ريناس بنافي
باحث في مجال الفلسفة والفكر السياسي
تعكس
حياة (هوبز) بوضوح واقع عصره، إذ يبتدئ من خلالها تاريخ (إنجلترا) الحافل بالأحداث
الدينية والسياسية والعلمية، والتي كان لها تأثير على نفسية المفكر، والمفاهيم التي
تكونت لديه. فالظروف التاريخية التي عاشتها (إنجلترا) بين أواخر القرن 16 و منتصف القرن
17، هي التي كونت مفاهيم (هوبز)، وشكلت نفسيته.
إن الأساس الذي يرتكز عليه الحق الطبيعي عند (هوبز)
هو : أن كل إنسان لديه القدرة والجهد لحماية حياته وأعضائه. وما دام لكل إنسان الحق
في البقاء، فلا بد أن يمنح أيضا حق استخدام الوسائل، أعني أن يفعل أي شيء، بدونه لا
يمكن أن يبقى"، وهو بذلك يدافع عن الفردية الاستبدادية، ويدحض ولا يأخذ بنظرية
الحق الإلهي. فنظرية (هوبز) تعتبر أساسا حلقة وصل بين الفكر السياسي النهضوي، بين
مذاهب
الحق الإلهي والصياغة الأولية لفكرة التعاقد، حيث انطلق (هوبز) في مقولته حول العقد
السياسي من ملاحظته حول الظروف الطبيعية للإنسان، والتي خاصيتها الأساسية الشر والتطاحن.
فكل فرد في صراع مع الآخرين من أجل استعمال حقه، ومن هنا تأتي الحروب، وهنا تكمن المشكلة:
كل فرد يوجد في حالة حرب مع أفراد آخرين، حرب افتراضية. وهكذا يصبح كل فرد في حرب مع
الكل، وذلك لعدم وجود قوة قاهرة توقف الكل عند حدهم، وتلهمهم الشعور بالخوف، الشيء
الذي يؤدي إلى البحث عن حل، فرضته مشكلة أساسها التطاحن بين الأفراد.
عكست نظرية (توماس هوبز)
(1588-1679) الصراعات السياسية والاضطرابات الدينية التي قامت في أوروبا، خلال القرن
السابع عشر، وخصوصا حركات الإصلاح الديني، والحرب الأهلية في إنكلترا، وما خلفته من
صراع. وتعتبر نظرية (هوبز) أهم عمل أنتجه الفكر الإنكليزي في الفلسفة السياسية، التي
انطلقت من رؤيته للطبيعة الإنسانية التي تقوم على (الأنانية الفردية). وهي رؤية ميكانيكية
للكون والحياة والطبيعة. فالعالم عند (هوبز) يقوم على نظام ميكانيكي، وكذلك الطبيعة
الإنسانية، التي يتحكم فيها السلوك الميكانيكي، فهو يعتقد بأن الطبيعة الإنسانية تحكمها
الأنانية، لأن السلوك الإنساني هو نتيجة لعواطف وانفعالات وأحاسيس، وهي صور متنوعة
من الحركات الميكانيكية التي تصدر عن النفس الإنسانية. وأن جميع حركات البدن هي حركات
ميكانيكية تصدر عن الدماغ. كما أن سلوك الإنسان، من عواطف وانفعالات، ما هي إلا حركات
ميكانيكية توجه السلوك، وتكيف العلاقات الاجتماعية. ووضع (هوبز) أسسا لنظرية أخلاقية
تقوم على الأنانية الفردية، التي ترتبط بالفكرة التي سادت آنذاك، وهي أن الطبيعة الإنسانية
تقوم على تقبل اللذة ورفض الألم. ولذلك سعى الإنسان جاهدا، وبالضرورة، إلى الحصول على
اللذة، وتجنب الألم. ومثلما تنطبق هذه الفكرة على الإنسان، تنطبق أيضا على المجتمع
والنظم والعلاقات الاجتماعية، والتي تعود في أساسها إلى عوامل ذاتية تعود على الفرد
بالمنفعة والشهرة والغنى. أما أساس التعامل الاجتماعي، وقيام العلاقات الاجتماعية،
فهو الخوف المشترك للأفراد على ذواتهم، الذي يقوم على غريزة البقاء والمحافظة على الحياة.
قد تبدو واضحة هي الظروف التي أحاطت بالفيلسوف الإنجليزي
(توماس هوبز)، التي أثرت عليه في عمله السياسي الكبير (اللفياثان). هذا العمل الذي
أطلقه (هوبز) من تصوره التشاؤمي عن طبيعة الإنسان، وسلوكياته العدوانية الغرائزية تجاه
محيطه البشري، الأمر الذي أدى بـ(هوبز) إلى صرامة في تكريس سلطة مطلقة، يعتقد أن بها
تتحقق مصلحة الأفراد، وتتم حمايتهم من بعضهم. ورأى (هوبز) أن الحالة الطبيعية الأولى
للمجتمعات هي حرب الجميع على الجميع، حيث إن كل واحد مسكون بهاجس البقاء، والخشية على
وجوده من تربص الآخرين، فيلجأ للقوة والعنف من أجل أن يردعهم، وحينها تكون الفوضى.
ومن الطبيعي في حالة كهذه أن تنعدم منظومة القيم التي تُعرف الظلم والعدل والإنصاف
والاعتداء.. فلا صوت حينها يعلو على صوت غريزة البقاء، مما يعني حينها أن لكل واحد
أن يرفع صوته عاليا، مخبرا عن حقه في إرضاء غرائزه ورغباته، مهما كانت تقوم على حساب
الآخرين. من الواضح أن عقلانية الإنسان لا تتحمل حالة الاجتماع البشري الأولى، كما
تصورها (هوبز). إنها حياة غير منتجة، ولا ذات معنى، بل تحمل فناءها داخلها. إن تبادل
الصراع بهذا الشكل مع الآخرين لا يحقق الأمن للإنسان، ولا عيشه لنفسه، ولا للأجيال
التي ستعقبه. يقترح (هوبز) أنه بدل أن يتبادل الناس الخوف بهذا الشكل، عليهم أن يتبادلوا
التنازلات، ويبذلوها لحاكم وحيد ( فرد أو مؤسسة ) صاحب سيادة على هذه الجغرافيا، وعلى
المجموع البشري الذي يسكنها. صاحب السيادة هذا ينزع من كل واحد الاستجابة لغريزته الأولى
في التربص بالآخر، والريبة فيه، والنتيجة هي أن يحوز الناس على الحد الضروري الذي يأمنون
به على حياتهم. من الواضح هنا أنهم لا يفعلون ذلك ليتعاونوا مع بعضهم، بل من أجل اتقاء
شر بعضهم، وكأنه عقد ( صريح أو ضمني ) ( مكتوب أو محفوظ في الصدور ) يتمسك به الجميع،
خوفا مما يهدد الحياة، ويقوض مصالح الناس. الناس في نظر (هوبز) يجب أن يقوموا بهذه
التنازلات لصالح الحاكم، من أجل مصالحهم الخاصة، هذا الحاكم بدوره يستلم مقاليد الحكم
بسلطة مطلقة لا يقيدها شيء، وهو يحوز على ذلك ليكون وحده مسؤولا عن مصالح الناس وأمنهم،
فالتعدد هنا قد يعيدنا لحالة الفوضى الأولى. يشبِّه (هوبز) هذا الحاكم لأمر الناس بالوحش
الأسطوري: (اللفياثان)، الذي يملك قوة مطلقة (في إشارة لسلطته المطلقة)، وعدم خضوعه
لإرادة من خارجه. جسم هذا الوحش الضخم يمثله الجمهور الغفير الذين تعاقدوا، ورأسه هو
الحاكم المطلق الذي يتنازلون له.
صدر كتاب (الليفياتان)Leviathan لـ(توماس هوبز) في العام 1651. ويتركز بحث (هوبز)
في هذا الكتاب على إشكالية السلطة، وعلى سعيه لتقديم (ضرورات) معينة، تحتم على الأفراد
والمجتمعات الخضوع لها. ويمكن إيضاح ذلك من خلال عرض أفكار (هوبز) من متن (الليفياتان)
(1):
- يتركز اهتمام إنسان
ما قبل المجتمع على مصلحته الذاتية، في غياب سلطة تجبر الإنسان على التعاون.
- إن حياة الإنسان هي
حياة استفزازية، قذرة، قصيرة، وذات طابع وحشي. وإذا تُرك الناس لنزعاتهم فإنهم سيعيشون
في حالة دائمة من الحروب، فيقاتل أي إنسان غيره. ولهذا فإن وجود (السلطة) من شأنه أن
يحول دون الارتداد إلى الهمجية.
- إن فعل الإنسان يتوقف
على ظروفه الاجتماعية الآنية.. ومع ذلك فإن الواجب يقتضي طاعة أولي الأمر.
- قام (هوبز) بصياغة
19 (قانون طبيعي)، حاول من خلالها الانتقال بالإنسان من (الحالة الطبيعية) إلى (المجتمع
المدني).
- يدافع (هوبز) عن الفردية
الاستبدادية (الحق الطبيعي)، ولا يأخذ بنظرية الحق الإلهي (القانون الطبيعي). ويقول
(هوبز) بهذا الصدد: "إن الأساس الذي يرتكز عليه الحق الطبيعي هو التالي: ما دام
لكل إنسان الحق في البقاء، فلا بد أن يمنح أيضاً حق استخدام الوسائل، أعني أن يفعل
أي شيء، بدونه لا يمكن أن يبقى".
- يتمحور (العقد السياسي)
لـ(هوبز) من خلال فهمه للسمات الأساسية للطبيعة البشرية، القائمة على الشر والتطاحن.
- فكل فرد في صراع مع
الآخرين من أجل استعمال حقه. ومن هنا تأتي الحروب. وهنا تكمن المشكلة: كل فرد هو في
حالة حرب مع أفراد آخرين.. حرب افتراضية غير معلنة. وهكذا يصبح كل فرد في حرب مع الكل،
وذلك لعدم وجود قوة قاهرة توقف الكل عند حدهم، وتلهمهم الشعور بالخوف، وهو الأمر الذي
يؤدي إلى البحث عن حل، فرضته مشكلة أساسها التطاحن بين الأفراد.
- إن كل فرد هو في صراع
مع الآخرين من أجل استعمال حقه، ومن هنا تأتي الحروب. فإن لم تكن هذه الحروب معلنة،
فإنها ستكون قائمة بصورة افتراضية.. فما هو الحل ؟
- الحل الأول
من خلال استخدام الميل العاطفي للفرد نحو السلام، والمستمد أساساً من الشعور الفطري
بالخوف.
- الحل الثاني هو في استخدام
العقل. العقل الذي يمكن أن يقدم للفرد بنوداً ملائمة لاتفاق سلمي، يتجلى في القوانين
الطبيعية، التي يمكن التفاهم والاتفاق بصددها مع الأفراد الآخرين. وهذه القوانين ليست
بأوامر، بل هي عبارة عن تعليمات وقواعد عامة للأخلاقيات، التي يكشف عنها العقل من أجل
منع البشر من التصرف بشكل مغاير لمصلحتهم.
• وهكذا،
فإن العاطفة والعقل هما القوتان الدافعتان للأفراد الطبيعيين في سبيل خلق الكائن المصطنع،
الذي يسمو عليهم بقوته، ويحميهم، ويدافع عنهم. وهذا الكائن ليس سوى الدولة ( أي الشيء
العام ) أو الليفياثان Leviathan.
• إن الفكرة
الأساسية لتأسيس الدولة، تتمثل في تنازل كل فرد عن حكم نفسه بنفسه لصالح الحاكم المطلق
المالك للسيادة. والدولة المتجسدة في شخص هذا الحاكم (الملك) هي سلطة شرعية، يخضع لها
جميع الأفراد الملتزمون بـ(عقد الجماعة).
• ومهما جار هذا الملك أو استبد، فإن سلطته لن تكون
موضوع نزاع، أو موضع شك.
• والسمة الأساسية لهذا السيد – الملك هي العدل. فهو
وحده القادر على الفصل بين العدل والظلم، والخير والشر، والحق والباطل. وبالتالي فلا
يمكن أن تكون قوانينه موضع مسائلة أو تشكيك، مهما كانت فاسدة (من وجهة نظر بعض المواطنين).
• إن أهم سمات هذا العقد الاجتماعي الأساسية
تقوم على إرادة وحيدة - تمثل (القدرة الكلية)، وتسمو فوق كل نقد أخلاقي أو قانوني أو
سياسي - هي إرادة الحاكم المطلق.
• إن الخوف هو الشعور المتحكم في الأفراد، مما يتطلب
حرمان هؤلاء من حرياتهم. وعلى هؤلاء أيضاً الاتفاق على التنازل عن الحرية التي تؤدي
إلى النزاعات والفوضى، وذلك مقابل السلام والاستقرار اللذين توفرهما حكومة قوية.
• إن تنازل الأفراد عن حقوقهم، بموجب هذا العقد، هو
تنازل نهائي لا رجعة فيه. ولا جدوى من تنازل الأفراد عن نصف حرياتهم، لأنهم إن فعلوا
ذلك عادوا للمطالبة باسترداد النصف الآخر (إذا ما أصبحت مصالحهم عرضة للتهديد، لأي
سبب كان)، وسيرتد المجتمع إلى الحالة السيئة التي كان عليها في البداية.
• إن تنازل الجميع عن
كل حرياتهم للسيد – الحاكم – الملك - المطلق، يلزمهم بمنحه الحق في تنفيذ مشيئته بالقوة
(أي بحد السيف)، وذلك لأن العهود والمواثيق بغير السيف ليست إلا مجرد كلمات.
• إن أفضل أشكال الحكم بموجب هذا العقد هو النظام
الملكي. وعلى وفق (هوبز) فإنه لا يوجد ملك قوي، بينما يعاني رعاياه من الفقر والضعف.
• و(هوبز) يرفض أيضاً كل أشكال الحكم المختلط، لأن
السيادة في نظره لا تتجزأ، فهي إما أن تكون لفرد واحد، أو لقلة من الأفراد، وإما أن
تكون للجميع، ولا يمكن تجزئتها بين مزيج متنافر من النظم.
• إن السيد المطلق هو وحده صاحب الحق في توزيع الثروة
(أو المال)، وهو وحده المالك الفعلي لهذا المال.
• لا يمكن تحقيق السلام الاجتماعي إلا بوجود حد أدنى
من (الرقابة الثقافية). وهذا يعني أن على (السيد المطلق) القضاء على كل مذهب يمكن أن
تؤدي (مغالطاته الفكرية) إلى الثورة.
• إن الواجب الأول للمالك - التنين (الليفياتان) هو
الحفاظ على سلطاته، وامتيازاته، سليمة غير منقوصة. فهذه السلطات والامتيازات هي الوسائل
التي تمكنه من أداء وظيفته.
• مقابل كل هذه الحقوق والسلطات والامتيازات، فإن
على (الملك التنين) أن يضمن لرعاياه الأمن والسلام، وأن يحافظ على حياتهم من كل خطر
يتهددها، وأن يترك لهم هامشاً من الحرية، ويوفر لهم مجموعة من القوانين الضرورية (التي
لا تتعارض مع أحكام هذا العقد).
هذه هي خلاصة أفكار (هوبز)،
التي تجد أن المجتمع يجب أن يتنازل عن جميع حقوقه لصالح حاكم مستبد، يهيمن على الفائض
الاقتصادي، ويحمي حقوق الملكية، ويحترم (عقده الاجتماعي) مع الرعية، ويكفل العدل والسلام
والأمن، ويجعل من (الثورات والانتفاضات) شراً مطلقاً، وفعلاً غير مبرر، ولن يفضي إلا
لمزيد من الفوضى والخراب وتدمير مصادر توليد الثروة والدخل والناتج.
ماهية طبيعة الإنسان عند
(توماس هوبز) (2)
تتأسس الفلسفة السياسية
عند غالبية المفكرين والفلاسفة على أساس رؤيتهم إلى الماهية الإنسانية، ولذا ففهم طبيعة
رؤيتهم إلى معالجة المسألة السياسية، مرهون بفهم نمط رؤيتهم وتحديدهم لطبيعة الإنسان.
يدخل (هوبز) في وصفه لحالة الطبيعة، وهي حالة تسبق وجود المجتمع المدني والدولة، بالقول
بأنه لا توجد قوة مشتركة أو عليا فيها. الطبيعة جعلت من كل الرجال متساوين، إلى حد
بعيد، في قدراتهم العقلية والجسدية، وهي أيضا تلزمهم بشكل رئيسي وقاطع بأن يحافظوا
على أنفسهم، ويحموا مصالحهم. وحتى ولو وجدت فوراق جسدية في القوة، إلا أن الضعيف قادر
على أن يباغت القوي ويقتله، وهكذا لا يستطيع أي رجل أن يدعّي ما له وما عليه، بما أن
قدراتهم متساوية في القتل والعنف. ومن هنا نجد بأنه لا يوجد صح أو خطأ في حالة الطبيعة،
فلا يمكن التكلم عن الصح أو الخطأ في حالة يكون فيها كل فرد يدافع عن وجوده ومصالحه،
فيصبح كل شيء مباحا، بما أن الجميع متساوين في قدراتهم، ولا يوجد شيء غير مباح. وبما
أن قانون الطبيعة يملي على الفرد أن يصون حياته ومصالحه، يصبح مباحا على الفرد أن يقتل
الآخر: دفاعا عن ما لديه، أو هجوما ليأخذ مما لدى الآخر، ليزيد من منفعته، وفرص بقائه.
ما يجعل استمرارية هذه الحالة ممكنة، هو عدم وجود قوة مشتركة، تضع الجميع في حالة رعب
منها لتلزمهم بقوانين. فلا يمكن الكلام عن العدل فيها، لأن العدل هو مجموعة قوانين،
والقوانين تحتاج إلى قوة تلزمها، وبغياب هذه القوة لا يوجد عمل ظالم أو عادل. وبذلك
تكون حالة الطبيعة حالة متساوية جدا، ولكنها حالة حرب وفوضى مستمرة. و بما أنه لا يمكن
لأي شخص أن يضمن أي شيء، وسيكون ملتهيا بشكل كامل في كيفية بقائه، لا نجد ملكية أو
صناعة أو معرفة أو أعمالا حرفية أو ثقافة أو فنا، والخوف الدائم من العنف والموت هو
السائد، وتتصف حياة الإنسان فيها بأنها وحيدة، فقيرة، وحشية، وقصيرة.
صراع الكل ضد الكل:
بعد أن بين (هوبز)، البداية الداخلية للحركة الإرادية
(العواطف والانفعالات)، المتضمنة للإنسان بوصفه فرداً، يواصل دراسة الحركة المركبة،
الناتجة من أجسام اصطناعية، أو (مجتمعات بشرية)، قبل قيام الدولة، فيستخدم (هوبز) في
عرض فلسفته المدنية المنهج التحليلي – التركيبـي، واستعان بما ساد في القرن السابع
عشر من علوم طبيعية وأحداث سياسية وثورات، في المجال الديني والسياسي والاقتصادي، وهو
يعد من أوائل المفكرين الذين خرجوا على منهج العصور الوسطى في دراسة المجتمع، وبنوه
على أساس علمي منطقي، إذ يفسر الكون والمجتمع تفسيراً مادياً، ويرى أن الإنسان وجد
نفسه في عالم مؤلف من أجسام مادية، طبيعتها الحركة، والإنسان بوصفه جزءاً من هذا العالم
لا يسعه إلا أن يخضع لقانون الحركة، إذ تتحرك نفسه نحو الأشياء الخارجية التي ترضي
رغباته ونزعاته، كما ينفر من الأشياء التي لا تتفق ودوافعه النفسية. ومصدر اجتذابه
ونفوره هو الأنانية، التي تتمثل بحرص الإنسان على نيل ما يصون ذاته، واجتناب ما يضرها.
وهكذا فإن غريزة المحافظة على الذات، والبحث عن الشروط
اللازمة لاستقرار المجتمع، كان الهم الأول لـ (هوبز)، فاتجه إلى بحث القواعد التي تسيطر
على تصرفات الإنسان، وهو يعتقد أن الإنسان تتملكه غريزة واحدة، هي غريزة المحافظة على
حياته، وهذه الغريزة تدفعه إلى الكفاح طوال حياته، فيظل مكافحاً حتى يموت. وغريزة البقاء
هذه تجعل الإنسان يبحث عن الوسائل التي تكفل له الأمن، وفي سبيل ذلك يلجأ إلى وسائل
القوة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق لنفسه الأمن إلا إذا كان قوياً، ومن ثم توفير
الطمأنينة لنفسه، من دون أن يعير غيره أي اهتمام، إلا إذا وجد أن بقاءهم وطمأنينتهم
ضرورية لبقائه ولطمأنينته.
ولمّا كان هذا حال الإنسان الفرد، فكيف يمكن أن يكون
في حالة الاجتماع ؟ وكيف يمكن أن تكون علاقات الأفراد فيما بينهم ؟ بهذا الصدد يقول
(هوبز): "إنه لمن الواضح أن الناس حين يعيشون من دون قوة مشتركة، تلقي في نفوسهم
الرعب، فإنهم يكونون في تلك الحالة التي نسميها باسم حالة الحرب، وهي حرب يشنها كل
إنسان ضد كل إنسان، أي الإنسان للإنسان ذئب، والواحد في حرب ضد المجموع". والحياة
مجال للقوة الباطشة عند الأقوياء، وللخداع والمكر والتحايل عند الضعفاء.
على هذا النحو ينشأ الصراع، فالرغبة في المحافظة
على الذات، وإشباع الرغبات، والاستحواذ على المزيد من القوة، تمثل الجذور الأولى لمنشأ
الصراع، فكل فرد يريد أن يحافظ على ذاته، وأن يدعم وجوده. والمحافظة على الذات تعني
إشباع الرغبات، وإشباع الرغبات يتطلب (كما ذكرنا سابقاً)، البحث عن أسباب القوة واكتسابها،
واختزانها للمستقبل، بقدر المستطاع. وإذا ما اشتد هذا الصراع، فإنه لا بُد أن يتحول
إلى حرب، فكل إنسان يصارع ويقاتل كل إنسان آخر، وكل فرد يريد أن يحصل على المزيد من
القوة، وأن يفرض سيطرته على كل فرد آخر. وحيث إنه لا يوجد قانون ولا مجتمع ولا عرف
(وفقاً لهذه الحالة المفترضة)، فإن ذلك يعني أن من حق كل فرد أن يحصل على كل ما يستطيع،
وأن يدعم وجوده بشتى السبل المتاحة أمامه، وليس في ذلك خطأ أو اعتداء، لأنه لا خطأ
ولا حق ولا صواب بعد، فلم يظهر بعد ما يوجب على الفرد أن يلتزم بشيء، أو أن يكبح من
رغباته اللا محدودة، فهي حرب لا هوادة فيها ولا رحمة، كل فرد يريد لنفسه كل شيء، وكل
فرد يرغب في تملك كل شيء، حتى وإن كان على حساب أخيه، والآخر بمثابة العدو، إنه ذئب
يتربص به الدوائر، متى سنحت له الفرصة أجهز عليه.
ولا بُدّ أن نذكر بأن (هوبز)، لا ينسى أن يذكرنا
بأن الحرب قد لا تعني القتال أو العراك، بل يشير إلى تلك المدة الزمنية الممتدة، التي
تسود فيها إرادة التنازع، عن طريق العراك المستمر، وتبعاً لذلك فإننا لا بدّ أن نفهم
الزمن، فيما يخص طبيعة الحرب، على نحو ما نفهمه في طبيعة (الجو)، فكما أن طبيعة الجو
الرديء لا تتمثل بنزول المطر مرة أو مرتين، بل في استمرار اكفهرار الجو عدة أيام متواليات،
كذلك لا تنحصر طبيعة الحرب في قيام معركة فعلية، بل قد يكون في استمرار روح العدائية،
التي تقضي على كل ثقة في إمكان قيام حالة سلمية، وما عدا ذلك فهو في صميمه ضرب من السلم.
وبالتأكيد في مثل هذه
الظروف (حالة الحرب)، المعلنة وغير المعلنة، لا يكون ثمة موضوع لأية صناعة، ما دامت
ثمار الإنتاج ستكون بالضرورة معرضة للخطر، ومن ثم لن يكون ثمة فلاحة للأرض، أو ملاحة،
أو استخدام لسلع تستورد عن طريق البحر، أو اهتمام بتشييد أبنية ملائمة، أو آلات لتحريك
الأشياء الثقيلة، أو نقلها من مكان إلى آخر، أو معرفة بالحالة الجغرافية لسطح الأرض،
أو حساب للزمن، أو فنون، أو آداب، أو حياة اجتماعية، والأدهى من ذلك كله، أن الخوف
يصبح ظاهرة عامة مستمرة، فيخشى الناس خطر الموت العنيف (أكبر الشرور وأقساها) وتصبح
حياة الإنسان انعزالية وفقيرة وكريهة ووحشية وقصيرة الأمد، ولا يكون هناك صواب أو خطأ،
ولا عدل أو جور، ما دامت قاعدة الحياة في هذه الحالة هي "لا يملك المرء إلا ما
يستطيع الحصول عليه، ويملكه ما دام يستطيع الاحتفاظ به". وبهذا الصدد يقول (هوبز):
"بأن من له الحق في الغاية، له الحق في الوسيلة التي يراها مناسبة لتحقيق غايته"،
فهذه الحرية الممنوحة للأفراد، في حالة الطبيعة، تسمح لهم بوضع اليد على كل شيء يجدونه
أمامهم، فليس هناك ملكية خاصة لأحد، فالكل يملك كل شيء، ومن ثم لا أحد يستطيع فعل ما
يشاء، فليس هنالك سيد، فحيث الكل سيد، فالكل عبيد، فالطبيعة أعطت الكل للكل.
ففي حالة الطبيعة، حيث لا توجد سلطة ولا قوانين تحد
من انفعالات البشر وأهوائهم ورغباتهم، وحيث يكون كل إنسان (حراً) في الاستجابة لما
يعتمل في نفسه، والعمل على ضمان حقه الطبيعي، تكشف انفعالات البشر وأهواؤهم ورغباتهم
عن نفسها بصورة صريحة لا مراء فيها. ويشير (هوبز) في هذا الصدد إلى شواهد عديدة تؤيد
ذلك، شواهد تبين لنا حقيقة ما يعتمل في نفوس البشر، وهم يعيشون في ظل السلطة والقانون
والمجتمع، وتتيح لنا - في الوقت نفسه - أن نستنتج الحالة التي يمكن أن يصلوا إليها،
فيما لو انعدم وجود السلطة والقانون، وزال تأثيرهما في حياتهم. فالخوف والشك من الآخرين،
مثلاً، يساوران البشر دائماً، حتى حينما يعيش ضمن نطاق المجتمع، وفي ظل سلطة وقوانين
تحميه، وتتكفل بضمان حقوقه، وإذا شك أي منا في ذلك، يكفي - كما يقول (هوبز)-
"أن يتأمل نفسه، سلوكه وتصرفاته، فحين يرانا نقرر أن الطبيعة قد باعدت بين الناس
على هذا النحو، أو أنها جعلتهم يميلون إلى الاعتداء بعضهم على بعض، وهو لهذا السبب
قد لا يثق في الاستنتاج الذي قمت به من الانفعالات، وربما رغب في أن يتأكد بنفسه من
التجربة، دعه إذن يلاحظ سلوكَهُ، ألا يحدث حين يزمع القيام برحلة، أن يسلح نفسه، ويخرج
مزوداً بصحبة كافية ؟ ألسنا نلاحظ أننا عندما ندخل إلى مخدعنا نحكم إغلاق أبوابنا،
بل حتى عندما نكون بمنزلنا، فإننا قد نغلق بالمفاتيح أدراجنا، في حين أننا نعلم تمام
العلم أن ثمة قوانين، وضباط عمومين مزودين بالسلاح، ومستعدين للانتقام لشتى الأضرار
التي قد تلحق بنا؟ ولكن أي ظن هذا الذي نظنه بأشباهنا من الناس حينما نمضي مسلحين،
أو بأقراننا من البشر، حينما نغلق على نفسنا باب مخدعنا، أو بأطفالنا وخدمنا حينما
نغلق بالمفاتيح أدراجنا؟ أليس في هذا المسلك اتهام للبشرية ؟ اتهام بالأفعال قد لا
يقل خطورة عن اتهامي لهم بالأقوال".
ولكن (هوبز)، يضيف في الحال: "وفي الحقيقة إننا
بذلك لا نتهم طبيعة الإنسان، فإن رغبات الإنسان وأهواءه الأخرى ليست في حد ذاتها خطيئة،
كذلك لا تعد الأفعال الصادرة عن تلك الأهواء بمثابة آثام، اللهُمَّ إلا إذا كان هنالك
القانون والسلطة الذي يحرسها، وينهى عنها".
إن هذا الوصف لحال البشرية،
قبل قيام الدولة، وفي حال غياب قوة رادعة مشتركة، هو افتراض منطقي يقدمه (هوبز)، لبناء
فلسفته السياسية بالطريقة نفسها التي اتبعها في بناء مذهبه المادي، إنها وصف تحليلي
أكثر من كونها مفهوماً تاريخياً. إذ إن سمات حالة الطبيعة مسوغة عن طريق المشاعر (العواطف
والانفعالات)، ونتائجها المأساوية، وليست عن طريق توثيق لواقعة تاريخية قد حدثت فعلاً.
وهذا لا يعني بأن هذه الحالة (أي حالة الطبيعة)، لا تستند إلى أساس من الواقع، بل تستند
إلى أساس واقعي أكيد، لأنها ليست سوى استنتاج من الانفعالات التي تظل تعتمل في النفوس،
سواء أكانوا يعيشون في حالة الطبيعة، أم في ظل مجتمع قائم، تهُيمن عليه سلطة، وتسوده
قوانين وأعراف. ولكن في ظل المجتمع تغدو تلك الانفعالات والأهواء والرغبات أقل ظهوراً،
أو أقل حدة، إلا أنها مع ذلك تظل تراود البشر، وتؤثر بشكل ملحوظ في توجيه سلوكهم.
ويورد (هوبز) مثلاً عن
حالة الطبيعة، أو أنها أقرب الأمثلة التي تُسهل تصور مثل هذه الحالة، وهي حالة الأقوام
البدائية التي كانت تقطن في أنحاء عديدة من أمريكا، في القرن السابع عشر، بطريقة بهيمية،
وعلى الفطرة، من دون سلطة أو حكومة تنظم حياة أفرادها، وعلاقاتهم. وكذلك، حال الفوضى
والخراب التي يمكن أن تعم حياة أفراد شعب، أو أمة، في أعقاب نشوب حرب أهلية فيما بينهم،
وانهيار أو زوال السلطة أو الحكومة التي كانت قبل ذلك تتولى تنظيم حياتهم وعلاقاتهم.
وبذلك يمكن القول بأن (هوبز) لا يتابع (أرسطو –
384 – 321 ق. م) حين وصف الإنسان بأنه اجتماعي بطبعه (مواطن بطبعه)، أي أنه حيوان سياسي،
ومن ثم فقيام المجتمع السياسي حدث طبيعي، إلا أن (هوبز)، يستخف بهذا الرأي، فالطبيعة
عنده لم تودع الإنسان غريزة الاجتماع، ذلك أن الإنسان لا ينشر الصحبة إلا بدافع مصلحته،
وما الجماعة السياسية إلا ثمرة صناعته بميثاق إرادي، إنها نتيجة لعملية من عمليات العقل
البشري، ذلك العقل الحسابي النفعي، لقد جمع وطرح، ثم اختار الأنفع، فكان المجتمع المدني،
فصنعه بإرادته( ).
وبهذا يمكن القول بأن (هوبز)، قد مَهد الطريق لـ
(هيجل)* حين وصف حالة الطبيعة بقوله: "إن حالة الطبيعة قد يغلب عليها الظلم والجور
والعنف، وتسودها الدوافع الطبيعية التي لم تروض، والأعمال والمشاعر اللاإنسانية، ولا
شك أن المجتمع والدولة يمارسان نوعاً من الحد، لكنه حد للغرائز الفجة، وللانفعالات
الوحشية وحدها، كما أنه في مرحلة حضارية أرقى حد للأنانية المتعمدة التي تتجلى في النزوات
والأهواء".
كما تبنى الفيلسوف الهولندي
(اسبينوزا)، مشروع (هوبز) الفكري حول الطبيعة الأولى للجنس البشري. فيرى (اسبينوزا)
حالة الطبيعة على أنها خطوة تسبق قيام الدولة، وأنها حالة تميزت باتجاهه نحو إطلاق
غرائزه وأهوائه ورغباته في أي اتجاه، دون ما أدنى اعتبار للآخرين، فاستخدم حقه الطبيعي
في حفظ بقاء ذاته، والقضاء على كل ما يهددها. إنه (أي الإنسان)، كان يتمتع بالحرية،
ولكن حريته تلك كانت حرية أنانية تدور حول ذاته، وتنطلق من صميم ميوله ورغباته، ولم
تكن حرية عاقلة، بأي معنى من معاني التعقل، وقد جاهد كل إنسان في سبيل بقاء ذاته، وتعددت
الطرق والوسائل في تحقيق هذه الغاية، طبقاً للاختلافات البدنية بين الناس، وكان نضاله
في سبيل المحافظة على الذات، وتحقيق الرغبات، ينتج منه خوف دائم من الخطر المجهول،
ومنافسة مستمرة بين الإنسان والآخرين، بغية تحقيق الرغبات، وإشباع الشهوات والنزوات.
وهكذا، فالناس في حالتهم الطبيعية الأولى لا يذوقون
للسلم طعماً، بل إنهم يحيون في حالة خوف مستمر، وجزع دائم، ولم يكن في هذه الحالة الأولية
أي تمييز بين عدل أو ظلم، بل كانت القوة هي معيار الحق، فالنصر دائماً من نصيب الأقوى.
ولما كانت الفضيلتان الرئيستان في حالة الحرب إنما هما القوة والخديعة، فليس بدعاً
أن تنعدم في حالة الطبيعة الأولى مفاهيم القانون والعدالة والملكية الخاصة والصواب
والخطأ والقوة المشتركة، بل القوي يستطيع أن يلحق الأذى بالضعيف، من دون أن يكون في
وسع هذا الضعيف أن يتمرد، أو أن يعد ذلك الأذى ضرباً من الظلم، وإلا فباسم أي قانون
كان لهذا الضعيف أن يعترض أو يتمرد أو يثور؟ وهكذا فالقوة، أو (حق الأقوى)، هو الحق
الطبيعي الواقعي، الذي يمكن عده، في حالة الطبيعة، بمثابة المبدأ الأوحد لسائر الحقوق.
أسباب الصراع : (3)
إن مسرح الحرب في حالة
الطبيعة قائم ومستمر، فالحرب تدور رُحاها بين كل إنسان وكل إنسان آخر، فسواء أكانت
الحرب معلنة، أم كان استعداد للقتال، فهنالك عوامل تجعل الصراع أكثر حدة وعنفاً. ويخلص
(هوبز) من ذلك إلى أن هناك في طبيعة البشر ثلاثة عوامل أساسية تدفعه إلى التنازع والتخاصم،
يتزايد تأثيرها وفعاليتها بانعدام وجود السلطة، وردعهم، والسيطرة عليهم، وتتظافر من
ثم في جعل البشر ينساقون وراء أهوائهم. وهذه الأسباب هي:
أولاً: المساواة في القدرة
في سياق حديثنا عن القوة، ذكرنا بأنها (أي القوة)
نسبية وليست مطلقة، أو حكراً على شخص واحد دون الآخرين. فالناس متساوون بالطبيعة فيما
بينهم، أما اللا مساواة التي نعرفها الآن، فقد نشأت من جراء القانون المدني. فالطبيعة
جعلت الناس متساوين في القدرات الجسمية والذهنية (أي في القوة والدهاء)، وربما قد يوجد
شخص ما أقوى وبشكل واضح من الآخرين، إلا أنه عندما يؤخذ الناس سوية، فإن الاختلاف بين
شخص وآخر لا يكون بتلك الدرجة الكبيرة. وفيما يخص القوة البدنية، فإن للأضعف قوة تمكنه
من قتل الأقوى، إما بوسائل سرية كالخديعة، أو بالتحالف مع الآخرين، الذين يكونون بالخطر
نفسه الذي يهددهم، ويحيط بهم خطر الموت.
إذن فالمساواة بين الناس، سواء أكانت في القدرات
البدنية أم الذهنية، من أكبر مصادر الصراع بين البشر. وبهذا الصدد يقول (هوبز):
"إن المساواة بين البشر كانت من الأسباب الرئيسية للصراع بينهم، وزيادة حدته،
فلا أحد يستطيع تماماً أن يدمر الآخر، ذلك لأنه يستحيل عليك أن تجد بين الناس، في حالة
الطبيعة، من يستطيع أن يحسم الحرب، ويخضع الآخرين لأمرته، وذلك لأن الناس متساوون في
قدراتهم، ومن لديه نقص في جانب، تعوضه قوة هناك، فالكل متساوون في القوة، ومن ثم فالكل
قادر على ممارسة حقه الطبيعي غير المحدود، فتظل الحرب مستمرةً بين الكل ضد الكل".
ومن المساواة في القدرة تنبثق المساواة في الأمل
(Hope)، فما دام الكل متساوين في القدرة - كما مر بنا- فالكل سوف يحدوهم
الأمل في الوصول إلى ما يطمحون. ويعرف (هوبز) الأمل بـ "أنه حاصل جمع الرغبة،
واعتقاد المرء في قدرته على حصول ذلك الشيء، وبلوغ غايته"، فلا مكان لليأس في
قلب الضعيف بدناً، والقوي، على حدٍ سواء، فكيف يدب اليأس إلى الضعيف بدنياً، وهو يعلم
أنه قوي في جوانب أخرى، وأنه بمقدوره أن يستخدم الدهاء في الوصول إلى غايته. ونتيجة
لهذه المساواة في القدرة والأمل ينشب الصراع. فلو رغب شخصان في الشيء نفسه، والذي مع
ذلك لا يمكن أن يتمتع به الاثنان معاً، ولا يمكن تقسيمه بينهما، فإنهما سيتحولان بالتأكيد
إلى عدوين، ولكل واحدٍ منهم الحق في استخدام وسائله الخاصة للقضاء على الآخر، والتمتع
برغباته. فالمساواة في القدرة والأمل، كانت واحدة من أهم أسباب الصراع وعدم الأمن والاستقرار
في حالة الطبيعة.
ثانياً: التنافس
أشرنا إلى أن (هوبز)، يذهب إلى أن الناس متساوون
في القدرات الطبيعية، بدنية وذهنية، ونتيجة لطبيعة الظروف (محدودية الموارد الطبيعية)،
والتي جعلت كل فرد يرغب في الأشياء نفسها التي يرغب كل واحد منهم فيها، فذلك مما أدى
إلى ما يسمى بـ (الأغراض المتضاربة – in
compatible objectives )، فكل فرد يسعى
إلى إشباع رغباته، فقد أرغب (أنا) و (هو)، في الشيء نفسه، عندئذ يصبح النزاع بيننا
ممكناً ويتحول إلى صراع، وهو احتمال قائم. فهنالك الكثير من الأشياء يمكن أن تكون موضع
تنافس بين البشر في الحالة الطبيعية الأولى، فهم قد يتنافسون على الثروة، أو الوصول
إلى المناصب الرفيعة (السعي لاكتساب إعجاب الناس بهم)، أو غيرها، فيؤدي كل ذلك إلى
استعداد للحرب في البداية، ثم يتحول إلى عداء وحرب وقتال، ذلك لأن الطريق الذي يسلكه
المنافس هو طريق القضاء على خصمه بقتله أو قهره أو إخضاعه لسيطرته، أو العمل على أن
يحل محله بالاستئصال أو الطرد. إذن المنافسة قائمة من أجل الحصول على المزيد من الأغراض
المعنوية وغير المعنوية، فحالة كهذه لا يمكن أن تحسم إلا بقوة السيف، فليس هنالك تنازل
من فرد لآخر بدافع (الأريحية)*، ذلك لأن الفضائل الاجتماعية كالأريحية والإحسان ..
ألخ، لا تظهر إلا في مجتمع مستقر ومنظم، وهذا مما يدفع البشر إلى العدوان واستخدام
العنف من أجل الكسب والاستحواذ على ما يريدون نيله. ومن التنافس بين البشر في حالة
الطبيعة تظهر ضروب مختلفة من العداوة والخصومة، وعلى هذا النحو تنعدم الثقة بين كل
فرد وغيره من الأفراد، فهو يتشكك في كل ما يصدر عنهم من تصرفات، لذا يسعى كل واحد منهم
إلى إحباط محاولات الآخرين منذ البداية، وبهذا الصدد يقول (هوبز): "إنه وبسبب
انعدام الثقة بين كل فرد وآخر فإنه لا توجد طريقة يضمن بها الإنسان حياته، أو يحمي
نفسه بطريقة معقولة، سوى الاستباق، أي محاولة كل فرد السيطرة على غيره، إما بالقوة
أو الخديعة (الحيلة)، بقدر ما يستطيع، ما دامت الأوضاع تفتقر إلى القوة المشتركة التي
تبث الرعب في قلوب الجميع"، وهكذا فالعداء (التنافس)، يزداد حدة واشتعالاً كلما
انعدمت الثقة بين الناس، وزاد الشك فيما بينهم، فيلجأون إلى استخدام العنف من أجل ضمان
أمنهم وسلامتهم والدفاع عن أنفسهم.
ثالثاً: التفاخر
يرى (هوبز)، بأن التطلع إلى (المجد)*،
يمكن أن يعد مصدراً رئيسياً من مصادر الصراع بين البشر في حالة الطبيعة، فكل فرد في
هذه الحالة ينتظر من الآخر أن يعطيه قيمة معينة، أو يقدره حق قدره، وهذا (القدر)، هو
الدرجة التي يعطيها لنفسه، فعلى نحو ما يقدر نفسه يريد من الآخرين أن يقدروه، ولما
كانت هناك دلائل كثيرة تشير إلى احتقاره أو الحط من قدره، فإن من الطبيعي أن يحاول
أن ينتزع من محتقريه قيمة أعظم عن طريق إلحاق الأذى بهم، وقد قلل (شتراوس) من شأن هذا
المصدر (الرغبة)، على حساب الرغبات الحسية، فيقول "إن رغبة الحصول على النبُل
والمجد ليست بذات أهمية كبيرة مقارنة بـ الرغبة في الحصول على اللذات الحسية"،
وقد نتفق مع (شتراوس) في ذلك، إلا أنه ينبغي أن نذكر بأن الرغبة في إظهار المفاخر والمجد،
وإظهار العلو على الآخرين، وكسب احترام الآخرين، كانت (في حالة الطبيعة)، وما زالت،
مصدراً من مصادر الصراع بين بني البشر. عموماً فإن قيمة الإنسان هي الثمن الذي يكون
الآخرون على استعداد لدفعه لاستخدام قوته، ومن ثم فالاحتقار يشير إلى أن الآخرين يعدون
قوة إنسان ما أدنى من قوتهم، وليس هنالك من يعترف بهذه الدونية طواعية، إذ لا بدّ أن
يؤكد نفسه وقدرته ليقنع الآخرين بهذه القدرة، ومن هنا فليس من ثمة سبيل أمامه يمكن
أن يسلكه: فإما أن يتغلب على محتقريه بالقوة، أو يعاني المزيد من الانتهاك لوجوده وأمنه.
ولما كان الناس يريدون انتزاع الاحترام من الآخرين فإنهم يلجأون إلى الصراع الذي يتحول
إلى قتال بسبب أنهم لم يشعروا بالقدر المتوقع من الاحترام الذي يرغبون فيه، ولهذا السبب
فقد تقوم حرب فيما بينهم لسبب تافه، ككلمة أو ابتسامة أو رأي مختلف، أو أي إشارة أخرى
تدل على الحط من قيمة الفرد على نحو مباشر فيما يتعلق بذاتهم، أو بصورة غير مباشرة
لأقاربهم أو أصدقائهم أو مهنتهم أو أسمائهم، وهكذا فالفرد يريد تأكيد ذاته، لا فقط
لمن قصد إهانته، بل أيضاً فيما يتعلق بأي فرد آخر. فمن الناس من يسعى إلى الحصول على
القوة، لا لغرض آخر سوى الاستمتاع بها، وعلى هذا النحو يكون التطلع إلى المجد كذلك
مصدراً من مصادر الصراع. هكذا صور (هوبز)، حال الطبيعة الأولى، وهكذا رسم صورة الإنسان
الأول، لقد كانت حالة الطبيعة حاله طمع وأنانية وحرب، وكان الإنسان نبع كل الشرور والآثام،
فقد كان يصوب سلاحه باستمرار تجاه الآخرين، وقلبه مفعم بالخوف والشك والريبة، فقد كان
ذئباً يعيش بين جماعة من الذئاب، ويمكن من خلال عرضنا لحالة الطبيعة الأولى للإنسان
أن نستنتج الاستنتاجات التالية:
- الاستنتاج : على الرغم
من استحالة نشوء أو نموء الحضارة المدنية في حالة الطبيعة، وانعدام الأمن والطمأنينة،
وهيمنة الخوف على نفوس البشر في هذه الحالة، إلا أن هذه ليست هي كل النتائج التي يمكن
أن تترتب على (حالة الطبيعة)، بل هناك فضلاً عن ذلك نتائج أخرى تتصل بالاعتبارات والقيم
القانونية والأخلاقية والاقتصادية في حياة البشر، منها:
1- لم يكن ثمة تمييز بين
الصواب والخطأ في حالة الطبيعة، فلقد كان الإنسان مدفوعاً برغباته وشهواته ونزواته
الكامنة فيه، ولم يكن بالإمكان أن يقاس بمعيار أخلاقية الفعل أو عدم أخلاقيته، لأن
ذلك المعيار لم يكن قد وجد بعد. فحيث لا يوجد سلطة عامة، لا يوجد قانون، وحيث لا قانون
فكل شيء مباح .
2- لم يكن ثمة تمييز بين
ما هو عادل وبين ما هو ظالم، فما دام القانون والسلطة السياسية لم توجد بعد، فلا يمكن
أن توجد العدالة، هذا من ناحية. من ناحية أخرى: ليست العدالة، ولا الظلم، من قدرات
الإنسان وملكاته، مثل الإحساس والانفعال، ومن ثم فليس ثمة طبيعة توجد في الفرد، وإنما
توجد العدالة متى ارتبط الإنسان بالآخرين، عن طريق الدولة المشرعة للقانون، فالعدالة
والظلم إذن خاصيتان اجتماعيتان تنتميان إلى الناس في المجتمع المدني، وترتبطان باجتماعهم،
ولا دخل لهما في طبيعة البشر.
3- يلزم عن هذه الحالة انعدام الملكية الخاصة، ولن
يكون هناك فرق بين ما هو (ملكي)، وما هو (ملكك)، بل كل شيء يمكن أن يكون ملكاً لأي
فرد في استطاعته أن يناله ويحصل عليه من ممتلكات، وتظل هذه الممتلكات له طالما استطاع
أن يحتفظ بها. أي أن (القوة)، وليس القانون، تعد الأساس الوحيد الذي تقوم عليه الشرعية
والحق في التملك، وأنه كلما ازدادت قوة المرء، ازداد حقه. فالطبيعة أعطت الكل للكل،
فالملكية لا تظهر إلا مع ظهور المجتمع المدني. فعلى الرغم من أن في وسع أي إنسان في
حالة الطبيعة، أن يقول عن أي شيء (إن هذا ملكي)، إلا أنه سوف لن يكون في مقدوره أن
يتمتع به كما يشاء، وذلك لأن في وسع أي فرد آخر، له بالمقابل حقٌ مساوٍ في ذات الشيء،
ويتمتع بقوة مساوية، وإن لم يكن أكثر قوة – أن ينافسه، ويحول دون امتلاكه لذلك الشيء.
وذلك (وكما اسلفنا الذكر)، بأن سائر أفراد البشر متساوون عموماً من حيث القدرات العقلية
والبدنية . 4- إن نتيجة رقم (1، 2، 3)، مترتبة منطقياً من أولى النتائج، وأكثرها أهمية،
ألا وهي أنك لن تجد في حالة الطبيعة من بين الأفراد من هو (سيد) على غيره، فلا سيد
ولا مسود، وإذا لم يكن أحد سيداً عليّ، فإنني أستطيع أن أقول بالمثل إنه لا أحد عبد
لي، فالجار والرفيق لديه من القوة مثل ما لدي، وهو يميل مثلي إلى تأكيد ذاته، وكل منا
يخاف الآخر ويهابه، فهو له رغباته وأهواؤه وانفعالاته، ويسعى إلى إشباعها بشتى الوسائل،
كما أن لي أهوائي ورغباتي، وأعمل بشتى الطرق من أجل تحقيق ذلك. فليس هنالك سلطة ولا
قوانين تكبح أو تحد من انفعالات البشر وأهوائهم، فلا أحد لديه القدرة لكي يجعل من نفسه
سيداً على الآخر، ومن ثم فلا أحد عبد لغيره، فالكل معرض لأن يدخل مع الآخر في صراع،
وهكذا يدخل الكل في الخوف والشك المتبادل، ومن ثم تنشب الحرب . إذن ليس ثمة خيار ثالث
بين العيش من دون (سيد)، في حالة الطبيعة، والتمتع بالحرية والحرب، وبين العيش بسلام،
تحت سلطة ذات سيادة . إذن، هذه هي خامة الطبيعة البشرية، وهي الخامة التي يجب بناء
مجتمع منها، إنها تتكون من عنصرين متعارضين: الرغبة البدائية، والنفور البدائي، اللذين
تنشأ منهما جميع البواعث والانفعالات، والعقل الذي يمكن به توجيه الفعل توجيهاً ذكياً
نحو غاية المحافظة على الذات. وعلى قوة العقل التنظيمية هذه يتوقف الانتقال من الحالة
الوحشية والعزلة إلى الحالة الحضارية والاجتماع المدني، وهذا الانتقال يتم وفقاً لقوانين
الطبيعة. فهذه القوانين تقرر ما يعمله كائن عاقل من الناحية النظرية، لو أنه نظر في
غير تحيز إلى علاقاته بالآخر، من حيث ما لها من تأثيرات على أمنه هو . يرى (هوبز)،
أن السبب الأساسي للسلوك البشري الذي يؤدي إلى حالة الحرب، يستطيع أيضاً أن يزوده بطريق
الخلاص من تلك الأزمة، وإنهاء حالة الحرب، فالسبب الأساسي كان الرغبة في المحافظة على
الذات، وهو يعني بالطبع تجنب الموت، والابتعاد عنه، فالموت عند البشر هو أول الشرور،
وأشدها إثارة لنفورهم وخوفهم (بالطبع المقصود هو الموت العنيف – أي الذي تصاحبه آلام
جسدية قاسية، والذي ينجم دائماً بفعل وتدبير أحد (أو مجموعة) من الخصوم والمنافسين،
وليس الموت الناجم من الشيخوخة أو المرض، لكن حالة الحرب التي ينقاد إليها البشر برغباتهم
الطبيعية، وهي الحالة التي تصبح فيها الحياة أقل ما يمكن أن يقال عنها بأنها قصيرة
الأمد، تنتهي إلى نتيجة هي عكس تلك الحالة، فالناس كانوا ينشدون مواصلة الحياة والاستمرار
في البقاء، لكنهم يجدون أنفسهم في موقف من المحتمل جداً أن يفقدوا حياتهم، وليس في
مقدورهم أن يتجنبوا الموت لمدة طويلة، حيث يغدو الخطر المحدق بجميع الأفراد، فالتفكير
في هذا الشكل من أشكال الموت، هو الذي يفزع البشر، ويبث الرعب في نفوسهم، ويحثهم على
التماس سبيل الخلاص. وهكذا نجد أن الإنسان مرغم على استخدام (العقل الطبيعي الخالص)*
للخروج من حالة الحرب إلى اقامة السلام، وإنشاء دولة قوية ومتماسكة، تتجنب العودة إلى
حالة الطبيعة مرة أخرى.
خصائص مجتمع الطبيعة:
1- عدم وجود العدالة، لأن العدالة مرتبطة بالقانون
(وهذا نفي لفطرية العدالة). 2- الأخلاق والقيم والمفاهيم القانونية هي نتاج الحالة
الانتقالية . 3- الخوف من الموت، والرغبة في الأمن، ووجود العقل، هي المسببات للانتقال
من الحالة الطبيعية إلى مجتمع المدينة أو السياسة. المجتمع الذي لا تسود فيه السلطة
والقانون. أي مجتمع لا تحكمه سلطة أو قانون، يتحول إلى مجتمع يقاتل بعضه بعضا، ويحكمه
قانون الغاب، وبهذا لا يمكن لأحد أن يأمن على نفسه، حتى القوي، لأن اتحاد مجموعة من
الضعفاء سيشكل خطرا على القوي، وقد يقتلونه، ثم يتقاتل الضعفاء فيما بينهم لاقتسام
الغنيمة، لأن الإنسان أناني بطبعه. ولأن حالة الطبيعة عند (هوبز) لا يكون للإنسان أي
حكومة أو قانون يمنعهم (حرب الكل ضد الكل)، فلا بد حسب (هوبز) الانتقال من المجتمع
الطبيعي إلى المجتمع السياسي.
العقد الاجتماعي عند
(هوبز) (4)
لقد ذهب (هوبز) إلى أن
الناس سئموا حالة الصراع والقتال، وأدركوا أن الحرب هي أسوأ الشرور، فاجتمعوا واتفقوا
على تنظيم حياتهم للتخلص من هذه الشرور، ورأو أن ذلك لن يتحقق لهم إلاّ إذا بحثوا عن
السلام واتبعوه، ولكي يحققوا ذلك فقد اجتمع الجميع مع بعضهم البعض، واتفقوا على أن
يتنازلوا عن كامل حقوقهم الطبيعية، ويكون هذا التنازل لرجل واحد يملك كل الحقوق، ولا
يترتب عليه إلا واجب واحد، وهو صيانة الأمن. وبمقتضى هذا الاتفاق والتنازل، ينتقل هؤلاء
الناس من حالة الفطرة إلى حالة المجتمع المدني. وعلى الرغم من خسارة الإنسان لاستقلاله،
من خلال هذا الاتفاق، إلا أنه يكسب الأمن والأمان والطمأنينة. ومن هنا فإن تنازل كل
فرد عن سلطته، وعن حقه في حكم ذاته، إلى الشخص الذي اختاروه لكي يمثلهم جميعا، تكون
الوحدة الحقيقية، وهي الدولة، حيث تكون هناك إرادة واحدة للدولة، تذوب فيها كل الإرادات،
أو تنصهر فيها الإرادات والقوى المختلفة في إرادة واحدة، هي إرادة وقوة الحاكم. ولهذا
فإن العقد الاجتماعي عند (هوبز) هو عقد بين رعايا ورعايا، لأن الحاكم ليس طرفا فيه،
وبذلك لا يستطيع الحاكم أن يخرق العقد، لأنه غير موقع عليه أصلا، واختيار المواطن للحاكم
هو بمثابة خلق للحاكم، لهذا فإن المواطن يكون مشاركا فيما يقدم عليه الحاكم من أعمال،
و لا يجوز له أن يشتكي من أي تصرف للحاكم، لأنه بذلك يشكو نفسه. وبهذا يلجأ (هوبز)
لتبرير سيادة القوة، فالقوة عنده لا تتجزأ، أو تنفصل عن صاحبها، ولا يمكن التنازل عنها
لآخر. لهذا فهو يهاجم أي نظام يضعف من القدرة الكلية للدولة، ويعترض بشدة على تقسيم
القوة وتجزأتها.وهذا ما جعله يرى أن الحرب في (إنجلترا) كان من الممكن تجنبها لو لم
تكن السيادة مقسمة بين الملك واللوردات ومجلس العموم. ومن هنا نادى (هوبز) بأن سيادة
الحاكم مطلقة، لا تحدها حدود أو قيود، لأن الأفراد تنازلوا بمقتضي العقد الاجتماعي
عما كان لديهم من حريات وحقوق في الحالة الطبيعية، وهو تنازل كامل وغير مشروط، وإلاّ
أتيح للفوضى الفطرية أن تعود من جديد. ومعنى هذا أن الإنسان لا يستطيع أن يسترد ما
أعطاه للحاكم، كما أن الحاكم غير ملزم من قبل الناس بشيء، لأنه لم يكن طرفا في العقد،
اللهم إلاّ بتوفير الأمن لهم. وبما أن الحاكم لم يكن طرفا في العقد، فإنه لم يتنازل
عن حقوقه الطبيعية، ولا عن حريته، بل إنه احتفظ بهما، فله بذلك أن يفعل ما يشاء. ومن
هنا فإنه ليس للإنسان إلا أن يختار بين السلطة المطلقة، وبين الفوضى الكاملة، ذلك أن
الحاكم إما أن يكون سلطانه كاملا معترفا به، ومن ثم توجد الدولة، أو لا يعترف به، ومن
ثم توجد الفوضى.
أهم الملامح الأساسية
للعقد الاجتماعي عند (هوبز):
1-إن المشتركين في هذا العقد هم الأفراد، وليس الجماعات.
حيث إن الأفراد، وهم متساوون في الحقوق الطبيعية، يتفقون ويتعاقدون على التنازل عن
هذه الحقوق لشخص، أو هيئة حاكمة، ولكن هذا الشخص، أو الهيئة الحاكمة، لا تكون مشتركة
في هذا العقد.
2-إن الخضوع لصوت الأغلبية التي عينت السلطة، يكون
مادة رئيسية في العقد. ومن هنا فإنه ليس هناك أدنى أهمية لمعارضة الأقلية، بل إن للحاكم
كامل السلطة للقضاء عليها، دون أن يكون لفعله هذا أدنى مسحة لا شرعية.
3-إن غاية المتعاقدين هو تحقيق الأمن الداخلي، ومقاومة
الخطر الخارجي. ويجب أن تكون هذه الغاية هي الشرط الأساسي في الوجود الدائم للدولة.
وأخيرا، فإن (هوبز) لم
يتحدث عن فصل السلطات، ولا التعاون بينها، بل إنه بيّن أن الهيئات المختلفة الموجودة
في المجتمع، مثل الهيئة البرلمانية، والهيئة التنفذية، والهيئة القضائية، إنما تستمد
سلطاتها من إرادة الحاكم، كما أن حياة أفرادها ونفوذهم وسلطاتهم منوطة بإرادة الحاكم
المطلقة.
مقارنة بين مفكري العقد
الاجتماعي(5)
حالة الطبيعة:
1/ (هوبز): حالة صراع
وحرب الكل ضد الكل، وسيادة قانون الغاب، وذلك ناتج عن طبيعة الإنسان الميالة للشر،
وغلبة الأنانية على سلوك الأفراد، في سعيهم الدائم للمحافظة على النفس.
2/لوك: تبادل منافع، وتمتع بالحقوق والحريات، في
ظل سيادة القانون الطبيعي، الذي يضمن حق الحياة والحرية والملكية.
3/روسو: حياة مثالية تسودها الفضيلة والسعادة
لدى كافة الأفراد، وأن المدينة أسدت هذه الحياة.
أطراف العقد:
1/(هوبز): الأفراد وحدهم،
والحاكم لم يكن طرفاً في العقد.
2/لوك: بين الأفراد والسلطة الحاكمة. 3/ روسو: بين
الأفراد والإرادة العامة المعبرة عن المجموع.
جوهر العقد:
1/(هوبز): تنازل الأفراد
كلياً ونهائياً عن حقوقهم وحرياتهم للشخص الحاكم، الذي يتولى المحافظة على المجتمع.
2/ لوك: تنازل الأفراد عن جزء من حقوقهم لحماية الجزء
الآخر للسلطة الحاكمة، دون أن يفقدوا حرياتهم.
3/ روسو: تنازل الأفراد عن حقوقهم وحرياتهم للجماعة،
لإنشاء الإرادة العامة، ومن ثم تنشأ الدولة التي تعبر عن الإرادة العامة.
إلتزامات العقد:
1/(هوبز): على الأفراد إطاعة الحاكم ما دام قادراً
على توفير الأمن لهم، والحاكم غير ملزم بنصوص العقد، لأنه لم يكن طرفاً فيه.
2/ لوك:
على الحاكم الالتزام بنصوص العقد، واحترام حقوق وحريات الأفراد، ويجوز الثورة عليه
إذا خالفها.
3/ روسو: وجوب خضوع الأفراد
والحاكم للإرادة العامة.
صاحب السيادة:
1/ (هوبز): السيادة قد تكون لفرد أو مجموعة، والشعب
تنازل عنها، ولا يمكن استرجاعها.
2/ لوك: الشعب أو الأغلبية
هم أصحاب السيادة، وهو يستطيعون استعمالها متى أرادوا، وهي تتمثل في السلطة التشريعية.
3/ روسو: الإرادة العامة صاحبة السيادة، وتمارسها
بصورة مباشرة من خلال الاجتماعات العامة، وسيادتها هذه دائمة ومستمرة.
طبيعة السلطة:
1/ (هوبز): السلطة هي التي تخلق المجتمع وتوحد الحقوق.
2/ لوك: للشعب حق اختيار السلطة التي تحكمه، وله
الحق في تغييرها.
3/ روسو: السلطة الحاكمة هي وكيل عن الشعب لتنفيذ
رغبات الإرادة العامة.
نظام الحكم:
1/ (هوبز): نظام الحكم استبدادي، والسلطة فيه مطلقة
للحاكم.
2/ لوك: نظام الحكم تمثيلي ديمقراطي، والسلطة فيه
مقيدة برأي الأغلبية.
3/روسو: نظام الحكم ديمقراطي مباشر، والسلطة فيه
مطلقة للإرادة العامة.
-------------
الهوامش:
(1) توماس (هوبز) اللفياثان
الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حبيب حرب / بشرى صعب، تحقيق:
رضوان السيد، الناشر: دار الفارابي، الطبعة الأولى 2011، ص131 .
(2) إحسان عبد الهادي
النائب، توماس (هوبز) وفلسفته السياسية، المكتبة العامة، السليمانية، الطبعة الأولى
2012، ص80.
(3) الدكتور صلاح علي
نيّوف، مدخل إلى الفكر السياسي الغربي/ الجزء الأول، كلية القانون والعلوم السياسية،
الأكاديمية العربية في الدنمارك، ص74 .
(4) مسلم حسن محمد عزيز
المظفري، الفلسفة السياسية عند (هوبز)، رسالة ماجستير في الفلسفة مقدمة إلى مجلس كلية
الآداب، جامعة بغداد، 2004 .
(5) إعداد الطالبين: نايف
بندر البداي، وخالد بن عبد الرحمن البصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق