رشا الصيدلي - هولندا
جمع الزجاجَ المتكسر مع شقيقه الأصغر من النفاياتِ التي تشكلت على شكلِ تل كبير في زقاقهم القديم، ثم قاما بطحنه بشكل دقيق، وعجنه مع الطحين، لتصبح عجينة ممتازه، ثم أخذا بكرة خيط كبيرة يمرران العجينة فيها ليصبح الخيط أكثر متانة. قال لشقيقه
-سيصبح خيطا ممتاز لطائرتنا بعد ان يجف.
-رائع يا حسان عندها سنباري عدة طائرات وسنحظى بطائرةِ سعيد الكبيرة ......
ارتسمت ابتسامة مكر على وجهيهما الطفولي .. إنهما دون العاشرة من العمرِ ..يقضيان معظم وقتهما بعد المدرسةِ على سطحِ منزلهم الأثري، يلعبون بالطائرةِ الورقيةِ التي صنعها لهم أبوهم من أكياسِ النايلون وعضدا مكنسة قديمة.
-ولن يتحدانا كما في المرة السابقة التي خسرنا طائرتنا فيها .. قالها حسان وهو يغمز بعينه لشقيقه الصغير .
-" نعم هذا صحيح.. رد حامد وهو يرفع يديه إلى الأعلى بانفعال طفولي متهور .
وفي اليوم التالي ،صعدا على السطح، وأخذا يحاولان رفع طائرتهما مع الرياحِ لعلها تحلق في السماء .. وبعد عدة محاولات نجحا .. وحلقت الطائرةُ في سماءِ مشمسةِ صافيه ..
-انظر هناك ..انها طائرة سعيد ..
-حسنا سأعطي الطائرة حريتها من الخيط حتى تصل إليها ثم نقوم بقرصنتها ..
..قالها حسان وهو يمسك بالخيط الملفوف على علبة معجون الطماطم الفارغة .
وما هي إلا لحظات حتى بدأت المبارزة .. تشابك خيطا الطائرتين معا، وكلا من المتبارزين يشد الخيط من جهته، حتى جاءت اللحظة التي انقطع فيها خيط طائرة سعيد معلنا خسارته، مما أدخل السرور في قلبي الصغيرين فأخذا يهتفان " لقد نجحنا " ..
..لكن سوء الطالع كان رفيقهما .. فبينما يهمان بسحب الطائرة بخيط طائرتهما، فجأة أخذت طائرة سعيد اتجاه أخر، منطلقة دون سيطرة تطوف في الهواء الطلق ثم ترسو على سطح بيت من بيوت الزقاق .. تسلق حسان على أحد جدران السطح وهو يحاول استكشاف أي سطح دار حطت عليه الطائرة ..
-صرخ.. يا إلهي .. لقد حطت على سطح بيت العجوز ..
إنها عجوز تعيش وحدها في منزل كبير، وهي مصدر خوف لكثير من الصبية .
- ما العمل ..هل سنترك الطائرة هناك؟.
تفحص حسان بعينيه السطوح التي تبعد عن سطح بيته وبيت العجوز ..إنها ثلاثة أسطح فقط يمكن التنقل بينها بسهولة فجدرانها قصيرة ومسلطة احدها على الأخر .
-ما رأيك أن أعبر السطوح حتى أصل إلى الطائرة .. قالها حسان وكأنه يستشير شقيقه الأصغر.
-لا .. والدانا لا يقبلان هذا .. قالها وهو يملأ فمه بالكثير من الهواء وكأنه يعطي التهويل في كلماته .
-لكنهما لن يعرفا إذا أغلقت فمك الكبير .. ردد وهو يقفز من سطح بيتهم إلى سطح الجيران، دون أن يأبه لما قاله أخوه الصغير، الذي أخذ ينهاه عن فعلته،لكن دون جدوى فقد ابتعد عن ناظريه وأصبح صدى صوته يتلاشى مع الريح الباردة .
مر الوقت، وحل المساء وحامد ما زال في مكانه يقف تارة ويجلس تارة أخرى بانتظار شقيقه حسان الذي لم يعد بعد .. وفجاءة سمع صوت والدته تنادي عليهما .. نزل السلالم الحجرية الكبيرة متوجها إلى باحة المنزل الذي توسطه شجرة البرتقال المزينة بأوراقها الخضراء وقلبه يدق سريعا .. ومع أول سؤال عن شقيقه الكبير أفصح لوالدته عن كل ما في جعبته فارتدت والدته على الفور عباءتها السوداء وتوجهت إلى منزل العجوز ..فراح يتبعها .
أخذت والدته تدق الباب مرارا وتكرارا وتنادي بأعلى صوتها لكن دون جدوى .. فالباب الضخم المصنوع من الخيزران موصد بشكل محكم ..
تجمع جمع غفير من الجيران خلفها متسائلين عما يحدث ..
ولما علموا بالأمر هم أحد الرجال بفتح الباب بالقوة، بعد عدة محاولات تمكن من فتحه .. أسرعت والدة حسان إلى داخل المنزل وهي تتوقع مفاجأة ما عن ولدها البكر، بعد تلك الساعات التي مرت على غيابه داخل منزل العجوز .. وقد رافقها الكثير من الجيران .
لحظات مرت حتى اعتلت صرخة تردد صداها بين جدران الحجر الكبيرة الموزعة حول باحة المنزل الكبير، فقد كان حسان جالسا على الأرض متكئا على الجدار، متكورا على نفسه والذعر يملأه، محدقا إلى شبح مظلم أمامه ينظر إليه بعينين جاحضتين ..
كانت العجوز قد ماتت قبل عدة أيام، ولكن دون أن يعرف أحدا بها غير إن الصدفة لعبت دورها، بإن تحط الطائرة في أسفل المنزل وليس على سطحها بعد أن قادتها الرياح .. لتكون خطوات حسان إلى هناك، بعد أن كان باب السطح العتيق مفتوحا ...
ظل حسان يرى الكوابيس في الليالي التي تلتها في حين صار حامدُ يلعب في طائرةِ سعيد وهو يمسك خيطها بقوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق