د. عمر عبد العزيز
أولاً: الشورى والمشاورة في اللغة والاصطلاح:
الشورى على وزن فُعْلى، مثل: فُتْيا، وبُشـْرى. مصدر من: شار يشور شورا. وأصل الشّوار والشِّوار والشورة، يأتي بمعان، منها: الحسن والجمال والهيئة. "والشّورة هي الموضوع الذي تعسّل منه النحل إذا دجنها"([1]). وأصله من شار العسل، أي: اجتناه، واستخرجه من الوقبة"([2]). ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس. وشـرت الدابة: إذا امتحنتها، فعرضت هيئتها في سيرها([3]). وركب فرساً يشوره، أي: يعرضه([4]). ويقال كذلك: شـرت الدابة
أشورها، لتستخرج أخلافها([5]). ويقال للموضع الذي تركض فيه الدابة: مشوار([6]).
وقال الشهيد سبحاني: "أصل كلمة الشورى من الشّوار، الذي يستعمل للمتاع
الجميل، وكذلك يعطي معنى الظهور. ويقال: الشور لتسييس الحيوان،
وإظهار استعداده للعمل. ومنه استعير الشورى والمشاورة، بمعنى أن يجتمع جمع،
ويُظهرُ كل واحد منهم رأيه، لكي يظهر ـ في الأخير ـ الرأي الأرجح والأصوب والمقبول
لدى الجميع"([7]).
قلت:
ما دامت اللفظة تتضمن معاني عناصـر الجمال
والظهور واجتناء العسل، فإنه سُمّي أمر استخراج الرأي الأصوب مشاورة، فكأن الذي
يشاور أهل الرأي، يجتني أطيب الآراء وأصوبها،
أو أرجحها، كالنحل الذي يختار أطيب ما في الزهور.
ومن هنا يأتي
الحديث عن الشورى والمشاورة كاصطلاحين قرآنيين. قال ابن العربي: "الشورى
فُعْلى من شار يشور شوراً، إذا عرض الأمر على
الخيرة، حتى يعلم المراد منه"([8]). وقال: "المشاورة هي
الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد منهم صاحبه، ويستخرج ما عنده"([9]).
وقال الخبير بمفردات القرآن، الراغب الأصفهاني: "التشاور والمشاورة والمشورة:
استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض. والشورى الأمر الذي يُتَشاور فيه"([10]).
ثانياً/
الشورى والمشاورة والتشاور في القرآن الكريم:
وردت
كلمة (الشورى) في معرض ذكر أوصاف المؤمنين، وتعدادها، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(لشورى/٣٨). فكأن القرآن يبرز أن المؤمنين لا يتم
إيمانهم إلا إذا استجابوا لربهم ـ فيما يتعلق بما بينهم وبينه سبحانه، ويقيموا
الصلاة ـ كمظهر عملي، ومصداق لهذه الاستجابة ـ، ثم يجعلون من أمرهم شورى، فيما
يتعلق بما بين أنفسهم، في أمور الإدارة والسياسة.
أما كلمة (المشاورة)،
فإنها وردت في سياق إلزام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمشاورة صحبه، ويقاس عليه
مشاورة كل رئيس لمن حوله من المستشارين. ففي الحديث عن ملابسات (غزوة أحد)، كان الرسول يرغب البقاء في المدينة لمواجهة الأعداء،
إلا أن صحبه أشاروا عليه بالخروج، ولم يستجيبوا لرغبته، حرصاً منهم لمواجهة العدو.
ثم حدث ما حدث من مخالفة بعض الرماة لأمر الرسول، لما تركوا مواقعهم العسكرية، وكان الرسول (صلى الله عليه
وسلم)، برحمة من الله تعالى، ليّناً مرِناً
معهم رغم ما حدث، يقول سبحانه: {فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ..}(آل عمران/١٥٩). وبهذا يؤكد الله لرسوله، وأمته، أن الضرر
الذي لحق بهم بعد المشاورة أهون من ترك المشاورة، لأن في
تركها ضررا أعظم، وهو التفرق.
أما كلمة (التشاور) ـ التي هي تفاعل من الشورى
ـ، فلقد وردت في سياق الحديث عن الأسـرة، والعلاقة الزوجية، والرضاعة، فأشار
القرآن إلى أن الفصال - إذا كان عن تراض بين الزوجين وتشاور - فلا جناح فيه ولا
حرج. قال تعالى:
{... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..}(البقرة/٢٣٣).
هذه
هي الموارد الثلاث في القرآن، التي وردت فيها كلمات (الشورى)
و(المشاورة) و(التشاور)، ولم ترد الكلمة ولا مشتقاتها في أي مورد قرآني آخر.
ثالثاً/ الفرق بين
الشورى والمشاورة والتشاور:
غير خاف على من له
أدنى إلمام باللغة ومشتقات الألفاظ العربية، أن لفظة (الشورى) ـ كما أسلفنا - مصدر
ثلاثي على وزن فُعْلى، مثل: فُتْيا، وبُشرى. وأن (المشاورة) مفاعلة منها، ولا يصحّ
أن تعطيا معنى واحداً. فكلٌّ من كلمات الشورى والمشاورة والاستشارة والتشاور تختلف
معانيها لاختلاف أبنيتها اللفظية. فالتشاور تفاعل يدلّ على اشتراك أكثر من واحد في
آن واحد. بينما (المشاورة) مفاعلة فيها دلالة على تقدم أحد القائمين بالفعل على
الآخر. ولكن (الاستشارة) استفعال من الشورى، تطلق على عمل يقوم به من يبحث عن استخراج
الآراء.
والغريب في هذا، أنني
تابعت ما كتبه كبار المفسـرين في تفسير الآيات التي وردت فيها كلمات (الشورى) و(شاور)
و(تشاور)، فلم أجد أحداً؛ ممن قرأت تعقيباتهم، يشير إلى تلك الفروق اللغوية: فشيخ
المفسرين (الطبري)، لم يذكر أي فرق بين الشورى الواردة في (سورة الشورى)،
والمشاورة الواردة في (سورة آل عمران)، والتشاور الوارد في (سورة البقرة)، بل فسـّر
آية (سورة الشورى): وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (الشورى/٣٨)،
بقوله: "إذا حزبهم أمر تشاوروا
بينهم"([11]). وكذلك فعل القرطبي،[12] والشوكاني،[13] والزمخشـري،[14] وابن الجوزي،[15]
وابن العربي،[16] حتى
إن الخبير بالمفردات القرآنية العلامة الراغب الأصفهاني لا يُستَثنى من ذلك، كما
نقلت عنه آنفاً في نهاية الفقرة الأولى من هذا المبحث.
ولكن العلامة سبحاني
كان أكثر دقّة وتحقيقاً في تناول الموضوع، واستكشاف خفايا تلك الألفاظ من المعاني
التي تحملها كل كلمة، فقال بالحرف: "بين المشاورة وبين الشورى ـ وهي بمعنى
التشاور ـ فرق، فإن التفاعل للدلالة على اشتراك اثنين أو أكثر في أمر على سواء، من
غير تقدّم بعض على بعض، ولذلك كانت معمولاته فواعل في اللفظ ـ كذلك ـ ولم ينصب
مفعولاً، كقولك: تشاور أبوبكر وعمر وزيد. وأما المفاعلة فللدلالة على كون أحد
القائمين بالفعل متقدّماً بادئاً، وأن قيام الآخر بذلك إنما هو بعد التمهيد من
المتقدم البادئ. وإذ تبيّن هذا، فنقول: إن (التشاور) إنما يكون عندما يكون المؤمنون
متصفين بالشـروط المبينة في آيات (سورة الشورى)([17])،
كلّ بما في وسعه، الأمر الذي يجعلهم في المشورة على سواء، كل بحسب استعداده. وأما
(المشاورة)، فإنما تكون عندما يهبط بعض أولي الأمر مِثْلَ هبطة أصحاب أحد،
فينحطّون عن مكانة العضوية في جمع أولي الأمر، ثم يقومون ليرتفعوا إلى ما هبطوا
منه، فيقوم أهل الثبات والاستقامة بإعادتهم إلى جمعهم"([18]).
ولعل القارئ يلاحظ كيف
أتقن سبحاني في استنباط فهم جديد ـ لم ينتبه إليه من سبقوه من المفسـرين، على ما
أعلم ـ، وفرق بيّن بين لفظتي الشورى والمشاورة، فهما ـ بهذين المعينين ـ تخصّان حالتين مختلفتين، يقتضي الإقدام
على كل منهما ظرفين مغايرين، والله أعلم.
رابعاً/ أهمية
الشورى والمشاورة، والحكمة فيهما:
1ـ
تحدث المفسرون، وشراح الحديث، والفقهاء، عن أهمية الشورى، وكونها قاعدة مهمة من
قواعد نظام الحكم الإسلامي، وقيمة من قيمه العليا. ولقد شاور رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) صحبه بأمر من الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل
عمران/١٥٩)، في أحلك الظروف، أي: "شاورهم في الأمر العام؛ الذي هو سياسة
الأمة في الحرب والسلم، والخوف والأمن، وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية. أي: دُمْ
على المشاورة، وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (في غزوة أحد)، وإن
أخطأوا الرأي فيها، فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر"([19]). قال الطبري: "وشاورهم في
الأمر، فإن القوم إذا شاور بعضهم بعضاً، وأرادوا بذلك وجه الله، عزم لهم على
أرشده"([20]).
والمراد
بالشورى: "تشاورهم في كل أمر يعرض لهم، فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي"([21]).
ولهذا، فقد تشاور الصحابة في أمور كثيرة، وأول ما تشاوروا فيه أمر الخلافة، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم ينصّ عليها. ثم تشاوروا في أمر الرّدة، وتشاوروا
في أمور أخرى؛ كميراث الجدّة، وحدّ
الخمر، وكتابة المصحف، وتوسعة المسجد، وجعل
الخاتم، وغير ذلك مما استجّد من الأمور ولم يجدوا فيها نصاً. ولهذا عدّ بعض العلماء الشورى "من قواعد الشـريعة وعزائم
الأحكام"، وأفتوا بأنه: "من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله
واجب، وهذا مما لا خلاف فيه"([22]).
رغم أن هناك جدلاً بين الفقهاء حول حكم
الشورى، وهل هي معلمة غير ملزمة، أو ملزمة ومعلمة معاً.
وفي هذا يقول الشهيد سبحاني، مؤكدا وحاسماً:
"إن النظام الحاكم بما أنزل الله الوحيدَ، النظامُ القائم على أساس شورى أولى
الأمر. ونحن عالمون أن هناك كثيراً من الناس يحسبون أن نظام الحاكم بما أنزل الله
نظامٌ يكون الأمر فيه إلى الخليفة، إن شاء شاور أهل الحل والعقد، وإن شاء لم
يشاور. وله إن شاور أن يترك ما أجمع عليه أولئك، إلى ما يراه هو نفسه. وليس هذا
أول قارورة كُسـِرت في الإسلام، فكم من حق من ربك ـ جاءت به آيات بينات ـ أخفاه عن
البصائر جعل الكتاب المبين فداءً لروايات معزوّة ـ بغير حق ـ إلى الرسول (صلى الله
عليه وسلم) والذين معه، المهتدين الهادين بالكتاب المبين ـ عليه وعليهم الصلوات
والبركات ـ أو لعبارات مخطئة أُثِرت عن فلان من المؤرخين أو فلان. ولعمر الحق! لو
لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله سبحانه:
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(الشورى/٣٨)، لكان يجب أن يؤوّل أو يرّد كل ما
يكون مضمونه
استبداد فرد أو جمع، أقلّ من جمع أولي الأمر، من أولئك، بأمر من أمور الدين"([23]).
ثم يؤكد في نهاية حديثه عن هذا الموضوع: أن
الخليفة، أو رئيس الدولة، ليس إلا واحداً من جمع أولي الأمر، فأنّى له الاستبداد
بالرأي، أو ترك الشورى؟ وردّ ردّاً قاطعاً على من يزعم أن أبا بكر الصديق قد
استبدّ برأيه في أمر قتال مانعي الزكاة، وفي بعث جيش أسامة.
2ـ
أما حول طبيعة الأحكام التي يتم التوصل إليها عن طريق التشاور، فيؤكد على أنها
ثلاثة أقسام من حيث تلقيّها: "قسم يتلقاه كل المخاطبين بأحكام الله، العارفين
لسانَ القرآن. وقسم يقوم بتبيينه للناس رسول الله. وقسم يعيّنه في كل ظرف أهل
الاستنباط فيه، كما بيّنه أول مرة رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)
وأهل الاستنباط من أصحابه (رضوان الله عليهم)".
ثم ذكر طريقة تلقّي ما يأتي من قِبَل الله
ورسوله، فقال: أما بالنسبة للقسم الثالث، فـ:"إن الطريق إلى تلقّيه: التشاور
من أهل الإمامة الجمعية([24])، المختوم بالاتفاق والإجماع،
فإن ذلك هو المسلك الذي يسـّر الله العبادَ
لسلوكه، والذي ليس في اختياره مخالفة الحكمة، ولا تحميل الإنسان ما لا طاقة له به،
أو دفعه إلى ما لا يُحصـى كثرة من الأخطاء، وما يريده الله لعباده من
الاختلاف وتفريق الدين ومفارقته"([25]).
3ـ
أما حول الحكمة من جعل الشورى صفة لأهل الإيمان، وذكرها مع التوكل على الله،
واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والغفران، والاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والإنفاق([26]). فلقد
أكد الشهيد سبحاني على أنه "وإن لم يكن أحد ممن أمرهم شورى بينهم معصوماً ـ يكون التشاور طريقاً
موصلاً إلى أعظم قدر مما يمكن البشـر من الإصابات، ووسيلة إلى تقليل الأخطاء إلى
حد الندور. ولأنه لا طريق إلى الكشف عن هذا القسم من الأحكام أحسن من التشاور،
ويكون من يلتزمون التشاور قد أدّوا ما عليهم، يكون تلك الأخطاء النادرة معفوّاً
عنها، مغفورة، معدودة - ما دام لم يظهر ما هو الصواب من أحكام الله -، فتكون كل
مستنبطات هذا القسم مقبولة، مثل ما كان الأولان"([27]).
4ـ ومن الأمور المهمّة التي
عالجها الشهيد ناصـر ـ في هذا السياق المتصل ـ موضوع الاستنباطات الفردية التي لجأ
إليها الفقهاء في ظروف استتثنائية، وعلاقتها بالتصنيف الذي حدده في تقسيم الأحكام،
فقال: "مما لابدّ من بيانه هنا أنه قد لا يتيسّر التشاور في الأمر ـ كما هو
حال المسلمين اليوم، وفيما مضـى من بعد عهد الخلافة الراشدة ـ فيضطر المؤمن إلى
الانفراد بالاستنباط اضطراراً: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(البقرة/١٧٣).
فمن اضطر إلى الاستنباط منفرداً، ولكنه لم يرض بما هو فيه، ولم يطمئن، بل جاهد
بماله ونفسه في إبطال الباطل، وإقامة دين الله سبحانه ـ كما كان يفعل الأئمة
الأخيار من السلف ـ لم يأثم باستنباطاته المنفردة الاضطرارية، بل كان له أجره بما
كان يجتهد"([28]).
خامساً/ كيفية
تشكيل مجلس الشورى، أو هيئة أولي الأمر:
1ـ شكل الشورى
وكيفية ممارستها:
كثر الحديث عن
صور مجلس الشورى، أو مجلس الحل والعقد، أو هيئة أولي الأمر، وكيفية تشكيلها
وممارستها لمبدأ الشورى. ويبدو من خلال كتب التاريخ والتراث أن استعمال مصطلح (أهل
الحل والعقد) وما شابهه، كـ(أهل الاختيار)، وغيره، فكرة دستورية استنبطها فقهاء
الأمة من ممارسات عهد الخلافة الراشدة وتطبيقاتهم للشورى. ولكن الفقهاء والمؤرخين
لم يجتمعوا على استعمال مصطلح موحّد، فلقد استعمل الماوردي، في (الأحكام السلطانية)،
مصطلحي: (أهل الاختيار)، و(أهل الحل والعقد). واستعمل عبد القاهر البغدادي، في
(الفرق بين الفرق)، مصطلح (أهل الاجتهاد والعدالة)([29]).
وكذلك لم يثبت في تاريخ الدولة الإسلامية شكل محّدد لتشكيل هيئة أولي الأمر، أو
مجلس الشورى، ولم يرد ذكر لإطار أو مؤسسة شبيهة بالمؤسسات المعاصـرة، تجمع أعضاء
من يمثلون تلك الهيئة أو ذلك المجلس. كما لم يرد ذكر لمكان محدّد يجمعهم، غير
المسجد، كما هو الحال فيما يسمى بمجالس الأمة، أو قاعة البرلمانات، أو مجالس
الشعب.
ثم إن تلك
الهيئة ـ أيّاً كانت تسميتها ـ لا تحددها جهة، ولا تعيّنها سلطة عليا، بل هي
منبثقة من الأمة، يبرز أعضاؤها بتوّفر شـروط محّددة، كما حدث لنخبة المهاجرين والأنصار
في صدر الإسلام، لمّا أصبح أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وعبد
الرحمن بن عوف ومعاذ ابن جبل وأبي عبيدة وأبي بن كعب (رضوان الله عليهم) ـ بطبيعة
مواقعهم الاجتماعية ـ أعضاءً في تلك الهيئة الشوروية،
التي مارست الشورى منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإلى عهد علي (رضي الله عنه)، بالنسبة لمن بقي
منهم.
إذاً، أصل المصطلح،
وجوهر مدلوله، يحمل في طيّاته مرونة نظرية الإسلام في التعامل مع قضايا الحكم
والسياسة والدولة، كي تلبي متطلبات كل عصـر وكل بيئة، وتسدّ احتياجات الحياة المتغيرة، دون تقييد بقالب معين، أو إطار محّدد،
أو كيفية ثابتة، قد لا تنسجم مع الواقع.
وبهذا لا تعيق
المصطلحات عملية تطوير المؤسسات وتكييفها مع متغيرات الزمان، حيث لم يرد في نص
قطعي الثبوت والدلالة أي ذكر لمصطلح (أهل الحل والعقد)، أو غير ذلك. فتلك
الاستعمالات من إفرازات الظروف الاجتماعية والسياسية والحضارية للقرنين الثاني
والثالث الهجريين، لا ينبغي أن تُنتحل كبديهيات فكرية، أو ثوابت دينية، يمنع
الحديث عنها، وعن تغييرها، تحت ذريعة مخالفة التراث، وزعم الحفاظ على الأصالة،
والحث على الاتباع. وأهل الشورى، أو أهل الحل والعقد، ليسوا فئة معينة، فالعلماء
لم يتفقوا على تعيينهم، فمنهم من قال: هم رؤساء الأجناد، أي: قادة الجيش والعسكر،
وقيل: هم زعماء القبائل، وقيل: هم العلماء والمجتهدون. والأرجح أنهم هم أهل القرار
والحكمة والحسم والصلاحية من كل أولئك. قال في ذلك محمد رشيد رضا: "أهل الحل
والعقد هم سـراة الأمة، وزعماؤها، ورؤساؤها، الذين تثق بهم في العلوم والأعمال
والمصالح التي بها قيام حياتها"([30]).
2ـ رأي العلامة سبحاني في كيفية الشورى:
وللشهيد سبحاني رأي محدد فيما يتعلق بكيفية تشكيل مجلس الشورى، أو هيئة
أولي الأمر، وصلاحياتهم. فأولو
الأمر عنده هم: "جميع العلماء بمختلف شؤون الحياة، الذين هم يحققون كون أمر الذين آمنوا شورى بينهم"([31])، و"من لم يرض بكون أمر
المؤمنين شورى بينهم، بل طغى واستبد بالأمر، لم يكن على هدى المؤمنين، فكيف يكون من
أولي الأمر من المؤمنين"([32]).
ثم يذكر مكانة
أولي الأمر، ومهامّهم، وكيفية تشكيلتهم، قائلاً: "لكون التكاليف والواجبات
كثيرة ومختلفة، والاستعدادات الموهبَة إنما قسمت بين العباد بحسب الواجبات، يكون
واجب استنباط الأحكام المذكورة موكولاً، في كل عصـر من جماعة المؤمنين، إلى طائفة
منهم، لا إلى جميعهم. ثم إن أمر استنباط أحكام الشؤون المتطورة متوقف ـ بعد علم
اللغة العربية، وعلم أسرار التشريع الرباني ـ على الخبرة بتلك الشؤون. وتلك الشؤون
من الكثرة والتفرع بحيث لا تتأتّى الخبرة لكل فرد ـ في الغالب ـ إلا ببعض أنواعها،
فتكون جماعة أولي الأمر، في كل عصـر، منقسمة إلى أصناف، كل منها أهل الخبرة ببعض
أنواع شؤونه"([33]).
وبهذا يعدّ الشهيد سبحاني من أوائل من أشار
إلى ما يسمّى باللجان التخصّصية في مجلس الشورى. ولقد عَزّز رأيه بدليل قرآني واضح
انتبه إليه، بينما أغفله الآخرون أثناء الحديث عن الشورى وأولي الأمر، وكيفية
وظائفهم. فقال:" قال تعالى في بعض أعضاء المجتمع الإسلامي من المنافقين: {وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}(النساء/٨٣). فبيّن بقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}،
أن المستنبطين لحكم الأمر المردود إلى جماعة أولي الأمر من المؤمنين، قد يكونون
فئة من تلك الجماعة. وإذا كان كذلك، فلا تتوقف عضوية المرء في جماعة أولي الأمر،
على أن يكون مقتدراً على استنباط كل حكم من الأحكام الاجتهادية، وإنما يجب أن تكون
جماعة أولي الأمر مقتدرة بجملتها على استنباط كل تلك الأحكام، بأن تكون متكونة من
أصناف، كل منها أهل استنباط أحكام بعض الأنواع. وهذا يقتضي أن يُرَدّ كل أمر إلى
أهل استنباط حكمه أولاً، ليستنبطوا حكمه، ثم يُعْرَضُ على جمع أولي الأمر ليجمعوا
عليه، ثم يبلغون المؤمنين"([34]).
سادساً/ شروط ومواصفات هيئة أولي الأمر:
1ـ تحدث الفقهاء عن شـروط من سمّوهم بأهل الحل
والعقد. والحد الأدنى الذي اتفقوا عليه من الشـروط، هي التي ذكرها
الماوردي، وهي: "العدالة الجامعة لشـروطها، والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة
فيها. والرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير
المصالح أقوم وأعرف"([35]). ولكن العلامة سبحاني يستنبط
من آيات سورتي (الشورى، وآل عمران)، اللتين ورد في سياقهما الحديث عن الشورى
والمشاورة، أهم الشـروط اللازم توافرها في جمع أولي الأمر، فيقول: "أول ما لا
تتحقق العضوية في جمع أولي الأمر من المؤمنين
إلا بتحققه، ولا يثبت وجوب رعاية كل واحد من أهل الاستعداد لحقوق الآخرين في هذا المجال إلا بثبوته، ولا يتأتّى
صيرورته ذا حق يجب عليهم رعايته إلا بالاتصاف به: وصف الإيمان، كما لا يخفى. وبعد ذلك الوصف، الشـروط التي قد ذكرتها
آية الشورى والآيات المكتنفة لها، التي من أعظمها: الاستجابة للرب، وإقامة
الصلاة، والإنفاق مما رزق الله"([36]). وينهي كلامه بأن من هبط من
المتبوّئين لمكانة هيئة أولي الأمر من تلك المكانة، بنقص شـرط من تلك الشـروط
والمواصفات، سُلب عنه ما كان له من حق العضوية، إلا إذا نهض وارتفع إلى تلك
المكانة، بالاعتراف بالذنب والتوبة الصادقة.
2ـ الفرق بين هيئة أولي الأمر (مجلس الشورى)، وهيئة
الخبراء، أو (مجلس النواب):
يتبين من تحقيقات الشهيد سبحاني، ودراساته، في
موضوع نظام الحكم الإسلامي، وكيفية تشكيل المجالس النيابية وهيئات الحكم، أنه يؤمن
بضـرورة وجود مجلسين، يسمى الأول منهما بـ(مجلس الشورى)، وهو مجلس أولي الأمر،
بالأوصاف التي ذكرها، ومجلس آخر يسميه (مجلس الخبراء)، أو مجلس النواب، وهو الذي
يشابه (البرلمانات) في وقتنا الحاضـر. ولأعضائه، وكيفية تشكيله، وشـروطه، مواصفات
خاصة. يقول في ذلك: "لأن أمر الاستنباط متوقف ـ بعد علم العربية، وعلم أسرار
التشـريع الرباني ـ على الخبرة بشؤون الحياة المتطورة ـ كما بينا ـ، لا بدّ من
وجود مجلس آخر يجمع خبراء بمختلف الشؤون المتطورة، يعينون أولي الأمر على الاطلاع
على الواقع من تلك الشؤون. ولا يشترط لدخول هذا المجلس إلا الخبرة بالشؤون
المتطورة... فلذلك يدخله غير المسلمين؛ من أهل الذمة، كالمسلمين"([37]). ثم يذكر الشهيد طبيعة وظائف المجلسين، فمجلس أولي الأمر واجبهم: الكشف عن
أحكام الله، بينما واجب الخبراء: اطْلاع أولي الأمر على الشؤون المتطورة من
حياة الأمة، باعتبارهم نواب الأمة. ولهذا لا يدخل أحد مجلس الأمة، إلا أن يُنتخب
من قبل الناس.
3ـ
ثم إن سبحاني يرى أن بلوغ مكانة هيئة أولي الأمر ليس بحاجة إلى انتخاب من المؤمنين،
أو وصية من إمام آخر، بل هو حصيلة اقتحام عقبة ابتلائية، واتصاف بخصال مؤهلة، وذلك
أمر كسبي قد دُعي إليه كل مؤمن.. ولذا لا يجوز تحديد العضوية في مجلس الشورى بعدد
معين، ولا حصـرها في زمان محدَّد، لأن ثبوت العضوية، وانتفاءها، تابعان لوجود
الشروط وعدمها.. بينما لا يدخل المجلس الثاني (مجلس الخبراء)، أو (مجلس النواب)،
إلا من ينتخب. ولهذا يسوغ في العضوية فيها التحديد بعددٍ فيه الكفاية، أو بزمان
معين لمدة العضوية، أو ما إلى ذلك([38]).
[1] الفراهيدي، العين، ص: 499.
[2] الفيروز آبادي، القاموس
المحيط، ص: 539. والرازي، مختار الصحاح، ص: 350.
[3] ابن الجوزي، زاد المسير،
ص: 234.
[4] ابن العربي، أحكام القرآن،
3/1668.
[5] المصدر نفسه، 1/297.
[6] القرطبي، الجامع الأحكام
القرآن، 4/249.
[7] ناصر سبحاني، نظرة حول
المفردات والمفاهيم القرآنية، ص: 133.
[8] ابن العربي، أحكام القرآن،
4/ 1778.
[9] المصدر نفسه، 1/ 297.
[10] الراغب الأصفهاني، مفردات
ألفاظ القرآن، ص: 470.
[11] الطبري، جامع البيان، 13/
37.
[12] ينظر: القرطبي، الجامع الأحكام
القرآن، 4/250.
[13] ينظر: الشوكاني، فتح القدير،
1331.
[14] ينظر: الزمخشري، الكشاف،
ص: 981.
[15] ينظر: ابن الجوزي، زاد المسير،
ص: 134.
[16] ينظر: ابن العربي، أحكام
القرآن، 4/ 1668.
[17] يقصد بها الصفات التي وردت في سورة
الشورى من الآية (36) إلى (39) وهي: الإيمان، والتوكل، واجتباب كبائر الإثم
والفواحش، والغفران عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والإنفاق،
والانتصار، والتشاور.
[18] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة،
ص: 154.
[19] محمد رشيد رضا، المنار،
4/199.
[20] الطبري، جامع البيان،
3/152.
[21] الشوكاني، فتح القدير،
1331.
[22] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،
4/250.
[23] ناصر سبحاني، أسس التصورات
والقيم، ص: 119-120.
[24] سبق أن بيّنا
وجهة نظر سبحاني، حول الإمامة الجمعية، في مقال سابق.
[25] ناصر سبحاني، الولاية
والإمامة، ص: 140-141.
[26] ينظر آيات سورة الشورى، 36-38.
[27] ناصر سبحاني، أسس التصورات
والقيم، ص: 112.
[28] ناصر سبحاني، الولاية
والإمامة، ص: 146، و كتابه: أسس التصورات، ص: 114.
[29] ينظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق
بين الفرق، ص: 271.
[30] محمد رشيد رضا، المنار،
1/24.
[31] ناصر سبحاني، أسس التصورات
والقيم، ص: 115.
[32] المصدر نفسه، ص: 118.
[33] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة،
ص: 147.
[34] المصدر نفسه، ص: 147-148.
[35] الماوردي، الأحكام السلطانية،
ص: 6.
[36] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة،
ص: 153.
[37] ناصر سبحاني، المصدر نفسه، ص:
160.
[38] ينظر للتفاصيل: المصدر السابق، الصفحات: 156-160.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق