبيق الشريعة)؟ وإذا قيل: (إنهم غير ملمّين بالدين،
ولذلك لا يساندوننا)، فإنهم إن كانوا فعلاً كذلك، فليس من حقكم اعتبارهم سنداً لكم!..إذ
بنفس المنطق، فإن للطرف الآخر أن يقول: إن الناس لو أدركوا مخاطر المشروع الإسلامي،
كما ندركها نحن، لتولوا عنه، وتركوه!.
فالمقياس هو
الواقع، وليس ما استقر في الخيال والتصور. والمسلمون اليوم منقسمون على جبهتين: جبهة
المسلمين المنظمين العقديين، الذين يعملون من أجل أسلمة المجتمع والدولة، أي أنهم يطالبون
بتجسيد الحد الاقصى للإسلام، وهؤلاء هم القلة. والجبهة الثانية، هي جبهة المسلمين العفويين،
والتاريخيين، ذوي الالتزام النسبـي والتقليدي بالدين، أو غير الملتزمين به أصلاً. والتزام
هؤلاء يتراوح بين الحد الأقصى والحد الأدنى، وربما دون الأدنى من الالتزام الديني،
ولكنهم –مع ذلك، أو رغم ذلك- يعتبرون أنفسهم مسلمين. وهؤلاء يشكلون الأغلبية العظمى.
هؤلاء أناس عاديون
أخذوا الدين بعفوية. قد يعلمون من الدين مبادئه، يصلون، يصومون، يحجون، ويعتمرون، يتضرعون
الى الله، يشاركون في الأعياد والمناسبات الدينية، ويقدمون القرابين، يبنون المساجد،
يقدسون القرآن، والإسلام، ويحبون الأنبياء والأولياء. ولكنهم- وكطبيعة كلّ عفوي- لم
يعضوا عليه بالنواجذ، ولم يشترطوا على أنفسهم أن يدخلوا في الدين كافة، أي أن يتبنوا
الحد الأقصى منه، أو يعملوا من أجل جعله قانوناً لإدارة الدولة. ويرون تجاوز إطار الحلال
والحرام هنا وهناك شيئاً عادياً، بل منهم من لا يلتفت للحلال والحرام أصلاً، ولهذا
يغشّون في التجارة والبيع والشراء، يستمعون للأغاني الغرامية، يتابعون الأفلام (العصرية)،
غير المقبولة بالمقاييس الشرعية، يشاركون في الدبكات المختلطة، يحتسون الخمر، يفسدون
في الأمور الاقتصادية والإدارية، وغيرها. يتقاتلون في الصراعات العشائرية، نساؤهم لا
يلتزمن بالحجاب المطلوب شرعا، وأولادهم لا يؤدون الواجبات الدينية، وهم يرون ذلك شيئاً
عادياً.. وغيرها من المظاهر التي نراها يومياً.
هؤلاء قد يقدسون
الدين، وقد يلتزمون ببعض واجباته، بصورة نسبية، ولكنهم لم يجعلوا همهم أن يصبح الدين
نظاماً للدولة، وأن يلتزمَ به الناس، بل قد يعارضونه، لأنهم لا يريدونه كذلك!.. فكم
من الناس اليوم يتقبل نبذ 99% من الأغاني الشعبية الكوردية، التي تتحدث عن الحب والغرام،
والمرأة وجمالها، ومنْعها من الإذاعات والتلفزة؟ أو أن تُفرض القيود على محطات التلفزة،
بحيث لا تتمكن من بث أفلام الهوليود والبوليود والمسلسلات التركية؟ أو أن تفرض الصلاة،
ويُهدر دم المفرط فيها، (كما يدعو بعض الشيوخ والدعاة إلى ذلك)، أو أن يفرض الحجاب؟
هؤلاء هم تلك
الأغلبية الـ 95% المذكورة، وهم غير مبالين بمسألة سيادة الشريعة في القانون والدستور،
بل يصوتون مراراً وتكراراً للقوى العلمانية في الانتخابات. فبأي منطق تعتبرهم القوى
الإسلامية ملكاً لها، وتطالب باسمهم، وتعتبر معارضيها غرباء، وأقلية، ومعادية لإرادة
تلك الـ 95%؟ يا معشر القوم، هذه الـ 95% تشمل كل من كُتب في بطاقته الشخصية: (مسلم)،
وأناساً مثل السادة: فاروق رفيق، وبختيار علي، ومريوان وريا قانع، وريبين هردي، والعشرات،
بل المئات، من المثقفين الآخرين، الذين ينتقدون الدين والخطاب الديني بصراحة. كما أنها
تشمل الآلاف، بل نستطيع أن نقول عشرات الآلاف، من قادة وكوادر وأعضاء الأحزاب العلمانية،
الذين يعارضون مشروع تديين المجتمع عقدياً. وتشمل كذلك المئات، أو ربما الآلاف، الذين
يتوجهون إلى أطراف المدن، أو النوادي والمقاهي، لعقد مجالس اللهو والشرب. والآلاف الذين
يتوجهون إلى تركيا ولبنان ودول أوروبا، لقضاء الأيام والليالي الحمراء. أو يتسكعون
في أحياء المدن في كوردستان، وأزقتها، بحثاً عن الأعمال غير الشرعية. هذه النسبة تشمل
أيضاً هؤلاء الآلاف، الذين يعاني الناس من فسادهم ومكرهم وحيلهم في المؤسسات والأسواق،
والذين قد يكونون ممن يؤدون الصلوات. وتشمل أيضاً العشرات، بل المئات من الآلاف، من
النسوة اللاتي يرتدين الملابس (العصرية). فإذا ما طرحنا هؤلاء، نرى أن النسبة تنخفض
شيئاً فشيئاً إلى أن تستقر في حوالي الـ 20%، وهذه من نسبة البالغين، وليست من نسبة
كل الشعب في كوردستان، حيث إن ما لا يقل عن 25% من السكان أعمارهم دون العاشرة، وهؤلاء
غير بالغين، ولا يملكون الأهلية اللازمة لاتخاذ القرار والاختيار.
نستنتج، إذاً،
أن الأغلبية من المسلمين هم مسلمون عفويون عاديون، غير أيديولوجيين، وأن أقلية منهم
–فقط- منظَّمون أيديولوجيون. وهؤلاء لا يحق لهم التحدث باسم الأغلبية، التي من الواضح
أنها تصوت لصالح العلمانيين في الانتخابات. نعم، ربما معظم هذه الأغلبية لا تفهم من
الخطاب الإسلامي، والعلماني، شيئاً يذكر، ولكن المهم أن العلمانيين يتقبلون هؤلاء على
عفويتهم هذه، في حين لا يتقبل الإسلاميون إسلامهم العفوي، ويعتبرونه غير طبيعي، وغير
شرعي، ويبغون شرعنته عبر القانون والدستور. وفي حين أنهم لا يتقبلون تلك الصورة، فهذا
يعني أن تلك الأغلبية ليست في جبهتهم، ومن غير المنطقي أن يطلبوا فرض أجندتهم على الدستور
والقانون باسمها.
الحقيقة أن ما
يرتضيه الإسلاميون، في ما يتعلق بمكانة الإسلام في مسودة دستور الإقليم، هو تثبيت أن
الإسلام مصدر أساس للتشريع، وهو الحد الأدنى - حسب مبادئ الفكر الإسلامي السياسي-،
وتقتضي تلك المبادئ أن تكون الشريعة المصدر الوحيد. فالتشريع - بنظر الفكر السياسي
الإسلامي الحديث- من مقتضيات توحيد الألوهية، وأي مشاركة للإنسان فيه تُعتبر نوعاً
من الشرك. ومن هذا المنطلق، لا يتردد بعض من حاملي ذلك الفكر، في اعتبار العلمانية
مرادفاً للكفر، وتقسيم المجتمع إلى: مسلمين وعلمانيين.
ومن هنا فإني
أرى أن قبول الإسلاميين بهذا الحد الأدنى، من دور الشريعة ومكانتها في الدستور، هو
اعتراف ضمني بأنهم أقلية، وأنه ليس هناك شيء اسمه إرادة 95% من الناس يدعم فكرة سيادة
الشريعة في الدستور. ولو كانت تلك إرادة 95% من الناس، لاستوجب أن تكون الشريعة المصدر
الوحيد للتشريع، إذ إن مطلب الإسلاميين هو أن تكون (الشريعة) المصدر الوحيد للتشريع،
وليس أحد المصادر.------------------------
ربط الدين بالسياسة
لا يعني التصارع على استلام السلطة، بحجة تطبيق الدين، ولا يعني تحويل الأحكام الفقهية
إلى أحكام سلطوية قهرية، ولا يعني تأسيس أحزاب تحاول السيطرة على الدولة باسم الدين،
ولا يعني تأسيس معارضة باسم الدين تحمل السلاح ضد الدولة. وإنما ربط الدين بالسياسة،
يعني جعل السياسة، بكل مواقعها الحكومية والمحايدة والمعارضة، سياسة مبدئية يرضاها
الله سبحانه. وربط الدين بالسياسة، يعني أن تتحول كل أشكال السياسة إلى منابر للإصلاح
الأخلاقي الحقيقي، ونشر المبادئ التي يحبها الله سبحانه من التسامح والسلام والصفح
والعدالة والإيثار، وربط الدين بالسياسة يعني أن يكون كل أهل السياسة محبين لله سبحانه
حباً حقيقياً، ويكون رضا الله هو المقياس في أي قرار، أو موقف. وربط الدين بالسياسة،
يعني أن تكون الأخلاق الحميدة والصالحة هي الحاكمة على الفعل السياسي، والتصرف السياسي،
والطموح السياسي..
فهكذا فقط يكون ربط الدين بالسياسة ..
(حبيب الله المختار)
---------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق