لا يخفى على كل متتبع لتاريخ أوربا المعاصر، ما كان
للثورة الفرنسية، التي قامت عام 1789م، من تأثير في تغيير مجريات الأحداث والأفكار
والمفاهيم والقيم والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، على مستوى المجتمعات
الغربية بشكل مباشر، والمجتمعات الشرقية بشكل غير مباشر، حتى أنه سميت الفترة التي
تلت هذه الثورة، وشهدت التغيرات والتطورات، بـ(عصر النهضة) (= رينيسانس).
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هنا:
لماذا اكتسبت الثورة الفرنسية هذه الأهمية، على الرغم من قيام ثورات أخرى سبقت هذه
الثورة، وأدت إلى تغييرات جذرية في الدول التي قامت فيها، بل وتعدى تأثيرها إلى الدول
الغربية الأخرى، كالثورة الإنجليزية التي قامت عام 1215 ضد (الملك جون)، والتي تمخضت
عنها وثيقة (العهد الأعظم) (الماغناكارتا)، وهي تعتبر من أهم الوثائق الدستورية التي
صدرت في الغرب،
والثورة الأمريكية عام 1776، والتي نتجت عنها (وثيقة فرجينيا) للحقوق،
وهو أول دستور مكتوب يؤسس قائمة ببعض الحقوق الإنسانية الليبرالية، بوصفها حقوقا دستورية؟
والجواب يكمن في أن الثورة
الفرنسية أدت إلى تأسيس (إعلان حقوق الإنسان والمواطن)، الذي تجاوز في تأثيرة المواثيق
التي أشرنا إليها آنفا، لأنها لم تعتبر الحقوق التي تضمنها هذا الإعلان، حقوق الشعب
الفرنسي وحده، بل تعدته لتعتبرها حقوقا عامة لجميع البشر، على اختلاف جنسياتهم وأصولهم
وعقائدهم، كونهم يشتركون على قدم المساواة في الحقوق الفردية الأصلية (الطبيعية). وقد
أدرج هذا الإعلان، فيما بعد، في الدساتير الفرنسية كافة، والتي صدرت في الأعوام
(1793، 1848، 1946)، وآخرهم الدستور الفرنسي النافذ الذي صدر عام 1958م.
ولا يمكن إغفال دور المفكرين
في بلورة المفاهيم والأفكار، التي مهدت الطريق إلى قيام الثورة، والتي ترجمت إلى مواد
أساسية في الإعلان، أمثال (جان جاك روسو)، و(مونتيسكيو)، و(فولتير)، الذي عبر عن روح
الثورة الفرنسية، حين أكد مقولته الشهيرة: (قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن
أدفع حياتي دفاعا عن حقك في التعبير عن رأيك)، وهذا ما نجده في المادة الحادية عشر
من الإعلان: (حرية إيصال الأفكار والآراء هي واحدة من أغلى حقوق الإنسان، فكل مواطن
يستطيع الكلام، الكتابة، الطباعة بحرية، إلا في حالات إساءة استعمال هذه الحرية المحددة
في القانون). فالحرية تعتبر من المفاهيم الأساسية التي حاول هذا الإعلان بلورتها وتعميمها
في المجتمع، وهذا ما نتلمسه من خلال المادة الرابعة، التي نصت على أنه: (تقتصر الحرية
على قدرة المرء على القيام بكل ما لا يلحق ضررا بالآخرين، وهكذا فإنه لا حدود لممارسة
الحقوق الطبيعية لكل إنسان، إلا تلك التي تؤمن للأعضاء الآخرين للمجتمع التمتع بهذه
الحقوق نفسها).
إن ما يحدث اليوم في
(فرنسا) من استهزاء واستخفاف بالمقدسات الدينية، من قبل صحيفة (شارلي ايبدو)، يتنافى
تماما مع ما جاء في إعلان (حقوق الإنسان والمواطن) الفرنسي، ولا يدخل بأي شكل من الأشكال
ضمن نطاق حرية التعبير، لأن حرية التعبير، كما جاء في الإعلان، وأشرنا إليه آنفا، تقوم
على حق ممارسة كل عمل لا يضر بالآخرين، إضافة إلى أن المادة العاشرة من الإعلان تنص
على أنه: (يجب الامتناع عن إزعاج أي إنسان بسبب آرائه، حتى الدينية)، لذلك فإن هناك
مجموعة من التساؤلات التي تبحث عن أجوبة هنا، لماذا لا تحرك فرنسا ساكنا باتجاه منع
الانتهاكات التي تطال المقدسات الإسلامية، المتمثلة بالسخرية من شخص النبـي الأطهر
(محمد) (صلى الله عليه وسلم)، مع أن ذلك يتنافى مع الدستور والقوانين الفرنسية؟ هل
أصبح الدستور، والقوانين الفرنسية، كما هي دساتير دول العالم الثالث، مجرد حبر على
ورق؟ أم أنها ازدواجية المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين، حيث ينتهجونها مع هذه الدول،
كلما استدعت مصالحهم ذلك، وبذلك تتحول منظومة حقوق الإنسان والمواطنة، التي ينادون
بها، ويحاربون الإرهاب لأجلها، مجرد شعارات لابتزازنا، وإقناعنا، وإبهارنا، وبالتالي
إخضاعنا إلى سياسات، وإشراكنا في استراتيجيات لا تخدم في النهاية سوى مصالحهم. ولماذا
تزامن ظهور، أو زيادة وتيرة السخرية من المقدسات الإسلامية، مع زيادة نشاطات تنظيم
(داعش)، متمثلا باحتلالهم لمدينة (الموصل)، واستيلائهم على جزء كبير من الأراضي العراقية،
هل يعود ذلك إلى الخلفية الإسلامية التي يدعيها (داعش)، والتي ينال منها –شارلي ايبدو-
كرد فعل على جرائم (داعش) ضد الإنسانية في المنطقة، أو أنها الحرب المفتعلة التي تصطاد
عصفورين بحجر واحد، من خلال استفزاز المتطرفين من الطرفين في الغرب، ووضع حد لمحاولات
المعتدلين والعقلاء في العالم، الساعية إلى تقارب الأديان، وحوار الحضارات، هذا من
جانب، ومن جانب آخر تزيد الطين بلة، وتزيد على ما تقوم به (داعش) يوميا من تشويه لصورة
الإسلام؟.
للكلام بقية، وأترك الإجابة
للقارئ الكريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق