ضياء الدين محمد
مصر
قد يبدو
للوهلة الأولى أن الغاية من وراء التفسير لا تحتاج إلى كثير شرح، فماذا ستكون
الغاية من تفسير القرآن سوى فهم آياته؟ وهذا حقّ ولكنه غير كاف، خاصة إذا كنا بصدد
دراسة تفسير له مكانة تأسيسية في العقل الإسلامي، وهو تفسير (جامع البيان عن تأويل
القرآن)، المعروف بـ(تفسير الطبري)، وهو الكتاب الذي يعدّ المصنف الرائد فيما يعرف
بالاتجاه النقلي في التفسير.
إن السعي
لفهم معاني آيات القرآن الكريم ليس بالأمر الصعب؛ فالقرآن ليس كتاباً ملغّزاً، بل
إنه يقوم
أساساً على مبدأ البيان، وقد نزل بلسان عربي مبين. حتى وإن استغلق على
بعض السامعين فهمه، فلن يكون استغلاقاً كاملاً، خاصة في جانب اللغة. أما ما
يُستفسر عنه من آيات القرآن؛ فعادة يكون رغبة من السامع في الاستزادة من التفاصيل،
أو فهم أوضح لما ورد في آياته من أحكام، أو معرفة أبعاد أكثر عمقاً من المعاني التي
يزخر بها القرآن. هناك، دون شك، غاية أبعد من فهم المعنى المباشر لآيات القرآن.
ومعرفة
غاية التفسير عند الإمام (الطبري)، توجب الكشف عن مفهوم القرآن عنده، لما بين
مفهوم القرآن وغاية التفسير من علاقة وثيقة، تتضح إذا تأملنا ما قاله الإمام
(الطبري) في مقدمته النظرية المطولة، التي صدّر بها تفسيره، في محاولة لبناء نسق
تفسيري نقلي، تمّ اعتباره والاعتماد عليه لقرون عديدة.
حيث يقول
(الطبري) في مقدمة تفسيره عن القرآن: "... فإنّ من جسيم ما خصّ الله به أمة
نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) من الفضيلة، وشرَّفهم به على سائر الأمم من
المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظَه ما حفظ عليهم -جلّ ذكره
وتقدست أسماؤه -من وحيه وتنزيله، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم (صلى الله عليه
وسلم) دلالة، وعلى ما خصه به من الكرامة علامةً واضحة، وحجةً بالغة"(1). ويمكن
للدارس أن يستخرج من هذا النص فكرتين أساسيتين:
الأولى: أن القرآن كتاب يتميز عن سائر الكتب بأنه محفوظ. وذلك
التميز ينتقل من القرآن إلى أصحاب القرآن، الذين يؤمنون به، ليكون حفظ الله ما حفظ
عليهم من القرآن نعمة منه سبحانه عليهم، تميّزهم عن سائر الأمم، كما تميّز القرآن
عن سائر الكتب.
الثانية: أن هذا القرآن هو الدليل على حقيقة نبوة النبـي (صلى
الله عليه وسلم). وهذه الفكرة تحدد، بوضوح، مكانة القرآن من الدين، لتجعله هو
الدين نفسه. لأنه إذا كان القرآن هوالدليل على حقيقة النبوة، وليس هناك دين بغير
نبوة؛ فبالتالي ليس هناك دين بغير قرآن. ويتلاقى المفهومان ليصبح: القرآن هو الدين،
والقرآن محفوظ، إذن فالدين محفوظ.
وهنا
نلاحظ كيف يتخذ القرآن مكانته في فهم المفسر، باعتباره هو الدين. وأهم ما في هذا
الربط بين القرآن والدين، هو تحول القرآن من كونه يحوي مبادئ وشرائع الدين إلى (الدين)
نفسه، بما يمثله الدين في أذهان أتباعه من أهمية قصوى فى إصلاح الحال وسعادة
وسلامة المآل، وهو ما يمنح القرآن نفس المكانة والتأثير الممنوحين للدين.
وهذا
التحول في مفهوم القرآن يحدث، بالضرورة، تحولاً في طريقة التعامل معه. فالسعي إلى
فهم القرآن يعني هنا السعي إلى فهم الدين، وكل ما سيسفر عنه هذا الفهم من أفكار
تتعلق بالدنيا والآخرة، والحلال والحرام، والأمر والنهى، سيشكّل (الدين) في أذهان
أولئك المؤمنين بالقرآن، المتلقين للتفسير (أو للدين في هذه الحالة) في الوقت
نفسه.
وهذا
الفهم هو ما جعل عملية التفسير (أو ربما غايته) تتخطى كونها فهماً أو شرحاً لمحتوى
الآيات، إلى كونها إنشاء لمعالم الدين. ولكننا إذا نظرنا في نتاج هذه العملية،
سنجده كمّاً هائلاً من العلوم والمبادئ والقضايا، التي شكلت عبر السنين وعي
المسلمين بدينهم.
إن
التفسير ليس شرحاً للآيات الواردة في القرآن، بل هو الدخول في حالة تفاعل جدلي
منتج، بين ذات قارئة، وبين القرآن، الذي يُنظر إليه باعتباره هو الدين الذى تدين
به تلك الذات، والذي يحدّد طريقة حياتها، وما يجب أن تفعل، وما يجب ألا تفعل، ويحّدد
كذلك مصيرها، وما ستؤول إليه.
لم يعد
التفسير إذن هو ذلك الفعل السهل القاصد فهم الآيات، بقدر ما صار فعلاً يسعى للتثبت
من صحة ذلك الفهم؛ فصحة فهم النص تعني صحة فهم الدين، وهو ما يؤدي في النهاية إلى
صحة الدين (المحفوظ) من الله. وكما أن الدين/ القرآن محفوظ؛ فوجب على عقل المفسر
أن يكون على مستوى تلك "النعمة الإلهية الكبرى"، وأن يكون فهمه للدين/
القرآن أيضاً محفوظاً.
ومن هنا
بدأ السعي نحو إنشاء نسق للفهم (أو للتفسير) يتسم - قدر الإمكان - بالسلامة المحققة
لصحة الفهم. والتي تقل أو تنعدم فيها فرص الخطأ أو اللبس. وقد تحقق هذا النسق عبر
مفهومين تفسيريين هما: (وحدة المصدر)، و(موثوقية المصدر).
وحدة المصدر
كان حرص المفسر
منذ اللحظة الأولى، وبفعل ما تم إيضاحه حول مكانة القرآن وغاية التفسير،
على أن يتسم النص المفسَّر (التفسير)
بأهم سمات النص المفسَّر (القرآن). ومَثّل ذلك الحرص الضمانة الأولى، والكبرى، لمجيء
الفهم خالياً من الخطأ، أو مما يضر بنعمة (الحفظ الإلهي) للقرآن.
وإذا
تساءلنا: ما هي السمة المميزة للنص المفسَّر، الواجب توافرها فى النص المفسِّر؟
سنجد أنها (قطعية الثبوت). فلا يشك مسلم، ناهيك بأن يكون مفسراً، في قطعية ثبوت
القرآن، وأنه وحي من الله، نزل به الروح الأمين على قلب الرسول ليكون من المنذرين.
فذلك من عقيدة الملة، ومنكرها خارج منها. ومن هنا، توفر جهد المفسر، وعمله الدؤوب،
لإكساب النص التفسيري تلك السمة. ولكن هل يمكن ذلك، وإذا كان ممكناً فكيف؟
إن قطعية
الثبوت التي يتميز بها القرآن، تثير سؤالاً ضرورياً، وهو: من أين استمد القرآن قوة
الثبوت، التي تجعله فى أذهان المؤمنين به (لا سيما مفسروه) تصل إلى درجة القطعية،
التي لا يرقى إليها شك أو ظن؟ والجواب هو: مصدر القرآن. فكونه كلام الله، أو نسبته
إلى الله، تجعله في أرقى درجات اليقين؛ وذلك لتوفر يقين مماثل، وسابق على هذا
اليقين، في وجود الله سبحانه (مصدر القرآن).
فالقرآن
ثابت لا ريب في وجوده وثبوته؛ لأنه من الله، ولكن هناك عوامل أخرى ساعدت على إحداث
قطعية ثبوت القرآن، إلى جانب مصدره، وهي طريقة تناقله. فالقرآن كان مكتوباً في (اللوح
المحفوظ)(2) (ونلاحظ دلالة وصف اللوح بأنه محفوظ)، نزل به ملك كريم، (جبريل عليه
السلام): أمين الوحي، الروح الأمين (ونلاحظ كذلك دلالة الصفة التي اشتهر بها جبريل،
والتصقت به في الوعي الإسلامي، وهي صفة (الأمانة)، مع ما تشترك فيه الأمانة من
معانيها مع الحفظ) على قلب النبي الكريم (الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم). إنها
سلسلة لا يرقى إليها شك.
فليس
مصدر القرآن وحده هو ما يتصف بيقينية الوجود؛ بل إن الوسائط التي انتقل بها القرآن
من الله إلى النبي (المستقبل الأول من البشر)، كلها تتسم بما يؤدي في النهاية إلى
حدوث قطعية ويقينية الثبوت. كل ما سبق يشكل نسقاً تصورياً وذهنياً راسخاً لدى
الجماعة المسلمة، لا سيما علماؤها ومفسروها.
ويظل
السؤال قائما: هل من الممكن أن يتسم التفسير بما يتسم به القرآن من تلك السمة؟
وإذا كان ممكناً، فكيف؟
لم يكن
أمام المفسر، وهو الحريص على تقوية تفسيره، بمشابهته بأهم سمة تميز القرآن، سوى
صنع نسق نقلي مكمّل لنسق تناقل القرآن، يكون التفسير به امتداداً للقرآن، من حيث
المصدر (الله)، وهو ما يخلق الظاهرة المفهومية، التي نسميها (وحدة المصدر). فإذا
كان التفسير بالنقل يعرف بأنه: "التفسير الذي يشمل ما جاء في القرآن نفسه من
البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن
الصحابة، وما نقل عن التابعين، من كل ماهو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص
كتابه الكريم"(3).
فإن كل
طرف من أطراف هذا التعريف، يمثّل أداة يستخدمها المفسر في تفسير النص. وبالنظر في
هذه الأدوات، نكتشف أنه بإمكاننا (ولعل هذا ما كان يقصد إليه المفسر، وقد نجح) أن
نمد خطاً نازلاً من النسق النقلى السابق ذكره للقرآن، ونكمل به نسقاً آخر يبدو ناتجا
عنه، ومكملاً له، محققاً تسلسلية تبدو منطقية ومقبولة على كافة المستويات، خاصة
المستوى الزمني. ويكون هذا النسق المكمل للنسق النقلي، هو ذاته نسق التفسير الذي
يبدأ من مصدر النص (الله)، وحتى (التابعين) نزولاً، كالتالي:
الله
اللوح المحفوظ
جبريل
الرسول
الصحابة
التابعون
ويبدو مما سبق حركة القرآن في تناقله، نزولاً من السماء
إلى الأرض (من الله إلى الناس)، عبر عدة حلقات سماوية، تليها حلقتين أرضيتين، وفي
الوسط رابط أرضي، لديه إمكانية التواصل مع السماء؛ وهو رسول الله (صلى الله عليه
وسلم).
والأصل في
هذا النسق هو تناقل (النص). غير أن المفسر قد استثمره بقوة ومنطقية ظاهرتين في
تناقل (المعنى)، باعتبار المعنى هو ما يحويه النص، أو باعتبار أن النص ليس إلا
معناه. والحقيقة أن الحركة النازلة للنص، عبر وسائط نقله، قد تحولت من النزول (في
تناقل النص) إلى الصعود (في استمداد المعنى).
فالمفسر،
وهو ابن القرن الثالث، وينتمي إلى عصر التابعين، كما في حالة الإمام (الطبري)،
يذهب بالآية - حين يريد فهمها - إلى من هو أعلى منه في النسق (وأعلم منه بالطبع)؛
وهو (الصحابي)، والذي يذهب بدوره إلى المصدر الأعلى (والأعلم بالطبع)، وهو (النبي)
المتصل بالسماء عبر الوحي "وأعلم الناس بمراد رب الناس"، والمتحمّل
أمانة التبيين بجانب أمانة التبليغ. فالقرآن في هذا النسق ذو حركة نازلة، ولكن
التفسير ذو حركة صاعدة.
ذلك
الصعود هو ارتقاء بـ (النص) من مجال التداول (على الأرض)، إلى مجال الإنتاج (في
السماء). فلقد تمّ إنتاج القرآن في السماء، ليتداوله الناس بالتلقي والفهم على
الأرض. ولكن المفسر هنا، بما يفعله من (عملية إعلاء) يرقى بالنص (بغرض فهمه فهماً
صحيحاً) من مجال التداول، إلى مجال الإنتاج، ملتمساً المعنى منه وفيه. وهو ما يؤدي
إلى التوحيد بين مصدر إنتاج النص، وإنتاج المعنى، ليكتسب المعنى ما للنص من ميزة
صدوره عن جهة (سماوية مقدسة) لا تقول إلا الحق. ويصبح (المعنى) مثل (النص)، قدر الإمكان،
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولقد مثّل النجاح في توحيد مصدر كل من
النص والمعنى (عبر عملية الإعلاء من التابعين إلى الصحابة إلى الرسول .. إلخ)
نجاحاً في إنشاء مجال ذو ثقة لإنتاج المعنى، عبر طريق آمن للوصول، بناءً على فكرة
مفادها: أن المعنى المراد إنتاجه من النص لن يكون صحيحاً، إلا إذا كان طريق الوصول
إليه صحيح أيضاً(4).
ومثّل
النسق النقلي، المكمّل لنسق تناقل القرآن الأول، ذلك الطريق الآمن، والصحيح،
للوصول إلى المعنى. وهذا المفهوم (وحدة مصدر إنتاج كل من النص والمعنى) هو ما جعل (المأثور)
الأداة المهيمنة على التفسير عند الإمام (الطبري)؛ لما حققته هذه الأداة من غاية
حفظ (الفهم) و(المعنى)، المؤدية إلى الإبقاء على (حفظ النص).
موثوقية المصدر
لقد سعى
العقل التفسيري إلى توحيد مصدر كل من القرآن والتفسير، ليُكسب التفسير ثبوتاً
قطعياً أو شبه قطعي، كثبوت القرآن، بهدف الوصول بالتفسير إلى أعلى درجات الصحة، وأعلى
درجات أمن اللبس والبعد عن الخطأ. ولا شك أن قداسة القرآن، وأهميته في حياة
الجماعة المسلمة (التي يتوجه إليها كل من القرآن والتفسير) هي السبب وراء ذلك.
ولاحظنا
كذلك أن عملية التوحيد هذه (بين مصدر إنتاج النص، ومصدر إنتاج المعنى) تمّت عبر
عملية إعلاء للمعنى، عبر وسائط تناقل النص المختلفة، التي صارت في الوقت نفسه
وسائط لتناقل المعنى.
وحدوث
عملية التفسير وفق مفهوم (وحدة المصدر)، يعني أن يتم إنتاج المعنى في نفس مجال
ونطاق إنتاج النص. وقد تم هذا بالفعل فيما عُرف من أدوات التفسير بـ (تفسير القرآن
بالقرآن)(5) - الذي يوصف بأنه أوثق طرق التفسير، وأشرفها، فيصبح النص في هذه الحالة
هو ما يفسر نفسه. وليس أصدق، ولا أصح، من كلام الله، حين يفسّره كلام الله.
فالمجال هنا واحد فعلاً، وكلا الطرفين (النص والمعنى) على نفس الدرجة من الثبوت(6)
.
غير أن
مشكلة واجهت العقل التفسيري، وهي أن القرآن لم يحط بنفسه تفسيراً. وثمة آيات عديدة
لا تفسير لها داخل القرآن، بالآليات المعروفة لتفسير القرآن بالقرآن (من حمل
المجمل على المفصل، وحمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص.. إلخ)؛ فكان
لابد من اللجوء إلى المصدر الثاني بعد القرآن، وهو أحاديث الرسول. واكتسب الرسول -
بفضل مكانته الفريدة في نسق التناقل- إمكانية الاستقبال والإرسال (الإبلاغ)،
والتفسير أيضاً. والشواهد على ذلك من السنة كثيرة، وأحاديث الرسول في شرح وتفسير
آيات القرآن مشهورة(7).
وأهم ما
في التفسير المأثور، والمنسوب إلى الرسول، أنه كان يُتعامل معه - من قِبل المفسرين-
باعتباره وحياً. ففي عقيدة المفسر، السنة وحي، مثلها مثل القرآن. فلم تكن فكرة
تفسير القرآن بالحديث بعيدة عن التفسير وفقاً للمصدر الواحد.
ولكن
الأمر تغير حين ظهرت المشكلة من جديد، فالرسول لم يفسر القرآن الكريم كله، فظهرت
الحاجة إلى اللجوء إلى المصدر الثالث في نسق التناقل، وهو الصحابة.
وأهم ما
يجب ملاحظته في تفسير الصحابة (وكذلك التابعين) أنهم لا ينتمون بحال من الأحوال
إلى مصدر إنتاج النص (كالقرآن، وأحاديث الرسول، التي يُتعامل معها باعتبارها وحياً
كالقرآن)، فهم وسائط ناقلة للنص، تستقبله من الرسول، وتنقله للأجيال التالية
(التابعين). حتى فيما يخص المعنى، فقد تلقوا من الرسول شرح معاني بعض آيات القرآن،
إلى جانب حفظهم للنص، ونقلهم له إلى من جاءوا بعدهم. فهم في الأصل يقومون بمهمة
الوسيط الناقل، سواءً للنص أو للمعنى.
ولكن مع
مرور الزمن، بدأ الصحابة يجتهدون في استنباط معاني القرآن، وبالتدريج بدأوا يقدمون
إسهامات ملموسة في إنتاج المعنى. ولكن ظل العقل التفسيري اللاحق لهم، حائراً في
التعامل مع أقوالهم، لا لشيء في محتواها، ولكن لذلك التحول الذي طرأ على الصحابة،
وحوّلهم من (وسيط) إلى (مصدر)، بعد أن كان المعنى يستمد من مصدر خالص (القرآن)،
ومن وسيط لديه قدرة وإمكانية أن يكون مصدراً (الرسول).
ولم يكن
هذا هو السبب الوحيد وراء ذلك التحير؛ بل كان هناك سبب أعمق، وهو التساؤل حول مدى
موثوقية ما يصدر عن الصحابة من تفسيرات، مقارنة بموثوقية التفسير عبر القرآن نفسه،
وعبر كلام الرسول الموحى إليه.
وبرغم
قوة التساؤل، إلا أن الحاجة إلى معرفة المزيد من معاني القرآن باتت ملحة جداً.
وظهرت كثير من المساحات الفارغة في معنى النص بحاجة إلى من يملأه. لذا، حاول العقل
التفسيرى أن يجد حلاً جذرياً لما يتهدد (المعنى) الصادر عن الصحابة من أزمة فقدان
الموثوقية (موثوقية المصدر)، وذلك بالتأكيد على نسبة ما يصدر عنهم إلى الرسول،
باعتبارهم صحابته وتلامذته، وأكثر الناس حفظاً وفهماً لما نزل إليه من القرآن. ووجد
العقل التفسيري ما يساعده على إكساب أقوال الصحابة موثوقية في وجود أشخاص بعينهم
من الصحابة اشتهروا بعنايتهم بالقرآن ومعناه حتى في حياة الرسول، وأشهرهم (عبد
الله بن عباس).
فلقد
تجاوزت موثوقية (ابن عباس) – كمصدر- مجرد كونه تلميذاً مباشراً للرسول، إلى كونه
مصدراً معتمداً للتفسير بدعوة (مستجابة بالطبع) من الرسول لـ(ابن عباس) أن يعلّمه
الله التأويل(8). ليكتسب (ابن عباس) سطوة تفسيرية هائلة، تفوق ما لأقرانه من أصحاب
الرسول، تظهر بوضوح في (تفسير جامع البيان) الزاخر بأقوال (ابن عباس) في التفسير.
ولم يكن
الإمام (الطبري) - رحمه الله - هو وحده من منح (ابن عباس) تلك المساحة الهائلة في
التفسير؛ بل هو الوعي الإسلامى عبر السنوات، الذي رسخ لديه حجية (ابن عباس) في
التفسير، بفعل دعاء الرسول له، وبفعل علمه أيضاً(9).
وبعد
انقضاء عهد الصحابة، ظهرت هذه الإشكالية أكثر في عهد التابعين، خاصة لما ظهر في
عهدهم من تخوف من الكلام في التفسير. ويحكي الإمام (الطبري) في (جامع البيان) ذلك
التخوف، الذي سيطر على بعض التابعين، بشأن الكلام في التفسير؛ حيث كان أحدهم إذا
سُئل لم لا يفسر، يردّ بقول بالغ الدلالة على ما استنتجناه من قبل، قائلا:
"إنها الرواية عن الله"(10).
لقد
اختصر التابعي في وعيه كل حلقات السلسلة الناقلة للنص والمعنى، على حد سواء،
وارتقى إلى المصدر، ليجعل التفسير (الذي هو معنى النص، وليس النص نفسه) رواية (بما
يشير إليه اللفظ من نقل) عن الله (مصدر النص).
أما
أولئك التابعون الذين فسروا، فقد كان الواحد منهم يبذل أقصى ما لديه من جهد، ليثبت
أولاً صلته بأقرب مصدر له (الصحابي)، وأنه تلقى القرآن على يديه، كما هو الحال عند
(مجاهد بن جبر) (أحد أكبر مفسري التابعين)(11)، الذى سعى جاهداً أن يثبت صلته
الوثيقة في التفسير بـ(ابن عباس).
ويظهر
مما سبق، كيف أن العقل التفسيري سعى جاهداً لإكساب مصادر المعنى (معنى القرآن)
موثوقية، عبر ربطها بمصدر أو أقرب النقاط الممكنة للمصدر الأصلي، مستدلاً على ذلك
بما وسعه من أدلة. وساعده في ذلك كون مصادر المعنى هي ذاتها وسائط نقل النص. ويبدو
كيف أن المعنى كان لصيقاً بالنص، ينتقلان معاً بنفس الأسلوب القائم على الإسناد
(حدثني .. حدثني ..).
ويعدّ
الإسناد، في الذهنية العلمية الإسلامية، أداةً من أكثر الأدوات رسوخاً، ليس فقط
لتداول المعرفة، ونقلها، ولكن للتثبت من صحتها، بإثبات صدورها عن مصدر أول لا يرقى
إليه شك، تناقلها عبر وسائط تتسم بالحفظ والأمانة (أو بالضبط والعدالة، كما في علم
الحديث). ومن المعروف أن تفسير القرآن أول ما بدأ كباب من أبواب الحديث(12)، وتمّ
التعامل معه (علمياً) بنفس الطريقة التي تمّ التعامل بها مع الحديث.
الهوامش
(1) الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 هـ): جامع البيان
عن تأويل القرآن، تحقيق وتخريج: محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر، مكتبة ابن
تيمية، القاهرة د. ت
(2) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
(سورة البروج: 21، 22)
(3) محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة،
القاهرة 1995م 1/112
(4) وقد يحيلنا هذا إلى ما ذكره الإمام (الطبري) سابقاً، من
نهي الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن القول في القرآن بالرأي، حتى لو كان القول
صائباً. وهو ما يعني أن الرأي: هو كل قول يتم إنتاجه خارج ذلك النسق الآمن والصحيح
لإنتاج المعنى. انظر: جامع البيان. الطبري. 1/77
(5) وهي الأداة التى اعتمد عليها الإمام (الطبري) في تفسيره
بشكل ملحوظ، وأوردنا عليها أمثلة، ويمكن الرجوع إلى أي جزء من تفسير (الطبري)
للتأكد من الاعتماد الواضح على القرآن كأداة للتفسير.
(6) ولعله من المفيد في هذا السياق، أن نذكر أن أول من فسر
القرآن بالقرآن كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يظهر ذلك في كثير مما روي عنه.
ومنه ما ذكره الدكتور (محمد حسين الذهبي) في كتاب (التفسير والمفسرون) (1/36) مما
رواه أحمد والشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شقّ ذلك على الناس،
فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا
ما قال العبد الصالح (يعني: لقمان عليه السلام): إن الشرك لظلم عظيم؟ إنما هو
الشرك.
(7) تزخر كتب السنة والتفاسير التي اعتمدت على المأثور (وعلى
رأسها: جامع البيان) بكثير من التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمثلة على ذلك: ما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حبان قال: قال
رسول الله: إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين هم النصارى. وما رواه الترمذي
وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
(8) يذكر الدكتور (عبد العزيز بن عبد الله الحميدي) فى
رسالته المعنونة بـ (تفسير ابن عباس ومروياته فى التفسير وكتب السنة).ص11 ذلك
فيقول: "وكان من أسباب قوة فهمه وإدراكه وغوصه في المعاني الدقيقة، وسرعة حله
للمشكلات، التي يحار فيها ذوو الألباب، دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) له بالفقه
في الدين، والعلم بالتأويل. وقد رويت في هذا المعنى روايات كثيرة، منها ما أخرجه
الإمام أحمد في مسنده (1/328) حيث قال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد
الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان في بيت (ميمونة)، فوضعت له وضوءً من الليل، قال فقالت ميمونة: يا رسول
الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس، فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه
التأويل".
(9) ويذكر الدكتور (محمد حسين الذهبي) في (التفسيروالمفسرون
1/52) أن من يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور يرى أثر هذه الدعوة النبوية يتجلى
واضحاً فيما صح عن ابن عباس (رضي الله عنه).
(10) يذكر الإمام (الطبري) كثير من الروايات التي يرويها
بإسناده، وتفيد هذا المعنى، في مقدمة تفسيره (ص 86)، منها: قول عُبيد الله بن عمر:
لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبدالله،
والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيَّب، ونافع. وقول يحيى بن سعيد: سمعت رجلاً يسأل
سعيد بن المسيب عن آيةٍ من القرآن، فقال: لا أقول في القرآن شيئًا. وكذلك قول ابن
سيرين: سألت عَبِيدة السلماني عن آيةٍ، قال: عليك بالسَّداد، فقد ذهب الذين علمُوا
فيمَ أنزل القرآن. وقول يزيد بن أبي يزيد: كنا نسأل سعيدَ بن المسيَّب عن الحلال
والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سَكَتَ كأن لم
يسمع. وقول: الشعبـي: والله مَا مِن آية إلا قد سألتُ عنها، ولكنه الروايةُ عن
الله. وغيرها من الروايات.
(11) روى الفضل بن ميمون أن مجاهدا قال: عرضت القرآن على ابن
عباس ثلاثين مرة. وروي عنه أيضاً أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات،
أقف عند كل آية: فيم نزلت، وكيف كانت. وعن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا يسأل
ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير
كله. (محمد حسين الذهبى، التفسير والمفسرون 1/79). ومن اليسير ملاحظته أيضاً شيوع
أقوال (مجاهد) في كتب التفسير بالمأثور، كعلامة على موثوقيته كمصدر ينتمي إلى جيل
التابعين، تماماً كما هو الحال مع (ابن عباس) كمصدر ينتمي إلى جيل الصحابة.
(12) التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبـي 1/36.
سيرة
ذاتية
- ضياء الدين محمد/ مصر/1990
-
ماجستير، بتقدير ممتاز، مايو 2015 ، عن رسالته: (منهجية
الطبري في التفسير: الأدوات والمفاهيم)/ كلية الآداب، جامعة القاهرة.
نشر له:
-
دراسة: (الأسس المعرفية للتفسير والترجيح عند الطبري)
مجلة التأويل، العدد الثاني، 2015.
-
مقال: (المصريون في قلب الليل)، مجلة إحنا، عدد 91،
يوليو 2012.
-
مقال: (وجوه أخرى للسادات)، الموقع الإلكتروني لجريدة
الدستور، الجمعة 16 مارس 2012.
-
مقال: (خطاب المناضل والحاكم ومحترف الصناديق)، الموقع
الإلكترونى لجريدة التحرير، فبراير 2013
المشاركات والدورات:
- مشاركة في مؤتمر (التراث العربي قراءة جديدة)
بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، عنوان الورقة (نحو قراءة جديدة للتراث التفسيري)،
2015.
- دورة الأسس المنهجية
للكتابة العلمية، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية ، جامعة القاهرة (يناير 2013 )
- دورة تحليل الخطاب، مركز
البحوث والدراسات الاجتماعية، جامعة القاهرة (ديسمبر2012 )
- المشاركة لمدة عامين في (ورشة
البلاغة وتحليل الخطاب) بقسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة القاهرة (2009،
2010).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق