هفال عارف برواري
إن التيار الصوفي، بلا شك - رغم ما كان له من إيجابيات - لكنه كان يمثل منعطفاً "تاريخياً" لتراجع الأمة وانتكاستها أمام الدول الصاعدة، وكذلك يعتبر منحنى التنحي شيئاً فشيئاً عن ركب التقدم الحضاري بكل أشكاله، ومصدراً لشل كل الطاقات، التي كان لها أمل أن تنصب في بوتقة التقدم والرقي، وكان أيضاً "تعبيراً" عن تراجع (الدولة) عن ركب (الحضارة)، فكان لا بد له أن يقوم بمهمة إشغال الشعوب بعالم السماء، لكي تعوض عن خساراتها في عالم الواقع! وبعد السقوط النهائي لدولة الاسم فقط! والتي كانت محل أنظار الغرب المتربص بكل ثغرة من ثغرات هذه الأمة، لكي لا تقف على رجليها، ولكي يطمئن لعدم صحوة المارد والخطر الأخضر، حسب التعبير الغربي.. فلا عجب أن تتعزز مكانة هذا التيار، و أن يروج لفكره من قبل الحكومات، التي خلفت الأمة، بعد التشرذم والتمزق، بإيعاز غربي مدروس لعقلية شعوب المنطقة.. لكي تظل قابعة في سباتها الروحي، وتقوم ببتر أوصال كل من يزعجها، ويوقضها من حلمها الوردي في عالم السماء! وبنظرة سريعة إلى الأحدث التي تلت الربيع العربي، سيتبين كيف تم استغلال هذا الفكر، وتدريبه في حالات نهضة الأمة، فقد كان الورقة التي قصمت ظهر الثورة المصرية، بتأويلاته المنحرفة في التمثيلية الانقلابية، والتي أفتى بها رمز الأزهر المعد سلفاً لرئاسة الأزهر الشريف: الشيخ أحمد الطيب! وليكمل بعده المشهد الشيخ الصوفي (علي جمعة)، المعد أيضاً "كونه كان خريجاً" في التجارة، ثم أصبح مفتياً "أزهرياً" لكل المصريين!! وليفتي بفتوى تبيح للجيش أن يقوم بأكبر مجزرة في التاريخ الحديث، ولأكبر تجمع سلمي ديمقراطي، وأن يقوم بعد ذلك كطبيب نفسي! لكي يخدر ضمائر من قاموا بهذه المجزرة، على أنهم أجناد الله، وأن استتباب الأمن مقدم على كل شيء، ولو كانت الضحية شعب بأكمله! ومن قبله كانت المدرسة الصوفية في سوريا، تقف جنباً إلى جنب، وتتخندق في خندق النظام السوري، والذي يمثل أبشع صور الأنظمة بشاعة في القمع، ومنهجية بعثية، تعتبر ألد أعداء كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، والتي أرعبت الشعوب، وحولتهم إلى مجموعة من الخراف، أو النعاج، يساق بها أين ما شاءوا، واستماتت هذه الجماعات الصوفية، وما زالت تستميت في الدفاع عن قلاعها، رغم استخدام جيش النظام أكبر أساليب القمع ضد شعبه، والذي وصل إلى حد استخدام السلاح الكيمياوي، وتشريد الملايين من هذا الشعب في البلدان المجاورة، وتهديم مدن بأكملها على رؤوس ساكنيها، رغم كل ذلك بقي هذا التيار مصراً على التمسك بهذا النظام، مؤولين تأويلات هوائية، كعقيدة منحرفة في توجهاتهم، أو كمصلحة لحركاتهم التي تكون في مأمن تحت حكم هذه الأنظمة، أو كرد طبيعي لهم بعد أن كانوا يسرحون ويمرحون في ظل هذا النظام، ويتنعمون بالأموال التي كانت تصل إليهم بالمجان، وقد آن الأوان لرد الجميل، فليس كل عمل يقدم لهم بالمجان. وأذكر بالاسم مفتي سوريا الشيخ (أحمد بدر الدين حسون)، والشيخ (البوطي)، الذي كان دافع عن النظام السوري، ثم ضحوا به، وكان ضحيتهم مع الأسف..
وها هم الآن يقومون بزعزعة الوضع في تركيا، من قبل مجموعة (فتح الله كولن)، وجماعته (حركة خدمة)، القابع في أمريكا، والذي يتمتع بحرية لا نظير لها في كل البلدان، والغريب أن كل الأبواب مفتوحة له، وكأنه ملاك بنظر هذا الغرب، وبأعين أعتى التكتلات المسيحية والصهيونية، ولوبياتها المتشددة والمتطرفة في أمريكا وأوروبا، ويعمل كأخطبوط في كل البلدان! صحيح يقال أنه هرب من بطش الحكومة السابقة العسكرية، إذ ساند في البدء الانقلاب العسكري عام 1980، لكنهم لاحقوه بعد ذلك، بحجة معاداة العلمانية، لذلك هرب إلى أمريكا، ولم يرجع إلى تركيا، حتى بعد استتباب الأمان، وسيطرة حكم (العدالة والتنمية) على كل مفاصل الدولة!
والأمر في تركيا يحتاج إلى بعض الشرح، لكي نفهم ملابساته، فتركيا قديماً "وحديثاً" يجب أن لا تفلت من قبضة القوى المهيمنة، ولكن (أردوغان)، وحزبه الفتي والمنفتح (العدالة والتنمية)، خلال فترة حكمه، استطاع أن يقفز بهذه الدولة المنهكة إلى مصاف الدول الأكثر تقدماً في العالم، واستطاع أن يحل مشكلات، كان حلها في نظر الكثيرين من باب الخيال، وخاصة: 1- مسألة الفساد المستشري. 2- والاختراق العسكري في الدولة، وخاصة لوبياتها التي كانت تمثل الدولة العميقة داخل الدولة، ومنها ما كانت تسمى (منظمة الأرغينيكون)، والتي كانت أصولها ومعتقداتها قائمة على العلمانية الأتاتوركية للدولة، وعلى سيطرة العسكر على زمام أمور تركيا، وكانت لها علاقات وثيقة مع الغرب وإسرائيل.. في ظل هذه المنظمة، كانت تقوم بكل عمليات التصفية، أو تلفيق المحاكمات للذين يعارضون هذه الفكرة، أو حتى يقومون بصناعة حروب مصطنعة، لكي تبقى هي المهيمنة والمسيطرة!! استطاعت حكومة (أردوغان) أن تكشف هذه المنظمة، وأن تبدأ بتحويل أعضائها إلى المحاكمات عام 2007، في محاولة لتفتيت أواصرها، لكي يستطيع أن يقوم بإنجاح مشروعه. وبهذا استطاع أن يزيح عن طريقه أكبر حجر عثرة في تقدم مشروعه، حيث كان كل ثقل العلمانيين الأتراك المعادين لمشروعه، خلف هذه المنظمة.. حاول الغرب، بما فيه أمريكا وأوروربا، أن يخترق الصفوف، ويزعزع حركة (أردوغان)، وحزبه، من الخارج، لكنهم كانوا بارعين في السياسات الخارجية، فأحد قادتهم أمثال (أحمد داود أوغلو)، الحاصل على درجة البروفيسورية في العلاقات الدولية، وضع السياسة الصفرية للمشكلات الخارجية، مع كل الدول التي تتعامل معها تركيا، رغم المشكلات المتراكمة للدولة التركية في السابق، وخاصة مشكلة القضية الكوردية، والتي تعد من أعقد المشكلات الداخلية، وكذلك مشكلاتها مع (إيران) و(أرمينية) و(اليونان) والدول العربية، قبل وبعد الثورات العربية. وفي ظل هذه النجاحات الخارجية الباهرة، استطاع (العدالة والتنمية) أن يقوم بمعجزة داخلية، من خلال التقدم الاقتصادي الهائل، حيث استفاد منه كل فرد تركي. وهذه جملة من نجاحاته الباهرة، في كل الأصعدة: 1- ازدياد دخل الفرد التركي، والذي أصبح يمتلك الرفاهية في العيش إلى 4 أضعاف، حيث ارتفع دخله من 3400 دولار إلى 11000 دولار! 2- كذلك في قضية الصحة، فقد تم تطوير هذا القطاع بشكل مذهل، وكفل الشعب بنظام صحي شامل لكل الأتراك، والعلاج المجاني، وهذا ما لا يدركه إلا الشعب التركي، الذي كان يعاني منه كثيراً، بسبب الغلاء في أسعار العمليات والأدوية. 3- كذلك البعد التعليمي، فقد تم إنجاز 100 جامعة خلال 10 سنوات، والانتقال من التعليم الورقي إلى التعليم الرقمي، من خلال مشروع (فاتح) الكبير، وتأمين الكتب والكومبيوترات وبشكل مجاني. 4- تأمين السكن، الذي هو من أمنيات كل الشعوب، وذلك بإعطائهم السكن بقيمة إيجار بسيط ينتهي بتمليك السكن، وبناء مجمعات سكنية كبرى، ذات خدمات، مع خدمات البلديات التي أفزعت كل معارض. 5- رفع مكانة المقاول التركي، بحيث جعله في مصاف ثاني أكبر مقاول في العالم. 6- إعادة هيبة الدولة التركية، حيث جعل من دولته مكان تقدير واحترام كل الدول، لذلك فهناك 68 دولة يدخل إليها الفرد التركي بدون (الفيزة)، وتفتح له كل الأبواب، لأن له جنسية تركية ! 7- استطاع أن ينشئ من الطرق السريعة 17000 ألف كم، في حين كانت إنجازات الدولة التركية، وحتى قبل مجيء (أردوغان)، في مجال عدد الطرق فقط 6400 كم. 8- حتى من الناحية العسكرية، فقد أستطاعوا أن يقوموا هم بتطوير الصناعة العسكرية، فقد نجحوا بصنع أول دبابة وفرقاطة "هو اسم يطلق على نوع من السفن الحربية السريعة، التي تكون أصغر حجماً من المدمرات، وأكبر من زوارق الدورية الساحلية، وبالمقارنة مع المدمرات، فإن الفرقاطات ذات سرعة ومدى بحري أقل"، وكذلك أول قمر صناعي عسكري. 9- واهتموا بالجانب الزراعي، فقد قاموا بزراعة ما يقارب من 3 مليار شجرة في دولتهم!! خلال فترة حكمهم، حيث تعتبر الزراعة رمز الكفاءة الذاتية للبلاد، لكنهم حولوها إلى أكبر تجارة، بحيث يتم تصدير منتوجاتهم الزراعية، التي أصبحت إيراداتها تفوق الثروات المعدنية والطبيعية الموجودة في البلدان الأخرى. 10- حجم الدخل القومي، كان لا يتجاوز 230 مليار دولار عام 2002، لكنهم وصلوا به في عام 2013 إلى 800 مليار دولار، مع عدم وجود البترول، والغاز، والمواد الطبيعية الأخرى، بل اعتماداً على المواد الصناعية والمنتجة، ليصل إلى هذا المقدار الكبير من الدخل القومي. 11- كان لحزب (العدالة والتنمية) رؤية واضحة، من حيث بناء دولة اقتصادية هائلة، لذلك تجد أن النمو الاقتصادي بدأ حينما وصل الحزب إلى الحكم، لذلك تجد أن (تركيا) كانت عام 2002 ضمن الدول الــ 111 من حيث التسلسل العالمي، وفي عام 2013 وصلت إلى التسلسل16. 12- تم القيام بزيادة صادرات (تركيا) من 23 مليار دولار، قبل استلام (العدالة والتنمية) للحكم، إلى 153 مليار دولار حالياً. 13- أما بالنسبة للبنوك المالية، فبنك مثل (هالك بنك/ أو: خلق بنك) الزراعي، والذي حاولوا تشويهه إعلامياً، كان يخسر كل يوم، وأصبح في ظل حكومة (أردوغان) من البنوك الدولية، وتحول إلى أكبر جاذب للاستثمارات، في البورصة التركية، وهو يقدم قروضاً تقدر بـ 5% ، بعدما كانت يقترض بنسبة 45% قبل عهد (العدالة والتنمية). ومن هنا نعرف لماذا يتم استهدافه إعلامياً؟! 14- والخاسر كانت القوى التي كانت تستفيد وتعتمد على صنع الأزمات في البلد، للاستفادة من الربا والفوائد البنكية، وذلك بخفض الليرة التركية، حيث خسروا بـ 320 مليار دولار، خلال مدة حكم (العدالة والتنمية)، بسبب تعامله المبدع مع هذه الأزمات. 15- واستطاع في فترة قصيرة جداً، أن يخرج الدولة التركية من وحل الديون المتراكمة عليها، ومن تدني اقتصادها، إلى أن تصل في عام 2013، ولأول مرة في التاريخ، إلى تصفير كل ديونها لصندوق النقد الدولي، البالغة 23.5 مليار دولار، وتتحول هي إلى إقراض ملايين الدولارت لهذا البنك! 16- وأخيراً، قيـامهم بالإعلان عن رؤيتهم المستقبلية، ومشروعهم المستقبلي، وذلك بتبني كل مؤسسات الدولة، والعمل المدني. هذه الرؤية، وهذا المشروع، هو: أن تكون تركيــا ضمن الــ 10 دول الأولى في العالم عام 2023، من حيث القوة الاقتصادية، وبالتالي تحقيق ناتج إجمالي قيمته 2 ترليون دولار، وفي ظل أزمة اقتصادية تهز العالم بأسره!! وعلى ذلك قامت الحكومة بطرح مشاريع عملاقة بقيمة 138 مليار دولار، وهي: 1- مشروع نووي عدد 2، فازت في تنفيذها شركة يابانية، وأخرى روسية. 2- مشروع مطــار أسطنبول الثالث العملاق، والذي سيستوعب أكثر من 150 مليون مسافر سنويا. 3- تفريغ 300 ألف عالم للبحث العلمي، ناهيك عن إعلانهم باستئناف العمل في (مشروع مرمرة) العملاق، والذي وصف بـ (مشروع العصر) الاستراتيجي، الذي سيربط القارتين الآسيوية والأوروربية، عبر نفق تحت مياه (مرمرة)، وفي (مضيق البوسفور)، والذي بدأ في تنفيذه عام 2004، وكذلك بناء الجسر المعلق الثالث في (أسطنبول). كل هذا التقدم، والإعلان عن هذا المشروع، الذي أرعب أوروبا وأمريكا، وهز كياناتهم وشركاتهم العملاقة، والتي لا تريد أن تكون لـ(تركيا) هذه المكانة، وهذه النجاحات، في ظل هذا التدهور العالمي للاقتصاد.. فمن الطبيعي إذن، أن يكون لهم أعداء خارجيين وداخليين، ولكن كما قلت: هم داخلياً استطاعوا أن يقوموا بتصفية الدولة العميقة في البلد، ولكن ما هو شأن الدولة الموازية، التي ما زالت متوغلة في مفاصل الدولة، والتي استطاعت بحركاتها واتفاقياتها كلوبيات متواجدة على الساحة التركية، أن تتوغل في مفاصل الدولة، لتصبح دولة موازية للدولة التركية المعروفة. لكن ما هي الدولة الموازية؟! هي (حركـــة الخدمــــة)، والتي يقودها، كما قلت في البداية (فتح الله كولن)، الذي كان من المولعين بكتب الشيخ (سعيد النورسي)، ولم يكن من طلبته المعروفين، الذين كانوا يسمون بـ(الحلقة الصلبة)، بل كان يعتبر من الجيل الثاني، لكنه كان متأثراً "جداً" بكتبه وأفكاره وحركته الواسعة والمعروفة بـ(جماعة النور)، حيث أنها أسهمت بنهضة إسلامية من حيث تكوين جيل يتميز برقي أخلاقي لا نظير له، وبفلسفة بعيدة عن السياسة، وغير متأثرة بمجريات الأحداث الآنية، ولذلك استطاعت بسط نفوذها في الساحة الشعبية التركية، بكل أطيافها، لكن (فتح الله كولن) لم يعتبر نفسه من هذه المدرسة، وقام بإنشاء (حركة الخدمة)، التي تستخدم نفس سياسة المدرسة النورسية في التحرك كحركة شعبية ذات صبغة إسلامية، وبعيدة عن السياسة، لكنه تتميز بعرقها القومي التركي، لإيمانه بالجنس التركي، وبفلسفة الإسلام القومي، حيث يعتبر الجنس التركي متفوقا على كل الأجناس! هذا وهو شخصية متميزة من الناحية الثقافية، فهو متبحر في العلوم الإسلامية، وفي فلسفة التصوف، وله أكثر من 70 كتابا، ترجمت للغات عديدة. أما من ناحية السياسة، فقد تبرأ منها، وقال (فتح الله كولن) يوما: "لو جاءني جبريل، وطلب مني إنشاء حزب سياسي، أو الانخراط في عمل سياسي، لما استمعت إلى توجيهاته"؟ إلا أن المتتبع لأحاديث (كولن)، سيجد له مقولة أو رأيا في كل تفاصيل المشهد السياسي التركي، وسيجد له تحالفات مع أحزاب يسارية، أو علمانية متطرفة في علمانيتها، كما سيجد له أقذع الاتهامات للمرحوم (نجم الدين أربكان)، وحركته "ملّي كروش" (رأي الأمة). إلى جانب ذلك، سيجد غزله الدائم بالمؤسسة العسكرية، واستعداده للتخلي عن كلّ ممتلكات الجماعة للجيش التركي! كما سيشاهد دموع الشيخ الجليل على أبناء إسرائيل الأبرياء، عندما تهوّر (صدام حسين)، وأطلق بعض الصواريخ على (تل أبيب)، في تسعينيات القرن المنصرم. بيد أن أبناء الحركات الإسلامية في (تركيا)، لم يشهدوا يوما مثل هذه الحساسية من الشيخ الجليل تجاه أطفال الشعب الكوردي، وقراهم التي هدمت عن بكرة أبيها، وحتى على أبناء العراق، بعد الحصار الاقتصادي عليهم، أوفلسطين، وأفغانستان، أو البوسنة والهرسك. وكان وقت انتشار الحركة، وانطلاقها للعالمية، في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، بعد الحرب الباردة، حيث وسعّت أنشطتها في الفضاء السوفيتي السابق، وأسست مؤتمرات ومنتديات عدة لحوارات الأديان والحضارات، وأطلقت منابر إعلامية عدة في تركيا، وكانت من أهم المستفيدين من "الانفتاح" الرأسمالي، الذي دشنه رئيس الوزراء (توركوت أوزال) (1983-1989)، في تلك الفترة، والحركة رأسمالية بحتة، ومعادية لليسار تماما، وإن كانت قد دعمت أي حكومات مالت لليسار، مثل (حزب اليسار الديمقراطي)، بزعامة (بولنت أجاويد)، الذي قال (فتح الله) فيه: (لو كان لي حق الشفاعة في الآخرة، لاستخدمتها لاجاويد)!.. طبعا كان من باب سياستها المعروفة في دعم السلطة، أيا كانت، لتمرير مصالحهم! ودعمت أيضا (حزب الوطن)، بزعامة (توركوت أوزال). ومواقف (فتح الله كولن) شديدة المحافظة فيما يخص الدولة، فقد دعم حتى انقلاب 1980! لكن من العجيب أنه لم يقم بدعم (نجم الدين أربكان) عبر تاريخه النضالي، رغم ميوله الإسلامية، لكونه كان يخالفهم في التوجهات والمنهج !!، وحين اضطربت الأمور أثناء حُكم (أربكان) نصحه بالاستقالة. وقد أشاد (أجاويد) به، في أواخر التسعينيات، وكانت آنذاك حركته (حركة كولن) آخذة في الاتساع في (آسيا الوسطى) و(البلقان) و(شرق أوربا)، أي في أي دولة يتواجد فيها جالية تركية، أو أصول تركية، ولذلك فهي تمتلك اليوم شبكة عالمية من المدارس، منها 140 في (الولايات المتحدة)، أكثر من 10 في (ألمانيا)، حيث يوجد مهاجرون أتراك كُثُر، 29 في (قازاقستان)، 13 في (تركمنستان)، 12 في (آذربيجان)، 12 في (قرغيزستان)، 6 في (أفغانستان)، 4 في (كوردستان العراق)، ومدارس عدة في عشرات الدول حول العالم، في أوربا، وأفريقيا، وآسيا. ولها منابر إعلامية، أهمها: 1- جريدة (الزمان) التركية، والتي يفوق عدد قرائها المليون، وهناك نسخة بالإنكليزية (توديز زمان). 2- لها قنوات (سامانيولو)، نسخة إخبارية منها، ونُسخ موجهة لأفريقيا، وأوربا، وأمريكا، هذا بالإضافة لقنوات "مِهتاب"، ودُنيا الكردية/الترُكية، و"يومورجاك" للأطفال، و"إبرو" لأتراك (الولايات المتحدة). 3- تمتلك الحركة أيضا محطات راديو بالعشرات. 4- بالإضافة إلى البنوك، والشركات الكبرى، والمؤسسات الخيرية، التي لا يتسع ذكرها هنا ..وبالمحصلة فهي تمتلك قوة اقتصادية لا يستهان بها. 5- أما تأثيرها على الساحة السياسية، فهي تمتلك - حسب تقديرات المراقبين - كتلة تصويتية تقدر بــ 5% من نسبة المصوتين، وهي قوة ليست بالقليلة، وعندما أسس (أردوغان) ورفاقه حزب (العدالة والتنمية)، وطرحوا برنامجا سياسيا، أرادوا من خلاله جمع الناس على هدف نهضويّ يتصالح مع الآخر، ومع الماضي، كان (فتح الله كولن) وتلامذته من المباركين لهذه الخطوة، خاصة أن استطلاعات الرأي حينها كانت تشير إلى أن الصدارة ستكون لـ(حزب العدالة والتنمية)، في ظل مسرحٍ سياسي معقّدٍ للغاية. وبدأ التحالف الحقيقي بين (أردوغان) و(فتح الله كولن)، وقدّم الأول كل مساعدة يسمح بها القانون لجماعته، ودافع عنها في داخل تركيا وخارجها. ولا ينكر أحد ما قدمه (أردوغان) لهذه الجماعة، حتى أنه توسّط عند عشرات الزعماء والرؤساء للحصول على رخص، أو أرض تقام عليها مدرسة، أو مشروع، هنا أو هناك، للجماعة. ويمكننا حتى القول إن الجماعة عاشت عصرها الذهبي في ظل حكومة (أردوغان)، الذي فتح لها أبواب الحكومة مشرعة ليدخلوا في جميع مؤسساتها، ولا سيما وزارة التربية والتعليم، ووزارة الداخلية، ومديريات الأمن والاستخبارات، ومناصب رفيعة في وزارتي الخارجية، والعدل.
الدولة الموازيــــة:
بعد أن استطاعت جماعة (فتح الله كولن) أن تنفذ إلى المؤسسات الحساسة في الحكومة، كالقضاء، والأمن، والاستخبارات، وقامت بفرض أجندتها على حكومة (أردوغان).. تستطيع أن تقول إنها أنشأت دولة موازية الى جانب الدولة التركية الرسمية، وفعلت كل ذلك كتكتيك استراتيجي لها، لكي تستحوذ على مفاصل الدولة، بكل صمت وهدوء، وقد تم فضح هذا الأمر عن طريق شريط قديم مسرب لـ(فتح الله كولن)، وهو يحث جماعته على التخفي، وعدم الظهور قبل أن يتمكنوا من السيطرة على جميع الأجهزة والمؤسسات الاستراتيجية، وكذلك يطلب منهم شراء القضاة، لكسب القضايا في المحاكم !! ولفت الكاتب التركي (عبد الرحمن ديليباك)، في مقاله في صحيفة (يني عقيد): إن أحد أقطاب الجماعة، والذي كان يستعد لخلافة (فتح الله كولن)، تتبع خيوط الاختراق الخارجي داخل الجماعة، ورأى أنها تصل إلى الـ(إس آي ايه) و(الموساد)، ولما اكتشف حجم اللعبة، تم إبعاده عن وظيفته، لذلك قام بجمع كل الأدلة والوثائق، ونقلها إلى (أردوغان)! وذكر تقرير إخباري لتلفزيون (بي بي سي) عام 2006، أنه تبرع لمدرسة تبشيرية بـ 2 مليار دولار! ومنه: أن (روسيا) كانت تتهم أن مدارسه، وشركاته، تعمل لصالح الاستخبارات الأمريكية! والغريب أن (أمريكا) تحسبه على الإسلام المعتدل، وتفتح له كل الأبواب لنشر فكرته، واستثمار أمواله عن طريق شركاته. ولقد تنبه (أردوغان) لحركاته، التي يراد بها الاستيلاء على مفاصل الدولة، بعد أن فشلت الدولة العميقة في ذلك. وبدأ هذا الأمر في الأزمة التي حصلت بعد استدعاء رئيس الاستخبارات التركية (هاكان فيدان)، من قبل المدعي العام، للإدلاء بشهادته، بصفته مشتبها به، في قضية اللقاءات مع القادة في (حزب العمال الكوردستاني)، وكان وراءها (فتح الله كولن)، وجماعته، وكان هذا بمثابة رسالة ضمنية إلى (أوردوغان)، لكون (هاكان) كان قد بدأ في محاربة مشروع التغلغل في مفاصل الدولة، وكذلك كون الجماعة لا توافق على مشروع المصالحة والسلام مع الكورد!.. لذلك، فالتحليلات السياسية تقول إنه بعد فشل الخيار الخارجي لتحييد (تركيا) في إنجازاتها المبهرة، وبدء القوى العالمية بالتضايق من منافسة (تركيا) لها في الساحات الاقتصادية، والتي هي أساس النفوذ العالمي، كان المنفذ لعرقلة هذا التقدم، وهذا النمو، بعد انهيار الدولة العميقة، المتمثلة في العسكر، هو استخدام الدولة الموازية، والضيف الشريف على (أمريكا) (فتح الله كولن)، لكي يقوم بواسطة جماعته الاخطبوطية، داخل المراكز الحساسة في الحكم، بحملة تلفيق تهم الفساد ضد أكبر رجال الأعمال البارزين، وأبناء وزراء، مع رؤساء البلديات، لشل المشروع العملاق، الذي تبنته الدولة، كما ذكرت آنفا، في استراتجيات حزب (العدالة والتنمية) لغاية عام 2023، وكذلك كون التوقيت كان متزامنا مع التصريحات التي تمت في السفارة الأمريكية، بين السفير الأمريكي وسفراء أوروبيين، قالوا فيها إنه (ستتابعون انهيار الإمبراطورية بعد اليوم)! وكذلك الاتهامات الموجهة إلى بنك (هالك)، بحجة أنه يتعامل مع (إيران)، هذا البنك الذي تحدثت عنه أيضا: كيف كان، وأين وصل الآن، وكل هذا حدث في التوقيت التي تم ترتيبه قبل الانتخابات بـ 3 أشهر فقط! لكي يسقطوا رمز النجاح في (تركيا)، وقد تبين بعد التحقيقات أن هذه التهم كانت معدة "سلفا"، وقبل 14 شهرا، كما أعلن عنه القضاة أنفسهم، أي أن العملية كانت معدة، وهي تعتبر غير قانونية، لكون عدم علم المتهمين، وعدم استدعائهم، يعد خرقا "قانونيا"، وكان المراد هو تشويه صورة الحكومة، ولا غرابة أن تقوم كل المنابر الإعلامية، التابعة لـ(فتح الله كولن) برش وابل من التشويه والقدح في هذه الحكومة، ورئيس وزرائها، وقيام (فتح الله كولن) نفسه بالدعاء عليه، لكونه يعلم أن (أردوغان) قد علم بمراده..كل هذا قام به التيار المحسوب على المتصوفة، والذي يريد أن يقوم باستخدام كل ماأوتي من قوة مالية واقتصادية، لكي يستخدمها لإسقاط أنجح رجل، وأنجح حكومة عرفتها تركيا، ويتحالف مع أكبر تيار عنجهي قومي، ومع (حزب الشعب الجمهوري)، والتحرك بإيعازات غربية، يعلمها كل من يراقب الأوضاع، وكيفية أداء توزيع الأدوار، للانقضاض على حكومة يشهد لها القاصي والداني برؤيتها العبقرية في إدارة الدولة، بكل نواحيها، وإنجاز كل ما هو صالح للشعوب. يتحالف هذا التيار مع القوى العالمية، لكي يطفئوا بصيص الأمل الذي شهده الشعب التركي، ولو كانوا مفسدين لما استطاعوا أن يتقدموا وأن ينجحوا في كل الأصعدة... وقد كشفت أنباء عن المدعي العام، الذي أثار ملفات الفساد، والذي ستر عليها طيلة 14 شهرا، أنه سافر خلال هذه الفترة 22 مرة إلى الخارج، وكانت إحدى سفراته هي إلى (الإمارات)، وإلى (دبي) تحديدا، مع 10 من أفراد عائلته! وكشفت فواتير سفره، أنه كان في أفخر فندق، وبمبلغ 70 ألف دولار خلال 6 أيام فقط! مع أن راتبه الشهري لا يتعدى الــ 2500 دولار، مما يثير شكوكا حول مصدر التمويل، مع العلم أنها لم تكن الرحلة الوحيدة ..ومن هنا تتضح خيوط اللعبة، لو استطعنا ربط الأحداث بعضها ببعض، ولقد تعهد (أردوغان) بتصفية الدولة الموازية، وصرح قائلا: (إنه يمثل مشروع كل فرد تركي، فإذا أرداوا أن يتخلوا عنه فليفعلوا، وإلا فليقولوا قولتهم، وليدافعوا عن مكتسباتهم، وعن حقوقهم)، وهو بهذا التصريح يوحي أنه لا يمثل توجها، أو جماعة، بل هو يمثل حقوق كل فرد تركي!! لكن ما أريد القول هنا إنه دائما، عند النظر إلى مجريات الأمور في الشرق الأوسط، قديما وحديثا، نرى أن مربط الفرس في انهيار دولها يكون عن طريق الداخل، وأقصد التيارين: السلفي البدوي، والصوفي المزاجي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق