سرهد أحمد
الاضطرابات الأخيرة التي عصفت بإقليم كوردستان، وعلى وجه
التحديد في كبرى حواضر محافظة السليمانية، وخروج تظاهرات تطالب بصرف الرواتب المتأخرة،
ومهاجمة مقرات أحزاب، ومقتل متظاهرين، وما تبعها من ردود أفعال في الطرف المقابل: أخطرها
منع رئيس البرلمان من دخول العاصمة (أربيل)، وإقالة عدد من وزراء الحكومة الائتلافية،
دفعت غالبية الأوساط والنخب للاعتقاد بأن تلك الأحداث نسفت تماماً الجهود الرامية لإنهاء
السلطة (الاولغاريشية) قانونياً، وإقامة (نظام سياسي) دستوري، سواء أكان شكله برلمانياً
أم رئاسياً.
وللحقيقة فأنا أرفض الاستسلام لهذا الاعتقاد، لأن ما جرى
لم يكن إطاحة بعملية التحول الديمقراطي الشامل،
بل مجرد تأخير تفرضه طبيعة مدخلات ومخرجات (المنتظم السياسي) الكوردستاني القائم منذ
23 عاماً.
وأجزم أن هذا التأخير لا يتحمل تبعاته الطرف القابض على السلطة
لوحده، إنما تتشارك الأطراف الراغبة بالتغيير شطراً في تحمل المسؤولية، حيث أن حزباً
أو اثنين، من تلكم الأحزاب المنشدة للتغيير،
لم يع (الواقعية) – منهج في الممارسة السياسية
– التي تحذر من مغبة مواجهة (التقاليد السياسية)،
بغية كسرها، دون الأخذ بـ(المرحلية) و(التدرج)، وإن طال أمدهما، ولجهة (مناطقية) ذلكم
الحزب. أضف إليه الرغبة في إبقاء (العقل الجمعي) خاضعاً لخطابه، علّه يحوز تأشيراً
تاريخياً بأنه هو وحده الذي قضى على (التوليتارية السياسية). ناهيكم عن تجاهل مناشدات
أطلقها (فاعل سياسي)، وشريك أساسي في مساعي بناء نظام ديمقراطي حقيقي، مناشدات قضت
بضرورة الإجماع والتوافق الوطني حول مسألة رئاسة الاقليم، والتي تعدّ نقطة الخلاف الأساسية،
هذا مع إدراك ذلكم (الفاعل السياسي) - من خلال المعطيات الحالية، والتجارب المتراكمة-
أن التوافق صعب، لكنه غير مستحيل، لأن الخلافات السياسية الكوردية – الكوردية بطبيعتها (مؤدلجة)، كذلك وضع
بعض الأطراف المشاركة في (الحوار الخماسي) مصالحه الحزبية بالحسبان، من باب مكاسب انتخابية،
أو ابتزاز سياسي، وحتى الثأر لمواقف تاريخية معينة.
ولم يتوقف الأمر عند تجاهل المناشدات، بل تمّ تجاوزها إلى
حدّ شنّ حملة تشويه (ديماغوجية)، عنيفة، هدفها الحطّ من سمعة ذاك الشريك، متهمين إياه
بالتخاذل في مواجهة حزب السلطة..
وفي الطرف المقابل،
استشعر الحزب القابض على السلطة الفعلية، خلال اجتماعات (4+1)، ضيق مساحة المناورة
السياسية، وضعف الدعم القانوني، خصوصاً وأنه لم يقدم مشروعاً واضحاً للمرحلة المقبلة
من ولاية الرئيس الحالي.
وذاك الطرف، غير معدوم الحيلة حين تضيق به السبل، فهو المعروف
عنه اتقانه لعبة (الثروة والقوة)، ليغيّر بأحدهما (موازين القوة السياسية) الداخلية
لصالحه، وهذا ما فعله بالضبط، حين جاءته مبررات استخدام (السطوة) على طبق من ذهب.
هذا هو واقع الحال، فإن لم تستطع، في هذه المرحلة تغييره،
عليك القبول به، والتعامل معه، دون الاستسلام له. فلا مكان لـ(الطوباوية) في الممارسة
السياسة، لأن كل تغيير له منعطفات مرتبطة بمقتضيات المرحلة، والمرحلة لا تقترن بزمن
محدد.
فالمدنيات العريقة، القائمة حالياً، لم تصل إلى ما وصلت إليه
من استقرار سياسي ونظام دستوري رصين، من دون أن تقطع عشرات المراحل، اتسم بعضها بالعنف.
فعلى سبيل المثال، مرّت (بريطانيا)، التي تعد صانعة النظام البرلماني الحديث، بتجاذبات سياسية، بدءاً من معاهدة (الماكناكارتا)
سنة 1215، عندما استطاع النبلاء والأكليروس أن ينتزعوا من الملك اعترافاً بتحديد صلاحياته،
ومرورا بثورة (كروميل) – الصراع المسلح بين البرلمانيين والملكيين - بين عامي 1642
و1651، وانتهاءً بإصدار (شرعة الحقوق)، صادقها البرلمان سنة 1687، ونصت على تقييد صلاحيات
الملك المالية، وتجنيد الجيوش والتشريع منفرداً، بحيث أفضت جميعها إلى استقرار النظام
السياسي على ما هو عليه الآن.
وكذلك (فرنسا)، ذات النموذج المميز بين الأنظمة السياسية
في العالم الغربي، نظراً لتاريخها الدستوري العريق، حيث شكّلت منذ العام 1789 – عام
اندلاع الثورة – وحتى اليوم أعرق دولة، فكراً ومؤسسات، في نشوء النظام الديمقراطي وتطوره، بحيث جرّبت 13 دستوراً
وجميع أنظمة الحكم – خمس جمهوريات - حتى استقر
بها الأمر على المسار الحالي.
وعليه.. لا بد للفرقاء السياسيين الكورد أن يستقوا العبر
من تجارب الأمم الناهضة، مع نبذ اللجوء إلى العنف وسيلة في حسم الصراع السياسي.
فالحكمة تقتضي أن أعواماً من الجلوس حول (طاولة الحوار)،
خير ألف مرة من التمترس يوماً واحداً في ثكنات الاحتراب والاقتتال الداخلي، الذي لطالما
دفع الإقليم ثمناً باهضاً وفادحاً جراءه، خلال تسعينيات القرن الماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق