21‏/01‏/2022

التفكير وأثره في تحقيق التغيير أزمة فكر أم أزمة تفكير؟

د. سعد صهيب

?  عمليّة التّفكير هي عمليّةٌ ذهنيّة ترتكِحُ على إثارة المخيلة في تفسيرِ الواقِع وفهمِه؛ ومن ثَمَّ محاولة تغييرِه، وحلِّ مشكلاتِه، على أُسس من التّجرِبة والخِبْرة، وإعمال العقل على ضوءِ الحصيلةِ الفكريّة والثقافيّة الّتي تُكْتَسب عن طريق التّجرِبة العمليّة الثّرة، والخِبْرة المعرفيّة الواعية. والتّفكيرُ هو عمليّةٌ منطقيّة تهدُف إلى تفسيرِ الحقائقِ وتحليلِها وتعليلِها؛ بينما الشّعور هو عمليّةُ إحساسٍ للأشياء وتقييمها. وقد عرّف الدكتور طارق السّويدان التّفكير؛ بأنّه: إعمالُ العقلِ في أمرٍ ما، للوصُولِ إلى رأي جديدٍ فيه. والتّفكيرُ الإبداعيُّ (Creative Thinking)؛ هو النّظر إلى الأشياءِ الّتي حولَنا بطرُقٍ مختلفةٍ جديدة غير مألُوفة، أو القُدْرة على توليدِ أفكارٍ رائِدة مُفيدة غيرِ مطرُوقة من قبل، أو القُدْرة على إيجاد حلُول مُختلِفة للمُشكلاتِ العالِقة، وهو ما يُعْرف بـ(التّفكير خارج الصّندُوق)، فالتّفكيرُ الإبداعيّ هو ما يقودُ إلى نتائِج عمليّة مُبتكَرة.

ولا شكّ أنّ الإنسانَ "يَمُرُّ في حياتِه بمرحلةٍ يشعرُ معها بعدمِ القُدْرة على الإبداعِ والتّفكير "خارج الصندُوق"؛ نتيجة ضغُوطٍ ومُشكلاتٍ يوميّة، ولكنّ خُبراء الصِحّة النفسيّة يُقدِّمون مفاتيحَ التّفكيرِ الإبداعيّ؛ لتحريرِ العقلِ، وتوليدِ الأفكار المُبتكرة. وقد فكّر الفنّان الهولنديّ الشّهير فينسنت فان غوخ (1853 - 1890) قديماً خارِج الصّندُوق؛ فقال: "إذا سَمِعْتَ صَوْتاً بداخلِكَ يقولُ: لا، لا يُمكِنُك أنْ تَرْسُم"، ففي تلكَ اللّحظة يجب أنْ تَرْسُم لتُقاوِمَ هذا الصَّوْت. وبمُجرّدِ أنْ تفعلَ عكسَ ما سَمِعْتَه، سيَصْمُت هذا الصَّوْت للأبد". وينطبِقُ هذا القولُ على العديدِ مِنَ الأمُور في حياتِنا اليوميّة"([1]).

وما أحرى بالقائمين على المؤسَّساتِ التّعليميّة تدريب الطّلبة على التّفكير والتّخيُّل والتّأمّل من خلالِ عمليّة العصفِ الذهنيّ. وَوَفْقاً لدراسةِ الإبداع والإدراك (Creativity and Cognition) الّتي تمَّ نشرُها في الموسُوعة الدوليّة للعلُوم الاجتماعيّة والسلوكيّة عام 2001م، من تأليف (مارك رونكو)، فإنّ التّفكيرَ الإبداعيَّ يتضمّنُ مجموعةً من العمليّاتِ المعرفيّة الأساسيّة؛ وهي: الإدراك، والانتباه، والذّاكرة، والمعلُومات المخزّنة؛ إذ إنّ بعضَ الإنجازاتِ الإبداعيّةَ تعتمدُ على سنواتِ الخِبْرة؛ تلكَ الخِبْرة الّتي يُمكن أحياناً أنْ تعملَ بشكلٍ عكسيّ؛ بسببِ ما تَنْطوي عليه من روتينٍ وفرضيّات غير مُسلّمة([2]). والهدفُ من عمليّة التّفكير؛ هو مُحاكمة الواقِع ومحاججتِه من خلال ِمُحاكاتِه للوصُولِ إلى حلُولٍ جذريّة للمُشكلات.

إنّ التفكير الإبداعي يحتاجُ إلى أدواتٍ فكريّة ناجعة، ومُتابعة جديّة دؤوبة، وحصيلة معرفيّة وثقافيّة كافية، وجدير رصدُه ومُلاحظته أنّ المُفكِّر المُبدع الحصيف إنّما يتّصِفُ بجمُلةِ صفاتٍ ومُواصفات؛ منها: حبُّ الفضُول، والرّغبة في الاستطلاع، والاكتفاء الذاتيّ، والثِّقة بالنّفْس، والجُرْأة والتحرُّر، والمُبادرة والمُبادأة في تنفيذِ العمل، والمرُونة والأَصَالة والتلقائيّة، والاستبطان والتأمُّل الذاتيّ، والسّيطرة على النّفْس ونزواتِها، والشّغف والحماس، والمُغامرة المسؤولة، والمُثابرة في إعمال العقلِ، والتّعامل النقديِّ مع الأفكارِ، والاستقلاليّة في الحُكْم، والاتِّزان الانفعاليّ، وتأكيد الذّات، والميل إلى التّركيب، والتكيُّف والتّوافُق، والجِديّة والتّعاون، والاعتماد على النّفْس وقوّة الإرادة، واحترام المَطالِب الاجتماعيّة، والقُدرة على ضَبْط الانفعالات.    

والعملُ الفكريُّ الرّشيدُ إنّما يعتمدُ على قُوّة التخيُّل، والاستبطان الواعِي؛ وتنشيط الذّاكرة وتفعيلها واستثارتِها، وتحريكِ العقل وتثويرِه، والعمل على طريقةِ (العَصْف الذهنيّ)، و(تداعِي الأفكار)، وإثارة الفضُول، والكَشْف عن الظّواهر المجهُولة، وطرح الأسئلة حول ما يعنّ لنا من أشياء غير مألُوفة؛ وتنشيط حاسّة التّساؤل، وإثارة إمكانات التعقّل، ويمكن الاستفادة من طاقاتِ التّفكيرِ الهائِلة، إذا استُثْمرت على الوَجْه المطلُوب، فكثيرٌ من النّاس لا يُقَدِّرون مُهمّة التّفكير والاستنتاج عند مُواجهة المُشكلاتِ الحياتيّة. وللحؤولِ دون الوقُوع في مَطبِّ المُعالجات الآنيّة السّريعة الّتي تجهلُ إمكاناتِ الطّاقة الفكريّة، ينبغي التثبّت والتريّث والتروّي قبلَ الإقدام على شيءٍ مجهولٌ عاقبتُه، فإذا لم نقرأ المسألةَ من كُلِّ وجوُهِها، ونقلّبها على محكِّ النّقدِ والتّفكيرِ والبحثِ والمُساءلة، فقد نقع فيما لا يُحمد عقباه، والّذي يُمارِس حياتِه اليوميّة بناءً على تفكيرٍ واعٍ، وتخيّل عقلانيّ، بمنأى عن المثاليّاتِ والأفكارِ الجاهِزة، وردود الأفعال، والاستعجالِ والارتجالِ، فإنّه سيُحقّق أهدافَهُ بأقلِّ التّكاليف؛ نظراً لأنّ المُشكلاتِ مهما كانتْ مُعقّدة؛ يمكن حلّها من خلال عمليّاتٍ فكريّةٍ واعية، وإجراءاتٍ ذهنيّةٍ سليمة، أمّا الّذي لا يُقدِّر مهمّة الفكرِ البتّة في التّحليل والتّعليل والمُعالجة، فإنّه سيدفعُ ضريبة فعلِه عاجِلاً أو آجِلاً. فما أحرى بمَنْ يُواجِه مُشكِلةً حياتيّة أنْ يستخيرَ ويستشيرَ، ويستثيرَ من إمكاناتِ تفكيرِه الكامِنة، لأنّ الفكرَ إذا بقيَ على حالِه دون تغيير وإضافة، فإنه لا يمكن الاستفادة منه، بله العقل الجامِد يُفْسد أكثر مما يُصلح، كالماءِ الرّاكِد لا يمكن الاستفادة منه، حتّى في تحريكِه، لأنّه يجعله أكثرَ كَدَراً، وإنْ تخيّل للبعض أنّه يلمعُ كالقمرِ في كَبَد السّماء. وقبلَ أنْ ينجرفَ الفكرُ إلى هذه المرحلة  (مرحلة الرّكُود والجمود) على الإنسان أنْ يُحرِّك فكرَه، ويستفيدَ من قُوّة تخيلاتِه؛ وما أبدع ما صوّره الشافعيّ بقولِه توصيفاً لهذا المنزع:  

وإنِّي رَأَيْتُ وقُوفَ الْمَاءِ يُفْسِدُه         إنْ سَاحَ طَابَ وإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

  هذا، وقد أشارُوا إلى الجوانِب الرّئيسة للتّفكير الّتي يُمكن اختزالُها في: الشكّ المنطقيّ، والتحرِّي الدّقيق، وسَعة النّظر، وعُمْق التّفكير، وسَعة الصَّدْر، وأصالة الفكر. والعملُ الفكريُّ في حقيقتِه يُسهم في تغيير الواقع الفرديّ، ومِنْ ثَمَّ الواقِع الاجتماعيّ كُكلّ إذا أسهمت الشرائِحُ الفكريّةُ كُلُّها في عمليّة التّغيير المنشُودة. ولذا على الإنسان الفرد أنْ يُوظّف فكرَه في عمليّات المحاكاةِ والتخيّل، والإنسان إذا لم يستثمر طاقاتِه؛ فإنّه يظلّ يجترّ الأفكارَ التقليديّة، ويُحاكِي السلوكيّات الشّائعة، أمّا المُفكّر الّذي يعملُ على توظيف قُدراته الفكريّة الكامِنة في عمليّة التغيير والتّحويل، فإنّه يتعدّى المُحاكاةَ والتّقليد إلى محاكمةِ التّقاليد ومحاججتها بمنظور نقديّ عقلانيّ، وعمليّةُ التّفكير بحدِّ ذاتها تقومُ على (النّقد والإبداع).

إنّ (التّفكيرَ المنطقيّ) أو (الاستدلاليّ) - الّذي يُسمّى اليوم بـ(التّفكير النقديّ) - يقومُ على تفكيرٍ استقرائيّ، وأساليب تحليليّة. هذا، "وعمليّةُ التّفكير المُبدع تقومُ على: الابتكار، والتحدِّي، وتجاوز الواقِع المطرُوح، وطلب أمر مجهُول. والتّفكيرُ المنطقيُّ يمكنُه أنْ يسهّل تطوّر سير المفاهيم، من خلال التّرابُط بين الحقائِق والمعاني، والسّعي في استخدام قُوّة الخيال في تفحّص الحقائق، ومُلاحظة نتائِج الآراء قبلَ إبرازِها"([3]). فالتّفكيرُ النقديُّ هو تفكيرٌ منطقيّ مقبُول يُركِّز على ما يحصُل به اليقين، أو على ما يَجْري من عمليّاتٍ واقعيّة. وتقومُ (عمليّة التّفكير) على عمليّاتٍ عِدّة؛ منها: "تكوينُ المفهُوم، طَرْح المبدأ، الفَهْم، حلّ المَسْألة، اتِّخاذ القرار، البَحْث والتقصِّي، الصِّياغة، المُباحثة". والفكرُ المُبدِع عند (نلر) في كتابه (فنُّ وعِلْمُ الإبداع)؛ هو: فكرٌ تستهويهِ المَجْهُولات، طلِيقاً من قيُودِ التّقاليد والأعراف، فكرٌ يستثيرُه ركُوب الأخطار. وتحضرُني هنا مقولةٌ رائِعة للشّاعِر والروائي الإيرلندي أوسكار وايلد (1854 - 1900)؛ وهي إنّ: "الفكرة الّتي لا تَنْطوي على خطُورةٍ لا تستحِقُّ أن تُسمّى فكرةً مُطلَقًا".

أمّا التّفكيرُ العقيم الّذي يقومُ على إنتاج أسئلةٍ تعجيزيّة؛ هو تفكيرٌ لا طائِلَ من ورائه. فالدُّول الّتي تُعاني من التخلّف المُركّب، لديها فائضٌ في الكلام، وعجزٌ وانحسارٌ في العمل. فما أحرى بمَنْ يحمِلُ اهتماماتٍ فكريّةً أنْ يُوجِّه فكرَه وخيالَه نحو مسائِلَ فكريّة عمليّة مُنتجة؛ وليسَ فقط ممارسة التّفكير من أجل التّفكير، فضلاً عن تنظيمِ طاقاتِه الفكريّة، فلا يُطلقها جزافاً، ولا يُرْسلها اعتباطاً. وعندما يصلُ المرءُ إلى درجة التّفكير العقلاني المُنضبط؛ فإنّ كلامَهُ سيكون دقيقاً، وأفكاره ستكونُ أكثرَ ثباتاً. وعليه، فما ينبغي أنْ يُعرَف ها هنا؛ هو أنّ نتائجَ الأفكارِ عادةً ما بطيئة المفعول، ولكنها أكيدة وفعّالة، وكُلُّ الثّوراتِ والحركاتِ الّتي كانت لها شأنٌ في التّاريخ ابتدأت من بذرةٍ فكريّة ضئيلة زرعها مُفكِّر بسيطٌ في قلبِ المجتمع النّابض، ولكنّه لم يهملها، بل تعهّد لها بالرّعاية والسّقاية، وكافح وصابر وصبر إلى أنْ أثمرتْ وأينعتْ وحانَ قطافها. فما أحرى بالمُفكِّر أنْ يتمهّل ويَصْبِر على الوقتِ الّذي يستغرقُه إنضاج الثّمرة، ويتحلّى بسياسةِ النّفَس الطّويل، ويزرع بذُورَ الفكرِ الرّشيد في العقُولِ النّابضة بالحركةِ والتّأثير والفاعليّة. وكلُّ مُفكّر اليوم مُدعوّ إلى تكثيف نشاطِه الفكريّ العمليّ في تشكيلِ العقلِ الجمعيّ وترشيدِه، لأنّنا جزءٌ من هذا المجتمع الّذي نعيش فيه، وإذا أسهمنا في توعيةِ المجتمع وترشيدِه، استطعنا أنْ نضمنَ مُستقبلاً مُشرِقاً زاهِراً، أمّا إذا رضينا بالوَضْع الحالي وتكيّفنا فيه، ووضعنا أكفّنا على رؤوسنا، ومارسنا حياتنا بتواكُل دون توكّل، وبمنأى عن رُوح جهاديّة تحترمُ الوقتَ، وتُقدِّس الواجبات الّتي تعملُ على ترقيةِ السّقف المعرفيّ للجيل الصّاعِد؛ أصبحنا جُزْءاً من هذا التخلّف العقيم، ونحنُ في الواقِع جُزْء من هذا التخلّف الّذي نكتوي بنارِه منذ عقُودٍ طويلة، وأصبحنا وكأنّنا وصلنا إلى طريق مسدودٍ لا مخرجَ منه. وأصبح كلُّ مشروع فكريّ طموح يُقابَل بالتهكّم والتّعجيز عن تغييرِ الواقِع، وأصبح شعارُنا اليوم ليس بالإمكان أفضل مِمّا كان. وما أروع ما صاغه ألبرت انشتاين (1879 - 1955)؛ بقولِه: "لا نستطيعُ حلَّ المُشكلاتِ المُستعصيةِ بالعقليّة نفسِها الّتي أوجدَتْها. فالجنونُ هو أنْ تفعلَ الشّيءَ نفسَه مرّةً بعدَ أُخرى، وتتوقّع نتائِج مُختلِفة". فقد أصبحنا - مع كثيرٍ من الأسى والأسف - نعملُ الشّيءَ نفسَه مرّتين بل مرّاتٍ ومرّات بالأسلُوبِ نفسِه، وبالخطواتِ نفسِها، ومع ذلِك ننتظِرُ المُعجزات، فمن الحماقةِ حقّاً أنْ نعتقدَ أنّنا سنحصلُ على نتائِج مُغايرة، ونحنُ نُكرِّر الشيءَ نفسَه بالأسلُوب عينِه. وقد أومأ الدكتور مصطفى محمود إلى هذِه الفكرة؛ بقولِه: إنّ مشكلتَنا ليستْ سنواتنا الّتي ضاعَتْ، ولكن سنواتنا القادِمة الّتي ستضيعُ حَتْماً إذا واجهنا الدُّنيا بالعقليّةِ نفسِها. فكم من المُشكلاتِ العالِقات الّتي لم نجد لها حلاً عمليّاً معقُولاً مقبُولاً حتّى هذِه اللّحظة، لأنّنا نتوسّل في استعمالِ الطّرُق نفسِها الّتي ثبتَ فشلُها سابقاً، وأقربُ شاهِدٍ على ما نقولُ الفيضاناتِ الّتي اجتاحتْ مدينتَنا مُؤخّراً على الرّغم من حدُوثِها مرّاتٍ ومرّات، ومع ذلِك لم نستفِد من خبراتِنا وتجارِبنا ولم نتّعظْ من الكوارِث الّتي ألّمت بالعديدِ من أبنائِنا الأبرياء الّذين وقعُوا ضحايا إهمالِ القائمين على هذِه المشاريعِ الّتي وُضعت لها ميزانيّة جبّارة، بيد أنّها ذهبتْ أدراجَ الرِّياح. والآن وبعد الإعلانِ عن مصرع (12) شخصاً - جرّاء سيُولٍ نجمتْ عن هطُولِ أمطارٍ غزيزة ضَرَبتِ الأحياء السّكنية في ضواحِي جنُوبِ شرقِ أربيل، وتسبّبت في أضرارٍ ماديّة جسيمة - ماذا سيكون التّخطيط للمرحلة القادِمة، وهل سيكتفي المسؤولون والمثقّفون بإطلاقِ تصريحاتٍ دون تنفيذِ خطواتٍ عمليّة ملمُوسة، وهل يصدقُ علينا ما قاله انشتاين يوماً: "المثقّفُون يأتون لحلِّ المُشكلاتِ بعدَ وقُوعِها، والعباقِرة يَسْعون لمنعِها قبلَ أنْ تبدأ". وكلُّ ذلك عن طريقِ النّظرِ إلى الأشياءِ بطرُقٍ جديدة غير تقليديّة، فعندنا - بلا شكّ - كمّ هائِل من الأفكارِ التقليديّة الّتي لا تَبْني أمّة ولا تُؤسِّس حضارةً، وعندنا أيضاً فائِضٌ في الكلامِ وعجزٌ في العملِ، وزيادةٌ في الفكر ونقصٌ في التفكّر. وأزمتنا الفكريّة "تتمثّلُ في عدمِ المَقْدِرة على طَرْح أفكارٍ رياديّة مُبدِعة، ثمّ ترجمة تلكَ الأفكارِ إلى سياساتٍ وقراراتٍ عمليّة ناجِعة ناجِحة، بل على العكس هناك ضَعْفٌ كبير في عدمِ المَقْدرة على تطبيقِ القوانين واللّوائِح المُلزمة في كثيرٍ من القضايا المصيريّة الفاعِلة"([4]).

  وقد وضع الدكتور السويدان بصمتَهُ على مشكلتِنا الفكريّة الرّاهِنة، بقولِه: "أزمة الفكر السّليم - عندنا - هي أمُّ الأزمات، والمشكِلةُ في عالمنا العربيّ والإسلاميّ ليستْ في العقُول، وإنّما في استثمارِ تلك العقُول، فالعقُول في أُمّتنا موجُودة وافِرة، خاصّة العقُول المُبدِعة، لكنّها لم تجدِ الفُرصةَ سانِحةً للتّفكير بحُريّة، ومُمارسة إبداعِها بأريحيّة وانفتاح"([5]). ولا جرمَ أنّ التّفكير الحُرّ السّليم يُؤدِّي غالِباً إلى تقديمِ أعمالٍ إنسانيّة رائِدة، ومشاريع عمرانيّة فريدة تسهمُ في تعزيز التطوّر الإنسانيّ، وتحقيق الازدهارِ الحضاريّ. ولتحقيق الإقلاع الحضاريّ من جديد لا بُدّ من الإقرار بوجودِ أزمةٍ فكريّة منهجيّة تَعْصِفُ بالمجتمع العربيّ الإسلاميّ، وجعلته يتراوح في أنساقٍ فكريّة مُغلقة، ونماذِج جاهِزة، وأدبيّات تجاوزها الزّمن.

       ولا بُدّ من الإشارةُ هنا إلى أنّ حلَّ المشكلاتِ يبدأُ من الاعترافِ بوجُودِها، وعدم التنصّل عنها، فهناك - بلا شكّ - أزمةٌ في الفكرِ العمليّ، وانحسارٌ في التّفكير المنهجيّ. وقد أكّد العديد من المُفكّرين هذِه الأزمة، ومن بينهم الدكتور محمّد عمارة الّذي قال بصريح العِبارة: "واليوم، لا نُغالي إذا قُلْنا إنّ إجماعاً يكادُ أنْ ينعقِدَ على أنّ الفكرَ الإسلاميَّ يعيشُ في أزمة، وعلى أنّ هذِه الأزمةَ الفكريّةَ قد أوقعتْ أُمّةَ هذا الفكرِ في مأْزِقٍ حضاريّ. فأهلُ الفكرِ - بتيّاراتِهم المختلِفة - يُسلمون بذلِك، مع اختلافِهم في تحديدِ أسبابِ هذِه الأزمة، وفي تعيينِ سُبُل الخرُوجِ منها، وواقِع الأُمّة يشهدُ على ذلِك، حتّى لدى الّذينَ لا يتّخِذُون من الفكرِ صناعةً يتخصّصُون بها ويبرعون فيها"([6]). فالأزمةُ الّتي يُعاني منها الفكرُ الإسلاميّ هي حقيقةٌ لا يُمكن إنكارُها والتّغاضِي عنها، ولا بُدّ من الإقرارِ بها والاعتراف بوجُودها، إذا أردنا حقّاً مُواجهة الأزمةِ، ومراجعة الأدبيّات الّتي أسهمت في صناعتِها وتضخيمها، ومن ثَمَّ تصديرِها وتدويلِها.

  فهناك ما يُشبه الإجماع على أنّ الفكرَ العربيَّ المُعاصِرَ يعيشُ في أزمة وجوديّة خانِقة تُهدّد انهيار منظومتِه في حال لم يُرفد بعناصِرَ جديدة تُنقذ هياكِله من التفكّك والانهيار. وقد تناول العديدُ من المُفكّرين أزمةَ الفكر هذِه، وأرجعُوها إلى عوامِلَ كثيرة، فهناك من ربطها بوجُود تناقُضٍ في جوهرِ الفكر العربيّ، الّذي مالَ إلى التّوفيق أو الجَمْع بينَ الأضداد، وهناك من يربطُها بقِلّة الإبداع، والمَيْل نحو التّقليد والنّسْخ والمُحاكاة، والاعتماد على التّرجمة السّطحيّة([7])، والاستبداد السياسيّ، وطُغيان النّقل على العقل، والتّعامل مع الأفكارِ والأيديولوجيّات مثلما نتعامل مع البضائِع والمقتنيات.

   فلا غَرْوَ أنّ العالَم العربيّ والإسلاميّ "يعيشُ أزمةَ فكرٍ تُهدِّد وجودَهُ؛ لأنّه لا يستطيعُ أنْ يتقدّمَ للأمام، أزمةٌ جعلته عاجِزاً أنْ يُعمِّر ويَبْني ما تهدّم، وكُلّما تقدّم خَطْوةً عاد مُهَرْولاً للخلفِ خطواتٍ يَبْكي على ماضٍ جميل وأطلال رائِعة، ويشتكي من ظُلم النّاس، ويتحسّر من تكالب الأعداء عليه. أزمةٌ تجعلُ من المُخالِف ولو كان من بني جِلْدته عدوّاً، وتُسْهم في تدمير الذّات والإبداع والفنُون، وعدم إعمالِ العقل والفِكْر، وعدم الاستفادة من تجارِب الآخرين"([8])، مهما كانت قُوّتها وروعتُها ورصانتُها، انطلاقاً من قاعدةِ: (الحكمةُ ضالّةُ المُؤمِن فحيثُ وجدَها فهو أحقُّ بها).

      فقد اتّضح لنا أنّ أزمةَ الأُمّة المعنويّة ليستْ أزمةَ عقيدةٍ وقِيَم ومبادئ، وإنّما هي أزمةُ فكرٍ ومنهج، وأنّ هذِه الأزمة قد بدأتْ منذُ أمدٍ بعيد تعودُ جذورُها إلى تغيّر القاعِدة السياسيّة، وما تبعِها من عُزْلة القيادة الفكريّة، وكفِّها عن المسؤوليّة الاجتماعيّة، وما ترتّب على ذلِك من توقّف نموّ الحركةِ الفكريّة والعِلميّة والمنهجيّة والاجتماعيّة الّتي أدّت بالأُمّة إلى العجزِ عن مُواكبةِ التغيُّراتِ والتطوُّراتِ والتحديَّات المُتعاظِمة المُتلاحِقة([9]). فنحنُ عندنا كمٌّ هائِل من القِيَم والمبادئ السّامية الّتي تجعلُنا في مقدّمة دُول العالَم دون مُنافِس، ولكن ما ينقصُنا ويُشوِّه أنساقَنا المعرفيّة؛ هو أزمةٌ في الفكرِ والمنهج، وضعفٌ في المنهجيّة الّتي يُمكن استخدامُها للمُلاحظة والكَشْف والتّحقيق في اكتسابِ المعارِف، والوصُول إلى الحقائِق.

    وبهذا أصبحَ مِنَ الواضِح أنّ الأزمةَ - أزمة القُدْرة على مُواكبةِ التغيُّراتِ والتحديّات الحضاريّة - لن تحِلّ إلّا بتصحيحِ مسارِ العقلِ، وتعديل منطلقاته الفكريّة، وبناء منهجيّتِه العلميّة والاجتماعيّة لتُؤهِّله للتّعامُل المُنضبِط مع الحياةِ الاجتماعيّة مع كُلِّ ما يتعلّق بها من وقائِع وأحداثٍ وتحديّات وعَلاقات، لأنّه إذا صحّ المنهجُ صحّ الفكر، وأمكنَهُ أنْ يمدّ الأُمّة بالطّاقة اللّازِمة لنَشاطاتِها وحاجاتِها كافّة على الوَجْه الّذي ترى الإفادةِ منه في جهُودِ البناء والإصلاحِ والإعمار، ومُواجهة التحديّات([10]). فلا يمكن لأمّة - مهما بلغ شأنُها - أنْ تُواكِب التغيُّرات والتطوُّراتِ والتّحديّات الحضاريّة دون أنْ يقودها منهجٌ سليم، ومنهاجيّة صحيحة، تُؤهِّلها للتّعامُل الإيجابيّ المُنضبط مع الوقائِع والطّبائِع والتحديّات والماجريات. وهناك قاعِدة كُليّة؛ مفادُها: إذا صحَّ المنهجُ صحَّ الفكرُ، فصِحّة الفكر رهنٌ بوجود منهجٍ علميّ سليم.

    والمنهج الّذي انتهى إليه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 – 1650م) في كتابه (مقالٌ في المنهج: قواعِد لتوجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم)، هو البدءُ بالشكِّ في صِحّة ما يعتقِدُه النّاسُ، بحُكْم ما اعتادُوا عليه دُون تأمّل، وبحُكْمِ تقليدِهم لغيرِهم دُون بُرهان. ومِمّا ذكرَه في هذا الشّأن: "لقد تعلّمْتُ ألّا أعتقِدَ جازِماً بأيِّ شيءٍ سبقَ أنْ تعلّمْتُه بالعادةِ ومثالِ الآخرين، وأخذتُ أُحرِّر نفسِي شيئاً فشيئاً مِنَ الأخطاءِ الّتي تُطْفِئ (النُّورَ الفطريَّ)، وتحُدُّ من قُدْرتِنا على الإصغاءِ إلى العقل"([11]).

      ويقومُ هذا المنهجُ على أربع قواعِد؛ أوّلُها: عدم القَبُول بصِحّة أيِّ شيءٍ قبلَ التحقُّق من صِحّتِه، وتجنُّب الحُكْم السّريع والتّحيُّز، والتحقُّق من عدمِ وجُودِ أيّ سببٍ للشكِّ في صِحّتِه. والقاعِدة الثّانية: تتطلّبُ تقسيمَ المُشكِلة المُراد بحثُها إلى أكبر عددٍ مُمكِن مِنَ الأجزاءِ لتسهيلِ التّعامُل معها. والقاعِدة الثّالِثة: تتطلّبُ مُمارسةَ التّفكير بطريقةٍ مُنظّمة بالأجزاءِ البسيطةِ الّتي يسهُل معرِفتُها، والتدرُّج في معرفةِ الأشياءِ الأكثرِ صعُوبةً. أمّا القاعِدة الرّابعة: فإنّها تتطلّبُ التحقّق من أنّ الباحِثَ لم يترُك أيَّ جُزْءٍ من المُشكِلة لم يَتِمّ تناولُه وبحثُه([12]). وقد تبيّن - فيما بعد - أنّ ديكارت قد قرأ ترجمةَ كتاب (المُنقذ من الضّلال) لحُجّة الإسلام أبي حامد الغزالي، الّذي يتّخذ الشكَّ طريقًا إلى اليقين.

  والسُّؤال الّذي يطرحُ نفسَه هنا: تُرى هَلْ هناك أزمةٍ في الفكرِ أم أزمةٌ في التّفكير، هل هناك ضَعْفٌ في الفكرِ أم في التّفكير؟ هل هناك ضعفٌ فكريّ أم ضعفٌ تفكيريّ؟ وللإجابةِ عن هذا السُّؤال؛ نقول: إنّ التّفكير هو خاصيّةٌ إنسانيّةٌ تنبعُ من عقلِ الإنسانِ، وقد زوّد الله - سبحانه وتعالى - الإنسان بقُدْرة على التّفكير، ولِهذا فمُشكلة المجتمع ليست مشكلةَ تفكير فقط، فالعقليّة الّتي ولدت الفراهيدي (ت170هـ)، وسيبويه (ت180هـ)، والزمخشري (ت538هـ)، وعبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)، والطّبري (ت310هـ)، والحسن البصري (ت110هـ)، وأبو حنيفة الدِّينَوَرِي (ت282هـ)، وابن خلدون (ت808هـ)، وجابر بن حيّان (ت199هـ)، وابن النّفيس (ت687هـ)، وابن الهيثم (ت430هـ)، وأبو الرَّيْحان البِيرُونِيّ (ت440هـ) ، والخوارزمي (ت232هـ)، وأبي نصر الفارابي (ت339هـ)، وابن سينا (ت427هـ)، وابن البيطار (ت646هـ)، وابن إسْحَاق الْكِنِديّ (ت256هـ)، والإِدْرِيسي (ت559هـ)، وأبو الحسن المسعودي (ت346هـ)، وأبو حنيفة النعمان (ت150هـ)، والشافعي (ت204هـ)، وابن رُشْد (ت595هـ)، وأبو حامد الغزاليّ (ت505هـ)، وابن حزم الأندلسي (ت456هـ)، قادرة على إنجاب أمثالهم، لكن مشكلة مجتمعنا هي مشكلة فكر([13]). وبعيداً عن نظريّة المُؤامرة فقد كان لأعداءِ الأُمّة دور بارز في نشـر الاستبداد السياسيّ، ومن ثَمّ الاستتباع المعرفيّ والاستلحاق الحضاري، وكلُّ هذا كان سبباً في عُقمِ الأُمّة من إعادةِ مثلِ هذِه العقُول الفذّة المبدِعة المُبتكرة، ومن ثمّ إنتاج أجيالٍ مُتخلّفة أصبحت عالةً على سائِر المُجتمعاتِ الإنسانيّة. وبناءً على ذلِك، فإنّ أزمتنا الحضاريّة سببها ضَعْفٌ في الفكر الإبداعيّ، وليس ضَعْفاً في التّفكير فقط.

    وفي فصلِ (التّناقُض بين الفكرِ والسّلُوك) ذهبَ أحدُ الباحثينَ إلى: أنّ العقلَ العربيَّ يعيشُ أزمة تفكيرٍ، والتّفكيرُ في العقلِ العربيّ، هو مِنَ النّوعِ المُتقبّل الّذي يُؤدِّي بالضّرُورةِ إلى مُقاومةِ التّغيير، في حين أنّ العقلَ العالميَّ المُعاصِر يُمارِس مستوًى مُتقدِّماً مِنَ التّفكيرِ، يُطْلَق عليه (التّفكير النّاقِد) بما يتّسِمُ به من خصائِص؛ مثل: الدقّة، والاستدلال، وتقويم الحُجج، والتّفريق بين الرّأي والحقيقة، ورُؤية الوجه الآخر للأحداث، والاتِّجاه نحو الجديد مِنَ الأفكارِ، واستخدام قواعِد الاستدلالِ المنطقيّ في التّعامُل مع المُتغيّرات والأحداث"([14]).

وانطلاقاً من هذِا التّوصيف، فإنّ "الفكرَ الإسلاميَّ بحاجةٍ إلى وصفات علاجيّة يتعافى بها من أزمتِه، وتُرشده إلى معالم التّفكير المنهجيّ الّتي دعا إليها الإسلام والتزم به علماؤُه الأوائِل في مختلف الحقُول الفكريّة المعرفيّة، فشيّدوا حضارةً امتزجتْ فيها الرُّوح بالمادّة وَفْق رُؤية شمُوليّة مُتوازنة كانت سِمةً مميّزة للفكرِ الإسلاميّ الرّشيد في العصُور الإسلاميّة الزّاهية. ومن أبرز مظاهر الأزمة: وجُود خللٍ في التّعامل مع مصادر الفكر الإسلاميّ وأدواتِه، إذ يُلحظ انفصال في عناصر البنية المعرفيّة الإسلاميّة، مِمّا أدّى إلى الجمُود والتّقليد، وعدم تجديد أدواتِ العمل، والتقيّد بالحرفيّة في التّعامُل مع النصّ، وعدم مساءلة المعرفة الإسلاميّة، والتّعامُل معها بنَوْع من التّقديس والتّسليم، وغياب التّكامُل المعرفيّ والتّجزئة المُستمِرّة للعلُوم، وهو ما أفرز أزمةً في التّعامُل مع الأصُول والتُّراث والواقِع، وتتجلّى بعض مظاهرها في القرآن والسُنّة، بتغليب النّظرة التجزيئيّة، وتغييب النّظرة الكُليّة([15]). ومن سِماتِ الأزمة الفكريّة وقَسماتِها؛ وجودُ تيارٌ واسِع عريض لا يُميّز - عمليّاً - بينَ المصادِر الأصليّة والفرعيّة، أو بين الأصُول والفرُوع، والثّوابت والمُتغيّرات، بل بقيَ حتّى هذِه اللّحظة مأسُوراً في أقبية تاريخٍ يحملُ بين دفتيه الثّابت والمُتحوّل، والمُشرق والمُظلم، والإبداع والاتّباع، والصّالح والطّالح، وهذا خللٌ منهجيّ لا بُدّ من تجاوزه، فتاريخنا - مع جلالِه وجمالِه - ليسَ نصّاً مُقدّساً لا يُمكن الخرُوج منه، بل لا بُدّ من مُراجعة أدبيّاتِه ونقدِها وغربلتها، وتمييز ما فيها من قُوّة وضَعْف، وجمال وقُبح، وجيّد ورديء، وهنا كان لا بُدّ لنا أنْ نعيدَ صِلتَنا بما يعيد تفرّدنا وتميّزنا في ميادين الفكر والعلم والمعرفةِ والإبداع. فالمراوحةُ في النّسقِ التاريخيّ المُغلّق تجعلُنا نستنسِخُ الأدبيّات الفكريّة الّتي تجاوزها الزّمن دون تفعيل أو تثويرٍ أو إضافة، ونسترجعُ الخِلافاتِ التاريخيّة، ونبتعد رُوَيداً رُوَيداً عن فقهِ الواقِع، وكلّ هذا يُؤدّي بنا إلى ضَرْبٍ مِنَ الكَسْل المعرفيّ، والخمُول الفكريّ.

هذا، "وعندما يفقدُ الفكرُ مبرّراتِه التطوريّة والتقدُّميّة يُصْبح خارِج دائِرة الزّمن، حيثُ يتحصّنُ في داخلِه رافِضاً الخرُوج من دائرة الآبائيّة الّتي استنكرَها القرآن الكريم، والانسجام مع حلقاتِ الحاضِر والمُستقبل المُتسلسِلة. حينئذٍ يُصْبح التحجُّر والجمُود هو من أساساتِ بنائِه ووجُودِه، والفكرُ عندما يفقد مبرّراته التطوريّة، يفقد غاياتِه أساساً. إنّه ساكِنٌ في اجتهاداتِه، قامِع لها، ورافِض لمُتغيّراته، يُحارِب كُلّ مُتغيّر يَسْري في داخلِه... إنّ مفاهيمَ الدِّين الإسلاميّ تحضُّ على الاستجابة الفعّالة مع العالَم الخارجيّ، وتطوير الفكرِ الإنسانيّ باستمرار لتحقيقِ الحُريّة والإقناع والإبداع والتطوّر، الّتي هي من أساساتِ تحرُّك الإنسان، وتصاعُدِه نحو الكمال. وقمينٌ لحظه أنّ الكثيرَ من تصريفاتِ الأفعالِ المُسْتخدمة في القرآنِ تَدُلُّ على حركةِ الفِكْر، وعدم جمُوده؛ مثل: (التدبّر، التفكّر)"([16]). فالتّجديد إذاً؛ هو حاجةٌ حضاريّة لا غِنى عنها، والعُلماء العامِلُون المُجدِّدون هم ورثةُ الأنبياء، الّذين ينفونَ عنِ الدّين تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المُبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ.

  "وإذا كان تَوالي السِّنين، ومعها طوارِئُ الأمراضِ والعوارِض، هو مِمّا يُصيب الصِحّة الجسديّةِ بالوَهْنِ والضّعْفِ والعِلَل، فإنّ هذِه السُنّةَ تنسحِبُ أيضاً على الأنساقِ الفكريّة، يُصيبُها تَوالِي السِّنين والقرُون، والعِلَل الذّاتيّة والوافِدة، بالغَبَشِ الّذي يحجُبُ صفاءَها، ويَفُلّ من عَزْمِها، ويُقلِّل من فاعليّتها، فإذا لم يتداركَها المُجدِّدون بالتّجديد، والمجتهِدون بالاجتهاد، الّذي يُجسِّدها أنموذجاً حيّاً شاخِصاً، طويت صفحتها الحيّة، وتحوّلت إلى مُتْحَف التّاريخ!"([17]). فالحركةُ تعني الحياة والدّيمومة، والسّكون يعني الموتُ والخمود، وما أروع ما ذكرُه الفيلسوف اليوناني (هِرَقْليطُس) في هذا المعنى: "إنّك لا تضعُ قدمَك في النّهرَ الواحِد مرّتين"، وقد أضافَ إليه (فلوطرخس) قولَهُ مُفسِّراً: "لأنّ مياهاً جديدةً تتدفّق فيه". فحركةُ الماءِ في النّهرِ كحركةِ الزّمن تتّسمُ بالديمومة، والإنسانُ في حالةِ تغييرٍ دائِمة، ولهذا فهو لن يكون في المرّة الثّانية كما كان عليهِ في المرّة الأُولى.

ومن أُولى أزماتِ الفكرِ الإسلاميّ المعاصِر؛ هي قضيّة العقل، والموقِف منه كأداةٍ للنّظْرِ والبرهنةِ والاستدلال، والموقِف من الشِّعاراتِ المطرُوحة حولَ ضرُورةِ تحريرِ العقلِ المُسلِم من القيُودِ الّتي تُكبّله.. إنّ العقلَ والعقلانيّة، والنّزعة العقليّة، في المنظُورِ الإسلاميّ، ليسَ جوهراً مُستقِلّاً، ومُناقِضاً لغيرِه من سُبُل النّظر، وتحصيلِ المعارِف، وأدواتِ الإدراكِ. فإذا كان المنهجُ العقليّ، والمُفكّر ذو النّزعةِ العقليّة العَمَليّة، في المُصْطلحاتِ السّائِدة في الفكرِ الغربيّ؛ يعني التميُّز والاستقلال، بل والتّناقُض مع المناهِج والنّزعاتِ الوجدانيّة والحَدْسيّة والنقليّة، فليسَ الحالُ في منظُورِ الرّؤيةِ الإسلاميّة، لعَلاقةِ العقلِ والعقلانيّة بمناهِج النّظْر والإدراكِ الأُخرى([18]).

  ومن هُنا، فإنّ (تحريرَ العقلِ) المُسلِم - بوصفه قضيّة من قضايا أزمةِ الفكرِ الإسلاميّ المُعاصِر - يجب أنْ تُفْهَم على أنّها تحريرُه من الجمُودِ والتّقليد الأعمى، وتحريره من الغرُور، وتحريره من الهوى، تحريره من الجمُودِ والتّقليد الأعمى للسّلف، سواء أكان هذا السّلفُ هو سلفُنا نحنُ، أمْ سلفُ الحضارةِ الغربيّة، فالجمُود على النّصُوصِ آفةٌ، سواء أكانت هذِه النّصُوص من موروثِنا نحنُ، أم مُستورَدة عنِ (الآخر الحضاريّ)!([19]).

ورَحِمَ اللّه الأُستاذ الإمام الشّيخ محمّد عبده (1849- 1905م)، عندما تحدّث عن مهّمة تحريرِ العقلِ من الجمُودِ والتّقليد الأعمى، باعتبارِها أُولى المهام الّتي جاهدَ في سبيلِ إنجازِها؛ فقال: "لقدِ ارتفعَ صوتي بالدّعوةِ إلى: تحريرِ الفكرِ من قيدِ التّقليد، وفهمِ الدّين على طريقةِ سلفِ الأُمّة، قبلَ ظهُورِ الخِلاف، والرّجُوع في كسبِ معارفِه إلى ينابيعِها الأُولى، واعتبارِه من ضمنِ موازِين العقل البشريّ الّتي وضعَها الله لتردّ من شَطَطِه، وتقلّ من خَلْطِه وخَبْطِه، لتُتِمّ حكمة الله في حفظِ نظامِ العالَم الإنسانيّ، وإنّه على هذا الوَجْه يُعَدُّ صديقاً للعِلْم، باعِثاً على البحثِ في أسرارِ الكون، داعِياً إلى احترامِ الحقائِق الثّابِتة، مُطالِباً بالتّعويلِ عليها في أدبِ النّفسِ وإصلاح العمل"([20]). فالحضارةُ تبدأُ عندما تتحرّر الأفكارُ من أسرِ التّقاليد، وترجعُ الأُمّة في كسبِ معارفِها إلى ينابيعها الأُولى، ويكونُ فهمها للدِّين بناءً على طريقةِ سلفِ الأُمّة الأوائِل، وبذلِك يُحْفظ العقلُ البشريُّ من خَلْطِه وخَبْطِه، وغروره وكبريائِه.

فإذا لم يتغيَّر منهجُ التّفكير، وتُصحَّح منطلقاتُه، فسوفَ يبقى العقلُ المُسلِم عاجِزاً عنِ النّظْرِ النّاقِد والرُّؤيةِ النّافِذة، وسوفَ يظلُّ يُراوِحُ في حلُولِه ومُحاولاتِه المُتكرِّرة الفاشِلة، على مرِّ القرُون والأجيال والدُّول، بَلْ لعلّ هذِه المُحاولات الخاطِئة لن تزيدَه إلّا استنزافاً وتدهوراً وإنهاكاً. ومِمّا يزيدُ من أعباءِ هذا العقل المُسلِم البائِس أنّ الفِئات القياديّة السياسيّة في الأُمّة قد انتهتْ بعدَ يأسِها من الغلبةِ في صراعاتِها للاستئثار بالقيادةِ والتّوجيه إلى إخضاعِ الأُمّة وعقلِها إلى إرهابٍ مادّي ونفسـيّ([21]). فالعقلُ المسلِمُ اليوم مدعُوٌّ إلى تأسيسِ منهجيّةٍ تكامُليّة استناداً إلى الأصُول والثّوابت الإسلاميّة، واستنارةً بالمنهجيّاتِ العلميّة الغربيّة، الّتي ثبتَ صِحّتُها ونجاحُها في المجالِ العمليّ التطبيقيّ. هذا، وإنّ الاشتغالَ الفكريَّ الرّشيد لا يكونُ عبرِ انتحالِ الأفكارِ الوافِدة المنقُولة إلينا عن طريقِ التّرجمة المُرتجَلة الكاسِدة؛ لأنّ هذا الضَّرْبَ من الإعْمالِ الفكريّ لا يُلبِّي حاجةً، ولا يبني أُمّةً، ولا يُؤسِّسُ حضارةً. والدّليلُ على ذِلك أنّ فكرَ الاستنارةِ العربيّ - الّذي تبلور في أحضانِ النّهضة الغربيّة الأوروبيّة - لم يكن له دورٌ ملحوظ في تحقيقِ التقدُّم العلميّ، وتجسيدِ التطوّر العمرانيّ، وتوفير الرّفاه الاقتصاديّ، بل كان عامِلاً مُساعِداً في تطبيعِ الاستبداد السياسيّ، وتعزيز التخلّف العلميّ، وتكريس الاستتباع الاقتصاديّ.

    حتّى النِّتاج الفكريّ الّذي وُصِف بـ (فكر النهضة)، تبيّن لاحِقاً أنّه - في مجمُوعِه العامّ - مُجرّد أفكارٍ مُترجَمة منقُولة عن كُتُب ودراساتٍ صدرتْ في إطارِ السِّياق الغربيّ - الأوروبي، وعُرِّبت ونُقّحت وأُعيد إصدارها، وكأنّها من تأليفِ الكُتّاب العربِ من المسلمين وغيرهم، وهي في الحقيقة مُجرّد أفكار تُرْجِمت بتصـرّف([22]). فطه حسين، في كتابه (على هامش السِّيرة)، كان مُتأثِّراً بأقوالِ، أو (مُترجِماً لأقوالِ). وجيل لوميتر، في كتابه (على هامش الكتُب القديمة)، وإميل درمنجم في كتابه (حياة محمّد)، وألفريد أورشيم في كتابه (على هامش سيرة المسيح). فكتابُ طه حسين (على هامش السِّيرة) كان مجاراةً للكُتّاب الغربيِّين، لتكُون نتيجة المعادلة أنّ السّيرةَ من الكتُبِ القديمة المُشار إليها. وما يُمكن أن نستدلّ به على ذلِك، ما ذكرَهُ المُستشرق ماسينون؛ بقولِه: "إنّنا حين نقرأُ طه حسين؛ نقولُ: هذِه بِضَاعتُنا رُدَّت إلينا". وما يُعزّز هذا الاستدلال قُوّة ومصداقيّة ما ذكره طه حسين صراحةً في كتابه (الإسلام والغرب): "ويتحتَّم أنْ نعترِفَ بأنّ كِتَابين فرنسيِّين كانا بمثابة الشـرارتَيْنِ اللّتين أشعلتا مَوْقدين مختلفين. أحدُ الكتابين لـ(جيل لومتير)، وعنوانُه (على هامش الكتُب القديمة)، والثاني (حياة محمّد) لـ(إميل درمنجم). أمّا كتاب جيل لومتير: فإنِّي بعدَ أنْ شُغِفت به كثيراً كثيراً، وضعتُ في نفسِي الأسئلةَ الآتية: هَلْ يُمكن إعادة كتابة مآثِر الفترة البطوليّة في تاريخ الإسلام في أسلُوبٍ جديد، أم أنّه يتعذّر ذلك؟  وهل تصلُح اللّغة العربيّة لإحياء هذه المآثر؟ لقد حاولتُ أنْ أقُصَّ (بعضَ الأساطير) المُتّصِلة بالفترة الّتي سبقتْ ظهُور النبيّ، ثُمّ قِصّة مولده وطفولته، ونشرتُ هذه السِّلسلة تحت عنوان مقتبس من (جيل لومتير)، وهو (على هامش السِّيرة). اعتمدتُ فيه على جوهرِ بعضِ الأساطير، ثمّ أعطيت نفسِي حُريّةً كبيرةً في أنْ أشرحَ الأحداثَ، وأخترعَ الإطارَ الّذي يتحدَّثُ عن قُرْب إلى العقُول الحديثة".

أمّا كتابه (في الشعر الجاهلي)، الّذي نشرَهُ في سنة 1926م، وتمّ تعديلُه لاحِقاً إلى (في الأدب الجاهلي)، فقد كان مُتأثِّراً  - في أغلبِ طرُوحاتِه الرّئيسة الّتي بثّها فيه - بالمُستشرق الإنكليزي ديفيد صمويل مرجليوث - David Samuel Margoliouth (1858 - 1940)، في بحثه الموسُوم (أصول الشعر العربيّ)([23]).

وبناءً على هذهِ الحقيقة، فإنّ كتابَ (طه حسين) لا يزيدُ عن كونِه حاشيةً وتعليقاً على هذا الكتاب، الّذي كان في أصلِه بحثاً، حتّى وُسِمَ تهكّماً بأنّه "حاشية طه حسين على متنِ مرجليوث". وبناءً على هذا؛ فإنّ أفكارَ طه حسين وأمثالِه المُتعلِّقة بالشِّعر الجاهليّ ليستْ إلّا مُجرّد سَطْوٍ على أفكارِ المُستشرقين الّذين جاءوا قبلَهم.

وهذا يعني أنّ من أُطلِق عليهم رُوّاد النّهضة العربيّة كانوا مُجرّد مُترجمين لأفكارٍ وافدة نحلُوها لأنفسِهم، فكانوا بمثابةِ جسرٍ عريض لنقلِ الفكر الغربيّ بمحاسنِه ومثالبِه، وكان احتفاؤُهم واحتفالُهم بالمورُوث الوافِد أعظم وأكبر من اعتزازِهم بميراثِهم الّذي يمتّون إليه بصلاتٍ تاريخيّة جغرافيّة لا يُمكن إنكارُها أو التّغاضِي عنها، وكان مثلهم في ذلك كمثلِ الّذي يُنكر فضل أبيه، ومن ثَمّ يتطاول عليه.

والطّريف أنّ الدكتور طه حسين تُوِّجَ عميداً للأدبِ العربيِّ على الرّغم من وجودِ مَنْ كان أجود منهُ أدباً، وأغزر منه عِلْماً، وأبحر منه ثقافةً، ولكن ما ميَّزهُ عن غيره أنه تخلّى عن هُويَّتهِ الإسلاميَّة، وتمرّد على مشرُوعِ الأُمَّة ومنظومتها، فاحتضنته مؤسساتٌ غربيَّةٌ هنا وهناك، دافعتْ عن أدبه، ورفعتْهُ إلى مَصافِ العُظماء، وعندما نشرَ كتابه (في الشعر الجاهليِّ) سنة 1926م، تظاهرَ النّاسُ احتجاجاً على ما جاءَ فيه من تطاوُلٍ صريحٍ على ما يُعرف مِنَ الدِّين بالضّرورة، فخطبَ (سعد زغلول) - رئيس مجلس النوّاب في حينه - في المتظاهرين؛ قائلاً: "إنّ مسألةً كهذِه لا يُمكن أن تُؤثِّرَ في هذهِ الأُمَّةِ المُتمسِّكةِ بدينها، هبوا أن رَجُلاً مجنوناً يَهْذِي في الطّريق، فهل يضيرُ العقلاءَ شيءٌ مِنْ ذلكَ. إنّ هذا الدِّينَ متينٌ، وليسَ الّذي شَكّ فيهِ: زعيماً، ولا إماماً، حتَّى نخشى مِنْ شكِّهِ على العامَّة، فليشكّ ما شاء، ماذا علينا إذا لم تَفْهَمِ البقر"([24]).

وأشهر مثال يُضْرب على محاكاةِ أفكارِ المستشرقين من لدن العديد من الكُتّاب العرَب؛ هو موضُوع (العبقريّات)، وهي فكرةٌ ألمانيّة، إذ يعتقد الألمان أنّ العباقرةَ هُم الّذين يصنعُون التّاريخ. تلقّف هذه الفكرةَ العقّادُ، وراح في صَمْتٍ وجِدّ عجيبٍ يقرأُ التّاريخَ بعينِ الألمان، وخرج علينا بسلسلتِه الشّهيرة (العبقريّات)، وردّد التبع المُنهزِمون، أصحابَ العقُول الخاوية والمنابر العالية، مَنْ يبحثون عن أيِّ جديد يُكلِّمون به النّاس في زواياهم الصحفيّة، أو خُطَبهم الدوريّة. فكانت أشبه ما تكون (بالمُوضة)، أو (التّقليعة) بلهجة أهلِ مصر، كما كتبَ العديدُ من الكُتّاب عن خالد بن الوليد، وعن غيرِه من الجيل الأوّل بمنظور (العبقريّة)([25]).

ومن الّذين تأثّروا بفكر المُستشرقين المُغرضين (زكريا بطرس)، ومن أهمِّ المصادر التّي اعتمدَ عليها (بطرس) في إثبات ما يتكلّم به، بل يفتريه على الإسلام، دائرة المعارِف الإسلاميّة Encyclopedia of Islam. والسّؤال المطرُوح هنا: تُرى ما حقيقة هذه الموسُوعة الّتي يعتمدُ عليها (بطرس) بشَكْل كبير؟ ولماذا يرفضُ المُسلِمون دائرة المعارِف الإسلاميّة، كمصدر يُستدَلّ به على الإسلام؟ وقبل الإجابة عن هذا السّؤال، لا بُدّ من الإشارةِ إلى أن هناك كتُباً ودراساتٍ وأطروحاتٍ جامعيّة عن هذِه الموسُوعة، يُمكن الرّجوع إليها؛ ومنها: أطروحة دكتوراه بعنوان (دائرة المعارف الإسلاميّة - أضاليل وأكاذيب)، للدكتور إبراهيم عوض، وأطروحة دكتوراه أُخرى عنوانها (العقيدة الإسلاميّة في دائرة المعارف الإسلاميّة)، للدكتور خالد بن عبد الله القاسم، وصدر عن غيرهما دراساتٌ أُخرى في الموضوع ذاتِه([26]). 

إنّ دائرة المعارف الإسلامية (Encyclopedia of Islam) هذه، صدرتْ عن دارِ نشرٍ هولنديّة تسمّى بريل BRILL، وهي ليستْ دارُ نشرٍ إسلاميّة. ظهرتْ أوّلُ طبعةٍ منها بين عامَيْ (1913 و1938) بعِدّة لُغات، ثمّ ظهرتْ نُسَخ مُختصَرة منها عام (1953)، ثمّ بدأ العمل في الطّبعة الثانية عام (1954)، واكتملت عام (2005).

وقد ذكر ستيفن همفري (Humphreys Stephen) أُستاذ التاريخ الإسلاميّ بجامعة (كاليفورنيا - سانتا باربارا)، في كتابه (التّاريخ الإسلامي: إطار البحث) Islamic History: A Framework for Inquiry ما نصّه:

"دائرة المعارِف الإسلاميّة مُؤلَّفة بالكامِل من قِبَل باحِثين أوروبيِّين، وهي لا تُعبِّر إلّا عن النّظْرة والمفهُوم الأوروبيّ للحضارةِ الإسلاميّة. وتناقِضُ هذه المفاهِيم وتختلفُ اختلافاً كبيراً عن المفاهِيم الّتي يُؤمن بها ويتبعها المُسلِمون أنفسهم. وما ذُكر في هذِه الموسُوعة لا يتوافَقُ مع التّعاليم والمبادئ الإسلاميّة للمراجع الإسلاميّة؛ كالأزهر، بل يتناقضُ معها"([27]).

أمّا القائِمُون على هذِه الدّائِرة؛ فهُمْ مجموعةٌ من المُستشـرقين النَّصارى واليهود المعرُوفين بحِقْدهم على الإسلام والمسلمين؛ من أمثالِ: المُستشـرق الهولندي أرند جان فنسنك A. J. Wensinck، وهو من أشدِّ المتعصِّبين على الإسلام، وقد كان عضواً بمجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة، وفُصل منه نتيجة مُؤلّفاته الّتي هاجمت الإسلام والقرآن والرّسول، وهذا المُستشرق المُتعصّب؛ هو المُشرِف على الطّبعة الأُولى([28]).

وقد شارك في إعداد هذه الموسُوعة أيضاً المُستشرق الفرنسيّ لويس ماسينيون Louis Massignon، وهو رائدُ الحركةِ التبشيريّة في مصر. وقد اشتهر بالعمل على تنصير الأمُيِّين من خلال خِداعهم بتحوير آيات القُرآن الكريم لإيهامهم بمُوافقتِها النَّصرانية. والمُستشرق ديفيد صموئيل مرجليوث David Samuel Margoliouth ، وكان قِسّاً بالكنيسة الإنكليزيّة، وعرف عنه التعصّب ضدِّ الإسلام. وأدوين كالفرلي Edwin Calverley، وهو مُنصّر أمريكي مُتعصّب، رأس تحرير مجلة (العالَم الإسلاميّ) التنصيريّة([29]).

وقد اشترك أيضاً كثيرٌ من اليهود في تحريرها؛ مثل: المستشرق الهولندي جوزيف شخت Joseph Schacht، والمستشرق المجري اجْنَتْس جُولْدْتْسِيْهر Ignaz Goldziher، والمستشرق الإيطاليّ جورجيو ليفي دلا فيدا Giorgio Levi Della Vida، والمُستشرق الأمريكي برنارد لويس Bernard Lewis. و(لويس) هذا من أشدِّ المُناصرين لإسرائيل، وهو أستاذ صموئيل هنتنغتون صاحب مُصطلح (صِراع الحضارات) الّذي أعلنه عام 1990م، وقصدَ به حتميّة الصِّراع بين الغرب والإسلام كعدوٍّ قادِم بعد انهيار الاتِّحاد السوفيتي، وجُلّ كتُبِه عن الإسلام تدعُو إلى مُحاربتِه بطُرُق شتّى. هذه مجرّد أمثلةٍ للقائمين على (دائرة المعارف الإسلاميّة) الّتي يستدلّ بها (زكريا بطرس)، وكلُّ مَنْ أراد أنْ يُهاجِم الإسلام في الشّرق والغرب([30]).

ومن الكُتّاب الّذين سقطُوا في أسرِ المقُولاتِ الجاهِزة للفكرِ الاستشراقي المُغرض: محمّد شحرور، وذلِك في كتابِه (السُنّة الرسُوليّة والسُنّة النبويّة - رؤية جديدة)، إذ حكمَ فيه على الأحاديثِ بتعميمٍ وانتقائيّة، بَلْ وبأحكامٍ إسقاطيّة جائِرة، وهذا الكتابُ ما هو إلّا تفصيلٌ لِمَا ذُكِرَ (مُختصراً) في (الكتاب والقرآن) حول السُنّة. هذا وقد "عمد شحرور إلى إيراد كثير من الأحاديث، بغضِّ الطرف عن أسانيدِها أو متونِها، مدّعيّاً وجُود تناقضُاتٍ فيها مع التّنزيل الحكيم؛ فالكثيرُ من الأحاديثِ - بزعمه - وُجدت لتبرير دوافِعَ سياسيّة أو أيديولوجيّة"([31]). فقد زعمَ أنّ الأطرافَ السياسيّةَ مدى القرُون الخمسة عشر الماضية، قد استخدمتِ الحديثَ لأغراضٍ سياسيّة بحتة لإثباتِ شرعيّتِها وتثبيتِ حُكْمِها، وذلك من خلالِ "التّوظيف الانتقائيّ للحديثِ النبويّ كسلاحٍ يَحسِمُ النِّزاعاتِ مِنْ خلال إثباتِ مزاعِم أحدِ الطّرفين، وإسباغ غطاء الشرعيّة عليها"([32]). وفي هذا تعميمٌ وحكمٌ إسقاطيّ جائِر بحقِّ الصحابة الّذين كانُوا يتورّعون ويحتاطون كثيراً في نقلِ الحديث، بل كانوا يتشدَّدُون في تعظيمِه وتوقيرِه، والإقلال من الرِّواية والتحرّز فيها احتياطاً، فكيف بتوظيفها واستثمارِها وتحميلها ما لا يحتمل. و(شحرور)، في شُبهته هذهِ، يعتمدُ على أدلة المُستشرقين الّذين زعمُوا أنّ الحديث بقيَ مائتي سنة غير مكتُوب، ثمّ بعد هذه المُدّة الطّويلة قرّر المُحدِّثون جمعَ الحديث، وقد ردّد عددٌ من المُستشرقين هذه الشُّبهة؛ منهم المستشرق المجري اجْنَتْس جُولْدْتْسِيْهر (1850 - 1921)، والنّمساوي لويس شبرنجر (1813 - 1893م)، والهولندي رَيِنْهَارْت دُوزِي (1820- 1883م). فقد عقد "جولدتسيهر" فَصْلاً خاصّاً حولَ تدوين الحديثِ في كتابه (دراسات إسلاميّة)، وشكّك في صِحّة وجُودِ صُحفٍ كثيرة في عهد الرّسُول - صلّى الله عليه وسلّم -، ورأى (شبرنجر) في كتابه (الحديث عند العرب)، أنّ الشرُوع في التّدوين وقع في القرنِ الهجريّ الثّاني، وأنّ السُنّة انتقلتْ بطريقِ المُشافهة فقط. أمّا (دوزي)، فهو يُنكر نسبة هذه "التّرِكة المجهُولة" - بزعمه - من الأحاديثِ إلى الرّسُول - صلّى الله عليه وسلّم -.

وقمين ذكرُه هنا أنّ المشكلة هذه طالتْ حتّى الكُتُب الّتي تناولتْ قضايا الإسلام في التّاريخ. فمُعظم الباحثين في الفكر الإسلاميّ استندُوا على كتاباتِ المُستشرقين، ومُعظم الكُتّاب الّذين تناولوا الفلسفةَ الإسلاميّةَ، أو التّاريخَ السياسيَّ للدّوُل، عادُوا إلى كُتُب المُستعربين، وأخذُوا منها ما أخذُوه، وأعادُوا إنتاجَه، وكأنّ الباحِثَ العربيَّ لا يعرِفُ العربيّة، ويحتاجُ إلى (مُستشرق)، أو (مُستعرب)، ليَدُلّه على تاريخه وتُراثه وفلسفته([33]). فالحداثيُّون العرب كانوا ينظرُون إلى المُستشرقين نظرةً ملؤُها الاعتزازُ والافتخار، فكانوا يُردِّدون - دون تدقيقٍ وتحقيق - أفكارَهم، وينتحلون آراءهم، ويعيدونها وكأنّها الحقّ المُبين، وكلّ ما دُونه باطِل وضلال، وهذا كان سبباً في نشرِ صُورةٍ منقوصة مُشوّهة عن التُّراث والتّاريخ الإسلاميِّين، من خلال تقديمِ نماذجَ تاريخيّة تَخْدِم توجّهاتهم، وتُرْضي ميولهم، وتُعزِّز قناعاتِهم.

ويُسْتثنى من هذه القاعِدة الكثير من الباحِثين الّذين اشتغلوا في حقُول اللّغة والتاريخ والتُّراث والفلسفة دُون (واسطة) أجنبيّة، أو توسّط تلك الكتابات الّتي تناولتْ تاريخَ الإسلام والمسلمين. وهذا الاستثناءُ يُؤكّد القاعِدة ولا يُلغيها. ومن الطّريف أنْ نشير هنا إلى جانِب من هذا الفكرِ المأزوم، إذ صدرت في بيروت في سبعينيّات القرن الماضِي ترجمة كتاب (ايف لاكوست) عن ابن خلدون. وقام المُترجم بتعريب نصُوص (فقرات الاستشهاد) الّتي اعتمدها المفكّر الأجنبي من المقدّمة، دُون العودة إلى كتاب ابن خلدون نفسِه في نصِّه العربيّ. وكانت النتيجة: أنّ (لاكوست) لا يقرأُ العربيّة، بلِ اعتمدَ على التّرجمةِ الفرنسيّةِ لمقدّمة ابن خلدون. وتبيّن لاحِقاً أنّ التّرجمة الفرنسيّة اعتمدتْ هي الأُخرى على ترجمةٍ إنكليزيّة للمُقدّمة. أي إنّ (لاكوست) اعتمدَ على نصٍّ مُترجَم عن النصِّ العربيّ الأصليّ. وبعدها جاءَ المُترجم (العربيّ بامتياز) بنقل النصِّ الفرنسـيّ إلى العربيّة، بما فيها تلك النّصُوص (مقاطِع ابن خلدون) المُختارة بعناية من المُقدّمة. وهكذا خرجتْ أفكارُ ابن خلدون عن سياقِها وزمانِها، وعادت إلينا المُقدّمة مُترجَمةً عن نصٍّ فرنسـيّ مُترجم بدوره عن نصٍّ إنكليزي، فجاءت الكلماتُ مُختلِفة، والصِّياغة مُغايرة، والمُفردات لا عَلاقة لها بالمُصطلحات الّتي اشتهرَ بها ابنُ خلدون. باختصار كانتِ النّتيجة صدُور مقاطِعَ من مقدّمة ابن خلدون تُقارب أفكارَه، وليست لها عَلاقة بالنصِّ الأصليّ([34]).

والفضيحة الكُبْرى أنّ هناك الكثيرَ من رُوّاد تيار "الحداثة" يستشهِدُون بأفكارِ "ابن خلدون" بالعودة إلى كتاب (لاكوست) المُترجَم عن الفرنسيّة دُون أنْ يُكلِّفوا أنفسَهُم عناءَ البَحْث عن تلكَ الأفكار النيِّرة في مقدّمة ابن خلدون المُتوافرة في مُعظم المكتباتِ العربيّة. هذا النّوع مِنَ "الكسل المعرفيّ" يدلُّ على مدى استخفافِ المثقّفِ العربيِّ في التّعاطِي مع شؤُون الفكر، وتحديداً في الحقُولِ الّتي تتناولُ الكثيرَ مِنَ المفاهِيم الخطيرة ذاتِ الصِّلة بالإسلام والتّاريخ والفِقْه([35]).  فهناك إذاً؛ العديد من الدِّراسات المُترجمة إلى العربيّة كانت سبباً في تشويه الكثير من نصُوصِ التُّراث العربيّ الإسلاميّ وفهمها على غير وجهها، وتلقّفها الكثيرُ من المثقّفين؛ فوجدُوها مُنبتّة الصِّلةِ عن أصلِها، وكأنّها سرديّات ونصُوصٌ مُغايرة لا وشيجة بينها وبين النصِّ الأصليّ المكتُوبِ بالعربيّة.

وهذا الأمر نفسه يمكن تطبيقه على مسألة التّصنيف الغربيّ لموقِع الإسلام ودوره الحضاري. فهناك مقولةٌ أطلقها هيغل عن العرب (والمسلمين)، وهِيَ أنّ الحضارةَ العربيّةَ (الإسلاميّة) هي حضارةٌ جامِعةٌ وغيرُ مُبدعةٍ. فهذِه الحضارةُ برأيه قامتْ بنقلِ الإبداع من غيرِها، وقامتْ بترجمتِه وحِفظه. فالعربُ برأي هيغل شعبٌ غيرُ مُبدِع ولا مُبتكِر، وإنّما ينحصرُ دورهُ في النّقل والجمعِ والحِفْظ، دون أنْ يُضيفَ إلى الموجُود جديداً مبُتكراً. وابتكر هيغل لتبرير مقُولتِه هذِه فكرة "الجِسْر". فالعربُ برأيه هُمّ مُجرّد جِسـْر لنقلِ إبداعاتِ غيرِهم من ضِفّة إلى أُخرى. ومن ثَمّ فهو يريدُ أنْ يقول: إنّ الحضارةَ العربيّةَ الإسلاميّةَ ليستْ عربيّة أو إسلاميّة، وإنّما هي منقُولة (مُترجَمة)، ومن ثَمّ أخذت أوروبا عن العربِ ما هو أصلاً منقولٌ عنها([36]). وبناءً على هذِه الفكرة المُتحاملة - غير العلميّة - فإنّ دورَ المُترجمينَ من العربِ والمسلمين، إنّما ينحصِرُ في نقلِ مفاهيم الغرب العلميّة واللغويّة إلى اللِّسان العربيّ، فهم مُجرّد أدواتٌ ناقلِة لا أثر لها في بناءِ المعرفةِ الإنسانيّة الفاعِلة.

وفكرةُ "الجِسْر" هذِه الّتي ابتدعها هيغل نجدها مُكرّرة عند فلاسفة أوروبا كُلِّهم مِنَ القرنِ التّاسع عشر إلى أيّامِنا هذِه. ومِنْ كَثْرة تَكْرارِها فُقِد أصلُها، وأصبحت تُتَداوَل بين المُفكِّرين الأوروبيِّين، وكأنّها حقيقةٌ نهائيّةٌ لا نِقاش حولَها. والفضيحةُ أنّ عشراتِ المُفكِّرينَ من العربِ والمُسلمين "الحداثيِّين" قد أخذُوا هذِه الفِكْرة (الجِسْر)، وكأنّها مُسَلَّمة تاريخيّة، وتبنّوها دُون نِقاش، ونسجُوا حولَها الكثيرَ مِنَ الأفكار المُبْهمة عن الفكرِ العربيّ (الإسلاميّ)، وضَحالة إبداعاتِه. والنتيجة أنّ المستشرقين (والمستعربين) قد أسهمُوا ليسَ فقط في صياغةِ ثقافتنا المعاصرة وتشكيلِها، بَلْ شاركوا في ترسيم حدُود تفكيرِنا عن الماضي أيضاً. فهل الأزمة فعلاً هي أزمةُ فِكْر أم أزمةُ تفكير لها صلةٌ بمنهجيّة التّفكير في حاضِرنا وماضِينا ومُستقبلنا؟([37]).

       هذا، وقد أخذ المفكِّرون الحداثيُّون العرب؛ الأفكار المُتعلِّقة بتصنيف المُفكِّرين المُسلمين، وترتيبهم بين عقلانيّ وغير عقلاني - وإعادة إدراج الفلاسفة المُسلِمين وَفْق نسقٍ تاريخي تتابُعي بين مُفكّر (مُبْدع) ومُفكّر سلفي - عن كتابات المُستشرقين والمُستعربين دُون تدقيقٍ أو اجتهادٍ في المسألة. فإذا قال المستشرقون مثلاً: إنّ الإمام الأشعري كان بداية نهاية الفكر العقلانيّ في العصر العبّاسي؛ لأنّه انشقّ عن المعتزِلة، وردَّ على مقالاتِهم، وجدْنا المثقّفين الحداثيِّين العرب يُردِّدون المقولةَ نفسَها، مع أنّ الوقائِع تُؤكِّد أنّ الأشعريّ أسّسَ منهجيّةً مُستقِلّة في التّفكير كان لها أثرُها الفاعِل في إطلاقِ ثورةٍ ثقافيّة في أدواتِ الفِقْه الإسلاميّ. وإذا قال المُستشرِقون: إنّ الإمامَ الغزاليَّ سدّد ضَرْبةً إلى الفلاسفة المُسلمين، من خلال الردِّ على مقالاتِهم بمقالاتٍ مُضادّة، كرّر المُثقّفون العرب (الحداثيُّون) المقُولةَ نفسَها، فهاجموا الغزاليّ دُون العودةِ إلى الابتكاراتِ الفلسفيّةِ الّتي وضع أُسسها المستقِلّة عن التّفكير الإغريقيّ (اليونانيّ)([38]). فالمادّة العلميّة الّتي تُقدّم في النّصوصِ الحداثيّة؛ هي مجرّد صدى لما نُشِر ويُنْشَر من كُتبٍ ودراساتٍ في النّسق الغربيّ الأوروبيّ، دُون مراجعةٍ نقديّة عقلانيّة، أو تحقيقٍ علميّ منهجيّ سليم.

ولا شكّ أنّ "هذه مشكلةٌ لا يُمكن تفسيرُها إلّا بالكسلِ العقليّ، أو بتغليب عناء التّرجمة والنّقل على عناءِ البَحْث المستقل في كتُب موجُودة في المكتبات والجامعات. والمُضحك في المسألة أنّ الأجنبيَّ يأتي إلى المنطقة العربيّة الإسلاميّة من آخِر الدُّنيا، ويمكُث فيها أربع أو خمس أو ست سنوات يتعلّمُ خلالَها العربيّةَ، ويطّلِع على النّصُوصِ القديمة، ويُراجِع تلك الكتُب الّتي يأنف الحداثيُّون الاطِّلاع عليها، ويعودُ إلى بِلاده ويُؤلِّف كِتاباً عن الفِقْه أو الفلسفة أو التّاريخ الإسلاميّ، ويُعاد تصديرُه إلى دُولِنا باللّغة العربيّة منقُولاً عن الإنكليزيّة أو الفرنسيّة أو الألمانيّة أو غيرها من لغاتٍ أجنبيّة"([39]). فيتهافتُ المثقّفون عليها، وكأنّها فتحٌ جديد في الفكرِ والثّقافةِ والمعرِفة، دون أنْ يعرِفُوا أنّهم يُسهمون في تسويقِ فكرِ الآخر وترويجِه بقضّه وقضيضه، دون مُراجعةً أو مُحاججة، وهذا الذّوبان في فكرِ الآخرِ "يُشكِّل نمطاً آخرَ من التّفكير الّذي يفقد مُبرّراته الحقيقيّة حينما يفقد تفاعُلَه الحيويّ مع العالَم الخارجيّ، ويتمرّد بشَكْلٍ مُطلَق على تجاربه السّابقة، ويضع اللّوْم كُلّ اللّوْم على تُراثِه وأصُولِه، ليقعَ في مُعْضِلة فُقدان الهُويّة، ومن ثَمَّ لا يجدُ إلّا أفكار الغالبين، ليذُوبَ بكاملِه في الآخرين، مُتنصّلاً من تاريخه وماضيه، ومُنْصهِراً في حاضِرٍ مُنْقَطع لا أُسس له"([40]).

والغرُور العقلانيّ الّذي يَزعُمُ أهلُه قُدرةَ العقلِ على الاستقلالِ بإدراكِ أيِّ شيءٍ، إلى الحدِّ الّذي يحكُمون فيهِ بـ(الاستحالة) على كُلِّ ما لا تدركُه عقولُهم، هو موقِفٌ أشبه ما يكونُ بعبثِ الطّفُولة، مع افتقارِه إلى براءةِ الأطفال!([41]). 

  إنّ الّذي لا يُصدّق بما هو أبعدُ مِمّا تُدْرِكه التّجرِبة الحِسيّة والعقل المحدُود القُدرات، فينفي العلميّة عن كُلِّ ما لا يخضع للتّجريب والاختبار الحي، هو أشبهُ ما يكونُ بمن يُكذّب بوجُودِ ما لا تُدْرِكه عينُه المُجرّدة، قبلَ اختراعِ العقل (للميكرسكوب)، و(التيلسكوب) وأمثالهما من وسائِل (التّكبير)، و(التّقريب)! هو أشبهُ ما يكونُ بمن يكذب بما لا يُحيطه عقلُه، حتّى ولو أحاطت به عقُول الآخرين! هو أشبه بمن يختزِل الحقيقةَ إلى الحَجْمِ الّذي يستوعِبُه ويتّسِع له إدراكُه المحدُود([42]).

وبناءً على ذلِك، فإنّ (نصوصَ) (الثّابِت) الإسلاميّ - الّذي اكتملَ بتمامِ الوحي - هي نصُوصٌ مُتناهية، بينما وقائِع الحياة وواقعها هي رحمٌ وَلُود بالجديدِ الّذي لا يعرِفُ التّناهِي والحدُود. وهُنا يتمثّل التّجديد في صُورةِ (الفرُوع) الّتي تحمِلُ رُوحَ (الثّابِت) وأصُوله، ومزاجه العقديّ والحضاريّ، كي يستظلّ بها هذا الواقِع الجديد. فالجديدُ الّذي لا يستمِدُّ شرعيّته وخصُوصيّته من "الثّابِت" لا يُعدُّ تجديداً؛ لأنّه يقطعُ صِلات الواقِع الجديد بالأُصُولِ الثّابِتة. إنّه نَسْخٌ للثّوابت، وليس "تجديداً" لها، وكذلِك يفعلُ "الجمُود" الّذي لا يمدُّ "فرُوعاً" جديدة لتظلّل الواقِعَ الجديد، لأنّه يُؤدِّي إلى النّتيجة ذاتِها، عندما ينسخُ "الواقِع" عنِ "الثّابِت الفكريّ"، فالجمُود، والاستلابُ الحضاريّ كلاهُما وَجْهانِ كَالِحانِ لعُملةٍ واحِدة، هي عُملة "السّلفيّة المُعطّلة"([43]).

فالموروثُ المتنوّع والغنيّ، الّذي يُمثِّل فهم السّلف للبلاغِ القُرآنيّ ولبيانِه النّبويّ، ذلك الفهم الّذي أبدعه أسلافُنا في علُومِ الحضارةِ، ثقافةً ومدنيّةً، فإنّه بالنّسبة لنا "كنزٌ - مرشدٌ"، علينا أنْ نتعامَل معه بعقلٍ مُعاصِر، ونظرةٍ ناقِدة، وفكرٍ مُستنير، لنسترشِدَ ونهتديَ بما فيه من علمٍ نافِع ما زالَ صالِح العطاء، لنُنْعِش به ذاكِرة الأُمّة، ونَشْحَنَ به كبرياءها المشـرُوع اللّازِم لها وهي تُواجِه أعتى التّحديّات، ولنوفّر جهُوداً كثيرةً تلُزمنا إذا نحنُ أهملناهُ، وبدأنا من حيثُ بدأ الأسلاف.. أمّا ما تجاوزَهُ التطوّر من إبداعِ السّلف، فإنّنا نتجاوزه، مُعتزّين به، وواضعين إيّاه في مُتْحف التاريخ الفكريّ، مادّة للعِظة والعِبْرة، ووثيقة في دراسةِ هذا التّاريخ! تلك هي حدُود "الاستلهام"، و"التّجاوز" لما ورثناهُ من إبداعِ أسلافِنا في ميادينِ الفكرِ والممارسات([44]).

إنّنا مدعوّون إلى "حفظِ" كُلِّ تُراثِنا، حِفاظاً على ذاكرةِ الأُمّة، واستفادةً بخبراتِ السّلف، على النّحوِ الّذي يضيفُ أعمارَهم إلى أعمارِنا، ومدعوّون إلى أنْ "نُحْيِي" من هذا التُّراث في واقِعنا المُعاصِر ما لديه صلاحٌ وصلاحيّة، كي يُزامِل إبداعنا الجديد في تحقيقِ المصالِح الشرعيّة المُعتبرَة والعصريّة لأُمّة تُزاحِمُ الأعداء وتُواجِه التّحديّات، وترنُو إلى مُستقبل أكثر إشراقاً من الكثيرِ من صفحاتِ تاريخِها الطّويل!([45]).

فما يحتاجُ إليه العالَمُ الثّالِثُ ليسَ المادّة، بلِ الأفكارُ العمليّة النّافِعة، وهذِه الفكرةُ فهمناها مع دخُولِ عصرِ المعلُوماتِ. والأفكارُ في مجتمعاتِنا هي أكثرُ بكثيرٍ من حاجتِنا، فقد أصبح كُلُّ فردٍ من أفرادِ المجتمع يُفكِّر ويطرحُ ويُناقِش ويُعارِض. لقد امتلأتِ المنابِرُ والطّرُقاتُ بالأفكارِ والقناعات والرُّؤى والتوجّهاتِ، فنحنُ نعشَقُ التّفكير ولو بصَمْت، حتّى لو كانتِ الأفكارُ بلا قيمة، أو عديمة النّفع والفائِدة، وبعضُ المُشتغلين بهذا التّفكير لا يعرِفُ أين يصلِ بفكرِه وأفكارِه، ولا أين ستُوصِله أفكارُه. فالقضيّةُ ليستْ في امتلاكِ أفكارٍ، بل ماذا يُمكن أنْ نجني منها منطقيّاً وعمليّاً. المالُ لا يصنعُ الأفكار، ولكنّ الأفكارَ الحقيقيّة هي ما تُكْسِب الأموال؛ فالاستثمارُ الماليُّ ما هو إلّا نتاجُ أفكارٍ عمليّة بسيطة، والشّبكاتُ الاجتماعيّة بدأتْ كأفكارٍ مُتواضِعة، ولكن ماذا رَبِح هذا الفِكر؟ الكثير والكثير.. وإذا نظرنا إلى بعضِ المحسُوبين على الفكر العربيّ المُعاصر، وجدنا في مؤلّفاتِهم أفكاراً مُتناقِضة، وسِجالاتٍ مُتصارعة، وجدليّاتٍ عقيمة، وقناعات مُتشائِمة، وخلافاتٍ متُنامية لا جَدْوى منها. إنّ نشاطَنا الفكريّ في مُجتمعِنا يختزِلُ طاقتَنا العمليّة في الانشغالِ بالأقوالِ وليسَ الأفعال، فما أكثرَ الجدل وما أقلّ العمل! وهذا يعني أنّ الكثير من المفكِّرين انشغلُوا وأشغلونا بأفكارِهم الجدليّة المُتناقِضة المُتصارِعة، دُون حرصٍ على الفعلِ والإنتاج. والدّليل على ذلِك الآلاف من النِّتاجاتِ الفكرّية الّتي تُطبَع هُناك أو هناك دُون أنْ يكون لها أثرٌ واضِح ملمُوس في البنيةِ المجتمعيّة الفاعِلة، وكم من الندواتِ والاجتماعاتِ الّتي تُقام هُنا وهُناك، وتُطرح فيها المئات مِنَ الأفكار، فَضْلاً عن إقامةِ العديد والعديد من البرامج واللِّقاءات المُتخمة بالأفكارِ، يُضاف إلى ذلك الكثير من اللِّجان الّتي تقذِف المئاتِ مِنَ الآراء.. فأزمتُنا إذاً؛ هي ليست أزمةُ أفكارٍ، بل أزمةُ فكرٍ عمليّ مُنتِج، يقومُ على أساسٍ من الدِّين الخالِص، والحقّ الدّامِغ، والرُّشْدِ والرّشاد، أزمتُنا هي أزمةُ حوارٍ يُنتِج فكراً، وأزمةُ فكرٍ يُنتِج حِواراً، أزمتنا هي أزمةُ أفعالٍ وليستْ أزمة أفكار([46]). فالمزيدُ مِنَ الجدل يُؤدِّي إلى مزيدٍ مِنَ الكسل، وقِلّة في العمل، وكُلّما زاد الجدل قلّ العمل، كما أنّ قِلّة التّفكير يؤدِّي إلى التّسطيح الفكريّ والهُزال المعرفيّ.

إنّ "الاستدراكَ الحضاريَّ" يُلزِمه استدعاء قويّ وصريح لـ"مشرُوعٍ" ينهضُ بالأُمّة من جديد، مشرُوع تتكامَلُ فيه الجهُود، وتتضافرُ من أجلِه الاهتمامات، وأيّ "مشرُوعٍ نهضويّ" لن يُكْتَب له النّجاح إلّا بتصويبِ المُعادَلة الّتي تُسلم مُقدّماتِها إلى نتائِجها، ومُدخلاتها إلى مُخرجاتها، فضلاً عن توافُر الشّرُوط والمُقدّمات، وتهيئة "المُناخ الثقافيّ". فلا جدوى مرجُوّة من طَرْحٍ جُزئي، يُوقِعُنا في "الأزمة" نفسِها الّتي نُعانِي منها، ولا بُدّ من الانعتاقِ مِنَ "التبعيّة الحضاريّة"، واستشعارِ حالةِ "التحدِّي والاستجابة"، وإصلاحِ "عالَمِ الأفكار"، و"عالَم الأشخاص"، من أجلِ إنتاجِ "عالَم الأشياء"، مُستنبتاً من بيئتِنا الثقافيّة، ومُتواكِباً مع حركتِنا التاريخيّة.  فقبلَ (الإدارةِ) هُناك (الإرادة)، وقبلَ (الشّيءِ) هُناك (الفِكْرة)، وقبلَ (الأداةِ) هُناك (الإنسان).

وبناءً على هذا، فنحنُ بحاجةٍ ماسّة إلى "منهجيّةٍ رشيدة" تُرشِدنا في طريقِ نهوضِنا الحضاريّ، وإلى "فِقْهٍ جديد" يُمكّننا من تنزيلِ "فكرِنا" على "واقِعنا"، فأزمتُنا ليستْ أزمةَ "منهج"، وإنّما "أزمةٌ منهجيّةٌ"؛ أي: التّعامُل مع المنهج. وأزمتُنا ليستْ "أزمة فكرٍ"، وإنّما "أزمةُ تفكير"؛ أي: إعمال العقلِ والفكر، وأزمتُنا ليستْ "أزمة دِين"، وإنّما "أزمةُ تديُّن"؛ أي: تنزيلُ الدّين فَهْماً وتطبيقاً([47]).

وختاماً؛ علينا جميعاً أنْ نكون يداً واحِدة في وَجْهِ المُشكلاتِ الّتي تَعْصِفُ بنا، وينبغي ألّا نعفي أنفسنا من هذا التخلُّف الحاصِل، وما أحرى أنْ يكونَ خطابُنا مُناسِباً مُوائِماً المُستوى المعرفيّ لأفرادِ المجتمع الّذي نعيش فيه، فلا يتجاوز السّقف الفكريّ الّذي يَنْضوي تحته، ومن ثَمَّ الشروع بالخطواتِ الكفيلة الّتي تعملُ على ترشيد الوعي المجتمعي وترقيته، وتوسيع آفاقِه، ليتحسّسَ بنفسِه مُشكلاتِه الّتي يُعاني منها، ويعمل بنفسِه في سبيلِ البحث عنِ الحلُول النّاجعة النّاجِحة، لأنّ التّغييرَ يبدأ بالنّفْس؛ مِصداقاً لقوله تعالى في مُحْكم تنزيلِه: [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ] (الرّعد: 11)


[1]- مفاتيح التفكير الإبداعي - كيف تفكّر "خارج الصندوق"؟

https://www.dw.com/ar/%D9%85%D9%81%D8%A7%D8%AA

[2]- أهمية التفكير الإبداعي، إسلام سمور، سطور.

https://sotor.com/%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9

[3]- التفكير بين النقد والإبداع - الفوارق والمحددات، علي الشريعتمداري، مجلة (التوحيد) العدد (91) السنة (16)، 1997م، ص152-153. 

[4]- أزمة شارع أم أزمة فكر؟! رامي مهداوي، مدار نيوز، 2019م.

https://madar.news/%D8%A3%D8%B2%D9%85

[5]- أزمة الفكر أمُّ الأزمات، د. طارق السويدان، الشرق، 2021م.

https://al-sharq.com/opinion/05/01/2012

[6]- أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، د. محمّد عمارة، دار الشّرق الأوسط للنشر، 1990م، ص6- 7.

[7]- أزمة فكر أم أزمة تفكير؟ وليد نويهض - كاتب ومفكر عربي لبناني، الوسط العدد (574) الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ

http://www.alwasatnews.com/news/383584.html.

[8]- أزمة فكر أم أزمة وجود، أسامة يماني، مركز مكّة الإبداعيّ، 2017م.

https://makkahnewspaper.com/article/598538.

[9]- أزمة العقل المسلم، د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان، ص79.

[10]- المرجع نفسه، ص79.

[11]- منهجيّة التكامل المعرفي - مقدّمات في المنهجيّة الإسلاميّة، فتحي حسن ملكاوي، ط (2)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن - فرجينيا - الولايات المتّحدة الأمريكية، 1432هـ - 2011م، ص164.

[12]- المرجع نفسه، ص165.

[13]- أزمة فكر أم تفكير؟! نورا الهاشمي، المسار، 2021م.

https://almasar.om/%D9%86%D9%88%D8%B1%D8%A7

[14]- أزمة العقل العربي المعاصر، قاسم حسين صالح، ط (1)، دار العربية للعلوم، بيروت - لبنان، 2014م.

[15]- أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، يونس الحزولي، حراء، 2020م.

https://hiragate.com/9735/.

[16]- أزمات الفكـر والذات المشوّشة، مرتضى معاش، شبكة النبأ المعلوماتية، 2018م.

https://annabaa.org/arabic/annabaaarticles/16851.

[17]- أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، د. محمّد عمارة، دار الشّرق الأوسط للنشر، 1990م، ص5.

[18]- المرجع نفسه، ص12.

[19]- المرجع نفسه، ص14.

[20]- الأعمال الكاملة للإمام محمّد عبده، دراسة وتحقيق: د. محمّد عمارة، بيروت - لبنان، 1972م، ج2، ص318.

[21]- أزمة العقل المسلم، ص51- 52.

[22]- أزمة فكر أم أزمة تفكير؟ وليد نويهض.

[23]- The Origins of Arabic Poetry: Journal of the Royal Asiatic Society. July1925 pp.417/449.

[24]- الإسلاميون والعلمانيُّون من الحوار إلى الحرب، ممدوح الشيخ، ص43.

[25]- دراسة بحثية تحليلية مختصرة لمصادر زكريا بطرس التي يعتمد عليها، محمد جلال القصاص، صيد الفوائد:http://www.saaid.net/Doat/alkassas/z/3.htm

[26]- دراسة بحثية تحليلية مختصرة لمصادر زكريا بطرس التي يعتمد عليها.

[27]- المرجع نفسه.

[28]- المرجع نفسه.

[29]- المرجع نفسه.

[30]- المرجع نفسه.

[31]- الرؤية الشحرورية للسنة النبوية، معاذ بني عامر، http://www.mominoun.com/articles مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[32]- السُنّة الرسُوليّة والسُنّة النبويّة رؤية جديدة، د. محمد شحرور، ط (1)، دار الساقي، بيروت - لبنان، 2012م: ص15.

[33]- أزمة فكر أم أزمة تفكير؟ نويهض.

[34]- المرجع نفسه.

[35]- المرجع نفسه.

[36]- المرجع نفسه.

[37]- المرجع نفسه.

[38]- المرجع نفسه.

[39]- المرجع نفسه.

[40]- أزمات الفكـر والذات المشوّشة.

[41]- أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، د. محمّد عمارة، ص15.

[42]- المرجع نفسه، ص16.

[43]- أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، ص21- 22.

[44]- المرجع نفسه، ص22- 23.

[45]- المرجع نفسه، ص23.

[46]- أزمة أفكار أم أزمة أفعال؟ عبد العزيز يوسف، اليوم، 2012م.

https://www.alyaum.com/articles/832265/%D9%83%D9%84.

[47]- أزمتنا "أزمة تفكير".. وليست "أزمة فكر"!، د. محمّد أكرم العدلوني، مجلة (إبداع)، العدد (1)، ص34. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق