المسيحية إحدى الديانات السماوية الكبيرة، التي لها تواجد لا بأس به في المنطقة الكوردية، التي ظهرت لها تسميات عديدة، تحمل طابعا إثنيا، أو إداريا، أو استيطانيا، في القرون التي سبقت ميلاد السيد المسيح( عليه السلام)، من: عليا تم، إلى سوبارتو، إلى أرمينيا، وميسوبوتاميا، فبلاد الأكراد، إلى الأثنوغرافيا، ألا وهي: كوردستان.
لقد وصلت المسيحية إلى ديار الكورد في نهاية القرن الأول الميلادي، وفق كتابات رجال الدين المسيحيين، وفي بداية القرن الثالث الميلادي، حسب مصادر المستشرقين، وعلماء السريانيات الغربيين. وليس المجال هنا لبحث هذة الإشكالية حول التفاوت الزمني، الذي يبلغ القرنين، بين تواجد
المسيحية في هذه البلاد، بين التاريخين المذكورين آنفا.
الديانات السائدة في كوردستان، قبل وصول المسيحية:
بعد وصول الديانة المسيحية إلى كوردستان ،كانت هناك ديانات عديدة سماوية، وغيرسماوية، منتشرة بين الكورد، من: يهودية وزرادشتية وميثرائية ومانوية ومزدكية وغيرها. وكانت غالبية أراضي كوردستان تقع تحت سيطرة الامبراطورية البرثية- الاشغانية (ملوك الطوائف، حسب المصادر الإسلامية)، بينما كانت الأجزاء الغربية من كوردستان واقعة في المنطقة المتنازع عليها بين الامبراطوريتين البرثية والرومانية (إقليمي كورد وئين واسراوين- دياربكر وأورفة).
وتظهر المصادر التاريخية أن المسيحية بدأت بالانتشار رويدا رويدا في شمال ما بين النهرين، وكوردستان، في نهاية القرن الثاني، وبداية الثالث الميلاديين، لذلك لم تتكون لها تنظيمات إدارية كنسية، في المنطقتين المشار إليهما آنفا. ومن جراء ذلك لم تظهر رتبة الجاثليق ( نائب البطريرك) في تلك الفترة، حيث يذكر المؤرخ الدانماركي (كريستنسن)، في معرض حديثه عن انتشار المسيحية في الامبراطورية البارثية، وما قام به (الرسول توما) من التبشير في القرن الأول الميلادي، بقوله: "الخرافة تجعل (سانت توماس) مبشرا في (بارثيا). وفي أعمال (توماس) المنتحلة، نجد أنه سار برسالته حتى بلاد الهند. ولكن هذه الأعمال ليست صحيحة من الناحية التاريخية"(1). وعندما يتطرق إلى الدور السياسي المزعوم، الذي لعبه المسيحيون في الامبراطورية البارثية، نراه يقول: "بأنه لم يكن للنصارى أي دور سياسي أيام الأشكانيين..."(2) . في الوقت الذي يشير المطران (أدي شير) بأن الرسول (مارى) أخذ يطوف في (بلاد حدياب) (= منطقة أربيل)، و(كركوك)، حتى وفاته في (المداين) (=سلمان باك الحالية- جنوب شرق بغداد ) سنة 82م، وكان قد أقام في المشرق ثلاثين سنة، فأسس هناك كرسي الفطريركية في المداين (=المدائن)، وصار هو أول كل الأساقفة، وناظر كرسي الفطريركية" (3).
الصراع الساساني البيزنطي، وانعكاسه على مسيحيي كوردستان :
في عام 226م تمكن الملك الساساني (أردشير بن بابك بن ساسان)، من قتل الملك البارثي (أرطبان الخامس) ودخل عاصمته (طيسفون= المدائن = سلمان باك) ظافرا، وأعلن نفسه فيها شاهنشاهـا (ملك الملوك)، بعدها بقليل أعلن أن الزرادشتية هي الديانة الرسمية للامبراطورية الساسانية(4)، وأمر بجمع تعاليم (زرادشت) في مجلد واحد، كما جمعت تفاسيره المعروفة باسم (الزند)، وجعل له تفسيرا عرف باسم (بازند)، ومنح رجال الدين صلاحيات واسعة، معززا من دورهم ومكانتهم الاجتماعية في الدولة الساسانية. حيث كان الملك (أردشير) يعتقد أن الملك والدين توأمان، لأن الدين أمثل الملك وعماده، ثم صار الملك يعد حارسا للدين، فلا بد للملك من أسه، ولا بد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهدوم(5).
ولقد عاش المسيحيون الكورد، وغير الكورد، في سلام ووئام وطمانينة، مادامت عقائدهم وأفكارهم التي يحملونها، لا تؤثر في الخط العام للامبراطورية الساسانية. ولكن الموقف تغير في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، حين أصدر الامبراطور (قسطنطين 306-337م) مرسوم ميلان الشهير في سنة 313م، معترفا بالمسيحية كأحدى الديانات الشرعية داخل الامبراطورية الرومانية. فكان على مسيحيي الامبراطورية الساسانية، ومنهم مسيحيو كوردستان، أن يتحملوا تبعات هذا العمل، لأن الامبراطورية الساسانية اعتبرتهم بمثابة عملاء (=الطابور الخامس) للدولة الرومانية. ومما زاد من تفاقم هذه المشكلة، أن (أرمينيا)، الدولة الحدودية بين الامبراطوريتين الساسانية والرومانية، قد دخلت في المسيحية من خلال إعلان ملكها (تيريدات الثالث) (TradartIII) تنصر أرمينيا رسميا في عام 314م. ومما يؤيد هذا الإجراء، تلك الرسالة التي وجهها الامبراطور الساساني (شابور الثاني) (309-379م) إلى أمراء الأرمن، بقوله: "عندما تعلمون بأمتنا هذا نحن الآلهة الاخرين، وهو في الدرج الذي بعثناه إليكم، فعليكم أن تقبضوا على (سيمون) رئيس النزاريين(= المسيحيين النساطرة)، ولا تطلقوه ما لم يوقع الوقيعة، ويقبل أن يجمع جزية وغرامة مضاعفتين، يؤديهما إلينا عن كل النزاريين، الذين يعيشون في بلاد قداستنا، والذين يسكنون أراضينا، لأنا نحن الآلهة الاخرين ليس لنا غير متاعب الحرب، وهم ليس لهم غير غير الراحة واللذات. إنهم يسكنون بلادنا، ويشاركون (قيصر) عدونا المشاعر" (8).
وقد كانت هذه الحوادث مقدمة لإشهار سيف الاضطهاد ضد مسيحيي الامبراطورية الساسانية، من الكورد وغيرهم، دام أربعين عاما، أو تسعة وثلاثين(=الاضطهاد الأربعيني)، ووضعت فظائعه وأهواله فيما لا يحصى من مدونات (سير وأعمال الشهداء )(8) باللغة السريانية. ومما يؤكد الاضطهاد على مسيحيي كوردستان خاصة، ما أورده (كريستينسن): "وقد وقع الاضطهاد، خاصة في ولايات الشمال الشرقي، وفي المناطق المتاخمة للامبراطورية الرومانية، حيث كان هناك مقاتل ومذابح، كما كان هناك تشريد. وفي سنة362 م نفي تسعة آلاف مسيحي، مع الأسقف (هيليودور)، من (قلعة فنك) (= القريبة من جزيرة بوتان)، في (بزابدة)، إلى (خوارزم) بعد ثورة" (9).
ومهما يكن من أمر، فقد استطاعت المسيحية الصمود أمام آلة التعذيب المجوسية الزرادشتية. ويعزو المستشرق (اسموسن) إنقاذ المسيحية إلى القول: "وما أنقذ المسيحية في الامبراطورية الإيرانية (الساسانية) من الفناء التام، إلا لأن خلفاء (شابور الثاني) عجزوا عن الاستمرار، أو أنهم لم يكونوا راغبين في مواصلة هذه السياسة الدنيئة"(10).
وهكذا انتشرت المسيحية في الامبراطورية الساسانية، ومنها موضوع بحثنا (كوردستان)، وازدهرت كنائسها، وأسقفياتها، حتى لقب الامبراطور الساساني (كسرى أوبرويز) (590-62 8م) بـ(الملك النصراني)، بسبب تشجيعه في الكثير من القيم الروحية والأخلاقية، ومنها على أقل تقدير أنهما ديانتان سماويتان، مصدرهما الله الواحد الأحد.
الإسلام والمسيحية في كوردستان وجها لوجه:
في سنة 16هـ/637 م، استطاع المسلمون الفاتحون دخول العاصمة الفارسية الساسانية (طيسفون)، وحدث بعدها أول اتصال بين العرب المسلمين، وبين الكورد. ونتيجة لذلك، فإن غالبية المدن والقرى والقلاع الكوردية فتحت صلحا، فيما جرت مقاومة في بعض المناطق الأخرى: كـ(شهرزور)، و(ماسبذان)، و(مهرجانقذق).
وعلى أية حال، فإن المسلمين قد التقوا بالمسيحيين من الكورد وغيرهم، كما التقوا بأتباع الديانات الأخرى.
وتذكر المدونات وحوليات الكنيسة الكثير من الحقائق المتعلقة بهذا الاتصال، الذي جرى على أرض كوردستان، بين أتباع الديانتين السماويتين .
يقول صاحب التاريخ السعردي: "إن الجاثليق (ايشو عياب) أرسل هدايا إلى النبـي (محمد) (صلى الله عليه وسلم)، وفي جملتها ألف ستارة فضية، مع (جبرائيل) أسقف (ميسان)، وكاتب الرسول، وسأله الإحسان إلى النصارى، وبره الرسول بعدد من الأبل، وثياب عدنية" (11).
ومن جانب آخر، فإن الجاثليق نفسه، الذي كان يرأس طائفة المسيحيين، أثناء حكم الخلفاء الراشدين، قال ما نصه: "إن العرب (=المسلمين) الذين أعطاهم الله حكم العالم اليوم، ليسوا أعداء النصرانية، فهم يحترمون ديننا، ويكرمون القديسين والكهنة، ويساعدون الأديرة والكنائس"(12).
ونقل المستشرق الفرنسي (دوفال)، في كتابه: (تاريخ الرها)، الآية القرآنية حول سماحة الإسلام تجاه النصارى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}(14).
ومن جانب آخر، فإن المسيحيين الكورد، وغير الكورد، عاشوا جنبا إلى جنب مع المسلمين الكورد، وغير الكورد، في جو يسوده التعاون والمودة والمصير المشترك. ولم ينغص حياتهم، طيلة قرون عديدة من عهود الخلافة الإسلامية، إلا بعض الهنات، التي هي من طبيعة البشر، وتتحكم فيها العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تمر بها غالبية المجتمعات الإنسانية.
واستمرت الأمور تسير على هذه الوتيرة، حتى حل المغول بديار الإسلام، وقاموا بأعمال منكرة وفظيعة، لا يقرها شرع ولا قانون ولا عرف، ضد المسلمين والمسيحيين، وغيرهم، على حد سواء. وإن كان العبء الأكبر قد وقع على المسلمين، بسبب علاقاتات المصاهرة بين أسرة (جنكيزخان) والمسيحيين النساطرة، فلا عجب أن كانت زوجة (هولاكو خان): (دوقوزخاتون)(15) مسيحية تتبع المذهب النسطوري، وكان عدد لا يستهان من القيادات المغولية من أتباع المسيحية النسطورية (16).
ولكن بمجيء السفاح الآخر (تيمور لنك)، في القرن الخامس عشر الميلادي، وقيامه بأعمال فظيعة، فاقت ما قام به أسلافه المغول، جعلت المسيحيين ينكفئون على أنفسهم، ويحاولون بشتى السبل إيجاد مأوى لهم، خوفا من خطر الانقراض والإبادة، لذلك تركوا السهول المحيطة بمدينة (الموصل)، وغادروا إلى الجبال الكوردية في منطقة (هكاري) (كوردستان تركيا)، حيث المأوى والملجأ الأمين بين ظهراني الكورد المسلمين، كما فعلوا في السابق، عندما هربوا من البيزنطيين بتهمة الهرطقة، والخروج على تعاليم الكنيسة.
العلاقات الإسلامية المسيحية في كوردستان في العصر الحديث:
في بداية القرن السادس عشر، حدث صراع عنيف بين الدولة العثمانية السنية من جهة، والدولة الصفوية الشيعية من جهة أخرى، على مناطق النفوذ في الأناضول وأذربيجان وكوردستان، بلغت ذروتها في نشوب (معركة جالديران) في 3 آب عام 1514 م، التي أسفرت عن خسارة الدولة الصفوية الحرب، وتقسيم كوردستان إلى قسمين: القسم العثماني، والقسم الصفوي. وابتداء من ذلك الوقت ابتدأ تاريخ جديد للمنطقة برمته.
فالعلاقات الإسلامية المسيحية ابتدأت، منذ ذلك الوقت، تأخذ منحى آخر، سواء في كوردستان، أو في باقي الولايات التابعة للدولة. فالعثمانيون كانوا في حالة صراع مستمر مع روسيا القيصرية، والدول الأوروبية، بحكم عوامل الصراع الديني، الذي كان يلف العلاقات الدولية آنذاك، وإن كانت بعض سماته تحمل طابعا سياسيا، أو اقتصاديا، أو غير ذلك.
وبشأن موضوع بحثنا، فإن المسيحية في كوردستان العثمانية الفارسية، تمثل آنذاك في شكل شرقي قديم (كنيسة المشرق)، التي تفرع منها: (النساطرة)، حسب مقررات (مجمع أسس) عام 431، و(السريان)، حسب مقررات (مجمع خلدونية) 415م. كما كان يعيش إلى جنب الكورد، وأحيانا بين أظهرهم، طائفة (الأرمن)، المحسوبين عقائدياً على كنيسة السريان المنوفستيين(=أصحاب الطبيعة الواحدة، قبل أن ينقسموا إلى قسمين، بفعل البعثات البابوية الكاثوليكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ولم تكن الكنائس الاتحادية قد ظهرت بعد، أو على أقل تقدير في منطقة كوردستان، فالموارنة اللبنانيون اتحدوا مع الكنيسة الكاثوليكية في وقت سابق على هذا التاريخ.
ومهما يكن من أمر، فإن الكنائس الاتحادية (من فعل- اتحد-to unite)(اتحادي( union)، وهي جماعات انفصلت وانشقت في أوقات وظروف مختلفة عن الكنائس المسيحية الشرقية، ودخلت في اتحاد كنسي(عقيدي) مع الكنيسة الرومانية – الكاثوليكية، وهي تخضع بشكل عام للسطلة العليا لبابا روما، وللزعامة الكنسية الكاثوليكية في (الفاتيكان)، معترفة بالعقائد الكاثولكية، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه باستقلاليتها الداخلية، من ناحية التنظيم الكنسي، والطقوس التقليدية(=اللليتورجات)، واللغات الوطنية، وممارسة شعائر العبادة والخدمة الدينية.
وقد تفرغ عنهم في كوردستان، من الكنيسة النسطورية- الكلدان المتحدون-، الذين شكلوا كنيسة الكلدان، حيث يتبعها مسيحيو الكاثوليك.
إن هذه التفرعات الكنسية، أدت إلى تزايد عدد الطوائف المسيحية في الدولة العثمانية بصورة عامة، وفي كوردستان بصورة خاصة، فأصبح عدد الكنائس المسيحية على الوجة الآتي:
1- الكنيسة النسطورية (=كنيسة المشرق- الآشورية).
2- الكنيسة الكلدانية.
3- كنيسة السريان الأرثوذوكس.
4- كنيسة السريان الكاثوليك.
5- كنيسة الأرمن الكريكوريين (= الأرمن القديم).
وتعد الكنيسة الكلدانية هي الأكبر من بين تلك الطوائف، على أقل تقدير في كوردستان، فهم يضمون الجزء الأكبر من مسيحيي كوردستان أي(80%).
العلاقات من التسامح إلى التصادم
يذكر الدكتور (جورج قرم)، في دراسته السوسيولوجية الفنية، المتسمة بالتحليل العميق، والتوثيق الكبير: "إن شبكة المدارس المسيحية، التي أقامتها الدول الأوروبية في أرجاء الامبراطورية العثمانية، ما لبثت أن تحولت إلى بؤر للنزاعات الطائفية الانعزالية ...وإن الثقافة التي لقمت لأبناء الأقليات، كانت ترمي إلى كسبهم لمعسكر الغرب، وقيمه، بطريقة غير مباشرة، وهذا ما أدى إلى حدوث تنافس وصراع بين الأقليات المسيحية والغالبية الإسلامية".
إن هذا ينطبق على الوضع في كوردستان، فإنها لم تشهد مثل هذه الظاهرة إلا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بعد وصول البعثات التنصيرية(=التبشيرية)، التي جاءت من أمريكا وأوروبا، بقصد إدخال القيم الغربية في المجتمعات الإسلامية، ومحاولة التأثير على رعايا كنائس المشرق الخلقدونية(=الأرثوذكسية): السريان الأرثوذكس، والروم الأرثوذكس، وغير الخلقدونية(=كنائس المشرق غير الأرثوذكسية)، فحدثت عمليات احتكاك وتنافس، وصلت إلى مرحلة الصراع والتصادم، التي آلت نتيجتها إلى المآسي والكوارث، التي لم تشهد كوردستان مثلها في غابر الأيام.
فجرت، في سنوات الأربعينات من القرن التاسع عشر، مصادمات بين إمارة (بوتان) الكوردية، بزعامة الأمير (بدرخان بك)، وبين القبائل النسطورية، بقيادة البطريرك (مار شمعون السابع عشر) في سنوات 1843- 1847م، أدت إلى حدوث ما لا تحمد عقباه، واتهم كل طرف الآخر بأنه المسؤول عن هذه الحوادث، رغم أن سير الأمور يشير إلى ما فيه الكفاية، بأن بعض الدبلوماسيين والرحالة والمبعوثين القادمين من أوروبا، ومن رجال الدين التابعين للكنيسة الإنكليكانية الإنكليزية، هم سبب هذه الحوادث، وهم الذين أوحوا إلى أتباع كنيسة المشرق النسطورية، بأنهم ليسوا إلا أتباع الآشوريين العظام، الذين حكموا العالم القديم لحقبة تقدر بألف عام، انطلاقا من عواصمها: آشور، ونينوى، وخرسباد، ونمرود. واستمر هذا الحلم يفعل مفعوله السحري في نفوس كهنوته، ونخبه، حتى قبيل الحرب العالمية الأولى، حيث كانت هناك مصادمات بين القبائل الكوردية(=البرواري بالا تحديداً) من جهة، وبين القبائل النسطورية، المستقلة، المنضوية تحت راية (المارشمعون) (=تياري السفلى، وتياري العليا)، والتي تقع ديارها في منطقة (هكاري)، وأجزاء من منطقة (بهدينان)، لأسباب عديدة: كالمراعي، أو الحيازات الزراعية، أو الثأر، وغير ذلك .
وكان يعتقد، على نطاق واسع، بأن الدولة العثمانية، بحكم أنها دولة إسلامية – بحكم العرف السائد آنذاك - تساند رعاياها المسلمين، على أساس أن الآخرين( الأرمن، والنساطرة، وغيرهم)، كانوا متقوين بالجانب الأوروبي المسيحي، سواء من الإنكليز أو الروس. وهكذا ظهر معسكران متضادان من رعايا الدولة العثمانية: بعض زعماء القبائل الكوردية، وبعض علماء الدين الإسلامي، من جهة، والقبائل النسطورية (التيارية – الآثورية - الآشورية)، مدعومين من جانب روسيا وبريطانيا (= المبعوثين والقناصل)، من جهة أخرى.
في الوقت الذي كانت آليات الصراع تجري ضمن سياق آخر، فكانت بعض القبائل الكوردية، ومثلها بعض القبائل المسيحية النسطورية، تقف مع بعض، ضد تكتل قبلي كوردي - مسيحي آخر، بسبب مشاكل الرعي والزراعة والمياه.
واستمر الأمر على هذه الشاكلة، إلا أن دخل الدين في الصراع، فصدرت فتاوى من الجانبين: الإسلامي، والمسيحي، تبيح دم الآخر، وحدثت تجاوزات وانتهاكات من الجانبين، لا مجال لإيرادها، لأنها خارج نطاق بحثنا.
العلاقات من التنافس والتصادم، إلى الحوار والتفاهم :
رغم الآلام والمحن التي أصابت المجتمع الكوردستاني: بمسلميه ومسيحييه، فإن صيحات العقلاء والحكماء سرعان ما سادت الساحة. فالجميع أبناء هذا الوطن، ولهم الحق في العيش سوية تحت ذرى هذه الجبال الشماء. ولنذكر مثالا على ذلك، من شيخ بارزان كان يرويه رجل الدين الغنكليكاني الأسكتلندي (دبليو ويكرام): "كان يوجد نزاع قبلي طويل الأمد بين قبيلة (التخوما- نسطورية )، وبين جيرانهم الكورد المسلمين، تفجرت براكينه مؤخراً(بداية القرن العشرين)، وبات ينذر بشر مستطير، وحاول الطرف المسلم محاولات غير صحيحة، لإقناع إخوانه الآخرين في الدين، بالانضمام إليه لشن حرب (=جهاد). ولقد أصبنا براحة عندما علمنا أن شيخ بارزان: (الشيخ عبدالسلام الثاني بن الشيخ محمد) تدخل لفض النزاع تدخلا جديا حازما، بعد أن رفض الموافقة على (الجهاد) رفضا قاطعا،ومنع أتباعه ومريديه من التدخل...".
كما يذكر (ويكرام) حادثة أخرى، حول نبل وسماحة وتسامح الشيخ (عبدالسلام الثاني البارزاني)، تجاه المسيحيين، فقد كانت قبيلة الهركية الرحالة، تقوم بسلب أغنام القرى المسيحية المسالمة، وهي في طريقها إلى مرابعها في الزوزان(= هكاري في كوردستان تركيا)، فما كان من الشيخ إلا أن أرسل رجاله لإعادة الغنائم المنهوبة إلى سكانها المسيحيين، وهذا مادعاهم إلى إعطائه لقب (شيخ النصارى)، وقد رد هؤلاء المسيحيين الجميل للشيخ (عبدالسلام)، فعندما كان يحاول الاختباء هربا من ملاحقة السلطات العثمانية له، بسبب مطالبته بالحقوق السياسية والثقافية لشعبه، التجأ الشيخ (عبدالسلام) إلى (منطقة هكاري)، حيث ديار مساكن القبائل النسطورية(=الآثورية – آلاشورية) المسيحية القوية الشكيمة، وحصل لديها على ملجأ آمن عند أحد ملوكها. وعندما دخل أحد الضباط العثمانيين إلى مجلسه، وسأله عن الشيخ (عبدالسلام) البارزاني، قال له: كما تراه، فأنا أراه، في أسلوب راق، بعيد عن الكذب.
ومن جانب آخر، فإن بعض الرحالة والقناصل، ذكروا في كتبهم ومذكراتهم، بأن الكورد قاموا بعمل مجازر عديدة ضد المسيحيين، وبهذا صبوا النار على الزيت، وللرد على هذه المزاعم، نذكرهم بأن (البابا بيوس الحادي عشر) (1922-1939م)، ما كان ليمنح ميدالية السلام لـ(محمد شمدين آغا)، رئيس بلدية زاخو، في سنة 1925م، تقديرا للخدمات التي قدمها للمهاجرين المسيحيين، الذين قدموا من تركيا في سنوات الحرب العالمية الأولى إلى منطقة زاخو، حيث وفر لهم الحماية وأنقذهم من الموت. وقد منح الوسام البابوي في 24/10/1925، كما جاء في كتاب متصرفية لواء الموصل، المرفوع إلى وزارة الداخلية العراقية. وتجدر الإشارة إلى أن (البابا بيوس الحادي عشر)، هو الذي منح الوسام، وهو من نوع بيوس، ويتيح الوسام لحامله أن يحمل لقب (فارس)، وأن يدرج اسمه في السجلات البابوية، ويعطى امتياز ارتداء ثوب الفرسان، ولبس شارتهم الخاصة. ومما ورد في مرسوم منح الوسام: "إن أخينا الجزيل الاحترام (دومنيك بيريه)، رئيس أساقفة بابل، على اللاتين، قاصدنا الرسولي في بلاد ما بين النهرين وكوردستان وأرمينيا الصغرى، أعلمنا بأنك أحد أعلام الأكراد، وامتدح شيمتك العالية، وتستحق أن نظهر لطفنا نحوك". ويتكون ثوب الفرسان من قماش حريري أزرق، معقود من الطرفين بخيوط حمراء، تحملها على كتفك الأيسر، وقد وقع على القرار الكاردينال (غسبياري)، وزير خارجية الفاتيكان.
وتذكر المدونات المسيحية كيف أن (سعيد آغا الدوسكي)، و(الشيخ عبيدالله شيخ نور محمد الدهوكي البريفكي)، و(محمد حاجي آغا الأرتوشي)، دافعوا عن المسيحيين، وحموهم من هجمات الغوغاء، الذين كانوا يبغون الشر بالمسيحيين المسالمين(= النساطرة والكلدان وغيرهم)، إبان حركات آب 1933م، التي حدثت بين الحكومة العراقية، وبين الفصائل الآثورية(= الآشورية)، الذين تركوا ديارهم في (منطقة هكاري)، إبان سنوات الحرب العالمية الأولى، واستقروا في مناطق محددة (=القرى الأميرية) في كوردستان، أسكنتهم فيها الحكومة العراقية، فكان أن طلب بطريركهم (المار شمعون= إيشاي شمعون) من الحكومة العراقية، بمنحه سلطات زمنية (=سياسية) لإدارة جماعته (=القبائل التيارية)، ولكن الحكومة العراقية رفضت طلبه، لأنه فقط زعيم ديني، وليست له علاقة بالسياسة، ومن جانب آخر، خوفاً من تشكيل جماعته لكيان سياسي ضمن كوردستان العراق، لاسيما وأنهم كانوا لديهم عدة أفواج من الليفي (= الشبانة = الدرك)، وكانوا مسلحين تسليحاً جيدا، على غرار الجيش العراقي. فحدثت مصادمات بين الجانبين العراقي والآثوري، في منطقة (فيشخابور)، بعد أن حاول أحد زعمائهم، {وهو (مالك ياقو بن مالك إسماعيل)، زعيم قبيلة تياري العليا، وزعيم عشيرة تخوما، اللذين كانا قد التجأ إلى الفرنسيين، مع (550) من رجالهما في (سوريا)}، الرجوع إلى الأراضي العراقية من جديد، فاصطدموا مع الجيش العراقي في منطقة (فيشخابور)، على نهر دجلة، ووصل القتال إلى قرية (ديره بون)، الواقعة في سفح (جبل بيخير)، المطل على المنطقة، وامتد إلى الجبل نفسه، حيث قصفته الطائرات العراقية.
ومن جانب آخر، ففي 3/11/ 1968م، قامت عصابة مسلحة بالسطو على منزل المواطن (منصور حنا ساوا)، الملقب بـ(منصور شله)، الواقع في (محلة النصارى) بـ(دهوك)، وطالبته -دون وجه حق- بدفع مبلغ 300 دينار عراقي، وكان مبلغاً كبيراً في تلك الحقبة، وعندما رفض الموما إليه دفع هذا المبلغ إلى أفراد العصابة، قاموا بقتله بدم بارد، وقد أثارت هذه العملية الجبانة استنكار المسلمين والمسيحيين في (دهوك)، على حد سواء.
وقد طلب (البابا بولص السادس)، بابا الفاتيكان آنذاك، من الرئيس العراقي الأسبق: (أحمد حسن البكر)، بحماية المسيحيين في شمال العراق(=كوردستان)، وتم الإيعاز إلى قيادة الفرقة الرابعة، المتمركزة في (الموصل)، بقيادة العميد (سعيد حمو)، لحماية مسيحيي دهوك، وللخروج بحل يرضي الجميع، بمن فيهم المسيحيون.
ولحل الإشكال فقد تبرع (ديوالي سعيد آغا)، زعيم قبيلة (الدوسكي)، بإرسال مفرزة من رجال قبيلته لحماية (محلة النصارى) في (دهوك) كل ليلة. عاش بعدها مسيحيو دهوك بأمان واطمئنان، لأنهم كانوا محميين من جانب رجال (ديوالي سعيد آغا) الدوسكي. واستمرت عملية الحماية إلى بيان آذار التاريخي في 11/3/1970م ، وكان لإجراء (ديوالي آغا) الدوسكي، وقع كبير على مسيحيي دهوك، لا زالوا يذكرونه بكثير من الشكر والعرفان والتقدير.
المصادر والمراجع والهوامش
1- إيران في عهد الساسانيين، ترجمة: يحيى الخشاب، القاهرة، دار النهضة العربية، ص 68.
2- المرجع نفسه، ص 68 .
3- تاريخ الكلدو آشور، بيروت، 1913،ج 2، ص2 .
4- طه باقر، تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، 1980، ص 115 .
5- إحسان عباس، عهد أردشير، دار صادر، بيروت، 1967، ص27.
6- مروان المدور، الأرمن عبر التاريخ، ص 277. محمد أمين زكي، خلاصة تاريح الكورد وكوردستان، ص 121.
7- جي .ب .اسموسن، فاتحة انتشار المسيحية في الشرق، نقلها إلى العربية، وأضاف إليها أبحاثا وملاحق وحواشي: جرجيس فتح الله، دار أدي شير، أربيل، 2005م، ص 30.
8- المرجع نفسه، ص 35-36.
9- آرثر كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص 254 - 255 .
10- اسموسن، فاتحة انتشار المسيحية في الشرق، ص36.
11- ماري سليمان، أخبار نطاركة كرسي المشرق، ص62.
12- ترتون أ.س، أهل الذمة في الإسلام، ترجمة: حسن حبشي، طبعة دار المعارف، مصر 1967، ص149.
13- الخوري يوسف داود السرياني، مختصر في تواريخ الكنيسة، طبع بدار الآباء الدومنيكان، الموصل 1877م، ص 227.
14- سورة المائدة، الآية 82 .
15- ابن العبري، تاريخ الزمان، نقله إلى العربية: إسحق أرملة، قدم له: الأب الدكتور جان موريس فييه، دار المشرق، بيروت، 1991م، ص289.
16- عباس إقبال، تاريخ المغول، ترجمة: عبدالوهاب علوب، المجمع الثقافي للإمارات، (د.ت)، ص 214.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق