بسم الله الرحمن
الرحيم
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾
مقدمة:
أبو لهب[1] عم الرسول (صلى الله عليه وسلم)[2] كان أبرز وأعنف وأشرس معلم من معالم الجاهلية، التي
واجهها الرسول وأصحابه، وواجهتها الدعوة الإسلامية الفتية عند إعلانها في مكة. وكان هو وامرأته أم جميل (أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، وعمّة معاوية) متعاونين في هذه الحملة الدائبة الظالمة. ولقد اتخذ أبو لهب موقف الصد والعداء من رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) منذ اليوم الأول للدعوة.
وبما أنه عمّ الرسول، فقد كان من المفترض أن ينصـر
ابن أخيه، ويقف بجانبه؛ ظالماً أو مظلوماً، حسب العادات والتقاليد العربية ، كما
كان ذلك متوارثاً عنهم. ولكن هذا المتعنت كان من أشد الأعداء، وأسفه السفهاء على
النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأكثرهم أذى له، حتى أنه يزجّ امرأته في هذه العداوة،
وعلى غير تقاليد الجاهلية، ويدخلها إلى تلك الحرب التي يخوضها ضد النبي (صلى الله
عليه وسلم)، فيتعاونان لهذه العداوة البغيضة والشرسة وغير الشـريفة، ويتآمران
معاً، يسند أحدهما الآخر لمواجهة الدعوة الفتية.
ذكره القرآن بكنيته، وهو الرجل الوحيد من قريش
ذكره القرآن، وأعلن عداوته لله رب العالمين. ولم تشفعه قرابته للرسول (صلى الله
عليه وسلم)، لأن القرابة قرابة العقيدة وليست قرابة الأهل والنسب.
وفي هذه السورة، وبثلاثة وعشـرين كلمة، يعلن
الله تعالى غضبه عليه، وعلى امرأته، وهما ما زالا على قيد الحياة.
تسميتها، وعدد كلماتها:
السّورة مكِّيّة. وآياتها خمس بالإِجماع.
وتسمّى سورة تبّت، وسورة أَبي لَهَب، وسورة المَسد؛ لذكرها فيها. كلماتها ثلاث
وعشرون.
ترتيب المصحف:
(سورة النصر -110، سورة المسد- 111،
سورة الإخلاص- 112).
علاقتها بسورة الإخلاص:
سورة
الإخلاص، أو سورة (التوحيد)، هي سفينة النجاة والخلاص لمن أراد أن ينجو بنفسه من
الهلاك والبلاء، وأن ينجو بنفسه من تلك السفينة الغارقة والهالكة التي ركبها أبو
لهب وامرأته، ومن سار على نهجهما. ولا ننسـى أن عداوة أبا لهب، وامرأته، كانت
ممثلة في عداوتهما لكلمة ودعوة التوحيد، التي كانت عنوان رسالة النبي (صلى الله
عليه وسلم).
وتعطينا (سورة الإخلاص) إشارة النجاة من خزي
الدنيا، وعذاب الآخرة، وهي الإيمان بألوهية الله تعالى، هذا الاعتقاد الذي وقف أبو
لهب ضده، وأعلن الحرب على كل من يحمل هذه العقيدة، ويدافع عنها، ونسـي أن سبب النجاة
من النار ذات اللهب هي كلمة التوحيد؛ ونسيت امرأته أن النجاة من حبل من مسد، هي
كلمة التوحيد.
علاقتها بما قبلها (سورة النصر):
(سورة
النصـر) من آخر ما نزل من القرآن الكريم
[تسلسل نزولها -114]، نزلت وهي تحمل معها البشارات السعيدة للنبي (صلى الله
عليه وسلم)، وللمؤمنين، وتريهم عزة الإسلام، وغلبته، ودخول الناس فيه أفواجاً،
وتكسيهم بحلل النصـر، وتلهم ألسنتهم بالتسبيح والاستغفار لأجل النصـر والظفر. وفي
ذروة هذا الانتصار والفتح العظيم، تأتي (سورة المسد) لتعلن هلاك طاغية من طواغيت
مشركي قريش، وامرأته، الذي يمثل ضلال وسفه المشركين وعنادهم.
يقول البقاعي:
"لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصـر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين،
بعد ما كانوا فيه من الذلة، والأمر الحتم بتكثيرهم، بعد الذي مر عليهم مع الذلّة
من القلّة، وختمها بأنه التواب. وكان أبو لهب - من شدة العناد لهذا الدين، والأذى
لإمامة النبي؛ سيّد العالمين، مع قربه منه - بالمحل الذي لا يجهل، بل شاع واشتهر،
وأحرق الأكباد"([3]).
ترتيب النزول([4]):
( سورة الفاتحة - 5 ،
سورة المسد - 6، سورة التكوير - 7).
لما
رفض أبو لهب، وتعنت، وأبى أن يكون على الصـراط المستقيم، وهو وامرأته، وأن يعبدا
الله وحده، ويستعينا به، كان مآلهما مع الذين غضب الله عليهم، وضلوا عن جادة
الصواب، متناسين أن الله تعالى ربهم ومالك أمرهم في الدنيا والآخرة.
قوله
تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾[التكوير: 22]. جاءت هذه
الآية رداً على قول أبي لهب، عندما كان يواجه الناس في مكة، وطرقاتها، ويقول لهم:
لا تلتفتوا إلى ابن أخي، إنه مجنون، ليعرض الناس عنه، وعن دعوته.
مناسبة نزول السورة:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾[الشعراء: 214]، وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى صَعِدَ
الصَّفَا، فَهَتفَ: (يَا صَبَاحَاهْ)، فَقَالُوا: مَنْ هذَا؟ فَاجْتَمَعُوا
إِلَيْهِ، فَقَالَ: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ
مِنْ سَفْحِ هذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟) قَالُوا: مَا
جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ
عَذَابٍ شَدِيدٍ)، قالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ
لِهذَا؟ ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾([5]).
قال ابن كثير: "وفي رواية: فقام
ينفض يديه، وهو يقول: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: ﴿تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.
الأول دعاء عليه، والثاني خبر عنه. فأبو لهب
هذا هو أحد أعمام رسول الله (صلى الله
عليه وسلم)، واسمه: عبد العزى بن عبد
المطلب، وكنيته: أبو عتبة. وإنما سمّي (أبا لهب) لإشراق وجهه، وكان كثير الأذية
لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والبغضة له، والازدراء به، والتنقص له
ولدينه"([6]).
أخرج
الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد، وكان جاهلياً فأسلم، قال: رأيت النبي (صلى الله
عليه وسلم) في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)، والناس مجتمعون عليه، ووراءه
رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب. فسألت
عنه، فقالوا: هذا عمّه أبو لهب([7]).
أبناء أبو لهب:
الصحابي عتبة بن أبي لهب (رضي الله عنه):
أسلم
هو وأخوه معتب يوم الفتح، وكانا قد هربا من النبي (صلى الله عليه وسلم)، فبعث
النبي العباس بن عبد المطلب عمهما إليهما، فأتى بهما، فأسلما، فسُـرَّ رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) بإسلامهما، وشهدا مع رسول الله حنيناً، وكانا ممن ثبت ولم ينهزم.
وشهدا الطائف، ولم يخرجا عن مكة، ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب. قالوا: أقام عتبة
بمكة، ومات بها([8]).
الصحابي معتّب بن أبي لهب (رضي الله عنه):
له صحبة، أسلم عام الفتح، وشهد حنيناً مسلماً
مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هو وأخوه عتبة. وفقئت عين معتّب يوم حنين،
وكان فيمن ثبت. ومن ولده: القاسم بن العباس بن محمد بن معتّب بن أبي لهب.
روى
عنه ابن أبي ذئب، وابنه عباس بن القاسم([9]).
الصحابية درة بنت أبي لهب: (رضي الله عنها):
هاجرت إلى المدينة، وكانت عند الحارث بن نوفل
بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له عقبة والوليد وأبا مسلم([10]).
أغراض السورة:
1.
تهديد أَبي لَهَب على
الجفاءِ والإِعراض، وضياع كَسْبه وأَمره، وبيان هلاكه في الدنيا، ودخوله النار يوم
القيامة، وذمّ زَوْجه في إِيذاءِ النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبيان ما هو معدّ
لها من نار ذات لهب.
2.
إشارة إلى أن كل من
يتصف بصفات أبي لهب، وامرأته، سيلاقي نفس المصير. فالسورة عامة، لذا لم يذكر
اسمهما صراحة، لكي لا يظن أحد أن هذا مخصوص بهما فقط، لكنه خصوص أريد به العموم.
3.
أبو لهب رمز للضلالة،
لكنه منهج حياة، من سار على نفس الطريق، فله نفس النتيجة.
4.
الذين يسبون شريعة
الإسلام، ويشتمون النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويكذبون أحاديثه في الصحف والمجلات
والإعلام... كم لهم من التب والخسران؟
5.
كثرة المال والمتاع لا
تغني من عذاب الله من شيء، إن لم يكن صاحب المال قد أعد ليوم الحساب مدخراً.
6.
المال والولد سلاح ذو
حدين.
7.
تبين أن المال يختلف
باختلاف الناس، وهو كل ما يميل القلوب نحوك، أو ضدك.
8.
كسب الرجل من المال
(كالمنصب، والسيادة، والعز، والشـرف..) لا يغني من عذاب الله من شيء، ولا ينفعه،
إلا من أتى الله بقلب سليم.
9.
أسرة فيها الأمور
العائلية فيها مفككة ومضطربة، لذا جاءت كلمة ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾، وليست بصيغة
وزوجه، لأن كلمة (زوجة) تدل على الانسجام والتوازن والموافقة.
10.
تبين السورة أنه إذا
كان قطبي الأسرة في عداء مع الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه، ودعوته،
ونهجه، ومنهجه، وأتباعه، فإن هذه الأسرة تعيش في صراع نفسي، تكوى بنار الحقد
والحسد.
11.
قطع صلة أبي لهب من
الإيمان والإسلام، ومن آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
12.
تبين السورة أن سبب
الطغيان في الدنيا هو المال. وكان سبب طغيان أبا لهب، بالإضافة إلى المال، هو
طغيان النسب والقبيلة والجمال والزوجة.
كلمات لا تجدها إلا في هذه السورة:
﴿أَبِي لَهَبٍ﴾، ﴿جِيدِهَا﴾، ﴿مَسَدٍ﴾.
معاني الكلمات:
﴿تَبَّتْ﴾([11]):
معنى تبت: هلكت.
وقيل: خسرت.
وقيل: خابت.
وقيل: ضلت.
وقيل: صفرت من كل خير.
وقيل: قطع عن الخير.
وقيل: بطل غرضه.
وقيل: هلاك نفسه ووجهه، فأخبر الله تعالى أنه
محروم من الأمرين.
والتباب: الخسران المؤدّي إلى الهلاك.
قيل: المراد باليد العمل، لأنه بها يكون. وخص
اليدين بالتباب، لأن أكثر العمل يكون بهما.
وقيل: المراد باليدين نفسه، وقد يعبر باليد عن
النفس، كما في قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾[الحج: 10]، أي: نفسك.
وقيل: دينه ودنياه.
﴿أَبِي لَهَبٍ﴾: وأبو لهب اسمه: عبد
العزى بن عبد المطلب بن هاشم، عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
﴿لَهَبٍ﴾([12]):
اللَّهَبُ: اضطرام النار.
وقيل: ما يرتفع من النار كأنه لسان.
وقيل: اشتعالُ النّارِ الذي قد خَلَص من
الدُّخان.
وقيل: اللَّهَبُ: ارتفاع لسان النار، ثم يقاس
عليه ما يقاربه. من ذلك اللهب: لهب النار. تقول: التهبت التهاباً. وكل شيء ارتفع
ضوؤه، ولمع لمعاناً شديداً، فإنه يقال فيه ذلك.
واللَّهِيبُ: ما يبدو من اشتعال النار، ويقال
للدّخان، وللغبار: لَهَبٌ.
وقوله: ﴿وَتَبَّ﴾ أي: هلك. قال الفرّاء:
الأول دعاء عليه، والثاني خبر، كما تقول: أهلكه الله، وقد هلك. والمعنى: أنه قد
وقع ما دعا به عليه.
وقيل: ﴿وَتَبَّ﴾ يعني: ولده([13]).
﴿سَيَصْلى﴾:
صَلَى اللَّحمَ صَلْياً، شَوَاهُ، والصِّلاءُ:
الشِّواءُ، صلَى اللَّحْمَ في النارِ، وأصْلاَه: أَلْقاهُ للاحْتِراقِ([14]).
أي يدخل ناراً يصطلي بحرّها ولفحها([15]).
قوله تعالى: ﴿الْحَطَبِ﴾([16]):
أي: ما يعدّ للإيقاد. وقيل للمخلّط في كلامه:
حَاطِب ليل، لأنّه لا يبصـر ما يجعله في حبله.
قوله
تعالى: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4]، كناية عنها بالنميمة. يقال حطب
فلان بفلان: سعى به. ويقال إن الأحطب: الشديد الهزال، وكذلك الحطب، كأنه شبه
بالحطب اليابس([17]).
والحطباء: المرأَة المشؤومة([18]).
قوله تعالى: ﴿جِيدِها﴾([19]):
عُنُقِهَا.
الجِيدُ: العُنُقُ.
الجِيدُ: الرقبة، ويغلب على عنق المرأة، وقيل: موضع
القِلادة.
قوله: ﴿مَسَدٍ﴾:
المسَدُ: ليف يتّخذ من جريد النخل، أي: من
غصنه، فيُمْسَدُ، أي: يفتل([20]).
وقيل: المسد: يدل على جدل شيء، وطيّه.
وقيل: المسد: ليف يتخذ من جريد النخل.
وقيل: المسد: حبل يتخذ من أوبار الإبل([21]).
وقيل: المسد: الحبل المضفور محكم الفتل؛ من
ليف، أو جلد، أو خوص، أو غيرها([22]).
قوله تعالى: ﴿حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾([23]): أي حبل
مسد، أي: فتل فلوي، أي أنها تسلك في النار، أي في سلسلة ممسودة، وفتلت من الحديد
فتلاً محكماً. كأنه قيل: في جيدها حبل حديد قد لوي لياً شديداً([24]).
قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا
أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
التب: القطع للشيء.. وهو كالبتّ.. ولفظه يدل
على القطع والحسم([25]).
يقول ابن عاشور: "افتتاح السورة بالتباب
مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد. والتب: الخسـران والهلاك، والكلام دعاء وتقريع لأبي
لهب، دافع الله به عن نبيّه بمثل اللفظ الذي شتم به أبو لهب محمداً (صلى الله عليه
وسلم) جزاءً وفاقاً.
وإسناد التب إلى اليدين، لما روي من أن أبا لهب
لما قال للنبي (صلى الله عليه وسلم): (تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟) أخذ
بيده حجراً ليرميه به"([26]).
يقول سيد قطب: "والتباب الهلاك والبوار
والقطع. ﴿تَبَّتْ﴾ الأولى دعاء. ﴿وَتَبَّ﴾ الثانية تقرير لوقوع هذا
الدعاء. ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة، تصدر الدعوة، وتتحقق، وتنتهي
المعركة، ويسدل الستار"([27]).
يجمع المفسرون على أن هذا دعاء على أبي لهب من
الله سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكّنة له من الشـر
والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كانت اليد دائماً هي مظهر آثار الإنسان؛
بها يأخذ، وبها يعطي.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسـرى مقامها، فإذا ذهبت
اليدان، أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزاً عن أن يحصّل خيراً، أو يتناول خيراً،
أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة. ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَبَّ﴾،
أي: هلك هو، بعد أن قطعت يداه..
وقيل - والله أعلم- إن هذا الخبر على حقيقته، وإنه
خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلاً، وحل
به البلاء، منذ اتخذ من النبي، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال.. لقد
ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه، ولا سلامة لسائر فيه، وكذلك امرأته التي ركبت معه
هذا الطريق، وعلقت فيه حبالها بحباله..
والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة إلى تحقق
وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي
تدفع به دفعاً إلى الواقع المحتوم.. وفي هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية
الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحاً يتحرك بين الناس..
إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه([28]).
قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنى
عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ﴾:
أي لم يدفع عنه يوم القيامة ما جمع من المال،
ولا ما كسب من الأرباح والجاه والولد، ولم يفده ذلك في دفع ما يحل به من الهلاك،
وما ينزل به من عذاب اللَّه، بسبب شدة معاداته لرسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)،
وصدّه الناس عن الإيمان به، فإنه كان يسير وراء النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإذا
قال شيئاً كذّبه([29]).
انتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ، إلى الإعلام بأنه آيس من النجاة من هذا
التبات، ولا يغنيه ماله، ولا كسبه، أي لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة([30]).
قال:
ابن مسعود: لما دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقرباءه الى الله سبحانه، قال
أبو لهب لأصحابه: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فإني أفتدي نفسي وملكي وولدي.
فأنزل الله سبحانه: ما أَغْنى، أي: ما يغني، وقيل: أي شيء أغنى عَنْهُ مالُهُ من
عذاب الله([31]).
قوله تعالى: ﴿وَما كَسَبَ﴾([32]):
وما كسبه، أي ما جمعه.
وقيل: عمله الخبيث.
والمراد به: ما يملكه من غير النعم؛ من نقود
وسلاح وعروض وطعام.
ويجوز أن يراد بماله: جميع ماله.
وقال ابن عباس: ما كسب هو وولده، فإن الولد من
كسب أبيه.
جاء في
كتب التفسير والتاريخ وسنن البيهقي([33]):
كان لأبي لهب ثلاثة أبناء: (عُتبة)([34])،
و(معتّب) و(عُتيبة). و(عُتيبة) هذا لم يسلم، وكانت (أم كلثوم) بنت رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) عنده، وأختها (رُقية) عند أخيه عُتبة، فلما نزلت السورة قال أبو
لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إِن لم تطلقا ابنتي محمد، فطلقاهما. ولما أراد
(عُتيبة) بالتصغير الخروج إلى الشام مع أبيه، قال: لآتينَّ محمداً وأوذينَّه،
فأتاه فقال: يا محمد، أنا كافر بالنجم إِذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل أمام
النبي (صلى الله عليه وسلم) وطلَّق ابنته (أم كلثوم) فغضب (صلى الله عليه وسلم)
ودعا عليه فقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك).
وكان أبو طالب حاضراً، فكره ذلك، وقال له: ما
أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة. ثم انصـرف عنه، فرجع إلى أبيه، فقال: يا بني، ما
قلت له؟ فذكر له ما قاله. فقال: فما قال لك؟ قال: اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك.
قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه! ثم
خرجوا إلى الشام فنزلوا إلى صومعة راهب. فقال الراهب: يا معشـر العرب، ما أنزلكم
هذه البلاد؟ فإنها يسرح فيها الأسد كما تسـرح الغنم! فقال أبو لهب: إنكم قد عرفتم
كبر سني، وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه، فأجمعوا
متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها. ففعلنا. فجاء
الأسد، وألقى الله السكينة على الإبل، فشم وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب
وثبة فوق المتاع، فشم وجهه، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه.
وهلك
أبو لهب بعد وقعة بدر بسبع ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى (العدسة)، وبقي ثلاثة
أيام في بيته حتى أنتن، ولم يجرؤ أولاده دفنه مخافة العدوى، فلما خافوا العار،
حفروا له حفرة ثم استأجرُوا بعضَ السودانِ فاحتملُوه ودفعوه إِليها بعود، حتى وقع
فيها، ثم قذفوه بالحجارة حتى واروه، فكان الأمر كما أخبر به القرآن.
قوله تعالى: ﴿سَيَصْلى نَارًا
ذاتَ لَهَبٍ﴾:
أي
سيذوق عذاب القبر بالشوي، ثم حرّ نار جهنم ذات اللهب المشتعل المتوقد، يشوى بها،
ويحس بإحراقها، أو سوف يعذب في النار الملتهبة التي تحرق جلده حتى تنضجه.
يقول عبد
الكريم يونس الخطيب: "هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب
في الآخرة، بعد أن عرف مصيره في الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبي (صلى الله
عليه وسلم)، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه في الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم
بدر، وكيف قتل صناديدها، وأسر زعماؤها..
وفي وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم
هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنّى بها (أبو لهب).. فقد ولد، وهو يلبس
هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقوداً يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم
ذات اللهب التي يلقاها في الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب"([35]).
إذ هو أبو لهب، والنار ذات لهب.
قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾:
﴿حَمَّالَةَ﴾ مَنْ حرفتُه الحَمْل، الذي
يرفع وينقل الأشياءَ على ظهره، أو غيره، للناس، بأجر([36]).
وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهاً([37]):
أحدها: أنها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك،
فتنثرها بالليل في طريق رسول الله (صلى الله عليه وسلم). قال الرازي: فإن قيل:
إنها كانت من بيت العز، فكيف يقال: إنها حمالة الحطب؟ قلنا: لعلها كانت مع كثرة
مالها خسيسة. ويقال إنها كانت موسرة، وكانت لفرط بخلها تحمل الحطب على ظهرها، فنعى
الله - عز وجل - عليها هذا القبح من فعلها. أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك
والحطب، لأجل أن تلقيه في طريق رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وثانيها: أنها كانت تمشـي بالنميمة يقال:
للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة،
ويقال للمكثار: هو حاطب ليل.
وثالثها: أنها كانت تعيّر رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) بالفقر، فعيّرت بأنها كانت تحتطب.
والرابع: أن المراد ما حملت من الآثام والخطايا
في عداوة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لأنه كالحطب في تصييرها إلى النار.
أي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة،
وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي، وتهيج عداوة المشـركين له.. فقد
كانت امرأة أبي لهب أشدّ نساء قريش عداوة للنبي، وسلاطة لسان، وسوء قالة فيه، كما
كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشـركي قريش كلهم.. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة،
وتتزاوج، وتتوافق، وتتجاذب!
وقيل حمالة الحطب: أي حمالة الذنوب، التي أشبه
بالحطب الذي يتخذ وقوداً، والذي يتعرض لأية شرارة تعلق به، فتأنى على كل ما اتصل
من أثاث وغيره([38]).
عَنْ
أَسْمَاءَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، جَاءَتِ
الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ([39])،
وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمٌ أَبَيْنَا، وَدِينُهُ قَلَيْنَا، وَأَمْرُهُ عَصَيْنَا،
وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ، وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ،
أَوْ قَالَ مَعَهُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ،
وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ. فَقَالَ: (إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي) وَقَرَأَ
قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ
وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾
[الإسراء: 45]، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ
النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ
صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا
هَجَاكِ، فَانْصَـرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ
سَيِّدِهَا([40]).
قوله تعالى: ﴿فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ﴾:
ذكر
المفسـرون وجوهاً، أحدها: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، لأنها كانت تحمل تلك
الحزمة من الشوك، وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطابون. والمقصود بيان خساستها،
تشبيهاً لها بالحطابات، إيذاءً لها ولزوجها.
وثانيها: أن يكون المعنى: أن حالها يكون في نار
جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الحزمة من الشوك، فلا تزال على
ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم، وفي جيدها حبل من سلاسل النار([41]).
أي في عنقها حبل من الليف. أي أنها في تكليف
نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس، وتأريث نيران العداوة بينهم، بمنزلة
حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن، يشدّ به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به. وهذه
أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، وفي عنقها حبل من الليف، تشد به الحطب إلى
كاهلها، حتى تكاد تختنق به.
وقال أيضاً: قد أنزل الله في أبي لهب، وفي
زوجته، هذه السورة، ليكون مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه (صلى
الله عليه وسلم)، مطاوعة لهواه وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال،
واغتراراً بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال،
وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً، وسيصلى ما يصلى([42]).
وقيل إنها كانت تقول سأبيع قلادتي وأحارب بها
محمد([43]).
إذلال
امرأة من أشراف قريش:
الجيد: العنق، والجيد من محاسن المرأة، وسمي جيداً
من الجودة، وفيه تضع المرأة أجمل ما تنزين به من حلي وجواهر..
والمسد: الليف، أو ما يشبهه، مما تتخذ منه
الحبال..
وفي تعليق هذا الحبل في جيد (أم جميل)، تصوير
بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفي تشويه خلقها.. فما أبشع (جيد) امرأة كان من شأنه
أن يتحلى بعقد من كريم الجواهر، يشدّ إليه حبل من ليف.. إنه إهانة لعزيز، وإذلال
لكريم.. وإن الإهانة للعزيز، والإذلال للكريم، لأقتل للنفس، وأنكى للقلب، من إهانة
المهين، وإذلال الذليل! فكلمة (جيد) هنا مقصودة لذاتها، إنه يراد بها ما لا يراد
بلفظ رقبة، أو عنق.. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش، ومن بيوتاتها المعدودة فيها،
لتلقى بها في عرض الطريق، وهي تحمل على ظهرها حزم الحطب، وتشدها إلى جيدها بحبل من
ليف!! ولهذا فزعت المرأة، وولولت، حين سمعت هذا الوصف الذي وصفها القرآن الكريم
به، فخرجت - كما يقول الرواة- في جنون مسعور، تستعدي قريشاً على النبي (صلى الله
عليه وسلم) الذي هجاها- كما تزعم- هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ! وحق
للمرأة أن تفزع، وأن تجنّ، فلقد كانت هذه الصورة التي رسمها القرآن لها، وعرضها
هذا العرض المذل المهين، حديث قريش- نسائها ورجالها- ومادة مجالسها، ومعابثها،
زمناً طويلاً([44])..
فقه الاستنباط
قوله تعالى: ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾،
لماذا جاءت التسمية بالكنية وليس بالاسم الصـريح، مع أن ذلك إكرام واحترام وتبجيل،
حسب قولهم؟ جاء الرد بما يلي([45]):
1.
ليس في القرآن كنية
غير هذه. وكني بها لتلهب وجنتيه، وأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه، فصرح بها..
والكنى الغرض منها التعريف فحسب.
2.
يجوز أنه لم يعرف له
اسم، ولم يشتهر إلّا بكنيته، فذكره بما اشتهر به، لزيادة تشهيره بدعوة السوء عليه.
فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به، واحتقاراً وتصغيراً من شأنه، فليس المراد تكريمه بل
تشهيره. واستدل به البعض على جواز تكنية الكافر.
3.
كان اسمه عبد العزّى،
وهو كان عبد الله لا عبد العزّى. والعزى: صنم، ولم يضف الله، في كتابه، العبودية
إلى صنم. فلو ذكره باسمه لكان خلاف الواقع.
4.
أنّه ذكره بكنيته
لموافقة حاله لكنيته، فإنّ مصيره إلى النار ذات اللهب، وإنّما كنّي بذلك لتلهّب
وجنتيه وإشراقهما.
5.
الاسم أشرف من الكنية،
فحطه الله - عز وجل - عن الأشرف إلى الأنقص، إذا لم يكن بد من الإخبار عنه، ولذلك
دعا الله تعالى الأنبياء بأسمائهم، ولم يكنّ عن أحد منهم. ويدلك هذا على شرف الاسم
على الكنية.
6.
أن الله تعالى أراد أن
يحقق نسبته، بأن يدخله النار، فيكون أبا لهب، تحقيقاً للنسب، وإمضاء للفأل والطيرة
التي اختارها لنفسه. وقد قيل: اسمه كنيته. فكان أهله يسمونه (أبا لهب)، لتلهب وجهه
وحسنه، فصـرفهم الله عن أن يقولوا: أبو النور، وأبو الضياء، الذي هو المشترك بين
المحبوب والمكروه، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى (لهب)، الذي هو مخصوص بالمكروه
المذموم، وهو النار. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقرّه.
7.
أبو لهب لما كان من
أهل النار، ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته، فكان جديراً بأن يذكر بها.
8.
الكفار لما طعنوا في
الله، فقال الله تعالى: يا محمد، أجب عنهم: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾.
وفي هذه السورة طعنوا في محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقال الله تعالى: اسكتْ أنت،
فأنا أشتمهم: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، لما شتموك، فاسكت،
وإذا سكت أنت، أكون أنا المجيب عنك.
9.
ونقول: ذكر أبو لهب
بالكنية، ووصف امرأته بحمالة الحطب، وليس بالاسم، دلالة على أن السورة تشمل كل من
يعادي هذا الدين؛ من رجال ونساء وعوائل ومؤسسات وهيئات ومنظمات وحكومات وأحزاب
وحركات ودول إلى يوم القيامة، ومن يتصف بصفاتهما. فإن مآلهم إلى ما آل إليه أبو
لهب وامرأته.
قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾:
إشارة
إلى وقود الفتن الذي تحمله النساء لغرض تشجيع الفاحشة؛ سواء بعرض أجسادهن الملتهبة
بالمعاصي أو بالفاحشة، أو بالسعي بالنميمة بين الناس بالأخبار الكاذبة لغرض
الإيقاع بينهم، وخاصة في الحفلات الماجنة، والأماكن العامة، وعلى صفحات شبكات
التواصل الاجتماعي..
قال ابن
عاشور: "فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته، جعل لامرأته وعيد مقتبس
لفظه من فعلها، وهو حمل الحطب في الدنيا، فأنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم، ليوقد
به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها، إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه،
وجعلها سبباً لعذاب أعز الناس عليها"([46]).
زوجان يشتعلان ناراً:
انظر
إلى الإعجاز القرآني في وصف امرأة أبي لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على
النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع
مجاورته للهب، الذي هو كيان زوجها كله، لا بد أن يشتعل يوماً، وقد كان. فأصبح
الرجل وزوجه وقوداً لنار جهنم..
وانظر مرة أخرى إلى هذا الإعجاز في التفرقة بين
(أبي لهب)، وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره
إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطباً،
وحسب.. وهذا الحطب - وإن كان من وقود النار- إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها،
ويعلق بها.. وأما وقد خالطها (أبو لهب)، فلا بد أن تشتعل، وتحترق([47]).
قال السهيلي: "والمعروف أن يذكر العنق إذا
ذكر الحلي، أو الحسن. فإنما حسن هنا ذكر الجيد في حكم البلاغة، لأنها امرأة،
والنساء تحلي أجيادهن. وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها،
فلما أقيم لها ذلك مقام الحلي، ذكر الجيد معه"([48]).
فإن
قيل: الحبل المتخذ من المسد، كيف يبقى أبداً في النار؟ قلنا: كما يبقى الجلد
واللحم والعظم أبداً في النار. ومنهم من قال: ذلك المسد يكون من الحديد، وظن من ظن
أن المسد لا يكون من الحديد خطأ، لأن المسد هو المفتول؛ سواء كان من الحديد أو من
غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم([49]).
لماذا هذان الزوجان؟
يقول
محمد عزة دروزة: "نعْتُ امرأة أبي لهب بحمالة الحطب، يلهم أنها كانت ذات
تأثير قوي في الموقف، فيزداد شدة، ولعلها كانت تقوي زوجها، وتنفخ في روحه، كلما
أنست فيه جنوحاً إلى الفتور والتروي، بسبب ما كان يربطه بالنبي (صلى الله عليه
وسلم) من روابط العصبية([50])،
التي كانت تقاليدها شديدة الرسوخ في بيئة النبي. فكان تأثيرها عاملاً قوياً في
شذوذ هذا العمّ عن سائر أعمامه، وسائر أفراد عشيرته، الذين كانوا يحمون النبي (صلى
الله عليه وسلم) وينصـرونه بقوة العصبية، برغم أن أكثرهم ظلوا في العهد المكي
نائين عن اعتناق الإسلام.
وإذا
صحّت رواية كون أم جميل هي أخت أبي سفيان- وليس هناك ما ينفيها-، فلا يبعد أن يكون
موقفها متأثراً بموقف أخيها الذي كان من أبرز الزعماء وذوي الشأن في قريش، والذي
كانت لأسرته المكانة البارزة في مكة، والذي ظل هو وأسرته يناوئون النبي (صلى الله
عليه وسلم) نحو عشـرين سنة - أي إلى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة - مناوأة
عنيفة. وقد قاد زعيمهم أبو سفيان الجيوش التي غزت المدينة؛ دار هجرة النبي (صلى
الله عليه وسلم) مرتين. ولا يبعد أن تكون فكرة النضال الأسروي بين الأسرة الأموية؛
صاحبة الشأن والبروز في مكة، والأسرة الهاشمية؛ التي ترشحت للبروز والخلود بدعوة
النبي(صلى الله عليه وسلم)، وحركته، حافزاً أو مقوياً لموقف أبي سفيان المناوئ من
النبي (صلى الله عليه وسلم)، وموقف أخته؛ زوجة أبي لهب، منه أيضاً"([51]).
القرآن معجزة تتحدى:
يقول الخطيب:
"وفي الإخبار عن أبي لهب، وامرأته، بأنهم من أهل النار، وفي مواجهتهم بهذا
الخبر، ثم موتهم بعد هذا على الكفر، في هذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي ساق أبا
لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان.. ولو أن أبا لهب آمن بالله - ولو حتى عن
نفاق-، لأقام حجة قاطعة على كذب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وافتراء ما جاء به،
لأن النار التي توعدها الله إنما هي لكفره، فلو أعلن الإيمان، لما كان لهذا الوعيد
حجة عليه، بل كان حجة على القرآن بأنه مفترى. ولكن أنّى يكون هذا، وقد قضـى الله
بعذابه في جهنم، ونزل القرآن بالخبر القاطع بهذا؟
إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبي لهب، أو
امرأته، بإعلان إسلامهما، فيقضـى بها على محمد (صلى الله عليه وسلم) ودعوته.. وهذه
معجزة متحدية من معجزات القرآن، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه
الكلمة، بكلمة الإسلام، في أوضح صورة، وأكملها، وأصرحها"([52]).
لا
تكوني كحمالة الحطب؟
أيتها
الأم، أيتها الزوجة، أيتها الفتاة، أيتها الأخت، لا تكوني كأمّ جميل (حمالة
الحطب)، فالعالم اليوم ممتلئ بالخرافات، والأقوال الفاسدة، وذوو النيات الخبيثة،
فهم يسعون لإشعال نار الفتنة وخراب البيوت، فكوني أماً صالحة لأهلك ولمجتمعك
ولأمتك.
[1] - لقب بهذا الاسم لوسامته، وشدة بياض وجهه المائل للحمرة كاللهب،
من قبل أبيه عبد المطلب.
[2] - الأخ غير الشقيق لعبد الله بن عبد المطلب. للعلم، فإن أربعة من
أعمام النبي (صلى
الله عليه وسلم) كانوا على قيد الحياة عند البعثة النبوية؛ أسلم حمزة
والعباس، ومات أبو طالب على الكفر، وأنزل الله تعالى سورة في الطاغية أبي لهب.
[3] - نظم الدرر: (22/327).
[4] - نزلت قبل وفاة أبي لهب بعشر سنين.
[5] - اللؤلؤ والمرجان: (رقم: 124).
[6] - تفسير ابن كثير: (8/514-515).
[7] - مسند الإمام أحمد: (19004)، صحيح لغيره.
[8] - ابن الأثير، أسد الغابة: (رقم: 3558)؛ ابن حجر العسقلاني،
الإصابة في تمييز الصحابة: (رقم: 5429).
[9] - ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: (رقم: 2459)؛ أسد
الغابة: (رقم: 5018)؛ الإصابة: (رقم: 8138).
[10] - الاستيعاب: (رقم: 3334)؛ أسد الغابة: (رقم: 6905).
[11] - غريب القرآن لابن قتيبة: (ص541)؛ مفاتيح الغيب:
(32/349)؛ غرائب التفسير: (2/1403)؛ لسان العرب: (1/226)؛ تاج العروس:
(2/56)؛ الشوكاني، فتح القدير: (5/627)؛
الموسوعة القرآنية: (12/299)؛ معجم اللغة العربية المعاصرة: (1/280).
[12] - العين: (4/54)؛ مقاييس اللغة: (5/213)؛ مفردات الراغب: (ص747)؛
معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن: (4/194)؛ جامع البيان: (24/675).
[13] - الفراء، معاني القرآن: (3/298)؛ مفاتيح الغيب: (32/350)؛
الشوكاني، فتح القدير: (5/627).
[14] - ابن سيده، المحكم: (8/361).
[15] - أيسر التفاسير: (5/626).
[16] - العين: (3/174)؛ مفردات الراغب: (ص242).
[17] - مقاييس اللغة: (2/79).
[18] - بصائر ذوي التمييز: (2/476).
[19] - غريب القرآن لابن قتيبة: (ص542)؛ تاج العروس: (7/539)؛ معجم
اللغة العربية المعاصرة: (1/427).
[20] - مفردات الراغب: (ص768).
[21] - مقاييس اللغة: (5/323).
[22] - معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن: (4/242)؛ معجم اللغة العربية
المعاصرة: (3/2097).
[23] - قيل إنها ماتت أثناء جلوسها على صخرة لتستريح من جمع الحطب،
وكان في عنقها قلادة قد توعدت بإنفاقها في معاداة النبي (صلى الله عليه وسلم).
[24] - تاج العروس: (9/173).
[25] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1704).
[26] - التحرير والتنوير: (30/601).
[27] - في ظلال القرآن: (6/4000).
[28] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1705).
[29] - التفسير المنير: (30/457).
[30] - التحرير والتنوير: (30/603).
[31] - الثعلبي، الكشف والبيان: (10/325).
[32] - النكت والعيون: (6/366)؛ التحرير والتنوير: (30/604)؛ صفوة
التفاسير: (3/592).
[33] - أبو بِشـْر محمد بن
أحمد الدولابي الرازي، الذرية الطاهرة النبوية: (ص57)؛ الدار السلفية – الكويت،
ط1، 1407هـ، الكشف والبيان: (9/135)؛ مفاتيح الغيب: (32/350)؛ إرشاد العقل السليم:
(9/210)؛ روح المعاني: (15/499)؛ في ظلال القرآن: (6/3422)؛ السنن الكبرى:
(10052).
[34]- ويكنى به.
[35] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1706).
[36] - التحرير والتنوير: (30/605).
[37] - زاد المسير: (4/503)؛ مفاتيح الغيب: (32/353)؛ التبيان في تفسير
غريب القرآن: (ص354).
[38] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1707).
[39]- حجر كبير مستطيل الشكل. وقيل: الحجر ملء الكف. وقيل: هو الحجر
مطلقا. ابن الأثير، النهاية: (3/481).
[40] - مسند الحميدي: (325)؛ مسند أبي يعلى: (53)؛ صحيح السيرة النبوية
للألباني: (ص137).
[41] - مفاتيح الغيب: (32/355).
[42] - محاسن التأويل: (9/565).
[43] - الشنقيطي، التفسير المفصل (تفسير سورة المسد).
[44] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1708).
[45] - الكرماني، غرائب التفسير: (2/1403)؛ الجامع لإحكام
القرآن: (20/236- 237)؛ مفاتيح الغيب: (32/351)؛ الموسوعة القرآنية: (12/297)؛
صفوة التفاسير: (3/593)؛ التفسير المنير: (30/455).
[46] - التحرير والتنوير: (30/605).
[47] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1707).
[48] - الروض الآنف: (3/185)، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط1،
1421هـ/ 2000م.
[49]- مفاتيح الغيب: (32/355).
[51] - التفسير الحديث: (ص497-498).
[52] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1710).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق