21‏/01‏/2022

عبق الكلمات/ عندما تصطدم المخيّلة بالواقع في رواية (السامفونيا الراعوية)، لـ(أندريه جيد)

عبد الباقي يوسف   

?    تبدأ الرواية على النحو التالي: فيما كنت عائداً من (لاشودي فون) وافتني ابنة صغيرة، لم يسبق لي معرفتها، تدعوني إلى الإسراع في الحضور لدى امرأة عجوز مسكينة، تحتضـر على بعد سبعة كيلو مترات. كانت الشمس تغيب، وكنا نسير وسط الظلام، حين أشارت دليلتي الصغيرة إلى كوخ قش على سفح تل كأن لا بشـر فيه، لولا سحابة ضئيلة من الدخان تتصاعد منه.

ربطت جوادي إلى شجرة تفاح قريبة، ثم انضممت إلى الابنة في الحجرة المظلمة، حيث لفظت العجوز أنفاسها قبل لحظات.

 وبغتة يلمح الراوي جسماً في زاوية مظلمة يدنو، فيقع على شكل إنسان.

 واستطاع أن يميز بأنها فتاة، وعرف من دليلته بأنها ابنة المرأة العجوز التي ماتت قبل قليل، وكانت صماء

وخرساء، وقد حكمت على ابنتها هذه بعدم الخروج من البيت طوال عمرها الذي بلغ الآن الخامسة عشرة، وعليه فهي لا تعرف الكلام، ولا تفقه أي معنى لأي إشارة، كما لا تميز الألوان، لقد أمضت كل حياتها في العتمة برفقة امرأة بها مس عقلي.

يتقدّم الطبيب الراوي، ويقودها إلى جواده، بعد أن يشعر بمشاعر إنسانية تجاهها، ويأتي بها إلى البيت.

 أمام هذا المنظر المخيف، ترتعب زوجته (أميلي)، يصـرخ ابنه (جاك). المنظر مروع ولا شك، لأنها لم تستحم منذ لحظة ولادتها، وتبدو الفتاة الغربية التي بدت أمام أنظارهما قادمة من كوكب آخر، تخرمش كل مَن يدنو منها، ثم تصدر نشيجاً كمواء قطة، لكن الأب يستفيض في الحديث عن الظروف التي جعلت منها على هذا النحو، واستطاع أن يقنع زوجته بمحاولة تقديم خدمة إنسانية لهذه الفتاة التي هي بأمس الحاجة لمثل هذه الخدمة، فتقتنع الزوجة بالفكرة، ولا تتردد في إدخالها إلى الحمام وقضاء وقت جيد لتنظيفها، وبالفعل تدخل الفتاة الحمام مرغمة، فتقص الزوجة شعرها وأظافرها، وتغسلها لمدة طويلة، ثم تلبسها ثوباً جميلاً.

وفجأة تخرج  فتاة رائعة الجمال، وكأنها ليست الفتاة التي دخلت البيت منذ قليل، تمشي على مهل برفقة (أميلي).

أمام هذا التغيير يرى الطبيب أن يواصل  مهمته الإنسانية، ويسعى إلى انفتاحها على الحياة، وهي مهمة بالغة الصعوبة بالنسبة لفتاة في مثل هذا العمر، وهذه الظروف. 

يُعلّمها الحروف الهجائية: ب.. با.. م.. ما..  حتى تحفظ هذه الحروف، ثم يعلمها الكلام، وتشخيص ألوان الطبيعة، وبعد أيام يأخذها إلى حفلة موسيقية في (نوشاتيل)، يطلب إليها أن تُركّز على الفرق بين أصوات الآلات، وتقارنها بألوان الطبيعة، كأن تشبّه الأحمر والبرتقالي بأصوات الأبواق والترمبون، وأن تتمثل الأصفر منها والأخضـر برنانية الكمان والفلولونسيل والجهير، والبنفسجي والأزرق بالشبابة والكلادينات والمزمار، فتقول (جيرترود)- وهو الاسم الجديد الذي تختاره لها العائلة-: "والأبيض ما عساه يعني لنا"؟

يجيب: "الأبيض هو الحد الفاصل، تتلاشى عنده جميع الألوان الحادة، وكذلك الأسود بعكسه، تخيليه ياجيرترود جسماً أثقلته الألوان الأخرى وأظلمته". ويوصلها إلى درجات الرقة والرهافة والتذوق، فتقول: "هل يمكن أن تكون الأشياء التي نبصـرها بمثل هذا الجمال الذي أراه"؟ 

وهنا تكمن أهمية ما يرغب (جيد) في طرحه، أعني إشكالية العلاقة بين الواقع والخيال. 

(أندريه جيد) لا ينسـى للحظة واحدة بأنه يبحث عن أمور لم يكتشفها أحد غيره،  وبالطبع لن يجيبها، فيلجأ إلى الواقع يحاول أن يجري عملية لعينيها حتى تجيب على ذات السؤال بنفسها.

هل الخيال جميل أم الواقع، هل البصيرة ترى أشياء أجمل من البصر؟

يلجأ إلى صديقه (مارتين)، وهو طبيب عيون، ويجري عملية جراحية لعيني (جيرترود)، ويبدو (جيد) نفسه مستعجلاً على مشاهدة النتيجة (قوت الأرض - وقعت في 240 صفحة-  ومزيفو النقود وقعت في 528 صفحة، بينما هذه وقعت في 108 فقط).

 وعلى نحو تقريري مباشر تأتي العبارة التالية مختصـرة كل شيء: "رسالة من مارتين: نجحت العملية، والحمد لله".

 كانت (جيرترود) قد تعلقت بالراوي من خلال سماعها لصوته فقط، وتعلقت بالحياة من خلال تصورها المسبق، وعندما تفتح عينيها تصاب بصدمة الواقع، فلا وجه الرجل يرتقي إلى مستوى التصور، ولا الألوان بمستوى أصوات الآلات، لقد خانها كل شيء، فقررت أن تعود إلى الظلام، وتموت على الفور في فراشها.

إن الأشياء التي يكتسبها الإنسان بجهوده وصبره يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، هي الأبقى، وهي التي تعينه على فهم الحياة والمحيط، لذلك يواصل الإنسان العمل والبحث من أجل أن يعيش حياته بواقعيتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق