د. عبد اللطيف ياسين علي
أشـرنا في مقالٍ سابق عن حياة الأُستاذ صلاح الدين أنّه دخل عالم السياسة عبر وعيه الثقافي الإسلامي، وتقييمه لأحوال العالم، كمهتمٍّ بماجريات الأمور، ومستحدثات الفكر، لذا كان من مسلّمات الأمر أن تكون علاقته مع الثقافة والمثقف على أتم وجهٍ، ولا يسعنا أن نهمل دور العائلة في بناء أيِّ شخصية، سواء أكانت ثقافيّة أم سياسيّة، ولكن البعد الثقافي يبقى هو الأكثر تأثيراً في بناء الشخصيّة، فكانت الأجواء العلمية والثقافية؛ هي السِّمة الغالبة على عائلة الأُستاذ. وكما كانت البيئة الأسـرية مؤثرة في بناء شخصيّته، كان الاكتسابُ المعرفيُّ - في ظلِّ التفاعلات الاجتماعيّة - له الأثر الفاعِلُ أيضاً
في تكوينِ هذه الشخصيّة وترسيخِها، دون أن ننسى تلك التحوُّلات الفكرية والسياسية الّتي تركتْ أثراً واضِحاً في هذا البناء. ولا شك أنّ هذه المؤثرات هي قواعد بدهيّة في المجتمعات البشريّة، فكلُّ إنسانٍ لا بُدّ وأنْ يتأثّر ببيئته الّتي يعيشُ فيها، ويبقى التعاطي مع هذه المؤثرات؛ هو القاسِم الفيصل في بناء الشخصيّة، فقد يولد مولود في البيئة نفسها، والأسـرة نفسها، ولكنه لا يتمتّع بتلك السِّمات والقَسَمات، وهذا - كما يسمِّيه علماءُ النّفس - بسببِ الفرُوقاتِ الفرديّة.. وبالنظر في نتاجات الأُستاذ الفكريّة والأدبيّة؛ يتبيّن لنا بكُلِّ وضُوحٍ أنّ الأُستاذ تفاعل مع كل تلك العوامل والمؤثرات بشكلٍ إيجابي، وكانت المردودات إيجابيّة أيضاً كمعادلة صحيحة وسليمة سارية على الإنسان والمجتمعات. ولا يخفى على كُلِّ ذِي بصيرةٍ؛ أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين الثقافة والشّخص والمجتمع، وهي علاقة تكامليّة تنموية، تُسهِم في إغناء الفرد والمجتمع، وتكوينِ البنية التحتية لأيِّ أمّةٍ أو دولة أو كيان.ولا ننسى أن تفاعلات
الأُستاذ قد تعدّت حدود مجتمع واحد، وذلك بسبب الواقع السياسيّ في العراق، وهجرته
إلى إيران، ومكوثه وقتاً طويلاً بصفة لاجئ، وهنا أيضاً عوّل على مُعطياتِ الواقع
الاجتماعيّ والكسب المعرفي، إضافةً إلى أثر الأسـرة الرّشيد، وتحوّل هذا الإلمام
إلى سيلٍ من الكتابة والتوثيق في مجالاتٍ شتّى. وقد تطرّقنا في طروحاتٍ سابقة إلى
نتاجاته الفكريّة والأدبيّة، مع تعريفٍ موجز لكُلِّ تلك النِّتاجات.
* *
*
وبعد دخوله إلى عالم
السِّياسة، وطغيان الجانب السياسيّ على بقية المسارات، لم يثنه ذلك عن انتمائه وحبّه
للثقافة، وتقديره للمثقَّفين، وعلى الرَّغمِ من حضُوره السياسيّ الفاعِل، وإدارتِه
للحزب؛ فإنه لم يغب عن الأجواء الثقافيّة والفكريّة، فكان مُؤسِّساً وعضواً عاملاً
في (جمعية الكُتّاب الإسلاميين في كوردستان)، وكان يراقب عن كثب سير الواقع
الثقافي في كوردستان، وكان - ولا يزال - على اتِّصالٍ دائم مع النُّخبة المثقفة من
جميع الأطياف والمشارب، ففي 4/2/2017 -
على سبيل المثال - اجتمع الأُستاذ صلاح الدين مع نخبة من المثقَّفين في مدينة
السليمانية، متنوعي الأطياف والمشارب، وكذلك في 7/2/2017 اجتمع مع نخبة مثقّفة من
محافظة أربيل العاصمة. وقد أثنى – في اللقائين - على دورِهم الفاعِل؛ بقولِه:
"أنتم شُـركاء
حقيقيُّون لنا نحنُ السياسيِّين، ولستُم شُركاء مجازيّين، أو شُركاء شكليّين، بل
شُركاء حقيقيّين، فأنتم أصحابُ أقلامٍ تتحملون المسؤوليّة أمام جميع ما يحدُث هنا..
أنتم أمام مسؤوليّةٍ كبيرة، وتاريخية، ذلك لأنّكم مبرأؤون من عِلَل السياسيِّين
وسلبياتِهم، فأنتم كمثقفين وصحفيِّين ترون الأمور من زاويةٍ أوسع مِمّا يراها
السَّاسة في السلطة.. نعم؛ قد تُتّهمون بأقذع النعوتات، ولكن عليكم مع ذلِك أنْ
تكونُوا في مقام المسؤولية التاريخية، والحرفية، والقومية. ونحن في الاتحاد
الإسلامي نقدِّر جهودَكم، لذا دعوناكم لنستمع إليكم، ونأخذ بمشورتكم، ورُؤيتكم لنا
وللسّاحة الكوردستانية.
فأنتم جزءٌ فاعِلٌ من العمليّة الإصلاحيّة في
كوردستان، وشُركاء حقيقيُّون في هذه العمليّة، فبنقدكم وعرضكم لجوانب الضّعف، لنا
ولغيرنا، تدفعُون العمليّة الإصلاحيّة والديمقراطية قُدماً نحو الأمام، وتُقدِّمون
لوطنكم خدمةً كبيرة وجليلة... ونحنُ نثمّن هذه الجهود الّتي تصبُّ في صالِح
العمليّة السياسيّة في كوردستان".
وبالرغم من أن ثقافة الكورد
الغالبة؛ هي ثقافةُ التّجريح في النّقد – وهذا من الحقائق المُرّة -،
ودليلنا على ذلِك ما نراه في المناقشات الأكاديمية - للرّسائِل والأطاريح - من
انتقادٍ لاذع متهافت، فما بالك بمناقشة بعضِ المثقفين المحسوبين على المعارضة،
فكان النقاش – في تلك الجلستين المشار
إليهما - حادّاً ولاذعاً في بعض الأمور، ومع هذا كان الأُستاذ متفهماً، ومستمعاً
جيداً، وبعد استماع دام ساعاتٍ، قام الأستاذ بالردِّ والتوضيح على ملاحظات
المشاركين واستفساراتِهم، وقسّم الإجاباتِ على محاور عدة:
أوّلاً: الإصلاح مسؤوليّة
الجميع، الجميع بدون استثناء، الكلُّ مسؤولٌ عن إصلاح المجتمع، حسب نفوذه وسلطته
وإمكاناتِه.
ثانياً: بيان الظلم، ونوع
الظلم، وأثره، واختيار السّبيل المناسب لمواجهتِه، ورفعه، دون الخدش بالمجتمع.
ينبغي أن يكون هناك معيارٌ واضِح لمفهوم الظلم، وأن ننأى بأمزجتنا وعواطفنا عن هذا
المعيار، فليس من الحكمة أو الحق أنْ أنصر فلاناً كونه قريباً من عواطفي أو مزاجي
أو أيديولوجيتي، وأن اعتبر المقابل شيطاناً، لأنني لا أحبذه.
ثالثاً: تقييم الأمور بخواتيمها،
وعدم التسرُّع بإطلاق الأحكام.
رابعاً: تفهّم التحوّلات
الإقليمية والدولية عند تقييمنا للأوضاع الداخليّة والخارجيّة، حتّى نبتعد عن
أُحادية الرؤية والتقييم والنّقد.
خامساً: السلم الاجتماعي،
ركيزة أساسيّة في بناء الإصلاح.
سادساً: معرفة حدود
المسؤولية الذاتية .
سابعاً: نزع النظارة
السّوداء، ورؤية الجمال أيضاً.
ثامناً: على المثقف أن
يراقِب وينتقد ويُعبِّر، لكن وَفْق معايير أخلاقيّة، مُراعياً الآداب والإنسانيّة،
وينأى عن التّجريح والاتهام والتّخوين.
* *
*
ولا شك أن هناك جدلاً
قديماً ومتجدداً حول مسألة علاقة المثقف بالسُّلطة، وهذا الجدلُ التاريخيّ قد أطّر
هذه العَلاقة المُتوتِّرة، وجعلها تسيرُ في اتِّجاهينِ: الاتِّجاه الأوّل: هو
معارضة السُّلطة في جميع مواقفها مُعارضةً حادّة. والاتِّجاه الثاني: هو التبعيّة
للسُّلطة، وتبرير جميع مواقفها... اتجاهٌ ينتمي إلى المعارضة في جميع الأحوال،
بحيث لا يستوعب أيَّ خطوةٍ تخطوها السُّلطة، هذا لأنّه مَرَد على النقد والمعارضة.
والاتِّجاه الآخر: أصابَهُ الخنوع والتميُّع والتبرير والرقص على جميع ألحان
السُّلطة..
وللأستاذ صلاح الدين رؤيته
الخاصة لهذه العلاقة، فهو لا ينظر إلى هذا الجدل بهذا المنظار، بل يراه عقيماً
وغير مُجْدٍ، وإنّما العَلاقة الصحيّة؛ هي العدلُ في القول، وقول الحق، ولو على النفس.
ويرى أنّ هذه العلاقة، بجميع الاعتبارات؛ يجب أن تقوم على التّكامُل، والسّير نحو
الأفضل والأحسن، وهذا يُؤدِّي بدوره إلى نشوء علاقة تكاملية إصلاحية تخدم الجميع،
بما فيها من تقديم الحوافز والتشجيع للسُّلطة، وتعزيز المكانة والمسؤولية للمثقف،
ودعم استقرار المجتمع ككل.
وهو يرى ضرورة إبعاد دائرة
التخوين عن آراء المثقفين والأكاديميين والباحثين، لأنّهم يمثلون شريحة مؤثرة في
المجتمع، وانتقاداتهم وآراؤهم واعتراضاتهم ضَرْبٌ من الإخلاص، وتقديم الخدمة
للسُّلطة والمجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق