نستقبل هذه الايام ذكري عظيمة، ذكرى ارًخت لعهد جديد، وفتحت آفاق جديدة، ذكرى انطلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من دنيا الضيق الى دنيا الانطلاق، الى وضع اول لبنات الحكومة الاسلامية الراشدة على هذه الارض، هي ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة المنورة.
هذه الهجرة بمعانيها وأبعاده لن تتكرر ثانية لأنها كانت حالة خاصة ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".
إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فتح باب العمل للمسلمين الذين يأتون بعد ذلك، فقال في نفس الحديث: "وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". فالجهاد والبذل والحركة والعمل في سبيل الله لن يتوقف أبدًا في الدنيا، والفائز من اتبع نهج الرسول في خدمة الدين والذود عنه، والسير في طريق الدعوة والاصلاح.
اننا حين نستذكر هذه الاحداث التاريخية انما نستذكر العظات والمعاني الايمانية فيها، فهذا هو منهج الاسلام في التعامل مع حركة التاريخ ، يقول الله سبحانه وتعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} يوسف/111 وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} انعام/11.
وهذه بعض الاشارات السريعة لبعض هذه الدروس والعبر من هجرة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم:
1-قضية النية.. لماذا تهاجر؟
فإخلاص النية لله سبحانه وتعالى في كل الامور من أهم الانطلاقات فالأعمال بنياتها فكم من عمل كبير صغرته النية وكم عمل صغير عظمته النية، روى البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللَّهِ قال: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
2-عدم التهاون والتنازل عن اساسيات الاخلاق الاسلامية حتى في أحلك الظروف:
فقد كان الرسول هو الامين وهو الصادق حتى عند الخصوم واعداء الدين، وكانوا لا يودعون ودائعهم الاَ عنده مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله! وهذا دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً، وصدق الله العظيم : {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} الأنعام /33، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره، فهذا هو يأمر قريبه وحبيبه علياَ رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، رغم تعرض حياته للخطر وهذا دليل على ان التمسك بالأخلاقيات الاسلامية من الامور المهمة التي يجب عدم التازل عنه حتى في اصعب الظروف.
3-صناعة الامل والثقة بالله:
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها (صناعة الأمل) فالهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل، الأمل في موعود الله ونصره، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة؛ ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم هذا الدرس من الحبيب المصطفي عليه افضل الصلاة والتسليم.. فالرسول كان في قمة الثقة بالله وبنصره رغم صعوبة الموقف، فحين كان النبي في الغار والمشركون على مسافة خطوات منه يتربصون به وقد عزموا على قتله دون تراجع، ولا يمكن لأي إنسان "كاذب" أن يصمد في هذا الموقف طويلاً ولكن النبي الكريم قال لصاحبه كلمة رائعة: (لَا تَحْزَنْ)!! يقول تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة/ 40.
4-الصبر والثبات طريق النصر والتمكين:
إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى؛ لكن من صبر ظفر ومن ثبت انتصر/ ولقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى قريش وكان صل الله عليه وسلم يطمئنهم بأن النصر قادم، فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة هيأ الله تعالى لهم ارضا اخرى، وقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين؛ قال تعالى : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} غافر/51.
5-حسن التخطيط واتباع سنن الكون:
الاسلام يعلمنا أن نأخذ بالأسباب ولا نتكاسل أو نتقاعس عن العمل، فالهجرة هي عمل قام به النبي بكل ما اؤتي من تخطيط وحسن قيادة ليعطينا إشارة إلى أن الداعية إلى الله ينبغي عليه الأخذ بالأسباب؛ فلا يجلس في بيته ويقول إن الله ناصر المؤمنين، بل يحاول بكل وسيلة، ويتبع كل أسلوب متوافر حتى يصل الى اهدافه.
لقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة الشريفة رغم ثقته بنصره الله وعلمه أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل، بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان، فالقائد: محمد، والرفيق: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين أسماء ، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، والدليل: عبد الله بن أريقط، وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وأخرا.
6-دور المرأة المسلمة في الهجرة:
دور المرأة المؤمنة في تحمل أعباء الدعوة، دور كبير وعظيم ففي أولى لحظات البعثة كانت خديجة رضي الله عنها الملجأ الدافئ الذي يخفف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزل عليه الوحي في غار حراء وجاءها يرتجف ويقول زملوني زملوني .
ففي حادثة الهجرة لمعت اسماء كثيرة كان لهن ادوار مشرقة في انجاح هذه التحول الكبير منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبورة، وأسماء ذات النطاقين التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله مع انها حامل كما جاء في كتب السيرة..
هذه بعض الاشارات السريعة على بعض الدروس والعبر استخلصناه من هذا الحدث الكبير وهناك دروس اخري كثيرة يمكن الاستفادة منها في هجرة الرسول من مكة الى المدينة المنورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق