عابدين رشيد
جمعتنا الأقدار ونحن جلوس عند شرفات البيت الحرام في مكة المكرمة نتجاذب احاديث أحلام الشباب والحياة والمستقبل، وعيوننا تتملّى مشهد الالآف المؤلفة من الشعوب والأقوام البشرية وهي تطوف حول الكعبة المعظمة بأشواق ودعاء ودموع، وتتطاير فوقها الوف وألوف أخرى من الحمام الآمنة الوديعة، تصفق بأجنحتها في طواف جوّي عجيب غريب كأنها صور مجسمة طيفية بيضاء لأرواحنا، ترفرف حول البيت المعمور هناك عند عرش الله في حب عظيم وسعادة مطلقة. إذ طلع علينا –على حين غرة منا-عبد صالح اتاه الله من الحكمة ما يشاء، نعرفه ويعرفنا، فوجدناها فرصة نادرة سانحة لنتلقى منه درسا من دروس الفقه الأكبر ونحن في اروقة الجامعة الإسلامية الكبرى للإنسانية جمعاء؛ أعني بها بيت الله الحرام.
أجل .. وكلنا شوق وتطلع ننتظر ليلقي علينا درسا تذكيريا تاريخيا مباركا في تتمة كنوز الفقه الإيماني الإحساني ومفتاح أبواب السعادة الأبدية الخالدة ألا وهو (الإخلاص)!.
فقلت له: غفر الله لنا ولك أيها الأخ الحبيب الكريم، ألا تحدثنا شيئا عن الإخلاص؟ عن حقيقته، عن ضرورته،عن خطره، في هذا المكان المبارك منزل الوحي الخاتم الأول؟!.
قال-وبعد صمت خاشع جليل:الإخلاص يا صاحبي في ابسط معانا واوضحه واوجزه، ان تعمل لله وحده، ولا تبغي سوى مرضاته، وان لا تريد إلا وجهه الكريم الباقي، وان لا تشرك به احدا.فقال احدنا يسأل: حسنا ولكن كيف السبيل الى تحقيق الإخلاص فيما نزاوله من اعمال وأفعال وأقوال وآثار كل يوم على مدار العمر إن لم نقل كل ساعة وساعة.قال: صدقت واحسنت، وقد آن الأوان لتبسيط الإخلاص وتيسيره، هو نبضات خافقات في قلوب صدور النيات والأعمال، فالحقائق المجردة كالأرواح تحتاج الى أجسام تعيش فيها حياة الدنيا بينما هي تتطلع وترنو وترمق الى شرفات جنات عدن الآخرى.
قلت جميل ، ثم ماذا؟
قال: وللإخلاص صور شتى وسأذكر لكم منها بعضها على بركة الله فإن سددت فمنه تعالى وإن اخطأت فمني.
قال قائل منا: هات منها وزد مما علمك ربك من علم وفقه فلا شيء كالإخلاص في الدنيا؛ فهو تأشيرة المرور لأعمالنا الطيبة حتى ندخل رضوان الله في داره الآخرة.
قال: إذن أنصتوا واستمعوا.
قلنا جميعا: ها نحن أولاء كلنا آذان صاغية.
قال: ان يكون عملك قبل كل شيء صحيحا يوافق الشرع الشريف في غاياته ووسائله وفي أهدافه وخطواته.
قلت: هذه واحدة.
قال: ثم من الخير والحكمة معا ان يكون ذلك العمل الصالح محجوبا وراء الأستار وخاصة في الأيام الأولى من رحلة حياتك العملية السالكة سلوك الرجال.
قلت متسائلا ومتشوقا: وبعد ذلك؟.
قال بحزم ودود: وان يكون عملك الخالص لله في الخفاء أحب اليك من العلانية زمانا حتى تتعود النفس الأمارة بالسوء على رؤية ما في يد الله وتستغني عمن سواه بخوف ورجاء.
وقال أحدنا وقد أشتاق الىالمزيد: زدنا زدنا يا اخانا؟.
قال: وان يكون مدح الناس وقدحهم لديك متساويان، أي لا يسرك كل السرور مدحهم إياك ولا يحزنك كل الحزن قدحهم كذلك.
قلت معلقا: هذا- والله- حسن ومهم فهات الأخرى.
قال موضحا ومؤكدا بما فيه الكفاية في هذه النقطة أو المحطة: ان يكون رضا الناس وسخطهم عندك-في اعماق اعماقك- سيّان، أي لا يقيمك رضاهم قياما ولا يقعدك سخطهم قعودا، فأنت-في كل الأحوال- كما انت: قويّ، دؤوب، راسخ، متواضع، متوازن، لا تقيم وزنا لكائن من كان إلا بميزان فقه دينك وحكمة دينك وسلطان دينك.
قلت مشفقا على نفسي وعلى نفوس إخوتي واحبتي:
نسأل الله ربنا وبارئنا ان يعيننا ويأخذ بأيدينا ويوصلنا الى شاطئ الأمان، فليس الأمر بسهل ولا بتلك البساطة!! بل الأمر يريد مزيدا من الجد ومزيدا من الوعي ومزيدا من الهمة بل ومزيدا من البطولة ومن ثم فلا سهل إلا ما سهله الله ولا يسير إلا ما يسره الله سبحانه وتعالى.
قال موقنا ومبشرا: لا تخف ولا تقلق فالله ولي الصالحين فنعم المولى ونعم النصير.
قلت: آمنت بالله. ولكن ثم ماذا؟.
قال: ان لا يطلع على اعمالك الصالحات –ما استطعت- إلا قلة قليلة ممن تثق بهم، الذين يخلصون لك الود والنصح والمشورة، وأعني في أعمالك الكثيرة وليس كلها دائما.
قلت: هذا ممكن ان شاء الله.
قال: والسادسة ان يكون عندك الإخفاء والإعلان سواء، فلا يهمك أعرف الناس ام لم يعرفوا، وإذا أعلنت فلا تخشى رياءا ولا تنتظر شهرة ولا تطلب ثناءا ولا تسأل مغنما.
قلت: ذلك لب الإخلاص وأوج النضوج.
قال: زد على ذلك ان يكون قلبك –دائما- وكلما انجزت عملا صالحا، طيبا، حسنا، معلقا بين الخوف والرجاء بأقصى درجة .
قلت: وذلك ميزان التقوى كما نعلم.
قال أحسنت، ثم ان تخفض رأسك أمام ربك وتدعو في سرّك كما انت في سجداتك، ترجوه رجاءا ملحا ان يتقبل منك بفضله ورحمته، وأن يدخره لك ليوم تشخص فيه الأبصار، وان يرزقك نعمة الإخلاص الخالص في كل شيء ذي شان وبال، فهو العمل المرفوع والموزون عند الله تبارك وتعالى يوم ينصب الميزان الحق.
قلت له: باركالله فيك، فقد أختصرت لنا الطريق، فلو ضربت في الأرض سنين شرقا وغربا، أبحث في طوايا الكتب والمجلدات، ما كنتلأنال هذه الحقائق بكل هذا اليسر والسرعة، ولكن قل لي بربك: هل بقيّ ثمة شيءآخر في هذا الباب؟.
قال: بلى..
قلت: وما هو؟.
قال: وأخيرا وليس آخرا، ان يكون همك الأكبر بعد ذلك كله هو الإحسان والإتقان فيما تعمله وتمارسه مهما صغر أو كبر… فالميزان دقيق دقيق، والجزاء عظيم عظيم.
قلت: وأنا ليس لي ما اقوله أو اطرحه عليك؛ ألا جزاك الله خيرا وضاعف اجرك، فلقد علمتنا درسا عظيما هو الدرس الأول والدرس الآخر في دورات الحياة ومراحلها الصاعدة بمعارج من نور، نحو قمم الكمالات المقدرة الميسرة…إذ بالعلم والعلم عند الرجال..أولئك الرجال الصالحين الذين انعم الله عليهم من فيوضات كرمه فأغناهم بمصابيح الهدى وقناديل الدجّى، بل هم الرّواد الأفذاذ للقوافل الماضية الحثيثة نحو الأمجاد الخالدة والمعالي السرمدية.
قال: وفقكم الله وثبت أقدامكم، ثم فارقنا وغاب بين الجموع الحاشدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق