سالم بابه شيخ عبد الله
كثير من الناس إذا ما ذكر مسألة جمع القرآن، ذهب به
فكره إلى الخليفة الثالث عثمان(رض)، وآخرون يرون غير هذا الرأي، فيذهبون إلى أن جمع
القرآن تمّ في زمن خلافة أبي بكر الصديق(رض). والفرق بين الحادثتين - في رأيهم - أن
الذي فعله عثمان (رض)، كان جمع الناس على نسخة واحدة، وقراءة واحدة، وأما جمع القرآن،
فهو من عمل أبي بكر (رض)، باستشارة عمر (رض).
وهذا الذي قالوه حق. نقصد أن الذي فعله عثمان (رض)،
وهو أنّه جمع الناس على نسخة واحدة، موثّقة بإجماع الصحابة، ومن مهبط الوحي، وعاصمة
الدولة الإسلامية آنذاك، كذلك جمعهم على قراءة واحدة، لا أنه جمع القرآن بعد أن لم
يكن قد جمع، ومن ثمّ تخلّص من جميع النسخ الموجودة في أرجاء الدولة الإسلامية آنذاك،
وأمر بإحراقها، لنقصانها من السور والآيات، ولربّما لزيادات، أو لتغيير فيها، أو لأنها
كانت نسخاً غير موثقة، حتى لا تختلف الأمة في كتاب ربّها. أمّا مسألة جمع القرآن، وفي
أيّ زمن جمع، فهذا ما سنبّينه في حينه.
إنّ كلا القولين: بأن القرآن جمع في عهد الخليفة الأول،
أو القول بأن الثالث جمعه، لا يصحان البتة، وفي القولين خطورة كبيرة. وخطورة هذين القولين
خفي حتى على كثير من العلماء، وذلك أن القول بأن القرآن جمع في زمن الخلفاء، تعطي إشارة
خطيرة إلى أن النبـي (صلى الله عليه وسلم)، ترك أمته، والقرآن
مفرق في قلوب الرجال وصدورهم، أي: كان بعض السور أو الآيات عند بعضهم دون البعض، مما
يعني أن القرآن كان معرضا للنقصان وللزيادة، وقد ينسى هذا، ويموت ذاك. وكذا القول بأن
سور وآيات القرآن بعد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، كانت
متفرقة في قطع جلود وأديم وألواح وأقتاب ولخاف كثيرة، متناثرة في الأرجاء، عند أناس
كثيرين، غير معصومين !!.
لا يمكن أن يقبل المؤمن أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) لم يقم بجمع القرآن بنفسه، ولا
يقبل بأنه قام أحدٌ من الصحابة، مهما كانت منزلته ـ إذ منزلته لا تبلغ منزلة النبوة
والعصمة، مهما كان ـ بعمل كان النبـي (صلى الله
عليه وسلم) أحرى وأولى أن يقوم به! ومن العجب العجاب أن نرى بعض أهل
العلم يذهب إلى أن الصحابة قاموا بجمع القرآن عن طريق الإلهام، ووفاء من الله تعالى
بوعده!!.
ثم أنه هناك سؤال يطرح نفسه بقوة، وهو: ماذا كان يصنع
كتّاب الوحي ؟!! لماذا اتخذ رسول الله(صلى الله
عليه وسلم) عدة من كبار الصحابة، ممن يعرفون الكتابة، كتبة بين يديه،
ولديه؟!! أليس هذا القول يعطي إشارة خضراء أيضاً للملحدين، والمشكّكين في القرآن والإسلام،
وغيرهم، ليشككوا المسلمين في القرآن، ويدّعوا بأن القرآن غير محفوظ، وأنه تعرض للزيادة
والنقصان ؟!!
إن القول بجمع القرآن بعد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، يلزم منه أن النبـي ـ حاشاه
ثم حاشاه ـ لم يقم بعمله كنبـي!! ولم يقم بالأخذ بالتدابير اللازمة والمطلوبة منه لجمع
القرآن وحفظه!! ثم ترك هذا الأمر الخطير في عهدة أصحابه غير المعصومين!!.
إلى متى الجثوّ على الرّكب أمام الروايات دون نقد متونها؟!
إلى متى التعويل على روايات مختلفة، مختلقة، متناقضة، متضاربة، مصنوعة، موضوعة؟! والتي
ملأت كتب علوم القرآن، والتفاسير، وكتب المصاحف، وتاريخ كتابة القرآن ورسمه، وكتب الناسخ
والمنسوخ، والتي غالبها تضر أكثر من أن تنفع !.
لا.. لا نقول بأن نخفي من تراثنا وميراثنا الديني، حتى
لا يجده أحد، ولا يتعرّف عليه أحدٌ، كي لا يستخدمه ضدّنا!! أو نخبئ حقائق مرّة من ديننا
على النّاس!! فهذا الدين ليس من صنع البشر، حتى ننحى هذا المنحى، ونخاف كل هذا الخوف!!
الأمر ليس كذلك أبداً، كل ما في الأمر هو تمحيص الروايات بعضها من بعض، وتحقيقها، ودراستها
دراسة تأصيلية علمية موضوعية، من جهة السند والمتن معاً، لأنه هناك روايات كثيرة مختلقة،
أدخلت قصدا، أو عن غير قصد، في كتب علماء المسلمين.
ومن هذا المنطلق نسأل: هل الأخذ بكل تلك الروايات كلها
معاً - والتي غالبها لا يسمن ولا يغني من جوع - من الحكمة، ومنهج التحقيق العلمي؟!
فهي مقبولة، فقط لأن سندها خلا من العلل القادحة في مصداقيته وصحته؟! وبيّن أن الأخذ
بتلك الروايات فيه من الخطورة ما هو واضح وجليّ عند كل من يستوعب الأمر وخطورته.. وفي
الأخذ بمجموعها خطورة كثيرة، لعلّ من أخطرها الوقوع في التناقض، واللوازم الباطلة،
التي من المحتمل جدا أن تستخدم في نقد القرآن، والقدح فيه، من قبل الملحدين وأعداء
الإسلام!!
فلنسأل أنفسنا مرة أخرى: هل تمحيص الروايات والأخبار،
ونقد متونها، وموضوعاتها، خاصة الروايات المتعلقة بكتابة القرآن وجمعه، أصلح؟ أم تكلّف
العناء ومشقّة الدفاع عنها، وعن القرآن، في نفس الوقت؟!! ـ وهي بطبيعة حالها تقدح وتطعن
في القرآن الكريم والنبـي(صلى الله عليه وسلم) والصحابة
ـ على أنها روايات صحّ سندها!!
هذا صعب، وغير مجد.. خاصّة عند من يحسن صناعة الترقيع..
وإنما نقول: فلندقق في الروايات، ونمحصها، ونحققها، من جهة المتون، ونأخذ بأحسنها،
وأسلمها، وأصحها، وأصلحها، إذا ما وافقت القرآن الكريم، واتفقت مع روايات أخرى صحيحة
مقبولة، ثم لا نقبل بالتي تخالف تلك الروايات الصحيحة وتعارضها. وأيضاً نقبل الروايات
على أساس موافقتها للواقع، والتاريخ، وللعقل، والمنطق السليم..
دعوتنا هي
بأن نكون جريئين في الردّ على تلك الروايات الملفقة المصنوعة، التي دخلت كتب الحديث
وغيرها، ونجت حتى من فلترات ونقاط التفتيش عند أهل الحديث، ونفندها من جهة النقد العلمي
والتحقيق العلمي الصحيح للمتون. وحتى الفقهاء فإنهم عندما يرون رواية صحيحة، من جهة
السند، تخالف الأدلة الشرعية الأخرى، وتخالف الواقع، والعقل، يبذلون قصارى جهدهم في
إيجاد معنى ومحمل يتفق مع الأدلة المتعارضة الأخرى. وما يجدونه من تأويل ومسوغات لا
يخرج عن كونه دليلا ظنيا. ولسنا نقول بأن نرفض الروايات دوماً، ولا نبحث عن محمل نحمله
عليه عند التعارض، وإنما نقول أن لا يكون هذا هو ديدننا عند وجود الأدلة المتعارضة،
فليس من الصواب أن نتعامل مع الأدلة المتعارضة على هذا الأساس دوماً، والإمساك بوسطية
القضايا لا يكون صحيحا دوما، بل ربما يصاحبه من اللوازم ما يزيد الطينة بلة. فالطريق
الصحيح هو النقد العلمي للمتون، فذلك أصلح، وأنفع، لاعتقادنا، ولتنزيه القرآن عن المطاعن،
والذبّ عن الإسلام وشريعته.
لا يصح أن نتصوّر، بل لا يمكن أن نتصوّر بأن النبـي
(صلى الله عليه وسلم) ترك القرآن ولم يجمعه في حياته! وأنه لم يوص أصحابه حتى.. بجمعه
وصيانته وحفظه من بعده، إذ لم يقم هو (صلى الله عليه وسلم) ـ حاشاه ـ بذلك!.
فيا أيها المسلم.. إنّه القرآن!!، وهو ليس ككلّ كتاب.
إنّه الرّسول (صلى الله عليه وسلم)!!، وهو ليس ككلّ أحد. وقبلهما إنّه الله سبحانه،
وهو ليس كمثله شيء. لا يمكن الإذعان لروايات تمس قدسية هؤلاء بسوء!.
فالقول إذاً بجمع القرآن بعد وفاة النبـي (صلى الله
عليه وسلم)، وعلى أيدي أصحابه، وبالشكل المذكور في الروايات، يقدح في نبوته ورسالته
وتبليغ الأمانة. وهذا ما تعارضه نصوص من الآيات والأحاديث، سنذكرها فيما بعد، ونشير
إلى بعضها الآن، منها قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} الحجر: ٩. وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} القيامة: ١٧.
ومن السنة قول النبـي (صلى الله عليه وسلم): (أيها الناس
قد تركت فيكم ما إذا اعتصمتم به لن تضلوا: كتاب الله)، أخرجه عبد بن حميد، ورواه أيضاً
مسلم، بدون ذكر (أيها الناس).
وقوله (صلى الله عليه وسلم): (لا تَكْتُبُوا عني شيئاً
سوى الْقُرْآنَ، من كَتَبَ شيئاً سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ) رواه الإمام أحمد.
وهذا من حرصه (صلى الله عليه وسلم) على كتابة القرآن، وحفظه، حتى لا يخالطه شيء غيره،
ولذلك نهاهم من كتابة كلامه لنفس السبب. وهناك أدلة أخرى تثبت أن النبـي (صلى الله
عليه وسلم) جمع القرآن في حياته كتابةً، وهذا ما سنذكره في أوانه.
فهل من المعقول أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) ترك
القرآن: بعضه مكتوبٌ، وبعضه في صدور الرجال؟ فأين كان كتبة الوحي في كلّ مرّة، عندما
نزل شيء من الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟! هل هذا يعني أن النبـي (صلى
الله عليه وسلم) لم يكاتبهم في كل ما نزل عليه من الوحي؟! أو أنهم لم يكتبوا له كل
ما أنزل عليه من القرآن؟! أو أن النبـي (صلى الله عليه وسلم)، في بعض الأحيان، لم يجد
أحداً يكتب له، فاستعان بذاكرة الأصحاب ؟! حتى إذا ما قتل بعض الصحابة، خافوا فوت القرآن
وذهابه، فأخذوا يجمعون ممن كان عنده شيء من القرآن.. آية هنا.. وآية هناك؟! ولا يقبلون
من أحد آية إلا بشاهديّ عدل؟!!
ومما يعول عليها كثيرا من الروايات، في هذا الباب، رواية
زَيْدَ بن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ (رض) ـ وكان مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ ـ التي
جاء فيها: (قال: أَرْسَلَ إليّ أبو بَكْرٍ، مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَعِنْدَهُ
عُمَرُ، فقال: أبو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فقال: إِنَّ الْقَتْلَ قد اسْتَحَرَّ
يوم الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ
الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ في الْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ من الْقُرْآنِ، إلا أَنْ
تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال أبو بَكْرٍ: قلت لِعُمَرَ:
كَيْفَ أَفْعَلُ شيئاً لم يَفْعَلْهُ رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟! فقال عُمَرُ:
هو والله خَيْرٌ، فلم يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فيه حتى شَرَحَ الله لِذَلِكَ صَدْرِي،
وَرَأَيْتُ الذي رَأَى عُمَرُ. قال زَيْدُ بن ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لَا
يَتَكَلَّمُ، فقال أبو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، ولا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ
تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ،
فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لو كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ من الْجِبَالِ، ما كان أَثْقَلَ
عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ من جَمْعِ الْقُرْآنِ. قلت: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شيئاً
لم يَفْعَلْهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقال أبو بَكْرٍ: هو والله خَيْرٌ،
فلم أَزَلْ أُرَاجِعُهُ، حتى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ الله له صَدْرَ أبي
بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ من الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ
وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حتى وَجَدْتُ من سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ
مع خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لم أَجِدْهُمَا مع أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ... التوبة: ١٢٨، إلى آخِرِهِمَا، وَكَانَتْ الصُّحُفُ التي
جُمِعَ فيها الْقُرْآنُ عِنْدَ أبي بَكْرٍ حتى تَوَفَّاهُ الله، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ
حتى تَوَفَّاهُ الله، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) رواه البخاري.
فهذه الرواية كذب وافتراءٌ بلا شكّ، وبهتان عظيم، وفيها
اتهام للنبـي (صلى الله عليه وسلم) ولأصحابه، وخاصة الخلفاء الراشدون، وكتبة الوحي
منهم.
انظر ما في هذه الرواية من الطآمّات: منها قول أبو بكر:
(إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فقال: إِنَّ الْقَتْلَ قد اسْتَحَرَّ يوم الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ،
وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ في الْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ
كَثِيرٌ من الْقُرْآنِ). هذه العبارة توهم بأن القرآن ذهب قليله!!!.
ويبدو أنه كان هناك سبب دفع عمراً إلى هذا الاقتراح..
وهو ما ذكر صاحب كتاب المصاحف: أنّه ـ أي: عمر ـ سأل عن آية من كتاب الله، فقيل كانت
مع فلان، فقتل يوم اليمامة: فقال: إنا لله، وأمر بجمع القرآن، وكان أول من جمعه في
مصحف([1]).
وعلامة الوضع في هذه الرواية، وسابقتها، ظاهرة جداً.
وفي عبارة: (وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ
بِالْقُرَّاءِ في الْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ من الْقُرْآنِ)، أيضاً، معنى خطير
جدا.. وهو أن لولا قتل القرّاء يوم اليمامة، لطال بالصحابة أيام وسنين على جمع القرآن!!
إذ إن النبـي (صلى الله عليه وسلم) ـ حاشاه هو وأصحابه ـ كانوا في غفلة، أو تغافل،
عن جمع القرآن، إلى حين مجيء (يوم اليمامة)، حيث استفاقوا من غفلتهم، وهبّوا لجمع القرآن!.
ومن الطّامّات، في رواية زيد بن ثابت هذه، ما قال أبو
بكر (رض): (وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ)، فهل جمع القرآن يحتاج إلى
استحسانٍ برأي، وإلى مشورةٍ؟!! أهذه كانت مكانة القرآن عندهم؟!!.
أما أبو بكر فيذكر سبباً في تخوّفه من جمع القرآن -
هذا حسب الرواية طبعاً - متحججا بأنه كيف يفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه
وسلم)!! وهذه هي الطآمّة الكبرى في هذه الرواية.. وهي أن النبـي (صلى الله عليه وسلم)
لا هو جمع القرآن في حياته! ولا أوصى بجمعه! فهذا أقرب الناس إليه، وأعرف الناس به،
وألزمهم له، وهو من هو، وهو الذي يروون عنه أنه قال: (فإني أخشى أن أترك شيئا من سنته
أن أزيغ)، لا يعرف كيف يفعل شيئاً لم يفعله النبـي (صلى الله عليه وسلم)، ولا أمره
هو، أو غيره، بفعله!! هل يقبل هذا مسلم غيور على كتاب ربّه؟!.
ومنها قول أبو بكر لِعُمَرَ:(كَيْفَ أَفْعَلُ شيئاً
لم يَفْعَلْهُ رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)؟! فقال عُمَرُ: هو والله خَيْرٌ،
فلم يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فيه حتى شَرَحَ الله لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ
الذي رَأَى عُمَرُ). هو والله خير!!.. مجرد الخيرية، وذهاب القرّاء أيضاً، كانتا السببين
المقنعين لدى أبو بكر (رض)! فعمر (رض) يعلم، كما يعلم أبو بكر (رض)، أن النبـي (صلى
الله عليه وسلم) لم يجمع القرآن!!، ولا أمر به، ولا أوصى به!!، وأنهما يجمعان القرآن
بدافع الخيرية فقط، وهما يعلمان جيداً أنهما يفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)!! وحسب الرواية أنهما أول من ابتدعا جمع القرآن.
ومنها قول أبو بكر (رض) لزيد بن ثابت (رض): (إِنَّكَ
رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، ولا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم)، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ، فَاجْمَعْهُ،). فأين أبو بكر من كتبة
الوحي الآخرين؟! أين أبو بكر من المهاجرين، أمثال: عثمان، وعلي (رضي الله عنهما)، وهذا
الأخير جمع القرآن على ترتيب النزول، عقب موت النبـي (صلى الله عليه وسلم)([2]).
ومصحف عليّ هذا، يدلّ دلالة واضحة بأنه (رض) ما جمع القرآن من تلقاء نفسه، وبهذا الترتيب،
وإنما أمرٌ أمرَه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) به. ويدلّ أيضاً على معرفة علي (رض)
معرفة واسعة بتاريخ النزول، وكان عونه في ذلك الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه، وهذا
يعني شدة اعتنائه بالقرآن، وتمسكه بالقرآن، ولزومه للنبـي (صلى الله عليه وسلم)، وإلا
لما استطاع جمع القرآن حسب النزول؟!.
وهناك روايات تفيد بأن بعض كبار الصحابة أيضاً كتبوا
مصاحفهم.. كأبيّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعائشة
أم المؤمنين، وزيد بن ثابت. فكل واحد من هؤلاء كتب مصحفه على عهد رسول الله (صلى الله
عليه وسلم)([3])
وهذا يناقض رواية زيد بن ثابت السابقة.
ومن الطامّات في الرواية، قول زيد بن ثابت: (قلت: كَيْفَ
تَفْعَلَانِ شيئاً لم يَفْعَلْهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟، فقال أبو بَكْرٍ:
هو والله خَيْرٌ، فلم أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حتى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ
الله له صَدْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ). فمن المعلوم أن زيد بن ثابت كان ممن يكتب الوحي،
وكان ممن جمع المصحف من الصحابة، على ما جاء في أخبار وروايات أخرى تؤكّد ذلك. فإذا
كان القرآن قد جمع بهذه الطريقة المذكورة في الرواية، فكيف يسأل هذا السؤال؟! ثم لم
احتاج أبا بكر (رض) لموافقته عدة مرّات يراجعه فيها، ألا يهمّه جمع القرآن هو أيضاً؟
ثم في آخر المطاف ينبسط هو أيضاً للفكرة، ويذعن لهذه المهمة الشاقّة، بدافع الخيرية
طبعاً! كأن لسان حاله كان يقول، قبل قبوله قول أبي بكر وعمر: دعوا القرآن متفرقا، كما
تركه النبـي (صلى الله عليه وسلم) متفرقا، كيف أنتم تجمعونه ورسول الله (صلى الله عليه
وسلم) لم يجمعه؟! فيأتي عمر وأبو بكر بفكرة الخيرية هذه، فيأخذ الصحابة كلّهم بهذه
الفكرة، ويوافقون عليها.
ومنها أيضاً قول زيد بن ثابت (رض): (فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ
الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ من الرِّقَاعِ، وَالْأَكْتَافِ، وَالْعُسُبِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ،
حتى وَجَدْتُ من سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مع خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، لم
أَجِدْهُمَا مع أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...} التوبة: ١٢٨. إلى آخِرِهِمَا). انظر إلى هذا الافتراء البيّن
على القرآن، وأصحاب رسول الله، وعلى كتبة الوحي منهم بالذات. كيف يعقل أن النبـي (صلى
الله عليه وسلم) نزل عليه القرآن، ولم يجد من يكتب الوحي المنزلّ له، عندما نزل عليه
(صلى الله عليه وسلم) شيء من القرآن؟! إنما أمكنه كتابة بعض القرآن، وأما البعض الآخر،
فلم يتمكن من كتابته، لأنه لم يجد من يكتب له، فقرأه لهم، وتلاه عليهم، فمن ثم حفظه
عدة من الأصحاب شفوياً، وبقي في صدورهم، إلى مجيء (يوم اليمامة)؟!
ومن منّا لا يعرف أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
كان لديه صحبة خيار كرام بررة، كانوا يكتبون الوحي له (صلى الله عليه وسلم). لكن القليل
منا من يعرفونهم بأسمائهم، وأعدادهم.. فمنهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير،
وعمرو بن العاص، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن الأرقم، وثابت بن قيس بن شماس، وحنظلة
بن الربيع الأسديّ، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وخالد
بن سعيد بن العاص. وقيل: إنه أول من كتب له، ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت، وكان
ألزمهم لهذا الشأن، وأخصّهم به([4]).
فهؤلاء (رضي الله عنهم)، وغيرهم، كانوا هم من يكتبون
الوحي بين يدي الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهل يعقل مع هذا العدد الكبير من الكتّاب،
أن يكون القرآن لم يكتب كلّه، ولم يجمع، إلى حين يوم اليمامة؟!!.
نقل ابن حجر (رحمه الله) عن الخطابي قوله: "يحتمل
أن يكون (صلى الله عليه وسلم) إنما لم يجمع القرآن في المصحف، لما كان يترقبه من ورود
ناسخ لبعض أحكامه، أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته (صلى الله عليه وسلم)، ألهم
الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء لوعد الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية، زادها
الله شرفا، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق، بمشورة عمر"([5]).
قولٌ بهذا الضعف، ليس موضع قناعة عند رجل من عوام المسلمين،
فكيف يقتنع به رجل ذو علم وفكر، يجعل علمه وفكره في محاربة الله وكتابه ورسوله؟! ويشكّك
المسلمين في قرآنهم، ما أمكنه، كيف يقتنع بأمثال هذه التعليلات والتأويلات الواهية؟!
ثم نرى أن ابن حجر لما ذكر كلام الخطابي هذا، مرّ عليه
دون أن يعلّق على كلامه بشيء، ربّما إشارة منه إلى استحسانه عنده، مع أن كلام الخطابي
فيه نظر: وهو أنه علل عدم جمع النبـي (صلى الله عليه وسلم) للقرآن، لورود الناسخ، أي:
نسخ اللفظ، ورفع تلاوة المنسوخ من القرآن، أو حكمه، مع أنّ مسألة النسخ في القرآن موضع
خلاف بين العلماء، ولا نريد مناقشة هذا الموضوع هنا. لكن الذي يحيرّ في كلام الخطابي
(رحمه الله) هو: لمّا أنزل الله كتابه على رسوله (صلى الله عليه وسلم) كاملا، لماذا
لم يوح الله سبحانه إلى نبيه بجمع القرآن؟! ولمَ لمْ يلهمه هو؟! هل جمع القرآن لا يتعلق
بالنبـي (صلى الله عليه وسلم)، ويتعلق بغيره؟! ويلهم أصحابه بدلا منه؟! أنفهم من كلام
الخطابي أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) لم يُخبَرْ، ولم يعلم، بأن القرآن تم إنهاء
نزوله عليه؟! إذاً فلا وحي جديد ينزل عليه، ولا ناسخ، ولا منسوخ!.
ثمّ إن في عبارة الخطابي: "فلما انقضى نزوله بوفاته
(صلى الله عليه وسلم)". إشكال آخر، وهو: أنها توهم بأن نزول القرآن كان مستمراً
إلى الوفاة، فهل القرآن كان مرتبطاً في النزول بحياة النبـي (صلى الله عليه وسلم) ؟
أم بالمقدار الذي يريده الله سبحانه تنزيله على نبيه، وللناس؟!، فلا بد أن تكون هناك
فترة، ليست بقليلة، بين انتهاء نزول القرآن، ووفاة النبـي (صلى الله عليه وسلم). وفي
هذه الفترة قام النبـي (صلى الله عليه وسلم) بما كان عليه القيام به: من جمع القرآن،
ونصح أصحابه. لذا لم نره (صلى الله عليه وسلم)، لا في خطبته في حجة الوداع، ولا في
خطبه، ولا قبل التحاقه بالرفيق الأعلى، ذكر جمع القرآن، ولا أشار إليه، ولو بإشارة
بسيطة، ولا أوصى بجمعه!! لأنه (صلى الله عليه وسلم) أدّى ما كان عليه تجاه كتاب ربّه
بأحسن ما يكون الأداء، بل جاء عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه ترك لهم كتاب الله، لن
يضلّوا ما إن تمسكوا به!.
وقد حاول ابن حجر (رحمه الله)، هو وغيره، إزالة الإشكالات
في هذا الخبر، وغيره، ومعالجة النصوص الكثيرة المختلفة، المتعارضة، لكننا نرى أن الذي
أتوا به من محاولات، لإيجاد حلول وأجوبة، لرد الشكوك والتساؤلات، وحلِّ عقدِ الإشكالات،
في تلك الروايات، كلها ضعيفة هينة، لا تصلح لأن تكون دليلا مقنعاً. مثلا يقول ابن حجر
(رحمه الله): "وقد تسوّل لبعض الروافض.. أنه يتوجه الاعتراض على (أبي بكر)، بما
فعله من جمع القرآن في المصحف، فقال: كيف جاز أن يفعل شيئاً، لم يفعله
الرسول (عليه أفضل الصلاة والسلام)؟. والجواب: أنه لم يفعل ذلك، إلا بطريق الاجتهاد
السائغ، الناشئ عن النصح منه لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم. وقد
كان النبـي (صلى الله عليه وسلم) أذن في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم
يأمر (أبو بكر) إلا بكتابة ما كان مكتوبا، ولذلك توقف عن كتابة الآية من آخر (سورة
براءة)، حتى وجدها مكتوبة، مع أنه كان يستحضرها، هو ومن ذكر معه. وإذا تأمل المنصفُ
ما فعله (أبو بكر) من ذلك.. جزم بأنه يعدّ في فضائله، وينوه بعظيم منقبته، لثبوت قوله
(صلى الله عليه وسلم): (من سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها)، فما جمع القرآن
أحد بعده، إلا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة. وقد كان لأبي بكر من الاعتناء بقراءة
القرآن، ما اختار معه أن يردّ على (ابن الدغنة) جواره، ويرضى بجوار الله ورسوله. وقد
تقدمت القصة مبسوطة في فضائله. وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف
في قوله: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} البينة: الآية ٢. وكان
القرآن مكتوبا في الصحف، لكنها كانت مفرقة، فجمعها (أبو بكر) في مكان واحد، ثم كانت
بعده محفوظة إلى أن أمر (عثمان) بالنسخ منها، فنسخ منها عدة مصاحف، وأرسل بها إلى الأمصار"
([6]).
كلام (ابن حجر) - رحمه الله- هذا، ليس بجواب للروافض،
وتساؤلاتهم، وفي نفس الوقت لا يتفق مع سياق رواية (زيد بن ثابت)، التي رواها (البخاري)
بوجه من الوجوه، مع أنّه محاولة جادة لتقويم معنى الحديث. انظر إلى قوله: "والجواب:
أنه لم يفعل ذلك إلا بطريق الاجتهاد السائغ، الناشئ عن النصح منه، لله، ولرسوله، ولكتابة،
ولأئمة المسلمين، وعامّتهم". الخطر يكمن هاهنا، وهو أنّ ما فعله أبو بكر(رض)،
كان اجتهاداً سائغاً، ناشئاً عن النّصح!. هل هذا يعتبر جواباً لمن يسأل عن الرّسول
(صلى الله عليه وسلم): لمَ لمْ يجمع القرآن بنفسه؟!!، ولم جمع القرآن، من يعلم أن الرسول
(صلى الله عليه وسلم) لم يجمعه؟!، ثمّ أيّ جواب هذا؟!.. يقول: بأنّ القرآن جمع باجتهاد
واحد، أو اثنين، من الصحابة، وأنهما أقنعا الصحابة الآخرين بهذا الاجتهاد؟! فماذا يبقى
للقرآن من أهمية، وقدسية، بعد القول بأن القرآن جمع بالاجتهاد؟!.
ربّما يقول قائل: لم تنكرون أن الصحابة اجتهدوا في جمع
القرآن؟! فما المشكلة في هذا؟! فنقول له: ما حكم جمع القرآن أساساً؟ هل هو فرض عينٍ،
أو فرض كفاية، أو ليس بفرض؟ ثمّ هل كان هذا الاجتهاد من أبي بكر (رض)، كان فرضا وواجبا
عليه، أم كان مخولاً بين الاجتهاد وتركه ؟! إن أنتم أجبتم أجبنا!! فأي جواب يأتي به
المعترض، يوقعه في معضلة كبيرة، ويجعله بين أمرين، أحلاهما مرّ.
فإن قال: كان فرضا عليه. قيل له: ما هو الدليل على ذلك؟..
ثم، ما هو الدليل على أن جمع القرآن لم يكن فرضاً على النبـي (صلى الله عليه وسلم)
هو؟ وإن قال: لم يكن فرضاً عليه. قيل له: كيف لا يكون جمع القرآن بين الدفتين فرضاً؟!.
ويقول ابن حجر (رحمه الله تعالى) أيضاً: "وقد كان
النبـي (صلى الله عليه وسلم) أذن في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر
أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوبا".
فهل هذا الكلام من (ابن حجر)، يتفق مع قول (زيد بن ثابت)
(رض): (فَقُمْتُ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ من الرِّقَاعِ، وَالْأَكْتَافِ،
وَالْعُسُبِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حتى وَجَدْتُ من سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ
مع خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لم أَجِدْهُمَا مع أَحَدٍ غَيْرِهِ...))!. ثمّ إن معنى:
((حتى وَجَدْتُ من سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مع خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لم
أَجِدْهُمَا مع أَحَدٍ غَيْرِهِ))؟! أي: لم أجدهما مكتوبتين حتّى.. ولا يحفظهما شخص
غيره! كيف يتفق هذا الكلام مع قول ابن حجر: بأن أبا بكر (رض) لم يأمر بكتابة إلا ما
كان مكتوباً ؟!.
إذا كان الأمر كذلك، لم احتاج إلى (زيد بن ثابت) بالذات،
دون غيره من الصحابة، أمثال (علي بن أبي طالب)، ويكلّفه بمهمة صعبة للغاية وحده؟! ثمّ
ما معنى جمع القرآن في هذه الحالة؟! إذ إن كتابة أي شيء مكتوب سهل جداً، وقول ابن حجر:
"فلم يأمر أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوبا"، يعني بالحرف الواحد: إعادة
نسخ القرآن، لا جمع القرآن الكريم. وهذا ما فعله الصديق بالضبط، وهذا ما حدث في الواقع
تماما، أي: نسخ القرآن، وترتيبه في نسخ كثيرة، ثم نشره، وإرساله للآفاق. وهذا ما سنبينه
في حينه.
ثم كيف يتفق قول ابن حجر (رحمه الله): "وكان
القرآن مكتوبا في الصحف، لكن كانت مفرقة، فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت
بعده محفوظة، إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها، فنسخ منها عدة مصاحف، وأرسل بها إلى الأمصار".
مع قول زيد بن ثابت: (فَوَاللَّهِ لو كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ من الْجِبَالِ ما كان
أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ من جَمْعِ الْقُرْآنِ).
فقوله: "لكن كانت مفرقة، فجمعها أبو بكر في مكان
واحد". فإنه لا معنى له، بل فيه نظر وإشكال، وهو: هل كان النبـي (صلى الله عليه
وسلم)، عندما كتبوا له ما نزل عليه من الوحي، راح وترك القرآن المكتوب مفرقا هنا وهناك؟!
ولم يأمرهم بجمع الأجزاء المكتوبة، وضمّ بعضها إلى بعض؟! وأن الذين كتبوا له الوحي،
أخذوا ما كتبوه إلى بيوتهم، وحرموا الناس منه، إلى مجيء (يوم اليمامة)؟. ثم هذا القول
يعارضه حديث عثمان (رض): (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْتِي
عَلَيْهِ الزَّمَانُ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ العَدَدٍ، فَكَانَ إِذَا
نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، يَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُهُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا
هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا»، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ
الْآيَةُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا
وَكَذَا») أخرجه الحاكم (2875). فهذا يعني أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) كان يباشر
عليهم بنفسه في جمع جميع أجزاء القرآن، إلى أن تم كتابة القرآن كاملا في حياته المباركة.
ثمّ إذا كان القرآن مكتوباً، فلم يخاف (زيد بن ثابت)
كلّ هذا الخوف؟! وينظر إلى هذه المهمة على أنها أثقل من الجبال؟! كان أولى بـ(ابن حجر)
-رحمه الله- أن يردّ هذه الرواية، وينتقدها، فحسب.. لا أن يتخبط في الكلام حول المسألة،
بما لا يليق بمكانته الرفيعة في العلم، وجلالته، رحمه الله.
هنا أريد أن أذكّر بأمر غايةٍ في الخطورة، وهو أن (ابن
حجر) نفسه، وغيره من العلماء، ممن نقل عنهم كلامهم في هذه المسألة، والذين رووا هذا
الخبر أيضاً، وغيرهم، لم نرهم ذكروه، ولا أشاروا إليه، لا من قريب، ولا من بعيد، وهو:
أن هذه الرواية تقدح في النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وفي نبوته، وتبليغه الرسالة..
لكن نرى هذا النوع من التنبّه عند (أبي القاسم الكعبـي البلخي) حيث يقول: "وإني
لأعجب من أن يقبل المؤمنون قول من زعم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك القرآن،
الذي هو حجته على أمته، والذي تقوم به دعوته، والفرائض التي جاء بها من عند ربّه، وبه
يصحّ دينه، الذي بعثه الله داعياً إليه، مفرقاً في قطع الخرق، ولم يجمعه، ولم يصنه،
ولم يحفظه، ولم يحكم الأمر في قراءته، وما يجوز الاختلاف فيها، وما لا يجوز، وفي إعرابه،
ومقداره، وتأليف سوره، وآيه، هذا لا يتوهم على رجل من عامة المسلمين، فكيف برسول ربّ
العالمين"([7]).
ويقول القاضي عبد الجبار، في نقده لأهل الحديث، حول
الموضوع نفسه: "إنهم يروون عن الرسول صلى الله عليه ما يدلّ على ضدّ ما اعتقدوه،
من أنه صلى الله عليه، بيّن ما لقارئ القرآن من الثّواب، على سورة سورة، ورووا: أن
القرآن كان محفوظا في أيام الرسول صلى الله عليه، لجماعة، وفصلوا بين من كان يحفظه
بكماله، وبين من قرأ على الرسول عليه السلام، سبعين سورة، ورووا: ما كان يقرؤه من السور
المختلفة في الصلوات، ورووا عن ابن عباس: كنا لا نعلم فاتحة السور، وخاتمتها، إلا بنزول:
بسم الله الرحمن الرحيم، ورووا: أنه بعث إلى البلاد من يقرئ الناس القرآن، ويعلّمون
الناس السنن، وهذا إلى ما شاكله من رواياتهم الكثيرة، يبيّن أنهم يجهلون ولا يدرون،
لأنهم يعتقدون أن القرآن جمع أيام عمر[8]
وعثمان، وأنهما كانا يطلبان الآية والآيتين، حتى اجتهدوا في ضم ذلك"([9]).
نرى أن (القاضي)، من خلال كلامه هذا، يرسم لنا كيف نجمع
بين نصوص الروايات، ثم ننظر فيها، ونتحقق منها، وندرس متونها، ونختار منها ما هو أولى
بالحق والصوابّ، وعدم قبول الكلّ. لأن قبول كلّ الروايات، توقع المرء لا محالة في التعارض،
وفي حمل نصوصها، ومعانيها، على محامل بعيدة، وغير مقبولة عقلاً.
هذا الحديث، الذي أخرجه البخاري وغيره، لا يخرج من النقد
العلمي والتاريخي سليماً، وللأسف الشديد صار العمدة في هذا الباب، ويحتج به من لا علم
له بمسألة جمع القرآن، وخطورة الموضوع، ولا دراية له بنقد المتون، ولا بكثير مما روي
من الأخبار في هذا الباب.
وكي لا يغلط علينا أحدٌ، ويفهمنا سوء فهم.. نقول: إننا
لا نتهم البخاري رحمه الله، وغيره من أهل الحديث، ممن أخرجوا هذه الرواية وغيرها، وليس
لنا ذلك، كلا والله، إنما كان شأنهم جمع الرّوايات، فبدا لهم - رحمهم الله- الرواية
صحيحةً، فأدرجوها في كتبهم. ونحن نقول: بأن نقد المتون ليس فيه طعنٌ واتهامٌ لهم، وتقليل
شأنهم، فهم -رحمهم الله- خدموا الإسلام خدمة جليلة، وقدموا تضحيات كبيرة لأجل هذا الدين،
وحفظوا ثروة عظيمة من سنن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) للأمة، فمن الشين والعيب وقلة
الاحترام، ونسيان الفضل لأولي الفضل، منا، إذا ما تغاضينا عما قاموا به من حفظ السنن،
فجزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين كل خير.
وهناك روايات عدة وردت، تدلّ على أن القرآن جمع في عهد
النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فهذه الروايات والأخبار يوافقها القرآن، والواقع، والعقل،
معاً، جميعاً، في بعض وجوهها. منها ما رواه البخاريّ -رحمه الله- [3810] عن قتادة،
قال: سألت أنس بن مالك: مَن جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال:
أربعة، كلّهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قلت:
من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. وهذا الخبر رواه مسلم أيضاً [6340]. إلا أن في هذا الخبر
نظر، إذ إن هناك أخباراً تدل على أن غير هؤلاء من الصحابة جمعوا القرآن، لكن الخبر
يفيد أن القرآن جمع في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) على كل حال!.
وروى البخاري [5003] رواية أخرى، تخالف الرواية السابقة،
عن أنس، قال: مات النبـي (صلى الله عليه وسلم) ولم يجمع القرآن غير أربعةٍ: أبو الدرداء،
ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
إذا ما لاحظنا، نجد أن هناك إشكالين واضحين في كلتا
الروايتين، ففي الرواية الأولى والثانية إشكالٌ كبير وواضح، وهو أنه جاء فيها أن أربعة
فقط جمعوا القرآن، لكن كلّهم من الأنصار، فأين المهاجرون، وكاتبو الوحي، وخاصّة الخلفاء
الراشدون منهم؟!.
أما الإشكال الثاني: أنه جاء في الرواية الثانية ذكر
أبو الدرداء بدل أبيّ بن كعب. فهذا يدل على أن الأخبار في هذه المسألة غير مضبوطة،
لأنه لا يعقل أن يكون جمع بهذه القلّة جمعوا القرآن، وخاصة ليس من بينهم كبار وقدامى
كتّاب الوحي، وكبار المهاجرين. مع أنه هناك أخبار تخالف الروايتين السابقتين، وتفيد
أن بعض الصحابة جمعوا القرآن، منهم: أبو بكر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر،
وغيرهم، لذا استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة([10]).
وهذا الاستنكار، من بعض الأئمة، فيه دلالة واضحة على
أنه لا يمكن، ولا يعقل، أن يختص أربعة فقط، من بين جميع الصحابة، بجمع القرآن. وفي
هذا الاستنكار دلالة قوية بأن الأخبار خاضعة للنقد، وحتى الرفض أحيانا، وإن جاءت سليمة،
غير سقيمة، من ناحية سندها!!.
وقد حاول (الباقلاني) -رحمه الله- دفع الإشكاليات الموجودة
في الروايتين، ومضامينهما، وجاء بعدة أوجه، جوابا على ما فيهما من تساؤلات، فبلغت ثمانية
أوجه، وفي كل وجه من هذه الأوجه الثمانية نظر. وغاية القول فيها، ما قاله (ابن حجر)
-رحمه الله-: "وفي غالب هذه الاحتمالات تكلّف، لا سيما الأخير". وإليكم هذه
الأوجه الثمانية نصاً: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الجواب عن حديث أنس من أوجه:
أحدها: أنه لا مفهوم
له، فلا يلزم ألا يكون غيرهم جمعه. الثاني: المراد لم يجمعه، على جميع الوجوه
والقراءات التي نزل بها، إلا أولئك. الثالث: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته،
وما لم ينسخ إلا أولئك. الرابع: أن المراد بجمعه تلقيه من فيّ رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)، لا بواسطة، بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة. الخامس:
أنهم تصدوا لإلقائه، وتعليمه، فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عرف حالهم، فحصر ذلك
فيهم، بحسب علمه، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك. السادس: المراد بالجمع الكتابة،
فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظا عن ظهر قلبه، وأما هؤلاء فجمعوه كتابة، وحفظوه عن
ظهر قلب. السابع: المراد أن أحدا لم يفصح بأنه جمعه، بمعنى أكمل حفظه، في عهد
رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إلا أولئك، بخلاف غيرهم، فلم يفصح بذلك، لأن أحدا
منهم لم يكمله إلا عند وفاة رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، حين نزلت آخر آية. فلعل
هذه الآية الأخيرة، وما أشبهها، ما حضرها إلا أولئك الأربعة، ممن جمع جميع القرآن قبلها،
وإن كان قد حضرها، من لم يجمع غيرها، الجمع الكثير. الثامن: أن المراد بجمعه:
السمع والطاعة له، والعمل بموجبه. وقد أخرج (أحمد) في (الزهد)، من طريق أبي الزاهرية،
أن رجلا أتى أبا الدرداء، فقال: إن ابني جمع القرآن. فقال: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن
من سمع له وأطاع([11]).
ولو تتبعنا كل وجه من هذه الوجوه، لاستغرق منا وقتا
وصفحات، يكفي هنا أن نطرح سؤالاً واحداً فقط وهو: أين كان (أنس) يعيش؟! أليس كان يعيش
في (المدينة)، ويعرف الصحابة، وهم يعرفونه على أشد ما يكون من المعرفة؟ كيف لا يعلم
ولا يعرف من كان يحفظ القرآن الكريم منهم؟! ونكتفي بالرد على هذه الأوجه، بما قال
(ابن حجر) عن تلك الوجوه، التي ذكرها (الباقلاني)، بأنّها تكلّف!.
ثم أضاف (ابن حجر) -رحمه الله- احتمالا آخر، وهو: فقال
"وقد أومأت قبل هذا إلى احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس
فقط، فلا ينفى ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين، ومن جاء بعدهم، ويحتمل أن يقال إنما
اقتصر عليهم أنس لتعلق غرضه بهم. ولا يُخفى بُعْده"([12]).
وحَمْل الروايتين على هذا الوجه محتمل، على تقدير إذا كان في روايتي أنس حذفٌ أو نقص..
وأشار إلى هذا الاحتمال أيضاً (القاضي عبد الجبار)،
في كلامه على إثبات أن القرآن نقل بالتواتر كتابة، وليس بالحفظ. فقال: "فأما تعلّقهم
بأن الذين حفظوا القرآن، على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أربعة أو خمسة -
على ما روي في هذا الباب- فبعيد، لأن الذي روي في ذلك إنما هو: في الأنصار، دون المهاجرين،
الذين كانوا يحفظون القرآن، ولأن ذلك إنما أريد به من حفظ القرآن، وانتصب للتعليم،
دون من حفظه ولم ينتصب لذلك. يبين ما ذكرناه: أنه لم يذكر في هذا العدد كبار الصحابة،
كأبي بكر، وعمر، ولا ذكر أمير المؤمنين عليّ، في ذلك، والعلم حاصل بتقدمهم في حفظ القرآن،
ومعرفة أحكامه"([13]).
ذكر (القاضي) أن رواية أنس في الأنصار، دون المهاجرين،
ثمّ أشار إلى أن قلّة - حسب الروايات- كانوا يحفظون كلّ القرآن، كما يقول بذلك العلماء
وأهل الحديث، وهذه القلّة لا تبلغ عدد المتواتر، إذاً لا بدّ من أن القرآن نقل بالتواتر،
كتابة لا حفظا، هذا معنى كلامه -رحمه الله-.
قال (ابن حجر): "والذي يظهر، من كثير من الأحاديث،
أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقد تقدم في المبعث
أنه بنى مسجدا بفناء داره، فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ
ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه، مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبـي (صلى الله
عليه وسلم)، وفراغ باله له، وهما بمكة، وكثرة ملازمة كل منهما للآخر، حتى قالت عائشة:
-كما تقدم في الهجرة- إنه (صلى الله عليه وسلم) كان يأتيهم بكرة وعشية.... وقد ذكر
(أبو عبيد) القرّاءَ من أصحاب النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فعدّ من المهاجرين: الخلفاء
الأربعة، وطلحة، وسعدا، وبن مسعود، وحذيفة، وسالما، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب،
والعبادلة. ومن النساء: عائشة، وحفصة، وأم سلمة. ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبـي
(صلى الله عليه وسلم)، فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس. وعدّ (ابن أبي داود)
في (كتاب الشريعة) من المهاجرين أيضا: تميم بن أوس الداري، وعقبة بن عامر. ومن الأنصار:
عبادة بن الصامت، ومعاذا، الذي يكنى: أبا حليمة، ومجمع بن حارثة، وفضالة بن عبيد، ومسلمة
بن مخلد، وغيرهم. وصرّح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبـي (صلى الله عليه وسلم). وممن
جمعه أيضاً: أبو موسى الأشعري، ذكره (أبو عمرو الداني). وعدّ بعض المتأخرين من القرّاء:
عمرو بن العاص، وسعد بن عباد، وأم ورقة. قوله([14]):"تابعه
الفضل بن موسى عن حسين بن واقد عن ثمامة عن أنس"، هذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه
في مسنده عن الفضل بن موسى به، ثم أخرجه المصنف من طريق عبد الله بن المثنى، حدثني
ثابت البناني وثمامة عن أنس، قال: مات النبـي (صلى الله عليه وسلم) ولم يجمع القرآن
غير أربعة، فذكر الحديث، فخالف رواية قتادة من وجهين: أحدهما: التصريح بصيغة الحصر
في الأربعة. ثانيهما: ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب، فأمّا الأول فقد تقدم الجواب
عنه من عدة أوجه، وقد استنكره جماعة من الأئمة. قال المازري: لا يلزم من قول أنس: لم
يجمعه غيرهم، أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك، لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم
جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك، مع كثرة الصحابة، وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم إلا
إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في
عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وهذا في غاية البعد في العادة. وإذا كان المرجع إلى
ما في علمه، لم يلزم أن يكون الواقع كذلك. قال: وقد تمسك بقول أنس هذا، جماعة من الملاحدة،
ولا متمسك لهم فيه، فإنا لا نسلم حمله على ظاهره، سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع
في نفس الأمر كذلك، سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله،
أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل
إذا حفظ الكل الكلّ، ولو على التوزيع، كفى([15]).
واستدل (القرطبـي) على ذلك ببعض ما تقدم، من أنه قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء،
وقتل في عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم) ببئر معونة مثل هذا العدد. قال: وإنما خصّ
أنس الأربعة بالذكر، لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم.
وأما الوجه الثاني من المخالفة، فقال الإسماعيلي: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان
في الصحيح، مع تباينهما، بل الصحيح أحدهما. وجزم البيهقي بأن ذكر أبي الدرداء وهمٌ،
والصّواب: أبي بن كعب. وقال الداودي: لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظاً"([16]).
انتهى كلامه -رحمه الله-.
لو نظرنا إلى مجموع كلام (ابن حجر)، نجد أنّه في محاولة
لا طائل تحتها، لدفع الإشكال بين الروايتين، مع أنه ذكر في الوجه الثاني: أن البعض
صرّح بأن الحديثين مختلفان، أو أحدهما غير محفوظ، وما إلى ذلك، فالحديثان إذاً عن الأنصار
دون المهاجرين، ولا يفيدان الحصر في هؤلاء الأربعة، وإلا لا يستقيم معناهما، لمخالفتهما
الروايات الأخرى، والحقائق والوقائع التاريخية أيضاً، ممّا لا سبيل عندئذ إلى الجمع
بينهما، وإتيان الوجوه من الاحتمالات، لتصحيح معنى متنيهما. فتأمل..
ففي قول القاضي (عبد الجبار)، وحتى قول (ابن حجر) أيضا،
دلالة واضحة أن كثرةً من الصحابة كتبوا القرآن، وحفظوه، ويدلّ على أن القرآن نقل بالتواتر،
كتابةً في السطور، وحفظاً في الصدور، فليس من اللائق، بعد هذا، قبول قول من يقول: إن
القرآن جمع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بأي شكل كان، وعلى يد أيّ كان.
والذي أراه أن كثرة من الصحابة، من المهاجرين والأنصار،
وغيرهم، حفظوا القرآن، وانتصبوا لتعليمه الناس. فهذه قصة (بئر معونة) خير برهان على
ذلك. إذ إن النبـي (صلى الله عليه وسلم) يرسل لقبيلة واحدة سبعين صحابياً من خير قرّائهم،
ويبقى غيرهم بطبيعة الحال في المدينة، ممن هو مثلهم، أو أعلى منهم درجة، في الحفظ،
والتعليم، والصحبة أيضاً.
لا جرم أن القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر، عن طريق
الكتابة والحفظ معاً، هذا القول يجب أن نقول به. أما ذكر بعض الروايات، التي ورد فيها
أن الصحابة جمعوا القرآن، آية أو آيتين، هنا وهناك، تقتضي أن القرآن لم يبلغ إلينا
بالتواتر، مما يعني أن القرآن نقل إلينا عن طريق الآحاد، أو بعض القرآن نقل إلينا عن
طريق الآحاد، ومن المعلوم أن خبر الآحاد لا يوجب علما، ولا يفيد اليقين، على أصح الأقوال
عند المحقّقين والأصوليين.
فمن تلك الروايات، ما روى الإمام أحمد في مسنده، وابن
أبي داود في المصاحف، عن عَبَّادٍ بنِ عَبدِ اللَّهِ بن الزُّبير، قَالَ: أتَى الْحَارثُ
بنُ خزيمةَ بِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، من آخِرِ سورةِ بَرَاءَةَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...}، إِلى قَوْلِهِ: {فَإِن
تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...}، إِلى عُمَرَ، فَقَالَ:
وَمَنْ مَعَكَ عَلى هذَا؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي وَاللَّهِ، إِلاَّ أَني أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَعَيْتُهُمَا وَحَفِظْتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ
لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، لَوْ كَانَتْ ثَلاَثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا
سُورةً عَلى حِدَة، فَانْظُروا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَأَلْحِقُوهُمَا فِيهَا، فَأُلْحِقَتَا
في آخِرِ بَرَاءَةَ.
هذه الرواية، مع ما فيها من معان خطيرة جداً، نرى (ابن
حجر) لم يتعرض لها، ولو بإشارة بسيطة، بل قال فيها: "وأما قول عمر (لو كانت ثلاث
آيات)، فظاهره أنهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنهم
لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بتوقيف"([17]).
هذه الازدواجية في الكلام، وقع فيها كثير من العلماء،
في كثير من مسائل الدين، وذلك بسبب الأخذ بطرفيّ القضايا الشرعية والعقلية، يقبل هذه،
ولا يرفض تلك، فيتولد من ذلك رأي معوّج، وهذا ما نراه هنا بالذّات.
واضح جدا من كلام (ابن حجر) -رحمه الله-، أنه كان يعرف
تمام المعرفة بأن هذا الخبر تعارضه سائر الأخبار، ومع معرفته تلك، لم يقل شيئاً، بل
مرّ عليه مرّ الكرام. بل إن كلام (ابن حجر) نفسه: "فظاهره أنهم كانوا يؤلفون آيات
السور باجتهادهم"، فيه خطورة كبيرة، ويا ليته لم يقله -رحمه الله-. فكلامه يشير
إلى أن ترتيب الآيات كان باجتهاد الصحابة، مع أنه هناك أخبار تفيد بأن النبـي (صلى
الله عليه وسلم) كان يأمر من كان يكتب لديه الوحي، بأن يدرج الوحي الجديد في مكان كذا
وكذا، وفي سورة كذا وكذا، في موضع كذا وكذا. كان على (ابن حجر)، وغيره، أن لا يقبلوا
هذا الخبر، على الأقل لأن سائر الأخبار تعارضه، لا لأسباب أخرى غير هذا، إذا لم يعجبهم
جميع تلك الأسباب، إذ إن الخبر يعارض القرآن والعقل من وجوه عدة، ثمّ نرى منهم كلّ
هذه المحاولات والتكلّف ومسح عرق الجبين.. والرواية كذب بحت، ولكن بسند صحيح!!.
ثم استمر (ابن حجر) -رحمه الله تعالى- في كلامه على
هذه الرواية، فقال: " قوله: (لم أجد مع أحد غيره) أي: مكتوبة، لما تقدّم من أنه
كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ، أن لا تكون
تواترت عند من لم يتلقها من النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وإنما كان زيد يطلب التثبت
عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها، كما تذكرها زيد.
وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار، والوقوف عندما كتب بين يدي النبـي (صلى الله
عليه وسلم)" ([18]).
هذا الكلام من (ابن حجر) غير مقبول منه، فقوله:
"أي: مكتوبة" لا تتفق مع الحديث بوجه من الوجوه، فكلامه تكلّف ليس إلا. وأيضاً
أن قول زيد بن ثابت: (لم أجد مع أحد غيره). يقتضي إمّا أنه، حين بحثه عن متفرقات القرآن،
لم يصادفه أحد بهاتين الآيتين، فكان أبي خزيمة أول شخص يذكرهما له. وإمّا أنه لما أخبره
أبي خزيمة، راح يبحث عنهما، لعل واحداً يوافق أبي خزيمة، لكنه لم يجد هاتين الآيتين
عند أحد غيره. فلم يجد الآيتين، لا مكتوبتين، ولا محفوظتين، عند أحد غير أبي خزيمة،
فضلا عن نفسه. هذا معنى العبارة بالذات، فكيف تتفق هذه العبارة مع تذكّر زيد وعمر و
وعثمان وغيرهم لها؟!! ولا ننسى كلام (ابن حجر) الذي قال فيه: إن أبا بكر لم يأمر
إلا بكتابة ما كان مكتوباً ؟!! أما أبي خزيمة فإنّه قال: ((لاَ أَدْرِي وَاللَّهِ،
إِلاَّ أَني أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَعَيْتُهُمَا، وَحَفِظْتُهُمَا)).
هذا نصّ قول أبي خزيمة.. ليس فيه دلالة على أن الآيتين كانتا مكتوبتين!
ثم ما معنى عبارة (ابن حجر) -رحمه الله-: " وفائدة
التتبع، المبالغة في الاستظهار، والوقوف عندما كتب بين يدي النبـي (صلى الله عليه وسلم)".
كلا الرجلين يقولان غير ما يقول ابن حجر، فزيد بن ثابت يقول: (لم أجد مع أحد غيره).
وأبي خزيمة يقول: ((أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَعَيْتُهُمَا،
وَحَفِظْتُهُمَا)). إذا لا زيد بن ثابت وجدها من القرآن المكتوب عنده، ثمّ لم يجدها
عند من كانوا يحفظون القرآن من كبار الصّحابة، أمثال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم،
إذ خانتهم كلّهم ذاكرتهم، لولا أبا خزيمة، ولا أبو خزيمة قال بأنه كتبها، إذاً ما معنى
التتبع والمبالغة هنا؟!!.
أقول وأكرر: ما كان لـ(ابن حجر) أن يتخبط، كل هذا التّخبط،
ويتوغلّ في إيراد الأعذار والتأويلات، وإيجاد محامل يحمل عليها هذا الخبر، كان يكفيه
ردّ الخبر فقط، لأن فيه طعناً بتواتر القرآن، كتابة وحفظا وتعليماً، وفيه اتهام للصّحابة
أنهم نسوا أشياء من القرآن، فكان لهاتين الآيتين أبا خزيمة، فمن كان لغيرهما من السور
والآيات، التي نسيت ربّما.. هذا حسب سياق الخبر المذكور، لأنه يوهم بذلك، حتماً، لا
محالة؟!.
على المسلمين أن يدركوا خطورة القول بأن القرآن لم ينقل
بالتواتر، كتابة وحفظا وتعليما، ربما لا يقول أحد هذا القول بهذه الصراحة، وبهذه العبارة،
لكن الأخذ بمجموع تلك الأخبار والروايات كلّها، دون تمحيص، تقتضي هذا المعنى.
فقد أدرك بعض العلماء هذا المعنى، وأحسّ بهذا الخطر..
فهذا هو (الخطابي) -رحمه الله- يقول عن رواية (زيد بن ثابت) فيما نقل عنه (ابن حجر)
في فتحه: "هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص
الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وأبو خزيمة وعمر. وحكى ابن
التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة، بل شاركه زيد بن ثابت، فعلى هذا تثبت
برجلين" ([19]).
وهل يكفي الرجلان لعدد المتواتر؟!!!.
قال (ابن حجر) -رحمه الله- عقب هذا: "وكأنه ظن
أن قولهم لا يثبت القرآن بخبر الواحد، أي: الشخص الواحد، وليس
كما ظن، بل المراد بخبر الواحد، خلاف الخبر المتواتر، فلو بلغت رواة الخبر عددا كثيرا،
وفقد شيئاً من شروط المتواتر، لم يخرج عن كونه خبر الواحد. والحق أن المراد بالنفي،
نفي وجودها مكتوبة، لا نفي كونها محفوظة. وقد وقع عند بن أبي داود، من رواية يحيى بن
عبد الرحمن بن حاطب: فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين، فلم تكتبوهما.
قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم): {لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...}إلى آخر السورة. فقال
عثمان: وأنا أشهد، فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن. ومن
طريق أبي العالية أنهم لما جمعوا القرآن في خلافه أبي بكر، كان الذي يملي عليهم أبي
بن كعب، فلما انتهوا من براءة إلى قوله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...}
ظنوا أن هذا آخر ما نزل منها، فقال أبي بن كعب: أقرأني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
آيتين بعدهن: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ...}، إلى آخر السورة
"([20]).
المشكلة دوما، أنه كثيرا ما يستجير الإنسان من الرمضاء
بالنار! يقول (ابن حجر) إن الآيتين ما نقلتا إلينا بالتواتر كتابةً، وإنما حفظاً، وأن
اثنين أو ثلاثة رجال، وإن لم يبلغوا عدد المتواتر، يكفي، هذا معنى كلامه، ثمّ ينسى
أن في الخبر دلالة واضحة على أن الصحابة كلّهم نسوا هاتين الآيتين، ومن ثمّ لم يكتبوهما،
ولم يدرجوهما عند كتابة المصحف في المصحف، حتى جاء خزيمة بن ثابت ـ وهنا (أصبح أبي
خزيمة) خزيمة بن ثابت ـ وذكّرهم الآيتين، إذاً ما معنى أن القرآن نقل بالتواتر حفظاً،
كما يقول ابن حجر -رحمه الله؟!!. كيف يعقل أن عددا كبيرا من كبار الصحابة كانوا يحفظون
الآيتين، ولكنهم كلّهم نسوا هاتين الآيتين دفعة واحدة، بلا استثناء، عند كتابة المصحف،
إلا أبا خزيمة، أو خزيمة بن ثابت، لا نعرف أيّ واحد من الاسمين صحيح، ثمّ ندّعي أن
الآيتين وصلتا إلينا بالتواتر حفظا!!، أليس في كلام ابن حجر -رحمه الله- قدحا، حتى
في عدد المتواتر، وحكمه ؟! إذا كان عدد المتواتر معرّضون للنسيان، فما بالك بعدد الآحاد؟!،
فلم كلّ هذا الكلام، الذي لا يسبب إلا وجع الرأس، وما فائدته؟!.
ومما يثير العجبَ أكثر.. أنهم ما عرفوا موضع تلك الآيتين،
وتسلسلهما بين آيات سورة براءة، فقالوا برأيهم: اجعلوهما في آخر السورة، ويأتي نفر
آخر، وهو أبيّ بن كعب (رض)، فيقول: أقرأني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آيتين بعدهن!!!.
لاشكّ بأن الروايات في هذه المسألة، غير محفوظة، ولا
مضبوطة، وبعضها كذبٌ صراح، وربما زيد فيها، ونقص منها، قصدا،ً أو عن غير قصد، واختلط
بعضها ببعض، فأنتجت - نتيجة هذا الخلط الشديد- هذا الاضطراب لدى العلماء.
وهناك روايات وأخبار أخرى حول الموضوع، لم نوردها هنا،
بل اكتفينا بما ذكرناه فيما مضى، لأننا أردنا التنبيه فقط على خطورة الموضوع، وحاجته
إلى التقصي والتحقيق والدراسة الجادة. ولو تتبعنا كل الروايات، أو أكثرها، لخرج بنا
من حدود المقالة، إلى تأليف كتاب في الموضوع.
وبعد البحث وإمعان نظر.. تبيّن لي أن الروايات، وأقوال
العلماء، تدور على ثلاثة وقائع وحوادث رئيسة، اختلط بعضها ببعض، واختلطت تفاصيلها أيضاً..
أما الوقائع والحوادث، فهي:
الأولى: أن القرآن تمّت كتابته، وجمعه، على عهد الرسول
(صلى الله عليه وسلم) بين دفّتين، ونسخ منه نسخاً كثيرة.
الثانية: أن أبا بكر (رض)، في فترة خلافته، مع كثرة
من الصّحابة، عملوا على كتابة القرآن، وجمعه، كتابة جديدة، مع ترتيب للسور، باجتهاد
منهم جميعاً، لأن ترتيب السور كان موضع الخلاف بين الأصحاب، لا جمع القرآن بعد أن لم
يكن، كما يفهمه البعض، وزادوا نسخ القرآن، ونشروها في البلاد والأرجاء.
الثالثة: أن عثمان (رض) جمع الناس على نسخة موثّقة من
دار النبوة، ومهبط الوحي، ومجتمع الصحابة، وبإجماع من الصحابة (رضي الله عنهم)، حتى
لا يختلف الناس فيما بينهم على كتاب ربهم، وأرسلها إلى البلاد، ليجمع الناس على نسخة
واحدة، وقراءة واحدة.
وإليك بيان ذلك، واحداً واحداً:
لاشك بأن القرآن تمّ جمعه بين دفّتين، في عهد النبـي
(صلى الله عليه وسلم)، هذا هو الصّواب الذي يجب أن نقول به، لأن كثيرا من الأدلة تثبت
ذلك، فمنها قول الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} القيامة: ١٧ - ١٩. وقوله تعالى:
{وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ* فِي رَقّ مَّنشُورٍ} الطور: ١ - ٣. أي: أن القرآن
سطّر وكتب. وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
الحجر: ٩. وهذه الآية وحدها تكفي. وقوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا
مُّطَهَّرَةً} البينة: ٢. وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن
كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} العنكبوت:
٤٨. في هذه الآية إشارة واضحة إلى أن القرآن في عهدٍ قريبٍ بنبوة محمد (صلى الله عليه
وسلم) دخل مرحلة الكتابة، ومعناها، أي محمد (صلى الله عليه وسلم) ما كنت، قبل نزول
الوحي إليك، تقرأ الكتب، وما كنت تعرف الخط والكتابة، كما شأنك الآن مع القرآن، تقرأه،
وتتلوه على الناس، ولأنّك لا تعرف الكتابة، يخطّه غيرك لَك. أي: يجمعه.
إذا كانت المعلقات السبع من الشعر الجاهلي كتبت، وعلّقت
على جدران الكعبة، وحفظت من قبل أهل مكة، والعرب، آنذاك، كيف لم يخطر ببال النبـي
(صلى الله عليه وسلم) ـ حاشاه ـ أن يكتب، ويجمع، ويحفظ، ويصون كتاب ربّه، ومصدر رسالته
للناس؟!
ومن الأحاديث والأخبار ما تدلّ على أن النبـي (صلى الله
عليه وسلم) جمع القرآن كاملا في مصحف كامل، وعلّمه الناس، منها ما روى (الطبراني) في
معجمه الكبير، عَنْ أَبِي مُحْرِزٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَفَدَ إِلَى
رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ نَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَدَخَلُوا عَلَى النبـي
(صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا لَهُ: احْفَظْ عَلَيْنَا مَتَاعَنَا - أَوْ رِكَابَنَا
-، فَقَالَ: عَلَى أَنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمِ انْتَظَرْتُمُونِي حَتَّى أَخْرَجَ مِنْ
عِنْدِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، قَالَ: «فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ
(صلى الله عليه وسلم) فَسَأَلْتُهُ مُصْحَفًا كَانَ عِنْدَهُ، فَأَعْطَانِيهِ، وَاسْتَعْمَلَنِي
عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَنِي إِمَامَهُمْ، وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ» [8393].
ومنها، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع). رواه الترمذي [3954] وأحمد [5/185]
والطبراني في الكبير [4933] والحاكم. وعبارة (كُنَّا)
تستحق وقفة، إذ تفيد العبارة أن غير واحد، من كتبة الوحي، كانوا متواجدين، حين كتابة
الوحي، فتواجدهم بين يدي النبـي (صلى الله عليه وسلم) أحفظ للقرآن، وأسرع طريقة لزيادة
نَسْخه، ونشره، وتعليمه.
ومنها عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: أربعة، كلّهم من الأنصار: أبيّ بن كعب،
ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. البخاري
[3810]. وقد ذكرنا هذا الحديث سابقا، وبيّنا ما فيه من إشكال. ثمّ لا يأتي أحد فيقول:
أنهم جمعوا القرآن، بمعنى أنهم حفظوه عن ظهر قلب، إذ ليس في الحديث ما يدلّ على ذلك،
بل إن وجود مصحف مكتوب لديهم، يحفظون عليه القرآن، ويدارسون فيه، وارد جداً، ويحتمله
السياق أيضاً، بل هو كذلك بواقع الحال. لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يأمر
كتّاب الوحي لديه، بكتابة القرآن شيئاً فشيئاً، إلى أن تمّ كتابة جميع القرآن، هذا
ما يقتضيه الحال. والصحابة الذين كانوا يعرفون الكتابة، ينسخون، على ما كتب من القرآن،
نسخهم، على مرأى ومسمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليتعلموه، ويحفظوه، هذا ما
كان يحدث واقعاً بالفعل آنذاك.
وفي قصة إسلام عمر (رض)، عندما ذهب إلى بيت أخته، عندما
علم أن أخته أسلمت، هي وزوجها، وكان خبّاب (رض) وقتئذٍ في بيتهما، وعنده صحيفة من القرآن،
يدارسهما القرآن فيها. فقال عمر لأخته: أرأيت ما كنتِ تدرسين؟ أعطيك موثقاً من الله،
لا أمحوها حتى أردّها إليك، ولا أريبك فيها، فلمّا رأت ذلك أخته، ورأت حرصه على الكتاب،
رَجَتْ أن تكون دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له، فقالت: إنّك نجس {لَّا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الواقعة: ٧٩، ولست آمنك على ذلك، فاغتسل غسلك من الجنابة،
وأعطني موثقاً تطمئن إليه نفسي، ففعل عمر، فدفعت إليه الصحيفة، وكان عمر يقرأ الكتاب،
فقرأ (طه) حتى إذا بلغ {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} طه: ١٥ إلى قوله: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ
بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} طه: ١٦ وقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} التكوير:
١ حتى بلغ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} التكوير: ١٤، فأسلم عند ذلك عمر، فقال
لأخته، وختنه: كيف الإسلام؟ القصة...
هذه القصة فيها أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) كان
يُكتب له القرآن في مكة، ومن البديهي أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) رتّب، قبل هجرته
إلى المدينة، نقل ما كتب من القرآن في مكة. وكان (صلى الله عليه وسلم) يأمر الصحابة
بتعليم القرآن، قراءة وحفظا، وكانوا بلا شك يستعملون الصحيفة لذلك، أو الرق، وهو ورقٌ
مصنوع من الجلد، الذي كان متوفرا آنذاك بكثرة، وهذا يعني أن القرآن نقل بالتواتر، كتابةً
وحفظاً وتعليماً، في كلا العهدين: المكّي والمدني.
ومنها قول ابن عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما): (كان رسول
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ، كما يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ).
رواه أحمد [2665] ومسلم [403]. وقول جَابِرِ بن عبد اللَّهِ (رضي الله عنهما): (كان
رسول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ في الْأُمُورِ، كما
يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ من الْقُرْآنِ). البخاري [1109]. انظر إلى كلا الخبرين: إذا
أمر النبـي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بشيء، وأكّده عليهم، شبّهوا ذلك بتعليم القرآن،
وحفظه. مع هذا الإصرار الشديد من النبـي (صلى الله عليه وسلم)، كيف يُحتمل أنه (صلى
الله عليه وسلم) لم يجمع القرآن، ولم يكن لديه وقت لجمع القرآن، ولم يوص بذلك حتّى؟!.
ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لَا تَكْتُبُوا
عَنِّي شيئا غَيْرَ الْقُرْآنِ، فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شيئا غَيْرَ الْقُرْآنِ، فَلْيَمْحُهُ)
رواه الإمام أحمد [11536]. وهذا من حرصه (صلى الله عليه وسلم) على القرآن، وكتابته،
وجمعه.
ومنها عن ابْنُ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا):
(قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ،
وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ
بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ
عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ
تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ العَدَدٍ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ،
يَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُهُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي
يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا
هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا»، فَكَانَتِ الْأَنْفَالُ
مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَتْ
قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)،
وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ
أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). أخرجه الحاكم
[2875] وقال: على شرط الشيخين.
ففي هذه الرواية دلالة على أن النبـي (صلى الله عليه
وسلم) كان يراجع كتّاب الوحي لديه، ويأمرهم بوضع ما نزل عليه من القرآن، من السور والآيات،
متممة للسور السابقة، في مكانها المناسب. وهذا يعني أن القرآن كمُل كتابةً، سورةً بعد
سورة، وآيةً بعد آية، على عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم). وفيها دلالة على أن الخلاف
كان بين الصحابة، حول القرآن، في ترتيب السّور، لا جمعه، وكان الاختلاف مجرد تساؤلات
بينهم فقط. لذا سأل ابن عباس عثمان حول ترتيب سورتي الأنفال وبراءة، وأجاب عثمان بجواب
وافٍ، وبيّن أن ما دام لم يذكر النبـي (صلى الله عليه وسلم) لهم أن براءة ليست من الأنفال،
فإنها سورة وحدها، لكنهم جعلوا البراءة تلي الأنفال، لمشابهة القصّة فقط، فتأمل.
وأما قول عثمان (رض): (فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ
الشَّيْءُ، يَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُهُ). فقولٌ في غاية الأهمية، ويزيل كثيرا
من الإشكاليات حول المسألة. فقوله: (يَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُهُ). يدلّ دلالة
واضحة على أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يدعو رجلا واحداً من الكتبة فقط،
بل كان يدعو بعضهم، ومجموعة منهم. ويؤكد على أنهم كانوا عدة من الرجال، قول النبـي
(صلى الله عليه وسلم): (ضَعُوا). أي: أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يخاطب مجموعة من
الرجال الكتبة، ويشرف عليهم في كتابة المصحف.
ومنها أيضاً، حديث خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ نَفَرًا
دَخَلُوا عَلَى أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنْ بَعْضِ أَخْلَاقِ
النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: (كُنْتُ جَارَهُ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ
بَعَثَ إِلِيَّ، فَآتِيهِ، فَأَكْتُبُ الْوَحْيَ، وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا
ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الْآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا
الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا، أَوَ كُلُّ هَذَا نُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ؟)). رواه البيهقي
في السنن الكبرى [13340].
فهذا الحديث فيه إشارة إلى أهم المسائل، وأعظمها، في
تاريخ كتابة القرآن الكريم، على عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وهي أن القرآن الكريم
تمّت كتابته في بيت النبوة، وحفظ النبـي (صلى الله عليه وسلم) نسخة على الأقل
عنده، وفي بيته، ومن بيته (صلى الله عليه وسلم) أخذ الصحابة نسخهم من القرآن الكريم،
ونسخوا منه نسخا كثيرة، ونشروه، ووزعوه على الناس، بإشراف منه (صلى الله عليه وسلم).
هذا ما يقتضيه سياق الحديث. فهل يحتاج المسلم إلى دليل آخر مع هذا الحديث، وهل بعد
هذا الحديث يبقى اعتراض، لدى من يقول بأن القرآن كان مفرقاً، بعضه هنا، وبعضه هناك،
لدى فلان آية، ولدى فلان الآخر آية كذا وكذا؟!.
فكلّما نزل من القرآن شيء، دعا النبـي (صلى الله عليه
وسلم) عدة من الصحابة، الذين كانوا يكتبون الوحي له، إلى بيته، أو مسجده، ليكتبوا ما
يتلو عليهم من القرآن المنزل، على الرق. فبطبيعة الحال تتم كتابة القرآن بهذه الطريقة
على أتم وجه، ولا يمكن، ولا يتصوّر، أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) بعد كتابتهم للقرآن
بحضرته، في بيته كان، أو في مسجده، أن يتغافل ـ حاشاه ـ عما كتبوه، ولا يأمرهم بنسخ
القرآن، ونشره في الناس، حتى يتعلموا ما نزل من القرآن حديثاً، ويعرف الناس ما نزل
إليهم من ربّهم، ويبقي (صلى الله عليه وسلم) نسخة، أو نسختين، عنده، على وجه الاحتياط،
على الأقل.
وأما ما فعله أبو بكر، هو وعمر وزيد بن ثابت، وغيرهم،
فكان زيادة نسخ القرآن، ونشرها في البلاد والمدن. يؤكد على ذلك ما قاله (ابن حزم)
-رحمه الله-: "وإن لم يكن عند المسلمين، إذ مات عمر، أكثر من مائة ألف
مصحف، من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فما بين ذلك، فلم يكن أقلّ"([21]).
هذا يؤكد أن أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) نشرا نسخ القرآن، لا أنهما جمعا القرآن
من الأكتاف والأقتاب واللخاف والعسب وغير ذلك، لأنه ليس من المعقول أن يكون هناك نسخة
واحدة من القرآن يمتلكها المسلمون، وهي في بيت إحدى أمهات المؤمنين، إلى عهد عثمان
(رض)، ومن عهد عثمان نسخ القرآن أربعة نسخ، أو خمسة نسخ، فقط، حسب الروايات، ثمّ نشرت
بعد ذلك!!، ليس مما يعقل أن يكون المسلمون قرابة اثني عشرة سنة، بعد وفاة النبـي (صلى
الله عليه وسلم)، مع ثلاثة وعشرين سنة من زمن النبوة، أي: خمسة وأربعون سنة، لا يملكون
إلا مصحفا، أو مصحفين.
وإذا ما قلنا أن أبا بكر جمع القرآن في نسخة واحدة،
وأودعها في بيت إحدى زوجات النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فكيف يتفق هذا مع وجود كثير
من الصحابة، الذين حفظوا القرآن الكريم، وكتبوا مصاحفهم في عهد النبـي (صلى الله عليه
وسلم) ؟!.
قال أبو عمرو الداني -رحمه الله-: "وأن أبا بكر
الصديق وعمر الفاروق وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وجماعة الأمة، أصابوا في جمع القرآن
بين لوحين، وتحصينه، وإحرازه، وصيانته، وجروا في كتابته على سنن الرسول (صلى الله عليه
وسلم)، وسنته، وأنهم لم يثبتوا منه شيئا غير معروف، ولا ما لم تقم الحجة به، ولا رجعوا
في العلم بصحة شيء منه، وثبوته، إلى شهادة الواحد، والاثنين، ومن جرى مجراهما، وإن
كانوا قد أشهدوا على النسخة، التي جمعوها على وجه الاحتياط، من الغلط، وطرق الحكم،
والانقاد"([22]).
هذا القول ظاهر في أن أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما)
سارا على نهج النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وسنته، في كتابة القرآن، وجمعه، إذ سبق
أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) كتب القرآن، وجمعه، ولولا ذلك ما أمكنهما السير على
سنته (صلى الله عليه وسلم).
يتضح لنا في كلام الإمام أبي عمرو الداني، أنّه يرفض
أن يكون أبا بكر، وغيره من كبار الصحابة رجعوا في جمع القرآن، وثبوته، إلى قبول ما
لدى الناس، وأخذ شهاداتهم على ما عندهم من القرآن. ما يعني أنه ردّ الأخبار التي جاء
فيها أن الصحابة تتبعوا القرآن هنا وهناك، آية هنا، وآيتين هناك، وراحوا لا يقبلون
من أحد إلا بشاهدين.
وأما عثمان (رض)، فإنه لما كبرت رقعة الدولة الإسلامية،
ودخلت أمم مختلفة في الإسلام، وكانت المصاحف منتشرة بأعداد كبيرة في الأرجاء، كما أشار
إليه ابن حزم رحمه الله، كان الجوّ ملائما جداً من قبل الأعداء، والحاقدين على الإسلام،
أن يزيدوا على ما في القرآن، أو ينقصوا منه، أو يقدّموا، أو يؤخّروا، أو يقرأوا بقراءات
غير ثابتة، محاولة منهم في تغييره، ويروّجوا لمصاحف مزيفة، وأنّى لهم ذلك، فبلغ خبر
ذلك إلى مسامع الخليفة عثمان (رض)، بأن أدرك هذه الأمة في كتاب ربّها، فأمر بإحراق
المصاحف كلّها، المزيّف منها، وغير المزيّف، احتياطا، ثم نسخ المصحف نسخا عدة، وأرسل
بها إلى المدن، وكانت النسخ موثّقة من دار الخلافة، وعليها ختمها، لا يختلف عليها اثنان.
فالعمل الذي قام به عثمان (رض)، كان بمثابة الرقابة للدولة الإسلامية على نسخ القرآن
الكريم، ونشره، وصيانته، جزاه الله على قيامه بهذا العمل المبارك خير الجزاء.
قال أبو عمرو الداني: "وأن عثمان -رحمه الله تعالى-
أحسن وأصاب ووفق لفضل عظيم، في جمع الناس على مصحف واحد، وقراءات محصورة، والمنع من
غير ذلك. وأن سائر الصحابة، من عليّ، ومن غيره، كانوا متبعين لرأي أبي بكر وعثمان في
جمع القرآن، وأنهم أخبروا بصواب ذلك، وشهدوا به. وأن عثمان لم يقصد قصد أبي بكر في
جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمع الصحابة على القراءات الثابتة المعروفة عن
الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وألقى ما لم يجر مجرى ذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه
ولا تأخير"([23]).
من خلال كلّ ما سبق، من الأخبار والأقوال، التي أوردناها
هنا، وغيرها، التي لم نوردها، لئلا يطول بنا المقام حول هذا الموضوع الهامّ والخطير،
تبيّن لي أن التمسك بالرّوايات صعب جداً، إلى أبعد الحدود، مع التمسك - في نفس الوقت-
بالقول بجمع القرآن في عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم)،، ويقع المرء لا محالة في التناقض
والاضطراب. وسلامة العقيدة في القرآن، وقدسيته، أعظم عندي من الرّوايات. ولا يزال هناك
كثير من الأخبار حول الموضوع، لا تسلم من النقد على الأقل، إن لم نقل لا تسلم من الردّ
والرفض، والطعن فيها، لأن كثير منها تطعن في القرآن، وفي الصحابة. مع أن في بعض الأخبار،
التي أوردناها، دلالة أيضاً على ما ذهبنا إليه، مما يعني أن الأخبار في هذا الموضوع
غير مضبوطة، ولا محفوظة، وبعضها يخالف القرآن، ولا يتفق مع القول بتبليغ النبـي (صلى
الله عليه وسلم) كتاب ربّه للناس، ونشره، وتعليمهم إيّاه، ولا مع العقل، ودراسة التاريخ،
والواقع الإسلامي، في عهد الرسالة، وعهد الصحابة، في آن واحد. وتعارض الأخبار والآراء،
وأقوال أهل العلم، دليل على ذلك. ونصيحتي للقارئ هي: أن هذه محاولة منّي للدفاع عن
القرآن الكريم، فإذا عارضت ما كتبت حول الموضوع، وأبديت من رأي فكركَ وعقيدتك، فلا
تستعجل بالردّ على كلامي، بل تحقّق منه، وراجع مرة أخرى معتقدك حول الموضوع، وانظر
إلى قصدي، بل انظر إلى القرآن وقدسيّته، ولا تمهّدوا الطريق إليه للطاعنين فيه، بسبب
روايات لا تفيد اليقين، ولا تفيد القطع أيضاً، فالقرآن مصدر إلهي، لا يطرأ عليه التغيير،
في قليله وكثيره، ولا بالزيادة والنقصان، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ
قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ]
فصلت: ٤١ - ٤٢.
وبعض الروايات، وأقوال أهل العلم، مما أوردناها، واستدللنا
بها، في معرض كلامنا حول هذا الموضوع، لا تخل من تساؤلات، وإشكالات، لم نتعرض لها،
بل كان غايتنا الاستدلال بجانب، أو معنىً منها، تأكيداً لأمرين، الأول: أن القرآن الكريم
جمع في عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، جمعا كاملا، ومن ثمّ نسخ منه نسخا كثيرة،
ونشرت. والأمر الثاني: تقديم أدلّة على ضرورة نقد المتون، وأن كثيرا من المتون، في
قضية جمع القرآن، فيها خلط، على أقلّ تقدير.
فخلاصة القول في هذه المسألة، هي: أن القرآن جُمع، ونسخَ
منه نسخاً عدة في عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، ثمّ أن أبا بكر (رض) زاد من النسخ
فقط، وربّما رتّب سورها مع الصحابة، وجمعهم على مصحف مرتّب واحد، ثمّ قام بنشره في
الآفاق، حتى بلغت عدد النسخ في فترة خلافته، وخلافة عمر، إلى أكثر من مائة ألف نسخة.
ثمّ أن عثمان (رض) منع الناس من نسخ القرآن من تلقاء أنفسهم، إلا على النسخ التي أرسلها
لهم، وجمعهم على نسخة واحدة، وعلى قراءة صحيحة للقرآن الكريم. هذا، والله الموفق للصواب.
----------------------
الهوامش:
[1]أبو
بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، كتاب المصاحف، دار الكتب العلمية،
سنة 1405، ص: 16.
[7]تفسير
أبي القاسم الكعبي البلخي، دراسة وتحقيق د. خضر محمد نبها، دار الكتب العلمية، سنة
2007م، ص: 107ـ108.
[11]ابن
حجر العسقلاني، فتح الباري، دار السلام / الرياض، دار الفيحاء / دمشق، سنة 1421 هـ،
ج 9، ص: 64ـ65.
[13]القاضي
عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، دار الكتب العلمية، سنة 1433، ج
16/17، ص: 158.
[15]هذا
الكلام غير مقبول، لأن القول بأن حفظ الكل الكلَّ يكفي بأن يكون متواتراً لا يصحّ،
فكيف يجوز أن الواحد من الكلّ حفظ آية أو مجموعة من الآيات أو سورة أو سوراً دون غيره
يدخل في حكم المتواتر؟! فمثلا أبي خزيمة كان عنده آيتين لم تكونا عند أحد غيره، ودخل
حكم ما كان عنده في حكم حفظ الكلّ الكلَّ عند ابن حجر وغيره، فالقول بأن حفظ الكل الكلَّ
متواتر ادعاء لا شيء آخر، مع أن كثيرا من الأدلة تعارضه، منها قول ابن حجر رحمه الله
على سبيل المثال: ((وكان القرآن مكتوبا في الصحف، لكن كانت مفرقة، فجمعها أبو بكر في
مكان واحد ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها فنسخ منها عدة مصاحف وأرسل
بها إلى الأمصار)).
[22]أبي
عمرو الداني: الأحرف السبعة للقرآن، تحقيق الدكتور عبد المهيمن الطحان، دار المنارة
للنشر والتوزيع، ص: 62.
[23]الإمام
أبي عمرو الداني: الأحرف السبعة للقرآن، تحقيق الدكتور عبد المهيمن الطحان، دار المنارة
للنشر والتوزيع، ص: 63.
9. قولك:
ردحذف(فخلاصة القول في هذه المسألة، هي: أن القرآن جُمع، ونسخَ منه نسخاً عدة في عهد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، ثمّ أن أبا بكر (رض) زاد من النسخ فقط، وربّما رتّب سورها مع الصحابة، وجمعهم على مصحف مرتّب واحد)
إعلم أن هذا الإستنتاج مخالف لصريح الحديث الصحيح وما أخذته الأمة بالقبول في أمر جمع القرآن، وأنك في هذا الإستنتاج الغريب لم تعتمد متطلبات المنهج العلمي ولا ضرورات التحقيق الموضوعي وحكمت على المتون برأيك فقط دون دليل وحملت النصوص بما لم يقل به أحد من كبار علماء الأمة دون شاهد، ولو أنك تدبرت قول الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ-9) لما استكثرت أن يسخر الله تعالى من عباده في مهمة جمع القرآن سواء كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو 600 الف مسلم يحفظونه عن ظهر قلب في تركيا وحدها.
أخوكم علي سليم
8. – وإذا كان كل زادك أخي الكريم من أبو القاسم البلخي الكعبي فاعلم أنه عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين، وقال عنه ابن خلّكان: «العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم «الكعبيّة» وهو صاحب مقالات، ومن مقالته: أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها، وكان من كبار المتكلّمين، وله اختيارات في علم الكلام.
ردحذف7. حديث جمع القرآن:
ردحذفرغم أنك تقول في التعليق على حديث جمع القرآن ما تراه من وجهة نظرك دون شاهد أو دليل من أحد علماء الأمة الأولين أو الآخرين، وأن تقديرك لمدلولات الحديث ومقاصد عباراته غريبة أشد الغرابة على جبال تراث الأمة الذي ورثناه على مدى قرون عشر، ففي النهايه هي وجهة نظر ومحل احترام من جانب حرية الرأي والتفكير، فإن ذلك ليس بالكبير أمام حكمك على الحديث نفسه وتجرؤك الذي لا نظير له إلا من المخالفين والأعداء عليه بالقول (كذب وافتراءٌ بلا شكّ، وبهتان عظيم). إذا كان هذا حال البخاري وكتابه، وهو ما أخذته الأمة كأصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، فكيف سيكون حال ما بعده من الكتب، وإذا تذكرت معي أخي أن الدين إنما وصلنا من خلال هذه الكتب فأي دين هذا الذي نعتنقه ونؤمن به، ولا أدري إذا كان من الضروري أن الفت نظرك هنا إلى أن ألف سنة من التاريخ وعلوم الحديث رواية وسنداً وفقها وأصولاً هي التي حكمت بصحة الحديث لتأتي أنت هكذا بسهولة ويسر وتحكم عليه بالكذب.
6. قولك:
ردحذف(فهل من المعقول أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) ترك القرآن: بعضه مكتوبٌ، وبعضه في صدور الرجال؟)
رغم أنك تذكر حرص الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على كتابة القرآن تعود وتكرر أنه تركه بعضه في صدور الرجال وهو ما لا يدعمه أي رأي منقول معتبر.
5. قولك:
ردحذف(لا يصح أن نتصوّر، بل لا يمكن أن نتصوّر بأن النبـي (صلى الله عليه وسلم) ترك القرآن ولم يجمعه في حياته! وأنه لم يوص أصحابه حتى.. بجمعه وصيانته وحفظه من بعده، إذ لم يقم هو (صلى الله عليه وسلم) ـ حاشاه ـ بذلك!)
ولم تقل لنا لماذا لا يصح رغم أنك تذكر الآيات التي تنص على أن الله تعالى تكفل بجمع القرآن وحفظه مثلما تكفل بتنزيله، وربما يكون الله تعالى في ذلك وهو أعلم، يبين لنا أن أحداً من الخلق لم ينجح في حفظ رسالاته وجمعها سابقا وأنه لن يستطيع بدون مباشرته بلامهمة جلّ وعلا. أهو العقل والمنطق الذي يدفعك الى ذلك، إعلم أخي الكريم أن عقلك ومنطقك ليس بحجة.
4. قولك:
ردحذف(كل ما في الأمر هو تمحيص الروايات بعضها من بعض، وتحقيقها، ودراستها دراسة تأصيلية علمية موضوعية، من جهة السند والمتن معاً، لأنه هناك روايات كثيرة مختلقة، أدخلت قصدا، أو عن غير قصد، في كتب علماء المسلمين)
هذه دعوة مطروحة بشدة وموضوعية وتأتي تلبية لمعطيات الواقع وافتراضات الزمن، لكنك لم تحدد كيفية السبيل الى ذلك، وعندما ذهبت لتفعل، وجدتك اكتفيت بفكرك وفهمك لما هو الصواب، وذلك أبعد شيء عن البحث العلمي والتحقيق المنهجي، فالرأي الشخصي ليس بحجة لأحدٍ على أحد وإنما الدليل والحجة والبرهان. وهكذا تقرر بسهولة جريئة عندما تتحدث عن الروايات والأخبار، خاصة الروايات التي صحّ سندها!! المتعلقة بكتابة القرآن وجمعه ، بطبيعة حالها تقدح وتطعن في القرآن الكريم والنبـي(صلى الله عليه وسلم) والصحابة أهذا هو السبيل الى ماتسميه تمحيص الروايات بعضها من بعض، وتحقيقها؟
3. قولك:
ردحذف(إن القول بجمع القرآن بعد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، يلزم منه أن النبـي ـ حاشاه ثم حاشاه ـ لم يقم بعمله كنبـي!! ولم يقم بالأخذ بالتدابير اللازمة والمطلوبة منه لجمع القرآن وحفظه!! ثم ترك هذا الأمر الخطير في عهدة أصحابه غير المعصومين!!)
تعود مرة أخرى لتقرر كأن أداء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لعمله مشروط بجمع القرآن، وهذه محاولة أخرى منك لتحديد ما يجب على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يفعله وليس ، لغير الله تعالى أن يفعل، وقد فعل جل وعلى وحدد ثلاث مهما رئيسية كبرى لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بينها جمع القرآن، وهي التبليغ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ- المائدة 67) والبيان (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ- النحل44) والحكم (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ- المائدة 49).
2. قولك:
ردحذف(لا يمكن أن يقبل المؤمن أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) لم يقم بجمع القرآن بنفسه، ولا يقبل بأنه قام أحدٌ من الصحابة، مهما كانت منزلته ـ إذ منزلته لا تبلغ منزلة النبوة والعصمة، مهما كان ـ بعمل كان النبـي (صلى الله عليه وسلم) أحرى وأولى أن يقوم به! ومن العجب العجاب أن نرى بعض أهل العلم يذهب إلى أن الصحابة قاموا بجمع القرآن عن طريق الإلهام، ووفاء من الله تعالى بوعده!!).
من حقك، كما هو من حق أي إنسان أن يفكر بما يشاء وكيفما يشاء وينظر الى الأمور بمنظاره الخاص، ولكن ليس من حقه أن يحدد ما يجب أن يقوم به الآخر إلى بقرينة ودليل، فكيف إذا كان الآخر هنا هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، من أين لك أن تقرر أن جمع القرآن كان عملاً من أعمال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى يقول له (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ- القيامة 19،18،17،16) . في التفسير، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ { لِتَعْجَلَ بِهِ } لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك وإثبات قراءته في لسانك { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ } جعل قراءة جبريل قراءته: والقرآن القراءة { فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } فكن مقفياً له فيه ولا تراسله، وطأمن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً، كما ترى بعض الحراص على العلم؛ ونحوه.
1. قولك:
ردحذف(بأن القرآن جمع في زمن الخلفاء، تعطي إشارة خطيرة إلى أن النبـي (صلى الله عليه وسلم)، ترك أمته، والقرآن مفرق في قلوب الرجال وصدورهم، أي: كان بعض السور أو الآيات عند بعضهم دون البعض، مما يعني أن القرآن كان معرضا للنقصان وللزيادة، وقد ينسى هذا، ويموت ذاك. وكذا القول بأن سور وآيات القرآن بعد النبـي (صلى الله عليه وسلم)، كانت متفرقة في قطع جلود وأديم وألواح وأقتاب ولخاف كثيرة، متناثرة في الأرجاء، عند أناس كثيرين، غير معصومين !!)
لا يستقيم كثيرا، فقد اتفق العلماء على أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كان حريصاً على تدوين القرآن من خلال كتاب الوعي ولم يجعل الأمر مقتصراً على صدور الرجال لكي يكون معرضا للنقصان والزيادة أو النسيان كما تزعم. عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: «ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» وروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس عن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا». أما أن الآيات كانت متفرقة في قطع جلود وأديم وألواح وأقتاب ولخاف كثيرة، فهي حقيقة ولم يكن هناك في ذلك الوقت كما هو معلوم، سبيل آخر، ولكنها لم تكن متناثرة في الأرجاء بل عند كتاب الوحي أو القراء وهم على كل حال لابد وأن كانوا قلة إذا علمنا أن المجتمع كان أمياً، ولا أدري ما قصدك عند أناس غير معصومين، إذ لم يؤثر لا من قريب ولا من بعيد أنه قد وجب أن يكون حامل القرآن أو مقتني رقاعه المكتوبة معصوماً.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته:
ردحذفأخي الكريم..لن تعدم أجراً بإذن الله تعالى في عملك هذا إن صدقت النيّة، والنية أمرها الى بارئها. أحب أن ألفت نظر جانبك الكريم الى جملة من الأمور، أرجو أن يتّسع لها صدرك وأن ينصرف إليها بعض إهتمامك: