21‏/01‏/2022

القول ِبقِدم العالم جعل الخالق مخلوقاً، والمخلوق خالقاً - الجزء الثاني –

د. أكرم فتاح سليم/  جامعة دهوك

 ?     في الجزء الأول تحدثنا عن أبدية العالم بأنه طريقة لإنكار يوم القيامة والجزاء، من قبل الملحدين والدهريين، الذين يروجون هذه الفلسفة غير المنطقية. فلا بد في الجزء الثاني أن نتحدث عن قِدم العالم؛ لأنه جزء أساسي ومكمل للجزء الأول.

    القِدَم مصدر القديم، يعني السبق والتقدم على الغير. كما يأتي في مقابل الحدوث. وفي لغة العرب هو المتقدم على غيره، فيقال هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، كما قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿٣٩﴾(1)، والعرجون غصن النخلة؛ شبه القمر به إذا انتهى في

نقصانه. والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم. وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴿11﴾(2) أي متقدم في الزمان(3). يقول ابن سينا: "حدّ القِدَم هو أن يقال على وجهين، قديم بالقياس، وقديم مطلقاً، فالقياس هو شيءٌ زمانه في الماضي، أكثر من زمان شيء آخر هو قديم بالقياس إليه". وأما القديم المطلق، فيقال على وجهين أيضاً بحسب الزمان وبحسب الذات، أما الذي بحسب الزمان، فهو الشـيء الذي وجد في زمان ماض غير متناه، وأما القديم بحسب الذات، فهو الشـيء الذي ليس له مبدأ لوجود ذاته، مبدأ أوجبه، وليس له مبدأ يتعلق به، هو الله الواحد سبحانه. والقديم الزمان من وجود الملائكة والسماوات وجملة أصول العالم. والقديم بالذات وبالزمان، يتفقان في القدم المطلق، وعدم السبق بالعدم. وينفرد الله تعالى بأنه قديم، والدليل على كونه قديماً، والعالم محدث؛ أنه لو لم يكن قديماً لكان محدثاً؛ ولو كان القديم - تعالى - محدثاً لاحتاج إلى محدث، وهكذا إلى ما لا نهاية. وعلى هذا، فلا بد من أن ننتهي إلى القول بصانع قديم لا أول له(4). وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم، وليس هو من الأسماء الحسنى.

    المراد من لفظة العالم عند المتكلمين، كما يذكر أبو المعين النسفي(5)، جميع ما سوى الله تعالى من الموجودات؛ من جواهر وأجسام وأعراض. ويرى الماتريدي(6) أن العالم منقسم إلى قسمين: أعيان وأعراض؛ لأن الأجسام هي جواهر، ومتركبة منها، وهي القسمة التي يقول بها أبو المعين النسفي، لكنه يخالف أستاذه في القول بأن الجواهر قائمة بنفسها. ويرفض الماتريدي هذا التعريف؛ لأنه لا قائم بنفسه سوى الله تعالى(7).

قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها بين المتكلمين من الأشعرية والحكماء المتقدمين، يكون راجحاً للاختلاف في التسمية عند بعض القدماء، وذلك أنهم اتفقوا أن هناك ثلاثة أصناف من الموجودات، طرفان، وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة، فأما الطرف الواحد، فهو موجود وجد من شيء، أعني عن سبب فاعل، ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أي على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان، وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديماً، وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى، فاعل الكل، وموجده، والحافظ له، سبحانه وتعالى قدره.

 وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسـره(8).

فالله عند (أرسطو) هو العلة الأولى، وهو المحرِك الأول، فلا بد لهذه المتحركات من محرِك، ولا بد للمحَرَكِ من محَرَك آخر، متقدم عليه، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرِك بذاته، لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية. وهذا المحرِك بذاته، لا بد أن يكون سـرمداً لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملاً منزهاً عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنياً بوجوده عن كل موجود. وهذا المحرِك الأول سابق للعالم في وجوده، سبق العلة، لا سبق الزمان، أو كما قال: (لا يخلق العالم في زمان)، لأن الزمان - حسب تصوره - حركة العالم. ونحن نرى أن الله هو العلة، والعالم هو المعلول، وليس المقصود أن العلة لا تنفك عن المعلول، ولو قلنا ذلك لزمنا قدم العالم، وليس بصحيح، والله سبحانه يتحرك بحركة تليق به، وهو سبحانه سابق العالم سبق الذات والزمان، فله إرادة يتصـرف بها كيفما شاء، ومتى شاء، لحكمة يريدها هو، وأي تغيير في إرادته، فهو مصدر هذا التغيير دون سواه، ، فلا نقص في إرادته إذا أحدث العالم في وقت دون وقت، لحكمة يعرفها هو، ولماذا اختار هذا الوقت دون سواه، لا يمكن أن نقارن إرادة الخالق بإرادة المخلوق، فإرادة الله إذا أراد كان.

    يقول ابن تيمية(9): "إن المشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو، هو القول بحدوث العالم". ويرى أبو حامد الغزالي أن القول بقدم العالم يستلزم عدم وجود الصانع، أو أن العالم باق على الدوام، فلا يفنى، وهذا يستلزم إنكار القيامة. ويذكر النسفي دليلاً على حدوث العالم، يقوم على التفرقة بين واجب الوجود، وهو القديم، وبين جائز الوجود، وهو المحدَث. والقديم ينبغي أن يكون واجب الوجود؛ لأنه لو لم يكن واجب الوجود، لكان جائز الوجود، أو ممتنع الوجود، لكن وجوده متحقق، ومحال تحقق وجود ما هو ممتنع، لما فيه اجتماع الجواز والامتناع. وليس بجائز أن يقال إنه جائز الوجود، لأنه لو كان جائز الوجود، لكان جائز العدم، بل هو واجب الوجود ضـرورة.

 أما أبو حنيفة(10) فيقول: "إن الله تعالى خالق قبل أن يخلق، ورازق قبل أن يرزق، بالضـرورة"، ويراد به، أي بالخالق، له قدرة الخلق التي هي صفة حقيقية(11).

 وهناك أدلة كثيرة على حدوث العالم؛ منها أيضاً أن العالم أجسام وأعراض، وكلاهما محدَث. والدليل على حدوث الأجسام، أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، والدليل على ذلك أنها لا تنفك عن الحركة والسكون، وهما حادثان، لامتناع حوادث لا أول لها. وكذلك حدوث كل موصوف بصفة، لأن الصفات هي الأعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم(12). ونحن نرى أن العالم قديم في العلم الإلهي، من حيث كونه معلوماً في علم الله، وأنه حادث في الظهور لعالم الشهادة، والعالم حادث، كما أكد على ذلك سبحانه وتعالى:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴿٧﴾(13)، أوجد السمــوات السبع والأرض، وما فيهما، في زمن مدته ستة أيام، وجائز أن تكون كأيام الدنيا، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده، وهي ألف سنة، لقوله تعالى في (سورة الحج):

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) (14)، والمقصود في قوله تعالى: [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ](هود: 7)، يعني أن الماء كان موجوداً، خَلَقَه سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض، وخلق العرش أيضاً قبل خلق السموات والأرض، والعرش سـرير المُلك، ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة، ثم في قوله تعالى ستة أيام يعني خلق السموات والأرض في زمان، والزمان ترافقه الحركة، والحركة حادثة .

الهوامش:

(1) سورة يس: آية 39.

(2) سورة الأحقاف: الآية 11.

(3) شرح الطحاوية في العقيدة السلفية، صدر الدين ابن أبي العز الحنفي، تحقيق: أحمد بن علي، ص55.

(4) الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة: د. علي عبد الفتاح المغربي، ص215.

(5) النسفي: (418-508هـ=1027-1115م)، ميمون بن محمد أبو المعين النسفي الحنفي، عالم بالأصول والكلام، كان بسمرقند، وسكن بخارى. من كتبه (بحر الكلام)، و(تبصـرة الأدلة)، في الكلام، و(التمهيد لقواعد التوحيد). (الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنسـاء من العرب والمستعربين والمستشرقين، خير الدين الزركلي ، ج7، ص 341، مصدر سابق).

(6) الماتريدي: (ت333هـ= 944م)، محمد بن محمد أبو منصور الماتريدي، من أئمة علماء الكلام، نسبته إلى (ماتريد) محلة بسمرقند. من كتبه: (التوحيد)، و(أوهام المعتزلة)، و(شـرح الفقه الأكبر)، المنسوب للإمام أبي حنيفة. مات بسمرقند. (نفس المصدر السابق، ج7، ص19).

(7) الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة: د. علي عبد الفتاح المغربي، ص370 – 371، مصدر سابق.

(8) فصل المقال في تقرير ما بين الشـريعة والحكمة من الاتصال، ابن رشد، ص5.

(9) ابن تيمية: (661-728هـ=1263-1328م)، أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي، شيـــخ الإسلام. ولد في (حران)، وتحول به أبوه إلى دمشق، فنبغ واشتهر، ثم سافر إلى مصر، ومات بدمشق. كان كثير البحث في فنون الحكمة، آية في التفسير والأصول. ومن تصانيفه: (الجوامـع)، في السياسة الإلهية والآيات النبوية، و(الفتاوى) و(الإيمان) و(الجمع بين النقل والعقل). (الأعلام، خير الـدين الزركلي، ج 1، ص 144، مصدر سابق).

(10) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين أبي الحسن البقاعي، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهـدي، ج8، ص589.

(11) أبو حنيفة: (80-150هـ=699-767م)، النعمان بن ثابت، الكوفي. إمام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، أحد الأئمـة الأربعة عند أهل السنة. ولد ونشأ بالكوفة، كان قوي الحجة، وكريماً في أخلاقه جواداً. وله (مسنــد) في الحديث، جمعه تلاميذه، و( المخارج) في الفقه. تنسب إليه رسالة (الفقه الأكبر)، توفي ببغداد. (الأعلام، خير الدين الزركلي، ج8، ص 36، مصدر سابق).

(12) التقرير والتحبير، محمد بن محمد ابن أمير الحنبلي، دراسة وتحقيق: عبد الله محمود محمد عمر، ص257.

(13) سورة هود: آية 7.

(14) سورة الحج: آية 47.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق