نقف معاً
في هذه الوقفة، مع بعض المعالم الّتي تصفِّي لنا مودَّة النَّاس مِن حولنا. إنَّها
معالم نستعطف بها القلوب، ونستر بها العيوب، ونزيل بها الخطوب، ولها أثرها الكبير على
تحقيق المحبَّة..
المعْلم الأوَّل:
ابتسام وسلام ، فالابتسام مرآة القلب ورائد الضَّـمير. جاء في الحديث: ((تَبسُّمُكَ
فِي وَجهِ أَخيكَ صَدَقة)) (1) . وقال ابن الحارث رضيَ الله عَنه: ((مَا رَأيتُ أحَداً
أَكثرَ تَبسُّـماً مِن رَسـولِ الله صلَّى الله عليهِ وَسلَّم))(2).
يقول رسول
الله صلّى الله عليهِ وَسلّم: ((لاَ تَحقرَنَّ مِن المعروفِ شَيئاً، وَلَو أنْ تَلقَى
أخَاكَ بِوجهٍ طَليق))(3).
(لا تحقرنّ):
أيْ لا تستقلّ (مِن المعروفِ شَيئاً): فتتركه لقلّته، فقد يكون سبب الوصول إلى مرضـاة
الله تعالَى، (وَلَو) كان هذا المعروف (أنْ تَلقَى أخَاكَ بوَجـهٍ طَليق): أيْ وجه
ضاحك مستبشر، وذلك لما فيه مِن إيناس للمؤمن، وجبر لخاطره، وبذلك يحصل التَّأليف المطلوب
.
وفي (الموطّأ)
أنَّه (صلّى الله عليهِ وَسلّم) قال: ((تَصافَحوا يَذهَب الغِلّ، وَتَهَادوا تَحابُّوا
وَتَذهَب الشَّحنَاء))(4).
وللهديَّة
تأثير عجيب، على أن لا يكلِّف الإنسان نفسه إلاّ وسعها..
هَدايَا النَّاسِ بَعضـهِم لِبعضٍ ... تُولِّدُ فِي قُلوبـهمُ الوِصَـالا
وَتَزرَعُ
فِي الضَّميرِ هَوىً وَودَّاً ... وَتَكسُوَهم إذَا حَضَروا جمَالا
وخير النَّاس
هو الّذي يبدأ بالسَّلام. خرج (ابن عمر) يوماً، فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلاّ وسلّم
عليه. والمصـافحة تزيد في المودَّة. جاء في الحديث: ((لاَ تَدخُلوا الجنَّةَ حتَّى
تُؤمِنوا، وَلاَ تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلاَ أدلُّكم علَى شَيءٍ إذَا فَعلتُموهُ
تَحابَبتم؟ أَفشُوا السَّلامَ بَينَكم))(5).
وفي الصَّحيحين
مِن حديث (عبد الله بن عمرو) - رضيَ الله عنهمَا - أنَّ رجلاً سأل رسول الله (صلّى
الله عليهِ وَسلّم): أيّ الإسلام خير؟ قال:
((تُطعمُ الطّعام، وَتَقرأُ السَّلام، علَى مَن عَرَفت، ومَن لَم تَعْرِف))(6).
وقال الله
تعَالى: [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا]النِّساء:
86.
المعْلم الثَّاني:
الكلمة الطّيِّبة: وهي الّتي تسرُّ السَّامع، وتؤلف
القلب.. هي الّتي تحدث أثراً طيِّباً في نفوس الآخرين.. هي الّتي تثمر عملاً صالحاً
في كلِّ وقت.. هي الّتي تفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشَّر.. قال الله سبحَانه وَتعَالى:
[إليهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَملُ الصَّالحُ يَرفعُه] فاطِر: 10. وقال
(صلّى الله عليهِ وَسلّم): ((الكَلمَةُ الطّيِّبةُ صَدَقة))(7).
جماليَّة
الكلمة نتيجة لروح متوثِّبة، وقلب خافق، ولهجة صادقة، وتأتي بعد ذلك البلاغة، ويأتي
البيان؛ للوصول إلى أرقى درجات التَّأثير، فإن لم تكن الكلمة بهذه الصُّورة، فالصَّمت
أفضل..
قال رسول
الله (صلّى الله عليهِ وَسلّم): ((عَليكَ بحسْنِ الخُلُق وَطُولِ الصَّمت، فَوَ الّذي
نَفسِي بِيدهِ مَا تَجمَّلَ الخَلائقُ بمثلهِمَا))(8).
وكان رسول
الله (صلّى الله عليهِ وَسلّم) لا يقطع الحديث، حتَّى يكون المتكلِّم هو الّذي يقطعه.
ومَن جاهد نفسه على هذا الخُلُق؛ أحبَّه النَّاس وأُعجبوا به، بعكس الإنسان الكثير
الثَّرثرة والمقاطعة..
إِنَّ الكلمات
هي التّرجمانُ المعبِّرُ عن مستودعات الضَّمائر، والكاشفُ عن مكنوناتِ السَّرائر، فإِذا
أردت أن تستدلَّ على ما في قلب الإنسان؛ فانظر إلى كلماته وألفاظه، فإنَّها الدَّليل
على ما يكنُّه في قلبه مِن خير أو شرّ..
وإذا أنعم
اللهُ - سبحَانه وَتعَالى- على العبد بصـدق اللّهجة، وطيب الحديث، وجمال المنطق، شَرُفَ
قدرُهُ، وحُمِدت سيرتُهُ، وحَسُنَت عاقبتُهُ، فملكَ قلوبَ النَّاس، وأمنوه على أقوالِهم
ووصاياهم وأماناتِهم.
المعْلم الثَّالث:
بذل المعـروف: يقول الله عزَّ وَجـلَّ: [وَأحسِنوا إنَّ الله يحبُّ المحسِنين] البقرة:
195. وقال (صلّى الله عليهِ وَسلّم): ((أحَبُّ النَّاسِ إلَى الله أنْفعُهم للنَّاس))(9).
وقال الشَّاعر
الحكيم:
إذَا أَنتَ صَاحَبتَ الرِّجَالَ فَكـنْ
... فَتـىً مِعطَـاءً لِكلِّ رَفــيقِ
وَكُنْ مِثلَ
طَعمِ الماءِ عَذباً وَبَارِداً ... علَى الكَبدِ الحرَّى لِكلِّ صَـديقِ
وقال آخـر:
أَحسِنْ إلَى النَّاسِ تَستَعبدْ قُلوبَهُمُ
... فَطَالما استَعبدَ الإِنسَانَ إِحسَانُ
وَكُنْ علَى الدَّهرِ مِعْوَاناً لذِي
أَمَلٍ ... يَرجُو نَداكَ فَإِنَّ الحُـرَّ مِعْوانُ
وَاشْدُدْ يَديكَ بحبْـلِ اللهِ مُعتَصماً
... فَإِنَّه الرُّكنُ إِنْ خَانتكَ أَركانُ
مَـنْ كَانَ للخَيرِ منَّـاعاً فَليسَ
لهُ ... علَى الحَقيقةِ إِخوَانٌ وَأَخْـدانُ
مَن جَادَ
بِالمالِ مَالَ النَّاسُ قَاطبـةً ... إِليـهِ، وَالمَالُ للإِنسَـانِ فتَّانُ
ومِن نعم
الله تعَالى على العبد أن يجعله مفتاحاً للخير والإحسـان. عَن سَهْل بن سَعدٍ (رض)،
عن النَّبِيِّ (صَلّى اللَهُ علَيهِ وَسَلّم)، قَالَ: ((عِندَ اللَّهِ خَزَائِنُ الخَيرِ
وَالشَّـرّ، مَفَاتيحُها الرِّجَال. فَطُوبَى لِمَن جَعلَهُ مِفتَاحاً لِلخَير، وَمِغلاقاً
للشَّـرّ، وَوَيلٌ لِمَن جَعلَهُ مِفتَاحاً للشَّرّ، وَمِغلاقاً لِلخَير))(10).
المعْلم الرَّابع:
أعلِن المحبَّة والمودَّة للآخرين: فإذا أحببت أحداً، أو كانت له منْزلة خاصَّة في
نفسك، فأخبره بذلك. قال (صلّى الله عليهِ وَسلّم): ((إذَا أحَبَّ أحَدُكم صَاحبَه؛
فَليأتِه فِي منْزلِه؛ فَليخبرهُ أنَّه يُحبُّه))(11).
على أن تكون
المحبَّة لله، وليس لغرض مِن أغراض الدُّنيا، كالمنصب والمال والشُّهرة.. وعندما نقترب
مِن الحبِّ، فإنَّنا نترفّع عن الأحقاد، ونبني أرواحاً تتعانق في تراحم كبير.
المعْلم الخَامس:
المداراة: وهي مِن أخلاق المؤمنـين. قال رسول الله (صلّى الله عليهِ وَسلّم): ((إنَّ
شرَّ النَّاسِ عِندَ الله منْزلةً يَومَ القيَامَـة: مَن ودَّعهُ النَّاسُ اتِّقـاءَ
فُحْشِه))(12).
ومعنى
"ودَّعه النَّاس" أيْ: تركوه. ومعنى "فُحْشه": أيْ: قبح كلامه
وأفعاله. ولهذا جاء في رواية أخرى: مَن ودَّعه النَّاس اتِّقاء شرِّه.
وهذا الحديث
أصل في المداراة. والمداراة: لين الكلام والبشاشة للفسَّاق وأهل الفحش والبذاءة، اتِّقاءً
لفحشهم أوَّلاً، وثانياً لعلَّ في مداراتهم كسباً لهدايتهم، بشرط عدم المجاملة في الدِّين،
حتَّى لا تتحوَّل المداراة إلى المداهنة. قال (صلّى الله عليهِ وَسلّم): ((مُدارَاة
النَّاسِ صَدَقة))(13).
ويقول الشَّافعيّ
- رحمهُ الله-:
لَـمَّا عَفوتُ وَلمْ أحقِدْ علَى
أحَدٍ ... أرَحتُ نَفسيَ مِن همِّ العَداوَاتِ
إنِّي أحيِّي
عَـدوّي عِنـدَ رُؤيَتهِ ... لأدفعَ الشَّرَّ عنِّي بالتَّحيـًّـاتِ
وقال آخـر:
مَـا دمتَ حيَّـاً فَدارِ النَّاسَ
كلَّهـمِ ... فَإنَّمـا أَنتَ فِـي دَارِ المـدَاراةِ
مَن يَدْرِ
دَارَى، وَمَن لمْ يَدْرِ سَوف يُرَى ... عمَّـا قَليلٍ نَديـماً للنَّدامَـاتِ
أَخيـــــراً:
* كُن لطيفاً
إذا طرقت أبواب النَّاس، فلا تسرع الطّْرق، ولا تكثِر منه، واجعل بين الطّرقة والأخرى
وقتاً يسيراً، ولا تزد على ثلاث طرقات..
كذلك الحال
إذا هاتفت غيرك، فلا تتَّصل في أوقات غير مناسبة، ولا تُطْل في الرَّنين، طالما أنَّ
المستقبل لم يردّ، فلربما يكون الوقت وقت راحة، أو نوم، أو مرض..
* سارعْ بالسُّؤال
عن المريض، وزيارته، والاتِّصال به، واعلمْ أنَّ الأيَّام دول بين النَّاس.. فاليوم
أنت معافـى، وغداً قد تكون مريضاً، واليوم أنت مريض، وغداً تكون معافى، بإذن الله..
وهكذا.. فإنَّ دوام الحال مِن المحال..
* كن خير
أمين.. لا تفشِ سرَّ أصدقائك، ومَن ائتمنوك..
* تواضَـعْ..
تَواضَعْ
إذَا مَا نِلتَ فِي النَّاسِ رِفْعةً ... فَإنَّ كَبيرَ القَومِ مَن يَتواضَـعُ
* تعلّم أدب
الاختلاف: إذا حدث واختلفت مع غيرك، فكن ذا معرفة جيِّدة بآداب الاختلاف في الرَّأي،
وضَعْ نُصْب عينيك أنَّ الاختلاف في الرَّأي لا يفسد للودِّ قضَّية .
*
لا تتدخَّل في خصوصيَّات الآخرين، فقد جاء في الحديث: ((مِن حُسْـنِ إسلامِ المرءِ:
تَركُهُ مَا لاَ يَعنيه))(14) .
الهوامـــش:
1- رواه التِّـرمذيّ برقم ـ 1879 .
2- مختصر الشَّمائل - الصَّفحة أو الرَّقم : 194 ،
وهو حديث صحيح .
3- مسلم: البِرِّ وَالصِّلة وَالآدَاب
( 2626) .
4- موطَّأ مالك – باب حسن الخلق – رقم 1635 .
5- رواه مسلم في صحيحه – حديث رقم : 54 .
6- رواه البخاريّ (حديث رقم 28) ، ومسلم (حديث رقم
39).
7- أخرجه مسلم مِن حديث أبي هريرة : 6/421 .
8- رواه ابن حبَّان عن أبي الدَّرداء حديث رقم :
134 في صحيح الجامع.
9- أخرجه ابن أبي الدُّنيا فى كتاب قضاء الحوائج بسند
حسن- ص 47 ، رقم 36 .
10- أخرجه ابن ماجة (238).
11- أخرجه أحمد : 5 / 145.
12- متَّفق عليه عن عائشة . البخاريّ (6131) ومسلم
2591.
13- ابن حبَّان في صحيحه : 2/216.
14- ابن ماجة : 3976 ، والتِّرمذي : 2317.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق