سـعـد الزيباري
لا شكّ أن هُناك
الكثير مِنَ الأفكار المطرُوحة هنا أو هناك قد تمخّضت في ظرُوفٍ اجتماعيّة أو
اقتصاديّة أو سياسيّة مأزومة، والفكرُ الّذي تـمّ توليده وإنتاجُه في هذهِ الظرُوف
الاستثنائيّة يكونُ منقُوعاً من زيتِ هذا الوضعِ المأزوم. والفكر المأزوم لا
يُقدِّم - عادةً - مُعالجاتٍ فكريّةً ناجعة، بل يسهمُ في تهويلِ الأزمةِ المشخّصة
وتضخيمها وعرضِها بصُورة فكريّة مُعقلنة. ونحنُ في هذا العصر المأزوم قد نتفاجَأ
بكتاباتٍ مَتحت دلوَها في أتون الأزمات الخانقة وحمأةِ الانتكاساتِ الغائِرة،
وقدّمت أفكاراً مِنْ وحي مشكلاتِها العالِقة، فكانت صورةً مُستنسخةً طبق الأصل، أو
انعكاساً مرئياً لما يُعانيه المجتمع من أزماتٍ ومنغصّات ومخاضات وانتكاسات. فبشّـرتْ
هذهِ الكتابات بأفكارٍ عرضيّة مُسطّحة، لا تعدو عن كونها ردُود أفعال الكاتِب
نفسِه. وبالتالي، فليس غريباً أن نجدَ العديد والعديد مِنَ الدِّراساتِ والأبحاث
أنجزت في ظلِّ الأزمات، وهي تنقلُ رائحتها الكريهة الّتي تزكم الأنوف، وتحملُ
ردُود أفعالٍ
عرضيّة لما يُعانيه الكاتب نفسَه في لحظةٍ تاريخيّة مُعيّنة حافلة
بالضيق والخناق والاحتقان. ولا غَرْوَ أنّ الفكر الّذي قد تـمّ إنتاجُه في بيئةٍ
مأزومة لا يعدُو عن كونه عبارةً عن جُملة قضايا مأزومة قد تـمّ حبكها وسبكها
وتأليفها وتوليفها وتسويقها وترويجها في إطارٍ فكريّ مُعقلن، فهي تمثِّل بنات
أفكار الكاتب الّذي يعاني من مشكلةٍ معيّنة مُشخّصة يريدُ علاجها بأدواتٍ فكريّة
ومُستلزماتٍ عقلانيّة، ويُقدِّمها في إطارٍ اجتماعيّ عام. فهذهِ الأفكار الّتي
نراها، لا تعدو أن تكون أفكاراً تفتّقت من ذهنِ الكاتِب في ظرُوف وسياقات خاصّة، لا
تعبِّر إلا عن دخيلته وعقلِه اللاواعي، ومُعاناته الشخصيّة في حالةٍ مُعيّنة، أو
موقفٍ خاصّ به.
فالّذي يتحدّث - أحياناً - عن قضيّة الفقر في
المجتمع قد يكون هو أحدُ الضحايا الّذين يعانون من إصر الفقر وأغلاله. والدّليل
على ذلك، أنك قلّما تجدُ غنيّاً يكتبُ عن مُشكلاتِ الفقراء، وذلِك لأنّه لا يشعرُ
البتّة بما يُعانيه المعوزون من ذوي الفاقة، وفاقدُ الشعُورِ هذا لا يُعطي تفكيراً
دقيقاً عميقاً لحالة البائسين في المجتمع، تلك الحالة الّتي تطفو في السّطح نتيجة
الظلم السياسي والبُؤس الاجتماعي القائِم في العديد من المجتمعاتِ العربيّة
والإسلاميّة الّتي تنكّبت عن منهج الإسلام الصحيح؛ ذلك المنهج الّذي قدّم مُعالجات
جذرية لقضيّة الفقر وما زال.
ولا ننسى أنْ نذكر هنا أنّ الكثيرَ من المشمُولين
بتسميةِ ذوي الحاجة، كثيراً ما يُقارنون أنفسَهُم بأصحاب الثَّراء والغنى الفاحِش.
فمن خلالِ المقارنة السطحيّة العَرضيّة قد يقفون على اختلافاتٍ كثيرة بين حياتهم
وحيواتِ غيرهم من الأغنياءِ، الّذين يعيشون حياتهم ظاهراً في ترفَ وسَرفٍ ورفهٍ
وبذخ ومسرّة ويُسر. والمقارنة الظاهريّة بين أمرين قد تؤدِّي إلى إطلاقٍ أحكامٍ
جائِرة جاحِدة غير دقيقة، فنصفُ الحقيقةِ قد تكون كذبةً كبيرة. وبعد إجراءِ هذهِ
المقارنة المتعسِّفة، وتلك المعادلة العاجِلة غير المتفحَّصة، بين حالتِه المزرية،
وحالةِ الغنيّ، يخرجُ وهو يحملُ في أعماقِه تجرِبة مُرّة واحتقاناً داخليّاً
وتشظيّاً نفسيّاً. وهو لا يدري أنّهُ تحسّس فقط الغلاف الخارجيّ، ولم يتسلّل إلى
الباطِن. عِلماً أنّ حقيقةَ الأشياء قد لا تتبدّى في ظاهِرها، إنْ لم نمتحن باطنها.
والطّريف أنّ صاحِبَ المقارنة قد لا يكتفي بهذا القَدْرِ مِنَ الحكم على الغنيّ،
وإنّما يبدأ في قرارةِ نفسِه بمعاداتِه ومُناوءتِه، ومن ثمَّ يشرعُ في الحديثِ عن
مثالبه وقوادحِه وسوآتِه بين الآخرين. ولا يكتفي بهذا القَدْر، ولكنه قد يزدري ما
عندَه من نعم، قد تكون أكثر وأفضل مِمّا عند الغنيّ؛ فقد يكون موفور الصِحّة،
ولكنّ الغنيّ - الّذي يريشُ صوبه سِهام حقدِه وكراهيتِه وبُغضِه وتحامُلِه - قد
يكون مريضاً مقعداً لا يقوى على السّير إلا على منسأةٍ خشبيّة، وقد يكون ذا فم
مريضٍ لا يشتهي طعاماً ولا يستحسن شراباً. ومع ذلِك فإنّنا قد نسمعُ من أفواهِ
هؤلاءِ أنّ الغني لا يمرض، وأنّ الغني لا يشيخ، وأن الغنيّ لا تصيبه نازلة، وغيرها
من العباراتِ الّتي تخرِجُ المسلم من دائرةِ الإيمان، وتدخِلُه في دائرةِ الكفر
البواح، وهو لا يدري. وجاءَ في الحديثِ الّذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن
النبـيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنّهُ قال: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلّمُ
بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لا يَرَى بِهَا بَأْسَاً فَيَهْوِي بِهَا فِي
نَارِ جَهَنَّمَ سَبِعينَ خَرِيفَاً)([1]). وفي
رواية: (رُبَّ كلمةٍ لا تلقي لها بالاً تَهْوي بك في جهنّمَ سبعينَ خريفاً).
وقولَه: (لا تلقي لها بالاً) أي: لا تتثبّتُ فيها، ولا تتأمّلُ دونها، ولا تتفكّر
في عاقبتِها، ولا تظنّ أنّها تؤثر شيئاً([2]). فما
يُدخلك في دَوْحةِ الإيمان هو كلمة، وما يُخرِجُكَ منها هو كلمةٌ أيضاً، فحذارِ من
إطلاقِ الكلماتِ على عواهنِها جُزافاً واعتباطاً. وحريٌّ بالإنسانِ أنْ يكون
عميقاً في أفكارِه، دقيقاً في أحكامِه، ولله - جلّ وعلا - حِكم باهرة كثيراً ما
تكون خافيةً على عقولِنا القاصِرة، الّتي تشّكلت خِبراتها على تجارِب حسيّة عرضيّة
ظاهِرة. والعقلاء من الغربيِّين أنفسهم قد تجاوزوا هذهِ العقليّة الطفوليّة
القاصِرة، فهذا (بيل غيتس) يقول: "ليسَ مِنْ خطئكَ أنْ تكون فقيراً، ولكن من
خطئكَ أنْ تموت فقيراً". فالإنسانُ قد يُولد من أبوين فقيرين يعيشانِ حياتهما
حدَّ الكفاف، فهو في فقرهِ هذا معذورٌ، ولكنّهُ ليسَ معذوراً أنْ يبقى على فقرِه
دون أنْ يتأبّط قُوّة ونشاطاً كي يُكافح في هذِه الحياة الّتي أبت إلا أنْ تحتضن
ذوي الطّاقاتِ والمواهِب والقدرات، فالسّماءُ لا تُمطِر ذهباً ولا فِضّة، والعاقِل
مِنْ امتهن حرفةً يعتاشُ منها، أمّا العِتاب والشكوى فهي حرفةُ الكُسالى
والمتقاعسين مِمّنْ يلوكون اللّعن ويعتاشون على الوَهَنْ!
والّذي يتحدّث عن قضيّة العنُوسة في المجتمع،
قد يكون هو أحدُ الباحثين عن تعدُّدِ الزيجات، فهو يطرحُ مشكلةً قد يكون هو أحدُ
الّذين يعانون منها أصلاً. وبالتالي، فهو لا يني في تعميمها وعرضها بصُورة فكريّة
عقلانيّة مُجرّدة، وكأنّ هذهِ القضية تمسُّ المجتمع بأسرِه، فهو لا يرى قضيةً
غيرها، ويرى قضية الفقر والتعليم والاستبداد السياسيّ دونها في الأهميّة، فمشكلةُ
العنوسة عندَهُ تقعُ في سُلّم الأولويات الّتي لا تتحمّل التسويف والتصريف
والتّأجيل والتعطيل. لماذا؟ لأنّ الزّواجَ في مخيالِه من القضايا الحسّاسة
والمهمّة الّتي تمسُّه في الصّميم، وبالتالي فيجب أنْ تتظافر الأقلام والأفكار
لمعالجةِ هذهِ القضية وعلى جناح السُرعة. وإذا ما تحقّق له ما يُريد، واستطاع أن
يتزوّج بأُخرى، فإنّ ما كان يدعُو له ويُناضِلُ مِنْ أجلِه وينافح في سبيلِه يذهبُ
من غير رجعة، فلا تجدُ في لسانِه وتحت سِنّ يراعِه قضيةَ العنُوسة ولا قضية
العانسين تارةً أُخرى. لأنّ المشكلة - الّتي يعانيها المجتمع - والصّحيح المشكلة
الّتي يعاني منها هو، قد وجدتْ طريقَها نحو الحل الجذريّ والنهائي، وهذا الحلّ -
ببساطة - هو ما يعني أنّهُ قد نال الزّواج الّذي كان يرغبُ به ويحلمُ من أجله، على
المستوى الشخصيّ.
وكذلك فأنت لا تعدم نماذج كثيرة تكافِحُ بل
تنافِحُ من أجلِ تأصيلِ قضيّةِ التعدُّد، وتجذيرِها، بوصفِه من أهمِّ الخياراتِ
الّتي تُسهِمُ في حلِّ قضيّةِ العنُوسة. والرّاغِبُون في هذا المشرُوع الإنسانيّ
حينما يُعدِّدون فإنّهم لا ينظرُون البتّة إلى العانساتِ اللّواتي يتحرّقن شوقاً
إلى الزّواج - مع تقدير حاجتهم الإنسانيّة، فليس في ذلك عيبٌ ولا معرّة - وإنّما
يريشون سهامهم نحو الفتياتِ اليافعات، وهم في دأبهم هذا لم يكونوا أبداً وسيلةً
ناجعة من وسائِلِ حلِّ المشكلة، وإنما كانوا من الأدواتِ الّتي أسهمت في تعقيدِها
أكثر. وعِلّة ذلك أنّ العديدَ مِنَ الشّباب كانوا بانتظارِ هؤلاءِ الشّابّات بفارغ
الصّبر، ولكنّهم نظراً لقصرِ ذاتِ يدهم، لم يتمكّنوا من الاقترانِ بهنّ، ويتفاجَأ
الواحِدُ من هُؤلاءِ الشّباب - بعدَ أيّامٍ أو أشهُر معدودات - بأنّ الشابّة الّتي
كان يريدُ الاقتران بها قد قَدِمَ لخِطْبتها رجلٌ مُتزوِّجٌ أسنُّ منها بعقدينِ
مِنَ الزّمن أو أكثر، بضغطٍ مِنْ أوليائِها، أو - في الأغلبِ الأعمِّ - بإغراءٍ
مِنْ خاطبيها، وفي النهايةِ توافِق الفتاةُ المسكينة على الزّواج لقاءَ ذلك المعدن
الأصفر الّذي يجعلُ القبيح جميلاً، والكهلَ شابّاً، والغريبَ أليفاً، والصّامِت
ناطِقاً، والسّفيه فيلسُوفاً!
والسؤالُ
المنطقيّ: يا ترى هل هذا الرّجُل الّذي كان يدعُو إلى التعدُّد - بوصفِه مِفتاحاً
لمعالجةِ العنُوسة - قد أسهمَ في حلِّ هذه الظّاهِرة الّتي تُعاني منها المجتمعاتُ
الإنسانيّة برمّتها في هذهِ اللّحظة التاريخيّة تحديداً، أمّ أنّهُ قد أخذ نصيب
ذلك الشّابّ الّذين شعرَ بالصّدمة، وبدأ يعيشُ حياته يائساً بائِساً بعد أنْ رأى
بأمِّ عينيه تلك الفتاة الّتي أحبّها من كُلِّ قلبه قد تركها إلى الأبد؟! أهذا هو
الحلُّ الحقيقيّ لمشكلةٍ ما زالت المجتمعاتُ الإنسانيّة تعاني منها؟ أهذا هو
العلاجُ الناجع لظاهرة العنوسة المتفشية في قلب العالَم الإسلاميّ؟ أبهذه الصُّورة
يمكننا القضاء على الداءِ الّذي ينخرُ في كيانِ الأمّة ليل نهار؟
فليسَ غريباً؛ إذاً، أنْ نجدَ الكثير من
المشكلاتِ الشخصيّة قد تتحوّل - بين ليلةٍ وضُحاها - إلى مشكلاتٍ اجتماعيّة عريضة
عويصة، وإذا ما وُجِد لها حلٌّ شخصيّ فإنّ الكاتِب سينأى عن هذهِ القضيّة إلى
غيرِها مِمّا تمسّه شخصيّاً على المستوى الفرديّ، ولكُلِّ واحِدٍ مِنّا شواهِد
ضافية مِنْ هذهِ النماذِج الّتي لا تني في طرحِ مثل هذهِ القضايا الاجتماعيّة التي
تكتنفها حاجات فرديّة خاصّة.
وأكثر ما تتجلّى هذهِ النماذج من طرفِ
الليبراليين الجُدد مِمّنْ يُسهمون في إثارة قضايا مدفُوعة أجورها سلفاً، أو ما
يُعرف بـ(العمالة تحت الطلب). فهم قد صدعوا رؤُوسنا - ليل نهار - بضرورة تحرُّر
المرأة من أسرِ التاريخ والمجتمع، وكأنّ المرأة قاصرة لا تعرفُ قضيتها إلاّ حينَ
يأخذُ زمامها علمانويّ، لا يريدُ تحرّرها فكريّاً ومعرفيّاً، وإنما يريدُها
لأغراضٍ وغاياتٍ أخرى غير إنسانيّة. وما أروع ما قالَهُ الأمير نايف
بن عبدالعزيز (1934م – 2012)م في هذا المجال: "إنّ الّذين ينادون بحريّة
المرأة، لا يريدون حُريّتها، بل يريدُون حُريّة الوصُول إليها"! فقضية تحرير
المرأة مِنَ الأعراف الجائرة - الّتي ما أنزل الله بها من سُلطان – هي قضية
إنسانيّة شريفة، ولكن (تسليع) المرأة بادّعاءِ تحرُّرها هو الأمر المردود من قبل
المرأة نفسها، فهي لا تريدُ أنْ تكون أداةً رخيصة طيّعة يُتلاعب بها، فهي الأعرفُ
بحاجاتها، والأكثر خبرةً بمطالبها، وهي ليست بحاجةٍ إلى مَنْ يُعلِّمها طرُق
تحريرِها الّتي تفضي بها إلى الضياع والانفلات. فالمرأة هي الأَوْلى بالدعوةِ إلى
مطالبها المشرُوعة، ونيلِ حقوقها المنشودة، وليست لها حاجةٌ لمن يدّعي وَصْلاً بها،
وهي لا تقرّ له بذاك. فالمرأة قد اكتسحت ميادين الحياة برُمتها، وهي لن ترضى بعدَ
الآن أن يتلاعب بها وبقضيتها أشخاصٌ لهم حاجاتٌ وغاياتٍ غير شريفة. ولا غَرْو إذاً
أنّ نجدَ العديدَ مِنَ القضايا الاجتماعيّة الّتي تحملُ في داخلها أهدافاً شخصيّة،
وأغراضاً فرديّة عاجلة.
والّذي يكتب وراء القضبان، قد تكون أفكارُه
الّتي يُروِّج لها، على جلال قَدْرها، وأهميّتها، من وحي هذهِ القضبان، وتعبيراً
دقيقاً عن مدى الألم والمعاناة والأسى والعذاب الّذي تعرّض له خلال الأيّام أو
الأشهر أو السنوات الّتي قضاها أسيراً مُكبّلاً في أقبية السجُونِ المظلمة. فهو
يكتبُ بشغف وألَمٍ وحُرقة عن تلك الأيّام البائِسة في غياباتِ الأسر تحت القيُود
والسّلاسل والأغلال، فتكون هذهِ الكتاباتِ ممزوجةً ومنقوعةً بمحنة السجُون القاتلة
الحافلة بالترهيب والتعذيب والإهانةِ والتنكيل. فهل هذهِ الكتابات الّتي تـمّ إنتاجها
في هذهِ المواقف تكون تعبيراً عن مشكلاتِ المجتمع ونكساته ونكباته وعقباتِه
وأزماته؟ الجواب سيكون بالنفي.
نعم! لا بُدّ أن نلمس في هذهِ النتاجاتِ - الّتي
أُنجزت في تلك البيئة المأزومة - حرارةَ الصدق ودفء المشاعِر، كما نشعرُ معها
بلسعة الألم، ونحسُّ وإيّاها بلذعة القَسْوة، ولكنّها لن تكون تعبيراً دقيقاً لما
يُعانيه المجتمع من ويلاتٍ وآهاتٍ ومآسٍ ونكبات. وهذا لا يعني أنْ نقلِّل من شأنِ
كتاباتٍ ونتاجاتٍ كان لها من الاستبصار والاستشرافِ والاستكناه بما يكفي لتشخيص
حالة المجتمع المزرية، وخاصةً إذا كان الكاتبُ يعيشُ في حالةِ صفاءٍ فكريّ،
وإشراقٍ روحيّ، بعيدٍ عن لوثاتِ المجتمع، ومشتِّتاته الذهنيّة، التي تنأى بالمفكِّر
عن التفكيرِ الدقيق والعميق. وخيرُ دليلٍ على ذلِك كتابات سيد قطب، الّتي لم تُفهم
- حتى هذهِ اللّحظة - من قبل الكثيرين.
وقد
تأتي النتاجاتُ أيضاً بعد حالاتٍ من التخاصُم والتجادُل بين الفرقاء، في ظلِّ
تنظيماتٍ سياسيّة حزبيّة. وبالتالي يؤدِّي هذا التخاصُم والتّحارُب بين أصدقاءِ
الأمس - أعداء اليوم - إلى مُشاحناتٍ ومُلاسناتٍ وقذفٍ وتشهير، ومن ثَمَّ تتطوّر
إلى مواقِف فكريّة أكثر صلابةً وديماغوجيّة. هذا الاختلاف الفكريّ، أو رُبّما عدم
وجُود الحظوة، أو المكانة، أو عدم الحصُول على منصب حزبي، قد تدفع البعض إلى تبني موقِف
فكريّ يخالِف – أحياناً - ما يُعرف من الدّين بالضرورة، مع أنّهُ كان اختلافاً
فكريَّاً تطوّر إلى خِلافٍ فكريّ، ومن ثَمّ إلى موقِف فكريّ بعيد عمّا كان يؤمن به
لسنواتٍ وسنوات. فتراهُ بعد كُلِّ هذهِ المدّة الّتي قضاها في ظلِّ هذه المدرسة
الفكريّة، أو تلك، يرفع معاوله في وجه الأفكار السّالِفة الّتي كان يؤمن بها،
ويدافِعُ عنها دفاعاً ضارياً ومُستميتاً، ولا يكتفي بهذا بل تراهُ يدّعي أنّها
سببُ تخلّف المجتمعِ الإسلاميّ، وعِلّةُ تقهقرِه وتأخّرِه، ومُراوحتهِ في مكانِه. ومثلُه
كمثلِ ذلِكَ الرّجُل الّذي دخلَ على أحدِ العُلماءِ، فوجدَهُ يشرَحُ لطُلاّبِه (صحيح
البخاريّ)، فقالَ الرَّجُل للشّيخ: النَّاسُ في الغربِ قد وصلُوا إلى القمر، وأنت
ما زلت تشرحُ البخاريّ! فقالَ الشّيخ: وما العجبُ في هذا يا بُني؟! مخلُوقٌ وصلَ
إلى مخلُوق، ونحنُ نريدُ أنْ نصِلَ إلى الخالِق. ولكن! أتعلمُ أنّكَ أنتَ المفلِسُ
الوحيدُ بينَنا؟! فلا أنتَ وصلْتَ إلى القمرِ معهم، ولا قرأْتَ البخاريّ معنا.
هكذا بعضُ النّاسِ مِمّن لا يتعلّم عِلْماً ولا يعملُ عَمْلاً، وإنّما همّهُ فقط
إثارة النقدِ من أجلِ النقد، وتجريح الهيئات والشخصيات لمآرِبَ عاجلة ومكاسِبَ
زائِلة.
وفي الوقتِ الّذي يدينُ فيه الحزبَ - الّذي كان
مُنتمياً إليه لسنواتٍ وسنوات - ويصفه بالمراوحة، أو بالسياجِ الدوغمائيّ المغلق،
والحارِس القديم الّذي يُحارِب أصحابَ الفكر النقديّ الحُرّ، فإنّهُ يخضعُ لهيمنةِ
السُلطةِ الرّاهِنة، ويقبلُ خاضِعاً شرُوطَها وإملاءاتِها القسريّة. ولن يكون
بإمكانِه - بعدَ الآن - أنْ يقترِبَ مِنْ تخومِها المحدّدة بالنقدِ والمساءلةِ؛
لأنّها مِنَ الأمورِ اللامفكّر فيها، أو المستحيل التّفكير فيها، وأيّ نقدٍ
للمؤسسة الحزبيّة هذهِ أو تلك قد يُعرِّضه للمساءلة والاستبعاد، وفي بعضِ الأحيانِ
التصفية. وفي الوقتِ الّذي يُعلِنُ فيهِ خروجَهُ عن إطارِ هذا الحزب الدوغمائيّ -
جرياً على توصيفهِ -، فإنّهُ يدخلُ طوعاً في أقبيةِ أحزابٍ أكثر دوغمائيّة وتبعية،
وأكثر قسرية وإكراهيّة، أحزاباً تُمارِس كُلّ صُوَرِ الاستغلالِ والتّدجينِ
والتّسيس على أفرادِها، وتُغذِّي في مخيالِهم خِطاباتِ التّبجيلِ والتّمجيدِ
لقادتها وزعمائِها الرمزيِّين.
والسؤال المطرُوح هنا: ترى ما هو الإسهامِ
المعرفيّ الّذي سيقومُ به في إطارِ هذا الحزبِ، أو ذاك، وهو الفاقِد الّذي لم يضف
شيئاً جديداً ذا أهمية خلالِ مسيرتِه الطّويلة في حزبهِ القديم؟ وماذا سيقدِّم
للمجتمع بعد أنْ يخرُجَ من قوقعتِه الوهميّة، وينهض من سُباتِه العميق، ويتجاوز
دائرته المغلقة نحو فضاءاتِ أكثر حُريّة؟ وكأنّهُ لم يكن له البتّة حُريّة في
النقدِ، ولا في التّفكير، مع أنّهُ كان حُرّاً طليقاً في نقدِ الحزبِ نفسهِ،
وإدانتِه، والتشّهير به، وبشخصياتِه، وهو لم يزل في إطارِ انتمائِه. فأيّ حِجْرٍ
كان مفرُوضاً عليه، وأيّ تسييجٍ كان مأسوراً فيه؟ وما تذرّع به من حُجج واهِمة
إنّما تدخلُ ضمن ما يُسمّى بالحُجج الإطلاقيّة التعميميّة الضبابيّة الّتي فقدت
مصداقيتها، ويدينها الفكرُ النقديّ المحض.
وقد تبيَّن لنا – بعد مُتابعةِ واطّلاع صفحةِ
(ساحةِ القرآنيّين، ونحن القرآنيّون) مثلاً – أنّ ذوي النصُوص المنشورة - مِمّنْ
يستخفّون بالحديثِ النبوي، ويستهينون بمكانةِ عُلمائِه – ليستْ لهم بضاعةٌ لا في
الحديثِ ولا في غيرِه، لا في اللّغة ولا في الفقه، لا في التّاريخ ولا في الفلسفة،
لا في العلُومِ الآلية ولا في العلُومِ النقليّة، وينطبقُ على منشوراتِهم العقيمة
السّقيمة المثلُ العربيُّ الشّهير: على نفسها جنتْ براقِش! وإذا ناقشتهم رشقُوك
بأسلُوبٍ جدليّ سوفسطائيّ لا منهجيّ ولا مُهذّب، لا يُؤسِّسُ حضارةً، ولا يُرسِي
عمارةً، سِوى اختلاق الشّبهات وإثارة الشّهوات. ويكفي أنْ تقرأ منشوراتِهم لتقف
على ضحالةِ أفكارِهم، وركاكة أسلوبهم، وبذاءةِ كلماتِهم، الّتي تحاكي نفوسهم
المريضة. فهم لا يُعبِّرُون عن نزوعٍ فكريّ عميق، ولا يصدرون عن حاجةٍ معرفيّة
ماسَّة، وإنّما يُعبِّرُون – بدقّة - عن حظوظهم النفسيّة الّتي زيَّنتْ لهم
الشّيطان، وأبعدتهم حتّى عنِ الكثيرِ مِنَ الأصُولِ الثابتة في العقيدةِ
الإسلاميّة.
وأشهر النماذج الّتي يمكن
الإشارة إليها، والاستشهاد بها، من زاوية تأثرّها السلبيّ بالعامِل النفسيّ،
والمحيط الخارجيّ، والّتي أثرت عميقاً - فيما بعد - في نتاجِه الفكريّ - هو
المفكِّر عبدالله القصيمي([3])
الّذي كان سلفيّاً حتّى النخاع، وقد أنتج دراساتٍ مُعمّقةً، حصلتْ على شُهرةٍ واسِعة
في الفضاءِ العربيّ والإسلاميّ، بعدَ أنْ "أسهمَ في الدِّفاع عن الإسلام،
وألّفَ كُتباً عديدة في الردِّ على الشيعة، كما صنّفَ كُتباً أُخرى تصدّى فيها
للملاحدة الّذين يتصيَّدُون في الأحاديث النبويّة، ويُثيرون عليها إشكالات
ظاهريّة، وبهذا كان سجل القصيمي حافِلاً بالملاحم والجهُودِ في خدمة
الإسلام"([4])،
وبيانِ الإشكالاتِ الّتي تثار حولَهُ ليل نهار.
ولكنّه قد تحوّل، نتيجةً للاستبداد السياسيّ
والبُؤس الاجتماعيّ والتبعية الاقتصاديّة، إلى مُولِّد لفكرٍ ينضحُ بالإلحادِ
واللادينيّة. حتّى إِنّهُ في كتاباتِه المغرقة في اليأس والتشاؤم والمرارة والألم،
قد تطاول على الذاتِ الإلهيّة، والملائكة الأبرار، وخاصّة حين تعرّضه لقضيّة
الشرِّ في عالمنا، وخاصّة في كتابه (الإنسان يَعصي، لهذا يصنع الحضارات). والسؤالُ
المطرُوح هنا: ترى أين ذهبت كلُّ تلك الكتاباتِ المعمّقة، الّتي كتبها في سنين رُشده
ونضجه؟ ألم يكن ناضجاً بما فيه الكفاية حينَ أنتج هذهِ الأفكار والطروحات؟ ألم تكن
هذهِ الكتاباتُ المحكمة انعكاساً للنضج الفكريّ والعمقِ الثقافيّ للكاتِب؟ لماذا
تحوّل العالِمُ النجديّ عن الاتجاهِ الإسلاميّ الفطريّ الأصيل، إلى مُحاججاتٍ
سوفسطائيّة، ومُماحكاتٍ جدليّة، مغرقة في البُؤس واليأسِ والتشاؤم، وارتكس من
قِمّة السلفيّة إلى قاع الإلحاد؟!
والحقّ أنّ القصيمي "قد تطوّر من مُؤيِّد
قوي لحركةِ التّجديد الوهابيّة، عبر الاقتراب من المواقِف العلمانيّة، إلى ممثِّل
لأكثر أشكال النقد الديني تطرُّفاً وحِدّة، وبشكل لم يسبق له مثيل على الإطلاق في
العالم العربيّ"([5]).
وأصبح - في نهاية المطاف - يدّعي أنّ معظم أشكال التعبير الدينيّة، يُعَدُّ
عائِقاً في طريقِ التقدّم([6]).
ولا جَرَمَ أنّ القصيمي، مَثَلُه كمَثَلِ
الكثيرِ مِنَ الشبابِ الّذين انزلقُوا في متاهاتٍ فكريّة، حَمّلتهم آلاماً فوقَها
آلامٌ، فخرجُوا منها وهم مُثقلون بأوهامٍ قاتِلة، وشكُوك حائِرة، وكان بعضهم من
المراوحين بين مُدرسةِ الإيمانِ من طريقِ النّقل، ومُدرسة الإدراكِ عن طريقِ
العقل، يلُوكون قشُوراً مِنَ الدّين، وقشُوراً مِنَ الفلسفة، فيقومُ في عقولِهم
القاصِرة، أنّ الإيمانَ والفلسفةَ لا يجتمِعان، وأنّ العقلَ والدّينَ لا يأتلِفان،
وأنّ الفلسفةَ سبيلُ الإلحاد... وما هِيَ كذلِك، بَلْ هي سبيلٌ للإيمانِ بالله، من
طريقِ العقل، الّذي بُنِيَ عليهِ الإيمانُ كُلّه. ولكنّ الفلسفةَ، بحرٌ على خِلافِ
البحُور، يجدُ راكبه الخطرَ والزّيْغَ في سواحلِه وشُطآنِه، والأمان والإيمان في
لُجَجِه وأعماقِه([7]).
كهذا سقط الكثيرُ من هُواةِ الفكرِ والمعرفةِ العرضيِّينَ، في مُستنقعاتِ الفلسفةِ
الضحلة الّراكدة، فارتكسوا في حمأة الإلحاد والارتداد، وتمرّدُوا على القِيَم
والفضائِل، وتبَاهَوا بالأفكارِ اللائكيّة العقيمة. ولا عجبَ في هذا؛ لأنّ القليلَ
من الفلسفة يُؤدِّي إلى الكُفر، كما أنّ الكثيرَ مِنَ الفلسفةِ يُؤدِّي إلى
الإيمان واليقين. وقال ويرنر هايزنبرغ - Werner Heisenberg([8])
- واضِعُ مبدأ عدم الشكِّ والريبة في الفيزياء الكميّة، والحائز على جائزة نوبل
للفيزياء عام 1932م- : إنَّ "أوّلَ رَشْفَاتٍ تَرْتَشِفُها مِنْ كأسِ
العلُومِ قد تقودُك إلى الإلحاد، ولكنَّكَ ستجِدُ الله ينتظِرُكَ في آخرِ الكَأْس"!
والفلسفةُ هي النّظرُ في حقيقةِ الأشياءِ،
وهي علمُ المبادئ الأُولى، والبحثُ في أصلِ الكون، وعِلّته، وحقيقتِه. فمنَ البحثِ
في الكونِ، وعِلّتِه، تكوّنتْ (فلسفةُ الوجُود). ومن البحثِ في العقلِ، وكُنهِه،
وقدرتِه، تكوّنت (فلسفةُ المعرفة). ومِنَ البحثِ في كُنهِ الخير، والجمالِ،
والقُبح، تكوّنت (فلسفةُ القِيَم)([9]).
"فبمحثُ الوجُود يتناولُ طبيعةَ الموجُود، وحقيقته، وأصله، وعِلّته، أي:
المخلُوق والخالِق. ومبحث المعرفة يتناولُ الآراءَ الّتي قالها الفلاسفة في كيفيّة
حصُولِ المعرِفة، ووسائِلها، ومبلغها مِنَ الصِحّة. والأسئلة الّتي تشغلُ بالَ
الإنسان، وتُلقيه بينَ براثنِ الحَيْرةِ والشكّ، تكادُ تنحصِرُ في المبحثينِ
الأوّلين"([10]).
والفلسفةُ كانت - وما زالتْ - في جوهرِها عبارةٌ عنِ البحثِ عنِ الله([11]).
وفلاسفةُ اليونان الأوائِل كانوا كافِرين بآلهةِ اليونان، وأمّا الإله الحقّ
فكانوا يبحثُون عنه، فمنهم منِ اهتدى إليه، ومنهم مَنْ عجز عقلُه عن تصوُّرِه،
ومنهم مَنْ قادَهُ العجزُ إلى الضلال والإلحاد([12]).
هذا (اكزنوفنس)، أحدُ فلاسفةِ اليونان
الأوائِل، الّذي سَما على أهلِ عصرِه، فنبذ أساطيرَ اليونان القائِلة بفكرةِ
التّجسيدِ البشريّ للإله (Anthropomorphisme)، وسَخِرَ مِنْ آلهتِهم، الّتي تأكلُ وتشربُ،
وتلدُ وتموت، يقول: "إنّ النّاسَ هُمُ الّذين اخترعُوا الآلهة - المزعُومة -
وتصوّرُوها بمثلِ هيئاتِهم، ولو كانتِ الثيرانُ، أو الأسود، أو الجياد، تعرِفُ
التّصويرَ، لرسمتْ لنا الإلهَ على أشكالِها: ثوراً، أو أسداً، أو جواداً. كلا ثمّ
كلا. إنّهُ لا يوجَدُ غير إلهٍ واحِد، هُوَ أرفعُ الموجودات، ليسَ مُركّباً على
هيئتِنا، ولا يُفكِّرُ مثلَ تفكيرِنا. وأمّا إدراكُ كُنْه هذا الإله الواحِد
العظيم، فإنّ (اكزنوفنس) يراهُ مُستحيلاً على عقولِنا([13]).
إنّ (اكزنوفنس) قفزَ بكلمتِه هذه ألفَيْ سنة، إلى الأمام؛ لأنّ الفلسفةَ بطرحِه
قدِ انتهتْ إلى الإيمانِ بوجُودِ الله الواحِد الأحد([14]).
والحقّ أنّ (أفلاطون) هو مِنْ أوّل الفلاسفةِ
القائلينَ بوجُودِ الله، وبأنّه الخالِقُ للعالَم، والمدبِّر لأمرِه. ويُقيمُ على
ذلِكَ براهينَ، أهمّها: بُرهان النِّظام. فيقولُ: إنّ العالَمَ آيةٌ في الجمالِ
والنِّظامِ، ولا يُمكِن أبداً أنْ يكونَ هذا نتيجةَ عِلَل اتّفاقيّة، بَلْ هُوَ
صنعُ عاقِل، كامِل، توخّى الخيرَ، ورتّبَ كُلَّ شيءٍ عن قصدٍ وحِكْمَة([15]).
وقمينٌ ذكرُه هنا: "أنّ عبدالله القصيمي
لم يكن أوّلَ مُسلمٍ مُلحدٍ يصرّحُ بإلحادِه، ففي تاريخِ المسلمين عددٌ مِنْ
أمثالِه، وصلَ الحالُ ببعضِهم أنْ عارضَ القرآن بكلامِه السّقيم، كابنِ
الرَّاوَنْدِي الملحِد: أحمد بن يحيى بن إسحاق (ت298هـ)، كانَ أوّلاً مِنْ
مُتكلِّمي المعتزِلة، ثمَّ تَزَنْدَقَ واشتهر بالإلحاد، وقيلَ: إنّهُ كان لا
يستقِرُّ على مذهب، ولا يَثْبُتُ على شيء. وقد صنَّفَ كُتباً كثيرةً يَطْعَنُ فيها
على الإسلام. ونقل عنه ابنُ النّديم - صاحِب الفِهْرِست - أنّ ابن الرّاوندي
"كان في أوّل أمرِه حَسَن الأمر، جميلَ المذهب، ثمّ انسلخَ مِنْ ذلِك
كُلّه". وذكر ابنُ النديم أيضاً أنّ الكُتُب الّتي ألّفها قبلَ انسلاخِه،
كانتْ في الاعتزالِ والرَّفض، وهي نحوٌ مِنْ أربعينَ كتاباً، وكتُبه الّتي ألّفها
في الطّعنِ على الشّريعةِ اثنا عشر كتاباً. وقد حكى جماعةٌ عنه أنّهُ إنّما صارَ
إلى ما صارَ إليه، حَمِيَّةً وأَنَفَةً مِنْ جَفَاءِ أصحابِه، وتنحيتهم إيّاهُ
مِنْ مجالسِهم"([16]).
ويُخيّل لنا أنّ القصيمي هو نسخةٌ من ابن
الرّاوندي. فالقصيمي مثله مثل الرّاونديّ الّذي كان حسن الأدب، جميل المذهب، ثمّ
انسلخ نتيجةَ ردودٍ أفعالٍ، وأسبابٍ خارجيّة، عَرَضَتْ له، أبعدتْه رُوَيْداً
رُوَيْداً عن عقيدةِ الإسلام! وهُنا قد يتبادرُ إلى أذهانِنا جميعاً سؤالٌ منطقيّ؛
ألا وهو: ألم يكن هذا الاتجاه الفكريّ الجديد - لدى القصيمي - تعبيراً واضِحاً
فاضِحاً عن فكرِ الأزمة الّتي ولّدت أزماتٍ فكريّة عندَهُ، حتّى إنّهُ خرجَ عن
الأصول المعتبرة في الإسلام، وصرّح عن إلحادِه في جميع كتُبه الّتي نشرها بعد
انشقاقِه، وإعلانِ إلحادِه البواح.
والقصيمي أنموذجٌ من النماذج العديدة الّتي
تمردّت على كُلِّ ما كان يُؤمن به من قيم ومثل وأعرافٍ ومبادئ، ولحن نشاز يُشبه
لحنَ ابن الرّاوندي؛ لأنّه قبل تحوّله كان رجلاً مُنافحاً عن الدّين، وعن القيم،
ولكنّه بعد تحوّله أصبح رجلاً يعبث بكُلِّ القيم والمبادئ الّتي جاءَ بها الشرعُ
الحنيف.
ولا جَرَمَ أنّ "القصيمي كان طالباً
للعلم ومتميِّزاً، وكان منذ نعومة أظفاره وهو يشتعلُ ذكاءً ويتَّقِدُ عبقريّةً،
وشبَّ مُسلِماً متديِّناً، مُتحمِّساً للدِّين والدِّفاع عنه، وقد أنتجَ مجموعةَ
مؤلّفاتٍ أصيلة رصينة في الدِّفاع عن الإسلام، ونصرة الدّعوة السلفيّة، والتصدِّي
لأعدائها"([17]).
وذلِكَ قبلَ تحوّله، ومنها:
- (البرُوق النجديّة في اكتساحِ
الظلمات الدجويّة)، صدر في عام 1931م، (وهو كتاب يردُّ فيه على مقالاتِ عالِم
الأزهر يوسُف الدِجْوي (بكسرِ الدّال وسكُون الجيم)؛ وهي: (التوسّل وجهالة
الوهّابيين)، و(التوسّل والاستغاثة)، و(توحيد الألوهية وتوحيد الربوبيّة)،
المنشورة كُلّها في مجلة (نور الإسلام) التابعة للأزهر. والقصيمي في كتابه هذا قد
هاجم، بعنف، طقُوس الصوفية، وتقديس الأضرحة، والتوسُّل بها. وقد ضمّن القصيمي في
هذا الكتاب نقاشاً مستفيضاً لحجج الدجوي، مُعتمِداً على حجج محمد بن عبدالوهاب
(كما في كتابيه كشف الشبهات، والقواعد الأربع).
- (شيوخ الأزهر والزيارة في
الإسلام)، نشره عام 1931م.
- (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم). نشره
عام 1932م.
- (مشكلات الأحاديث النبوية،
وبيانها). (وهو كتابٌ يردُّ فيه على الماديين من الملاحدة، ويبيِّن أنْ لا تناقُضَ
بينَ الأحاديثِ النبويّة والعِلْم الحديث). نشره عام 1932م.
- (نقد كتاب حياة محمّد لهيكل)،
نشره في 1935م. وفي هذا الكتاب تصدّى القصيمي للردِّ على محمد حسين هيكل في كتابه
المذكور، الّذي لم يثبت للرّسُول - صلّى الله عليه وسلّم - إلا معجزة القرآن.
وناقشه القصيمي بالحجج النقليّة والعقليّة. وقد سعى هيكل في كتابه لسيرة الرسول -
صلّى الله عليه وسلّم - إلى تفسير السيرة بمنظُور عقليّ، من خلال دعم القيم العلميّة
الوضعيّة، عن طريق عقلنة الإسلام. وتبعاً لذلك نظر إلى عصر الرّسُول - صلّى الله
عليه وسلّم - نظرةً تسمحُ له بتفسير جميع النصُوص القرآنيّة بطريقة العلُوم
الحديثة في عصره([18]).
ويتضمّن الجزء الأكبر من كتابه نقداً لتفسير هيكل للمعجزات النبويّة. وكان أشدّ
الانتقاد مُوجّهاً للمثالين الّذين اختارهما هيكل نفسه لإيضاح موقفه من الظواهر
الإعجازيّة؛ وهما: الإسراء والمعراج، ومعجزة شقّ الصدر([19]).
فيرى هيكل أنّ شقّ الصّدر يتنافى مع طبيعة
محمّد الإنسانيّة، وأنّ الصعُود إلى السّماء لم يكن جسديّاً، وإنما صعُوداً
روحيّاً. ولا يعترف هيكل إلا بمعجزة وحيدة، وهي نزول القرآن على محمّد - عليه
الصّلاة والسّلام -، ويُقرّر أنّ سنة الله لا تعرف الاستثناء، وأنّ جميع الأحاديث
الّتي تتناقض مع رسالة القرآن العقلانيّة يجب رفضها([20]).
- (الثورة الوهابية)، المنشور في
سنة 1936م. وكان هدفه الدعوة إلى تأييد الدولة السعودية الفتية، وتحسين صُورة
الحركة الوهابيّة أمام الرأي العام المصريّ. فبيَّن حقيقة الثورة الوهابيّة، وعقد
مقارنة بينها وبين الثورات الأخرى الوطنية ضد القوى الاستعماريّة، كما في فلسطين،
وسورية، ومصر، والهند. وقال: إنّها ثورةٌ روحيّة لتحرير العقلِ البشريّ والدّين
الإسلاميّ من الخُرافات. ودفع القصيمي التهم الموجهة نحو الوهابية - خاصّة - قضية (التّكفير)،
بتقرير مبدأ الولاء والبراء، وتأكيد أنهم لا يكفرون إلا من حكم الله ورسوله بكفره.
وهذا هو المصرّح به في كتبهم([21]).
- (الصراع بين الإسلام والوثنية)،
مجلدان، نشره في عام 1937م. (وهو مِنْ أشهرِ كتُبِه قبلَ التحوّل). وهو رَدٌّ على
الكاتب الشيعيّ السوري المعروف محسن الأمين العاملي، الّذي ألّف كتاباً بعنوان (كشف
الارتياب في أتباع محمّد بن عبدالوهاب)، تعرّض فيه للدعوة السلفيّة الّتي قادها
محمّد بن عبدالوهاب، وقيل إنّه ألّفه بسبب قيام الوهابيين بهدم أضرحة الأئمة.
واتّهمهم فيه باضطهاد الشيعة، وتكفير جميع مخالفيهم في العقيدة.
فانبرى له القصيمي، وردَّ عليه ردّاً عنيفاً،
حتّى إنّهُ في هذا الكتاب ينفي انتماء الشيعةِ إلى الإسلام، ويُساوي بينَهُم وبين
عبدة الأوثان، ويرى أنَّهُم ينتمون إلى تقليد فكريّ هدفه إفساد عقائد المسلمين،
وأرجع الشيعة إلى أصُولٍ يهوديّة تعود إلى اليهوديّ عبدالله بن سبأ. وردّاً على
اتّهام العاملي الوهابيين بأنّهم يكفّرون جميع مُخالفيهم في العقيدة، يقول
القصيمي: "إنّ الشيعة يكفّرون حتّى بعض كبار الصحابة؛ مثل: أبي بكر وعمر
وغيرهما...". وبصدور هذا الكتاب أصبح القصيمي مُدافِعاً قويّاً عن السلفية،
مُعترفاً به على نطاقٍ واسِع. وذكر القصيمي نفسه في حديث له مع (فازلا)، عام 1993م،
أنّ الكتاب لَقِيَ قبُولاً حماسيّاً في السعودية، وقُدّم للملك عبد العزيز بالقول:
"إنّ مُؤلِّفَ هذا الكتابِ استحقَّ مهر الجنّة"([22]).
- (كيفَ ذلَّ المسلِمُون؟)، وقد
نشره في عام 1938م. وقد وجّه في هذا الكتابِ نقداً حادّاً لمظاهِر التخلّف لدى
المسلمين. وقد حذا في هذا الكتاب حذو المفكِّر شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخّر
المسلِمُون، ولماذا تقدّم غيرهم)، في منتصف الثلاثينيّات، حين بدأت ظاهرة النقد
الذاتي في الخطابِ العربيّ، وبنهاية الثلاثينيّات صارت هذه الظاهرة مُنتشرِة على
نطاق واسع. وقد أعرب القصيمي عن مُوافقتِه لأرسلان([23]).
ويذكرُ المؤرِّخُون أنّ مواقِفَ القصيمي - في
الأربعينيَّات - بدأت تتناقض مع مواقفِه الإسلاميّة السابقة. فقد نشر كتابين: (كيف
ذل المسلمون)، و(هذي هي الأغلال)، تحوّل فيهما من النقاش الإسلاميّ الداخليّ، إلى
النقد الذاتي الإسلاميّ الحادّ، فأصبح يُطالِب بتحرُّر الفرد من التصوّرات الدينية
الّتي تُعيق تفتّح الشخصيّة. وقد قال علامة زمانه الشيخ السعدي - رحمه الله -:
"لقد وقفتُ على كتابٍ صنّفه القصيمي سَمّاه: (هذي هي الأغلال)، فإذا هو
مُحْتَوٍ على نبذ الدّين، والدعاية إلى نبذه، والانحلال منه من كُلِّ وجه. وقال:
"إنّ من نظر فيه، وتأمّله حقَّ تأمّله، عَرَف أنّه ما كتب أشدّ وطأةً، وأعظم
عداوةً، ومُحاربةً، للدّين الإسلاميّ، ومنفراً منه، وأنّه ما اجترأ أحدٌ من
الأجانب، وغيرهم، بمثل ما اجترأ عليه هذا الرّجُل. ولا افترى مُفْترٍ على الدّين
كافترائِه. ولا خرف أحد نظير تخريفاته. وما صرّح أحد بالوقاحة والاستهزاء والسخرية
بالدّين، وأصوله، وتعاليمه، وأخلاقه، وآدابه، وحملته، كاستهزائه، وسُخريته. فإنّه
اشتمل على نبذ الدّين، ومُنابذته، ومُنافقته، ثلاثة، لا تبقي من الشرّ شيئاً إلا
تضمّنته:
1- صريح في الانحلال عن الدّين
بالكلية، وخروج تام عن عقائده، وأصوله، فضلاً عن فروعه.
2- هو أكبر دعاية للإلحاد، ومقاومة
للدّين وأهله.
3- فيه من البَهْرجة والتزويرات
الّتي جعلها في صُورة نصر الدّين، ما يعد من أعظم النفاق والكيد والمكر للإسلام
وأهله([24]).
ومن تخريفاته في هذا الكتاب
قولُه: "مِنَ الهَزْلِ أنّ الكون، أو الإنسان، مخلوقٌ بمشيئة إلهٍ، أو بعدله،
أو برحمته، أو بقدرته، أو بذكائه"([25])
- تعالى الله عَمَّا يقولُ الظّالِمُون عُلوَّاً كبيراً -. وما نورده من آرائه
قائمٌ على قاعدة ناقِل الكُفْر لا يكفر.
يقولُ الدكتور المنجد: وسمِعتُ
مفكّرين يقولُون: إنّ خُلاصة ما كتبَه القصيمي، وما سيكتبُه، هو ما يلي: "أيّها
النّاسُ لا تؤمِنُوا بالله، ولا بأيّ دين، ولا تؤمِنُوا بالأخلاق والقِيَم، ولا
تحترِمُوا أحداً، ثوروا على كُلِّ شيء، واحتجّوا على كُلِّ شيء، واهدمُوا كُلّ
شيء، فما دُمتُ أنا مُهْمَلاً في هذا الكون، ولستُ أنا مركز الكون، فيجب أنْ أنقمَ
على كُلِّ شيء، وأنْ أدفعَ النّاسَ إلى النقمة، وإلى الثورةِ والاحتجاج، ليبدّلُوا
كُلّ شيء، ويخرب هذا الكون"!([26]).
وقد ألّف الشيخ
إبراهيم السويح كتاباً، رَدٌّ فيه على القصيمي، سَمّاهُ (بيان الهدى من الضّلال في
الردِّ على صاحب الأغلال)؛ حيث قال في المقدّمة: "لسنا بحاجةٍ هنا إلى
الاستدلال على فساد تصوّر هذا الرّجُل، وكثرة تقلّب آرائه".
كما رَدَّ عليه الشيخ عبدالله بن يابس - صديق
القصيمي ورفيقه في السّفر - بكتابٍ كبير بعنوان (الردُّ القويم على مُلحدِ القصيم)،
نشر في القاهرة حوالي 1947م. بيَّن فيه كُفْر الرّجُل، وإلحاده. وكتب إبراهيم آل
عبدالمحسن، في حوادث سنة 1366هـ، من تاريخه: (تذكرة أولي النهى والفرقان)، بعنوان:
ذِكْرُ رِدّة عبدالله بن علي القصيمي([27]).
وقال إبراهيم آل عبدالمحسن: وقد "أظهرَ كتابَهُ الأغلال الّذي تعرّى به من
دينِ الإسلام، وخلع ربقته من عنقه، وسَمّى شرائِعَ الإسلام أغلالاً، غلَّتِ
المسلمين عن التقدُّم، وحسَّنَ طريقةَ الكُفْرِ، وزاغ عنِ الهدى، ورمى الإسلام
بالقصُورِ والتأخّر، وشنَّ عليهم الغارة، وفضّلَ طريقةَ الكُفْرِ والشِّرْكِ، على
طريقةِ المسلمين([28]).
وقال الشيخ ابن يابس عن أحدِ الثقات أنّهُ لَقِيَ القصيمي؛ فقالَ لَهُ: مِنْ أينَ
أقبلتَ؟ فقالَ: مِنْ عندِ هدى شعراوي، فقال له الرّاوي مُسْتغرِباً: هدى شعراوي!
قالَ: نعم، قالَ: وما تصنعُ عِنْدَها؟ قال: تعلّمْتُ منها عِلماً لا يعرفه علماء
الأزهر، قالَ: ماذا تعلّمْتَ منها؟ قال: تعلّمْتُ منها كيفَ أُحَطِّم هذه الأغلال.
فقال له الثقة: أي أغلالٍ تعني؟ قال: أعني الحِجَاب([29]).
وقد انتقدَ الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي،
وردّ عليه بمؤلّفٍ أسْمَاهُ (تنزيه الدّين ورجاله مِمّا افتراه القصيمي في أغلاله)،
وذلك عام 1947م، حيث يرى السعدي أن القصيمي تعمّد تزوير مبادئ الإسلام، وتفسيرها
تفسيراً خاطِئاً.
وهناك ردٌّ آخَر على القصيمي، يُلفت النظر
بضخامته، وهو (بيان الهدى من الضلال في الردِّ على صاحب الأغلال)، لعبدالعزيز
السويح النجدي، ويقعُ في مجلدين، (1200) صفحة، نشر في القاهرة عام 1949م. ويرى
صاحبه أنّ القصيمي يعدُّ كُلَّ تفسيرٍ أو حديثٍ لا يُناسِب آراءَهُ فهو - بكُلِّ
بساطة – باطِل، وغير مقبُول. وهو ينتقدُ الجماعاتِ الإسلامية، والسلفيّة، فقط
ليفسح الطريق أمام الزندقة والكُفْر. وبينما يعدُّ خطبة الجمعة مُخدّرة ومثبطة
للهِمَم، يسكت عن انتشار السلُوك المخالف للدّين؛ كالرقص، والبغاء، وغير ذلك.
ومِمّنْ انتقده المفكّر الكبير سيد قطب، حيث
يصفُ كتاب القصيمي بأنّهُ هجومٌ على القِيَم الجوهريّة للدّين الإسلاميّ، وينزعِجُ
- بشكلٍ خاصّ - مِنَ المقابلة الّتي يضعها القصيمي بين الدّين والنجاح الماديّ،
ويقول: إنّ أقوالَهُ عن هذا الموضوع لا يمكن فهمها إلا أنّها دعوةٌ للابتعادِ عن
الدّين، وهو عندما يستشهِدُ بكلمات (غوستاف لوبون)، الّذي يقول: "إنّ
البشريّة لم تتمكّن من تحقيق تقدُّم قويّ إلا في مراحل الوثنية"، يُوضِّح بكُلِّ
جلاء نياته الحقيقيّة، وهي حضُّ قُرّائِهِ على التخلِّي عن الإسلام، ولكن كلما
برزت هذه الروح الّتي تطغى على الكتاب بكامله، يحاولُ القصيمي الاختباء بدافع
الجُبن وراء غطاءاتٍ دينيّة لأفكارِه. هذه أبرز الآراء المختلفة التي أوردها
د.فازلا([30]).
يقولُ سيِّد قطب - وهو يتحدّث عن كتابه (هذي هي
الأغلال) - بعدَ أنْ حثّهُ القصيمي نفسه على قراءتِه: "ثم عُدت للكتاب، وهنا
تحوّل شعوري إلى اشمئزاز عميق، هذا الرّجُل يُنافِق، يريدُ أنْ يطعَن الطعنة في
صميم الدّين خاصة، ثم يتوارى ويتحصَّن في الدين، ويُنكر ما قد يفهمه القارئ من بعض
النصُوص، ومن روح الكتاب كله وراء النصُوص. ثم هذا الرّجل يسفسط، ولا يأتي بشيء. (دون
كيشوت) جديد يطعن في الهواء، ويُحارِب أفكاراً لم يعد لها وجود منذ خمسين عاماً
على الأقل، - والـ(دون كيشوت) هو اسمُ رواية للكاتِب الإسباني سرفانتس (ت1616هـ)،
تحكي قِصّة رَجُلٍ مجنُون، يعتقدُ أنّهُ بطلٌ؛ فيخوضُ حرُوباً وهميّة مع طواحينِ
الهواء، الّتي يظنُّها فُرساناً مُتأهبينَ لقِتالِه - ثم هذا الرّجُل يسرِقُ
أفكارَ غيرِه بالنصّ، ويُنْكِر أنْ يكون قد قرأَ شيئاً عن هذه الأفكار، ثمّ - وهو
الأهمُّ - هذا رَجُل مُريب!([31]).
وردّاً على قولِه: "فطبيعة المتديِّن غالباً طبيعةٌ فاتِرة، فاقِدة للحرارة
المولّدة للحركة، المولّدة للإبداع". يقولُ سيد قطب: ونرجع لنكرّر مرّةً
أُخرى أنَّ الدّين نفسه لا ذنبَ له، ولكنّ الذنبَ ذنبُ النّفُوس البشريّة الّتي لم
تستطعْ أن توجِدَ التّعادُل بين الكفتين، والتوفيق بين الرُّوحين؛ رُوح الدّين، ورُوح
العمل للحياة([32]).
ويُضيف سيّد قطب: وفصلٌ ضخم - هو أحسنُ فصُولِ
الكِتاب - عن الإيمانِ بالإنسان، وهو عنوانُ كتابٍ للأستاذ عبدالمنعم خلاف، ولا
يشكّ إنسانٌ في أنَّ مؤلف (الأغلال) انتفع بهذا الكِتاب انتفاعاً كامِلاً تامَّاً،
وليس في هذا حَرَج. ولكن الرّجُل حينما سَمِعَ مِنِّي اسمَ الكتاب أبدى أنّه لم
يسمعْ به أصلاً.. لم أحترم هذا التّجاهُل؛ لأنَّه ليسَ سِمَةَ الباحثين المخلصِين([33]).
ويُؤكِّد الشّيخ أبو عبدالرّحمن بن عقيل ما قاله
سيّد قطب، بقولِه: "وجزمنا على أنّ القصيمي سَطَا على آراءِ غيرِه، أقربُ
دليلٍ لنا عليه، أنّ كُتُبَ القصيمي لا نرى فيها ثبتاً بالمراجِع، لا في الحواشِي،
ولا في سَرْدٍ خاصّ، فليتوقَ أيّ مُتسرِّع اتّهامَنا الحَيْفِ أو الادّعاء"([34]).
وهو في ديدنِه هذا يُشبه محمّد شحرور، الّذي يكتبُ دون أن يوثِّق ما كتبه بمظان
علمية ومصادِر ومراجع أصليّة وفرعيّة.
وقد كتب محمد عبدالرزاق حمزة ضِدّ (هذي هي
الأغلال)، كتابَه (الشواهد والنصوص من كتاب الأغلال)، نشر في القاهرة عام 1949م.
كما انتقد الأستاذ أنور الجندي القصيمي في كتاب
نُشر بعد عشرات السنين من صدور (هذي هي الأغلال)، وهو كتاب (معالم الفكر العربي
المعاصر)، نشر في القاهرة في السبعينيّات على الأرجح.
فالهجومُ الحادّ الّذي تعرّض له اعتباراً من
عام 1946م، بعد نشر كتابِه (هذي هي الأغلال)، كما أنّ امتناع القصيمي عن الكتابة
عِدّة أعوام بعد عام 1946م، يشيرُ أيضاً إلى أنّ الرّفضَ الّذي لقيه آنذاك هزَّ
صورتَهُ عن العالَم - الّتي كانت لم تزل ترتكِزُ على قاعدةٍ دينيّة - هَزّاً
عنيفاً، دَعَاهُ إلى تغييرها؛ ولذلك يتحدّث السباعي - الّذي درس فكر عبدالله
القصيمي في أطروحةٍ غير منشورة لنيل شهادة الدكتوراه في كلية الفلسفة في جامعة
الروح القدس، الكسليك لبنان 1979م - يتحدث - مُصيباً - عن (أزمة الشكّ) الّتي
مَرَّ بها الكاتِب في هذه المرحلة من تطوُّرِه. ثمَّ ازدادتْ حِدّةً هذه الأزمة
الداخليّة بإبعاده عن مصر في الخمسينيّات، وعيشه في المنفى السياسيّ، مِمّا أدَّى
في النهاية إلى رفضه الجذريّ لِكُلِّ ما كان ذو معنى بالنسبة له في السّابق([35]).
واصطناعُ الشكِّ - كما فعلَ ديكارت، وقبلَه الغزاليّ - يعني أنّ الشكّ وسيلةٌ
للبحثِ والتّحليل، ولا يعني أنْ يُتّخذ الشّك عقيدة([36]).
كتب عبدالله القصيمي بعد إلحاده:
بعد هذه المرحلة، تغيَّر فكر القصيمي حتى وصلَ
إلى مرحلة وصفه فيها مُعارضوه بالملحد. وكان كتاب (هذي هي الأغلال)، من أهمِّ
الكتب الّتي ألّفها بعد انقلابه على الفكر السلفي، وقد نشره في عام 1946م. فأوّلُ
انحرافٍ ظاهريّ للقصيمي كان في كتابه (هذي هي الأغلال)، ثم تلته مجموعة كبيرة من
المؤلفات. ومن مُؤلّفات القصيمي بعد إلحاده:
- لئلا يعود هارون الرشيد مرّةً أُخرى. يقول
القصيمي في مقالٍ له بعنوان (لئلا يعود هارون الرشيد)، نشر في مجلة الموقف (ع 1
أكتوبر 1968)م: "يا دولةَ العرب الواحدة الكُبرى.. إنِّي أخافُ مجيئَكِ،
لأنِّي أخافُ مجيءَ هارون الرّشيد الجديد"!
- ثلاثية العالم ليس عقلاً -
ثلاثة أجزاء - (1963- 1967)م: 1.عاشق لعار التاريخ. 2.صحراء بلا أبعاد. 3.أيّها
العقلُ مَنْ رآك. والطريفُ أنّ عبد الكريم قاسم (السياسي العراقي) أعرب عن تضامنه
مع القصيمي، وتقديره البالغ لكتابه، في مقال بعنوان: (العالم ليس عقلاً.. رياضة
تمرّدية)، نشر في مجلة العلوم (السنة 9 العدد 5، مايو 1964)م([37]).
- كبرياء التاريخ في مأزق، (1966)م.
- هذا الكون ما ضميره؟ (1966)م.
- أيّها العار إنّ المجد لك، (1972)م.
- فرعون يكتب سفر التاريخ، (1972)م.
- الإنسان يَعْصي لهذا يصنع الحضارات، (1972)م.
- العرب ظاهرة صوتية، (1977)م.
- الكون يحاكم الإله، (1981)م.
- يا كل العالم لماذا أتيت؟ (1986)م.
يقول (فازلا): "فحسب علمي لم تنشر أيّ
قراءةٍ نقديّة لهذين الكتابين - الأخيرين -، وكانت ظاهرة التجاهُل الكامِل هذه
تُوصف في الوسطِ الشخصيّ المحيط بالقصيمي بأنّها ستارُ الصَّمْتِ الّذي أُسْدِلَ
أمامَ الكاتب منذ عام 1980م تقريباً. وآنذاك بدأ القصيمي مرحلة الانسحاب إلى
الحياة الخاصّة، وتركّز كامِلُ نَشَاطِه، ودائرة تأثيره، خلال الأعوام الخمسة عشر
الماضية، على محيطه الشخصيّ. وكانت الزاوية الخاصّة الأخيرة الّتي ينشط فيها ندوة
أسبوعيّة تنعقدُ في منزله في غرفة الجلُوس. ومنذ توفيت زوجته عام 1990م، لم يُغادِر
مسكنَه في القاهرة إلا نادراً جدّاً، حتّى توفي في 9 يناير 1996م"([38]).
والغريب، كما ذكر (فازلا)، أنّ الهجوم على شرعيّة المؤسسات الدينيّة والرسميّة
تكون له عواقب أقسى من الاستفزازات الموجّهة إلى أُسس العقيدة الدينيّة([39]).
على طريقةِ ما ذكره وليد الأعظمي ساخِراً:
يُقاد للسجن، إنْ سُبَّ (المليك)، وإنْ
... سُبَّ (الإلهُ)، فإنَّ النّاسَ أحرارُ
ويُعَدُّ كتابُ (العالم ليس عقلاً) من أخطر
كتبه، وهو خلاصةُ فكره الإلحاديّ، وهو في ثلاثة أجزاء: 1.عاشق لعار التاريخ.
2.صحراء بلا أبعاد، 3.أيّها العقل مَنْ رآك. ويُلخِّصُ المفكِّر الشيخ ابن عقيل
الظاهريّ، الأفكارَ الّتي تدورُ حولَها هذه الكُتُب؛ فيقول: "ومدارُ هذا
الغثيان على العناصِر الآتية: إنكارُ الحقيقة الأزليّة، وما غيّبه الله عن خَلْقه.
مُهاجمة الأديان والأنبياء. الاستخفافُ بالموهبة العربيّة. التحدِّي للقضايا
العربيّة والإسلاميّة. التغنِّي بآلامِ الإنسان وتعاستِه".
والحدثُ الأبرز في ترويج نتاجات القصيمي هو
هزيمة حزيران عام 1967م، فقد أحدثت هذه الهزيمة زلزلةً فكريّة لدى جمهرة المثقفين،
وأطلقتْ مَوْجةً مِنَ النقدِ الذاتيّ عمّتِ العالَم العربيّ بأسْرِه، وظهر لدى
كثير من المثقفين العرب ميلٌ إلى القطيعة التامّة مع الماضي. ففي مثل هذا المناخ
الثقافي، يمكن أنْ تجِدَ فلسفةَ تحطيمِ الصُّوَر والمفاهيم الدينيّة والسياسيّة،
الّتي تدعُو إليها كتب القصيمي، أرضاً خصبة للازدهار والانتشار. ولهذا أُعيد طباعة
كتابه (العالم ليس عقلاً)، في ثلاثة أجزاء. ثمّ تبعها عام 1971م تأليف كتاب (أيّها
العار إنّ المجد لك)، وكتاب (فرعون يكتب سفر الخروج)، وكتاب (الإنسان يعصي لهذا يصنع
الحضارات). إلى جانب ذلك نشر القصيمي عدداً من المقالات في المجالات الأدبية، في
بيروت.
ومن الممكن القول بأنّ القصيمي كان بين 1967م
وعام 1972م، يُمثِّلُ فيلسوفَ المرحلةِ الّذي تنُوقِلت أفكارُه على نطاقٍ واسِع؛
نظراً لحالة الضياع والصّدمة الّتي عاشها المثقفون العرب جرّاء هزيمة 1967م([40]).
فالهزيمةُ العسكريّةُ الكارثية الّتي مُنيت بها الدول العربيّة ضِدّ إسرائيل في
عام 1967م، وانعكاساتها على الحياةِ الفكريّة في العالم العربيّ، أطلقتْ موجةً من
النقد الذاتيّ، عمّت العالم العربيّ بأسره، وألقتِ المسؤوليّة عن الهزيمة على عاتق
عوامل مختلفة، على رأسها أشكال التعبير، ومُمارسات الدّين الإسلاميّ، والعقليّة
العربيّة، والتاريخ والتقاليد([41]).
ولعلّ الدعم الحماسيّ الّذي لقيه القصيمي في
الصحافة اللبنانية، هو الّذي دفع الكاتب السوري صلاح الدين المنجد إلى كتابةِ (دراسة
عن القصيمي)، صدرتْ في بيروت عام 1967م. توصّل فيها إلى أنّ القصيمي رجلٌ مشهود له
بالفشل، فهو لم يُحقّق في حياته كُلّها أيّ شيء مِمّا يبتغيه، فلجأ إلى مدارس فكريّة
هدّامة، أملاً في تحقيق ذاته هُناك([42]).
وركّز المنجد هجومَهُ على تشابهات - وصفها المؤلّف بأنها مزعُومة!! - بين النقد
الديني للقصيمي، والفلسفة الماديّة لماركس، فكلاهما دعيا إلى رفض الدّين والوحي
والنبوة، والتخلِّي عن العقيدة، وكلاهما يُعلِّل نكرانه للإله بأنّ الكون قد نشأ
من ذاته عبر عمليّاتٍ وقوانينَ ماديّة، وهُما لا يريان في القيم الأخلاقية سِوى
أوهامٍ لا معنى لها، وأنها البناء الفوقي الفكريّ للمجتمع، وهذا بدوره هو السبب في
أنّ كليهما يعتبران الدّين مسؤولاً عن الضّعف والتخلّف([43]).
ويرى الدكتور المنجد أنَّ ما نفثه القصيمي في
كُتبه الأخيرة، كان نتيجة "لعُقد نفسيّة مُتراكمة منذ صغره، وحِرمان ممَّا
كان يؤمِّله ويُريده". ثم يذكر - المنجد - مقارنةً بين آراء القصيمي وآراء
الشيوعيِّين، ويبيِّن أنّه يسير في الخطِّ نفسِه الّذي يسيرُ عليه ماركس ولينين،
وأمثالهما من الملاحدة، وأنَّ التشابه واضِح، واقتفاء أثرهما جليّ، فكلٌّ منهم يُنْكِر
وجودَ الله، ويُؤلِّه الطبيعة، ويدعو إلى التحطيم والهَدْم، ويجحد البَعْث
والنُّشور، ويُناهض الأديان([44]).
فإذا كان ماركس يقول: "إنه لا إله في
الكون، وأنَّ المهمَّ هو تغيير الأشياء في الكون، وأنَّ من أعمال البروليتاريا
(الطبقة العاملة) القضاء على الدِّين، والدّاعين إليه، وهَدْم العقائد الدِّينيَّة
وتغييرها، ونَشْر الإلحاد وتبنِّيه، وعدم الاهتمام بالأخلاق والمُثل
الروحية"، فإنّ القصيمي يحذو حذوَه في إلحاده، واقتباس آرائه، ويُضمّنها
كتابه (هذا الكون ما ضميره)، وهو من نوع (هذي هي الأغلال)، و(العالم ليس عقلاً)، و(كبرياء
التاريخ في مأزق)، فيقولُ: "إنَّ كل شيء يبدأ من الطبيعة، وتمنحه الطبيعة
كلَّ شيء. إذًا؛ الطبيعة هي كلُّ شيء". ويقولُ: "إنَّ الأشياء هي الّتي
تصنع نفسَها وتغيِّرها". ويقول: "جميع تقديراتنا، وأعمالنا الذهنية،
والمادية، ونشاطاتنا، كلُّها قائمة على افتراض أنَّ الكون آليّ، لا تَتدخُل فيه أيّ
مشيئة، ولا أيّ قُدرة مُطلقة، ولا أيُّ إله طيِّب يرضى ويغضب، ويحاسب ويعاقب،
ويقول للشيء: كُنْ فيكون"([45])
سُبحانه وتعالى عمَّا يقولُون عُلُوّاً كبيراً.
ومع نشُوبِ الحربِ الأهليّة في لبنان عام
1975م، انقطع النشاط الثقافي في لبنان، وبهذا فقد القصيمي مكان النشر لكتبه، وكان
يمثِّل المنبر الوحيد الّذي بقي يخطب عليه منذ بداية الستينيّات. ولكنّه في عام
1977م نشر، في باريس، كتابَهُ (العرب ظاهرة صوتيّة). وكان هذا الكتاب آخر كتاب
للقصيمي يَلْقى في العالَم العربيّ صدى قويّاً نسبيّاً، إلا أنّ جميع النقاد أعطوا
الكتاب تقييماً سلبيّاً جدّاً، ورافِضاً([46]).
وفي تعليقٍ للكاتب اللبنانيّ يوسُف الخال على كتاب القصيمي - في مقال بعنوان (أفكار
على ورق)، في (المنار)، (لندن، 26 نوفمبر 1977م، ص20) - قالَ: إنّهُ عندما أصدر
القصيمي كتاب (العالم ليس عقلاً)، كانت صرخة الاحتجاج الواردة فيه لها وَقْع
منطقيّ، ولكن مع مرُور الزمن، وازدياد حِدّة المرارة لدى القصيمي، ازدادت قسوة
لهجته في هِجائه للعرب، الّذي يغمرهم بموسُوعةٍ من الصفات المليئة بالكراهية؛
وبذلك أصبحَ عبدالله القصيمي نفسه (ظاهرة كلاميّة)"([47]).
وإذا كان الخال قد وصفَ الإنتاجَ الفكريّ الغزير للقصيمي بأنّهُ (ظاهِرةٌ كلاميّة)،
فنحنُ نضيفُ بأنّ كتاباتِه لا تعدُو عن كونِها فُقاعاتٌ تطيرُ في الهواء، فهي لا تُؤسِّس
نهضة، ولا تُرسي حضارة!
وقد نشر الكاتب السعوديّ فهد العرابي الحارثي
قراءةً نقديّة لهذا الكتاب - في الصحيفة اليومية السعودية (الرياض) - اتّهم فيها
القصيمي بأنّهُ مُصاب بمرضِ (الدونكيشوتية الفكريّة). ويرفض الحارثي النظر إلى هذا
الكتاب من باب النقد الذاتي؛ لأنه يفتقر - حسب رأيه - إلى أدنى المتطلبات العلمية
والثقافية. ويقولُ: إنّ قراءةَ الصفحاتِ الأولى من الكتاب تكفي لفهمِ الباقي؛
لأنّهُ مليءٌ بالتّكرار، والاجترارِ، والعباراتِ الجَوْفاء، وهو يُولّد انطباعاً
بأنّه قد أملاها في آلة تسجيلٍ، ثمّ نقلها - بشكلٍ ما - دُون تصحيحٍ أو مُراجعة.
ويُشبِّه القصيمي بمذيعٍ سيِّىء، طُلِبَ منه أنْ يشتم في برنامج دعائي رئيسَ بلدٍ
مُجاوِر، بأجُورٍ مدفوعة سلفاً. وبما أنّ القصيمي لا يُؤخذ على محمل الجد ككاتب،
بسببِ أسلُوبه السيّئ، وميله إلى الديماغوجيا (سياسة تملّق الجماهير)، فإنّ كتابَه
لا يُشكِّل أيّ خطرٍ على تفكير المسلمين، لا بل يتمنّى المرء أنّ يكتُبَ جميع
الملحدين كتباً سيّئة مثلَه، ولا يتجاوزون عروضَه الاستفزازيّة المُضحِكة([48]).
أمّا
مضمون كتبه الإلحاديّة الأخيرة، فهو التمحور حول ثلاثةِ موضوعات:
الأول: تفسير الدين والتديُّن
والوحي.
والثاني: الحديث عن الله - جلَّ وعلا - في
الديانات السماوية.
وأمّا الثالث: فهو الموقف من العرب، وبالأخص من
القومية العربيّة.
أمّا الموضوعان الأوليان، فقد كرَّرهما كثيراً
في كُتبه، معبِّراً عن رأيه فيهما بطريقة استفزازية، وبصراحةٍ وقحة، واستخفافٍ
بمشاعر القارئ المؤمن. فهو يرى أنّ الدّين تعبيرٌ حياتي يعودُ إلى طبيعة النفسِ
البشريّة، وحاجاتها، وكُلُّ شعائر الأديان تعبيراتٌ يختلقها الإنسان، لإشباع حاجاتٍ
نفسيّة، ثمَّ يُضفي عليها طابع التقديس، لحاجته النفسيّة إلى الأمن والطمأنينة.
أمّا حديثه عن الوحي، فيبيِّن مدى الارتكاس
الإلحاديّ الّذي وصل إليه القصيمي. فهو يرى أن الوحي شكلٌ مرضي من أشكالِ ردّ
الموحى إليه على المشاكل الاجتماعيّة والنفسيّة الّتي يتعرّض لها. ويرى أن النبوة
هي تعبيرٌ عن الألم النفسيّ، والقنوط الدنيويّ، اللذين يُؤثران على التصوّرات
الدينيّة، التي يتسبّبان في نشوئها. وهو بذلِكَ يُعبِّرُ عن دخيلته أدقّ تعبير،
ويُصوِّرها أعمق تصوير. فكتاباته المغرقة في اليأسِ والبُؤسِ والتّشاؤم، إنما هي
وحيُ أفكارِه الّتي تشكّلتْ في بيئةٍ ملؤها الألم والعذاب والقهر والشّقاء.
أمّا الله - جلّ جلاله -، فهو يرى أنه مرآةٌ
للإنسان والمجتمع. فهو يكتسبُ صفاته تبعاً لثقافة المجتمع - سبحانه وتعالى عمَّا
يقولُون عُلُوّاً كبيراً -. وكان القصيمي يتفادى بادئ الأمر التكلّم عن الله -
الواحد الأحد -، ويستعمِلُ بدلاً من ذلك تعبير (الإله)، وكثيراً ما يأتي بصيغة
الجمع (الآلهة)، أو يستعمل كلمة (الألوهية). أمّا في كتاباته المتأخرة، في
الثمانينيّات، فقد أسقط منها هذه المحظُورات، وأخذ يستعملُ بصُورةٍ مُتزايدة كلمة
(الله) مُباشرةً، في جُرأةٍ إلحاديّة وَقِحَة - تجاوزتْ كُلَّ حدُودِ الأدبِ
والالتزام -، تُبيِّن مدى إصرارِه على الإلحاد، ورفض الدّين.
وأمّا الموضوع الثالث في كُتبه المتأخرة - وهو
الموقف من العرب خاصّة، وكأنّهُ ليسَ عربيّاً - فيعبِّر عنه كتابه (العرب ظاهرة
صوتية)، فقد شنَّ هجُوماً لاذِعاً على جميع العربِ، وَصَلَ إلى حدِّ التحقير
العُنْصريّ. فهو يَصِفُ الطابع العربيّ بأنّهُ وضيعٌ إنسانيّاً. ويَصِفُ العربَ
بأنَّهُم ظاهرةٌ صوتيّة. وبلغ في تصويره العُنْصريّ للعرب، في كتابه (يا كُلّ
العالم لماذا أتيت؟)، بأنْ قالَ: "إنّ المرأةَ العربيّةَ الإسلاميّةَ لا تلِدُ
إلا كائناتٍ أقلّ شأناً من الأطفال الآخرين، فيما يتعلّق بمستواهم الذهني والنفسي،
وبقدرتهم على الإبداع". وفي مقالٍ له يصِلُ إلى حدِّ اعتبار العرُوبة نقيضاً
للحضارة([49]).
وهو لا يدري أنّهُ بهذا الوصفِ المزري إنّما يُعبِّر عن نفسِه أوّلاً، فما هو إلاّ
عربيّ ابنُ عربيّ، وليسَ أعجميّاً، حتّى يميِّز نفسَه عنِ العرب، فلماذا أنكرَ -
بعنفٍ وشِدّة - ما لا يُمكن نُكرانُه؟
تقويم علميّة عبدالله القصيمي:
لا غَرْوَ أنّ القصيمي أُوتي بياناً راِئعاً،
وأسلُوباً أدبيّاً ساحِراً. فكان يجيدُ رَسْم الصُّوَر الخياليّة البديعة، واللّعب
بالعباراتِ كيفما يشاء. يقولُ عنه ابن عقيل الظاهريّ: إنّهُ "مُفكِّر مليحُ
الأسلوب، في أسلُوبِه طراوة، مع ضَعْفٍ في اللّغة، والقُدْرة على المغالطة،
والإثارة. مُسرف في الخيال، ومُتقن في رَسْم الصُّوَر، وأديب ساحِر". وهُناك
خللٌ منهجيٌّ واضِح عند القصيمي، وقد يكون مُتعمّداً، فهو لا يثبت في كتُبه
المراجع الّتي رجع إليها. وهذا دليلٌ على سرقاتِه العلميّة الكثيرة! فمثلاً كتابه (البروق
النجديّة)، هو عبارةٌ عن تصفيفٍ وانتحال لكتاب شيخ الإسلام ابن تيميّة المعرُوف بـ(التوسّل
والوسيلة). وهُناكَ فَصْلٌ ضخم عن الإيمان، اقتطعَهُ من كتابِ الأستاذ عبدالمنعم
خلاف، ولم يُشِرْ إلى ذلك مُطلقاً. وله نصوصٌ شعريّة، حرَّف فيها الكثير. وله
نقُولاتٌ كثيرة، اقتطعها وحرَّف فيها الكثير..
والقصيمي يستغلُّ أسلُوبه الأدبيّ في تمويه آرائِه،
على طريقةِ الرمزيّين. وكلامه هو عبارةٌ عن دعاوى عريضةٍ، بلا بُرهان ولا دليل.
يُجرِّد المقولات من مذاهبها، ويُفسِّر الألفاظَ على هُواه، ليُضلِّل عوامَ
النّاسِ، وأنصافَ المثقفين، وقدِ استغلّ القصيمي الوضع الرّاهن الّذي يتّسم بضَعْف
العرب والمسلمين ومهانتهم، ليُبرِّر الانحلال من الإسلام، والخروج والانعتاق من
الأديان كُلِّها([50]).
يقول (د. فازلا): "مؤلفاتُه بعيدةٌ كُلَّ
البُعْدِ عن أنْ تكون نِظاماً فلسفيّاً مُترابِطاً ومُحْكماً، فهو لا يتّبع، في أيّ
كتاب من كُتبه، خطّاً منهجيّاً مُتتابعاً، ومُحكم الحُجّة. بل إنّ مؤلفاتِه
الأخيرة هي أقربُ إلى طائفة من الحِكم، والمقولات المركّزة، الّتي تتناولُ
موضوعاتٍ مُتنوّعةً، تتبدّل وتتكرّر دائماً، ويدورُ الحديث حولها بالمعنى الحرفيّ
للكلمة. ولذلك لا يجدُ نُقّاد القصيمي صعوبةً في اتّهامِه بأنّهُ كان من الأفضل لو
أسقط فصُولاً كاملةً من كُتبه؛ لأنّها ليستْ سِوى تكرار للأفكار نفسِها، وشرح مُستفيض
للموضُوعاتِ نفسِها، يصلُ إلى حدِّ الإطناب...، وما نلحظه في كتابات القصيمي من
لفٍّ ودوران على صعيدِ الموضُوع والمضمُون، ينطبِقُ أيضاً على الأسلُوبِ اللغويّ،
فهو لا يكتفي بإيجاد الكلماتِ المناسبة بشكلٍ خاصّ، للتعبير عن مسألةٍ مُعيّنة،
وإنما يصُفُّ جميع المترادفات المتوافرة لمفهوم معيّن خلف بعضِها. والنتيجةُ الّتي
تُسْفر عنها هذه الطّريقة في الكتابة، هي جُمَل هائلة حقّاً تملأ فيها"([51])*.
وقد لَخّص (فازلا) رُؤيته عن القصيمي،
وأُطروحاته، في خاتمة كتابه، بقولِه: "في القراءات النقديّة لكُتبه، يبدُو
القصيمي وحيداً إلى أبعدِ الحدُود. فهو لم يُؤسِّس مدرسةً فكريّة، ولا يمكن نسبته
إلى أيِّ مدرسةٍ من المدارس الفكريّة المعرُوفة. وليس له أتباع. ويعودُ ذلك في
المقام الأوّل إلى الصيغة الّتي يعرض بها القصيمي بناءَهُ الفكريّ؛ إذ طريقة العرض
غير المنهجيّة، والأسلُوب الشّديد، والإطناب والتّكرار للأشياء نفسِها، والطابع
الحكمي لكتاباته، كُلُّ ذلك يجعلُ مِنَ الصّعب على القارئ فهم ما يقرأ، أو ينفّره
من التعمّق في دراسة مضمُون مُؤلّفاته"([52]).
والجدير بالرّصْدِ والمُلاحظة أنّ القصيمي
"لم يحاول - أبداً - طُول حياته، إلحاق نقدِه الراديكاليّ الاجتثاثيّ
باقتراحاتٍ إصلاحيّة ملمُوسة. فهو لم يضعْ بدائِلَ لتحليلاتِه المتشائِمة القاتِمة
للأوضاع القائِمة. وبصُورةٍ عامّة، فإنّ القصيمي يتميَّز فقط بهَدْمِه للتصوُّرات
الدينيّة"([53])،
وذلِك من خلالِ قَلْبِ الحقائِق، بالجَدْلِ العقيم، وإثارة الشكُوك، مثله كمثلِ
السوفسطائيِّين، الّذينَ برعُوا في تضليل النّاس بالجدلِ الفارِغ العقيم، وتزويق
الكلامِ، "وكانوا يفخرُون بأنّهم يستطيعُون أنْ يُؤيِّدُوا الرأيَ، ونقيضه،
وتمادوا في غوايتهم، حتّى كادتْ طريقتُهم تُؤدِّي إلى هَدْمِ أُسسِ العقلِ
والمعرِفة، وتمزيقِ الأخلاق"([54]).
وأشهر السوفسطائيِّين (بروتاغوراس)، واضِع
المِحْوَر الّذي تدورُ عليهِ سخافاتُهم، بقولِه المشهُور: (إنَّ الإنسانَ
مِقْيَاسُ كُلِّ شيءٍ). فقد كان العُلماءُ والفلاسفةُ يَرَوْنَ أنّ الحقيقةَ تُدْرَك
بالعقل لا بالحِسِّ؛ لأنَّ الحواسَ خادِعة، فجاءَ (بروتاغوراس) هذا، يُنكِر
المعرفةَ بالعقل، ويزعُم أنّ الإحساسَ هو المصدرُ الوحيدُ للمعرِفة. ولَمّا كان
النّاسُ يختلِفُون بإحساساتِهم، باختلافِ أجسادِهم، وأعمارِهم، فقد أصبحَ إدراكُ
الحقيقةِ مُستحيلاً، وأصبحَ ما يُدْرِكُه كُلُّ شخصٍ صحيحاً، بالنسبةِ إليه، ولا
يُوجَدُ شيءٌ يُمكن أنْ يُسَمّى خطأً، لأنّ كُلَّ رأي هُوَ الصّحيحُ بالنسبةِ
للشخصِ المدرِك. وقد أطلقَ العربُ على هذا المبدأ، القائِل بأنّ الإنسانَ مِقياسُ
كُلِّ شيء، اسم (العِنْدِيَّة)؛ لأنّهُ يُؤدِّي إلى اعتقاد كُلِّ فردٍ بما
عِنْدَهُ([55]).
والحق أنّ القصيمي أصبحَ، في كُتبهِ
اللائكيّة، أشبهَ بالسُوفسطائيِّين؛ الّذين لا يتعدّى نهجُهم الفكريّ المألوف عن
تقديمِ الجَدْلِ الفارغ، في مصفوفاتٍ كلاميّة عقيمة، ومسكُوكاتِ لفظيّة سقيمة، لا
جدوى منها، ولا طائِل من ورائِها. فالقارئُ لكُتبِه البائِسة تلك، لا بُدّ وأنْ
يشعرَ بالسّأم القاتِل، والتشاؤُم المفرط، والهَجْو المقذع، والسّخط المرير. فهو
لا يُقدِّم البتّة أفكاراً إصلاحيّة تقومُ عليها حياةٌ هانئة هادِئة، وإنّما لا
يتعدّى عملُه في بثِّ الكراهيّة، ونبذ القيم، وتحطيمِ المبادئ، وتدمير الفضائِل
الإنسانيّة، بقالبٍ سوفسطائيّ جدليّ عقيم. والمعرفةُ الحقيقيّة لا يُمكن أنْ
تُبْنَى أبداً على إحساساتٍ اغترابيّة، وآفاتٍ نفسيّة، واحتقاناتٍ داخليّة،
وذهاناتٍ مُتشظيّة، وإنّما تقومُ المعرِفةُ على أُسسٍ عقلانيّة سليمة، وخبرة
منطقيّة واعية، ومُكابدة فكريّة غائيّة، ومُجاهدة عقليّة معرفيّة. ويمكن أنْ
نستعينَ في هذا المجالِ بالفيلسوف الحكيم (سقراط)، الّذي "وضعَ قواعِد
المعرِفةِ على أساسِ العقل، وأرسى دعائِمَ (الفضيلةِ) في صدُورِ النّاسِ، على
أساسٍ مِنَ الحقِّ الّذي لا ريبَ فيه. فقد رأى هذا الفيلسوف القدّيس، أنّ أخلاقَ
عصرِه تنهارُ أمامَ دجلِ السُوفسطائيِّينَ، الّذين أنكرُوا العقلَ، والحقِّ،
واليقين، وفضائِلَ الأخلاق، بما زعمُوا مِنْ ردِّ أصُولِ المعرِفة كُلّها إلى
الإحساس؛ فأرادَ أنْ يردَّ أصُولَ المعرِفة إلى العقل، الّذي يتّفِقُ النّاسُ
جميعاً على أحكامِه، بلا خِلاف"([56]).
يقولُ (سقراط): لا يعقل أنْ تكونَ المعرِفةُ مبنيّةً على الحواس؛ لأنّ الحواسَ
تختلِفُ باختلافِ الأفرادِ والظرُوف والأحوال، فعلينا أنْ نلتمِسَ أصلاً ثابتاً
للمعرِفة، لا يختلِفُ فيهِ النّاسُ أبداً. وإذا نظرْنا إلى معارِفِنا، رأينا أنّها
تنطوِي على إدراكاتٍ جزئيّة، تأتينا مِنْ طريقِ الحَواس، وعلى إدراكاتٍ كُليّة
عامّة، ليسَ لها وجُودٌ في الخارِج، ليمكن الإحساسُ بها. وضربَ على ذلِكَ مثلاً
معنى (النَّوع) الّذي تُدْرِكُه عقولُنا، بجمع الصِّفاتِ الّتي يشترِكُ بها كُلُّ
أفرادِ النَّوع، وطرحِ الصِّفاتِ العارِضة الّتي تظهرُ في بعضِ أفرادِه؛ فقال: إنّ
هذا الإدراكَ، لشيءٍ لا يُحَسّ، ولا وجُودَ له في الخارِج، هو إدراكٌ كُليّ، لا
يرتابُ عاقِلٌ في كونِه مِنْ عملِ العقلِ وحدَهُ. وهذا الإدراكُ الكُليّ العقليّ،
هو الّذي يجب أنْ تُؤسّس عليهِ المعرِفةُ. فإذا كانتِ المدركاتُ الحِسيّة الجزئيّة
تختلِفُ باختلافِ الأفرادِ والظرُوف والأحوالِ والأوضاع، فإنّ العقلَ الّذي هو
عامٌّ ومُشترك بينَ النّاس، لا يختلِفُ ما دامَ سليماً. ونحنُ بهذهِ الإدراكاتِ
العقليّة الكُليّة، نستطيعُ أنْ نضعَ لِكُلِّ شيءٍ حدّاً وتعريفاً، ونستطيعُ بهذا،
أنْ نضعَ مقاييسَ صحيحة ثابتة للحقائِق"([57]).
ويُعَدُّ (أرسطو) من أعظمِ الفلاسفةِ
الأقدمين، وكان مِنَ المؤمنين بوجُودِ الله. ودعنا نسمعُ إلى رأيه في المعرِفة، إذ
يقول: إنّ أوّلَ خطوةٍ يخطُوها الفكرُ في سبيلِ المعرِفة هِيَ (الإدراك الحِسيِّ).
فإذا تجمّعتْ في الذهنِ طائفةٌ مِنَ الإدراكاتِ الجزئيّة الحِسيَّة، واحتفظتْ بها
الذاكرةُ، بدأ الفكرُ مرحلتَهُ الثانية في (التَّجْرِبة)، الّتي تقومُ على
مُقارنةِ الأشياء، ومعرِفة عَلاقاتِها، وعِلَلِها، وأسبابِها. ثمَّ ينتقِلُ الفكرُ
في المرحلةِ الثالِثة، وهِيَ مرحلةُ (التأمُّل النظريّ)، للوصُولِ إلى الاستنتاجِ
والحُكْم. والطّريقُ الفطريّ الّذي يسلكُه العقلُ في هذهِ المراحِل، مِنَ الإدراكِ
الحِسيِّ، إلى التّجْرِبة، إلى المقارنة، والتّأمّل والتّعليل، والقياس،
والاستنتاج، والحُكْم، هو المنطِقُ الفكريّ، الّذي رَتّبَ (أرسطو) قواعِدَهُ،
وجعلَهُ عِلْماً، فاستحقّ به أنْ يُسَمَّى، في تاريخِ الفلسفةِ باسمِ (المعلِّم
الأوّل)([58]).
وقمينٌ بنا هُنا أن نقتبسَ مقولةَ الفيلسوف
المعاصِر (هنري برغْسُونْ)، إذ يؤكِّد "أنّ جزءاً مِنْ عقولِنا نشأَ لكي
يُمارِس إدراكَ الأجسامِ الماديّة، فاكتسبَ مِنْ هذا المحيطِ الماديّ أكثر
تصوُّراتِه". وهذا صحيحٌ، ولا تكادُ تستطيعُ التملّص منهُ أكبر العقُول، حتّى
عقل (أرسطو). فلمّا أرادَ أنْ يُفَسِّرَ نشأةَ العالَم، فسَّرَها كما يُفَسِّرُ
نشأةَ أيّ أداة، يصنعُها الإنسانُ، مِنْ مادّة مُعيّنة، على هيئةٍ مُعيّنة، لغايةٍ
مُعيّنة. فهو يقولُ: إنَّ كُلَّ شيءٍ ينشأُ ويتكوّنُ بتأثيرِ عِلَل أربع:
- العِلّة الماديّة (Cause material): وهِيَ المادّةُ الّتي يتكوّنُ منها الشيء.
- الِعلّة الصُّوريّة (Cause formal): وهِيَ
الصُّورةُ الّتي تصيرُ بها المادّةُ شيئاً مُعيّناً.
- العِلّة الفاعِلة (المحرِّكة)
(Cause efficent): وهِيَ العِلّةُ الّتي تصنعُ الشيءَ،
وتُعطيه شكلَهُ وصُورتَهُ.
- العِلّة الغائيّة (Cause finale): وهِيَ
الغايةُ الّتي مِنْ أجلِها قامتِ العِلّةُ الفاعِلة بصُنعِ ذلِكَ الشيء، على تلكَ
الهيأة.
فالعِلّةُ الماديّةُ في السّرير مثلاً، هِيَ
الخشبُ. والعِلّةُ الصُّوريّة فيه، هِيَ (الصُورةُ) الّتي خُلِعَتْ على الخشبة،
فجعلتْها بشكلِ سرير، لا بشكلِ مائِدة. والعِلّة الفاعِلة، هِيَ النجَّار الّذي
صنعَ السّرير. والعِلّة الغائيّة هِيَ النَّومُ والرَّاحة([59]).
ثمَّ مزجَ أرسطو بينَ (الصُّوريّة والغائيّة
والفاعِلة)، وركّزَها في عِلّةٍ واحِدة، سَمَّاها (الصُّورة)؛ فقالَ: إنَّ
العِلّةَ الصُّوريّة، الّتي هِيَ ماهيّة الشيء، كامِنةٌ في نفسِ الغايةِ ونابعةٌ
منها، لأنّ الشيءَ إنّما تتحقّقُ فيهِ الغاية عندَ أخذِه لصُورتِه، وإنّما تُبْنَى
الصُّورةُ على الغايةِ منه. وإذا كانتِ العِلّةُ الصُّوريّة مُتّحِدة بالعِلّة
الغائيّة، كما تقدّم، فهما آتيتانِ مِنَ العِلّة الفاعِلة، لأنّ العِلّةَ
الفاعِلَةَ، إنّما يظهرُ أثرها في الغايةِ والصُّورة. فالسَّريرُ لا يُمكن صُنعه،
إلا إذا سبقت الغاية من هذا الصنع. ولا تخرجُ الغايةُ مِنَ القُوّةِ إلى الفِعْلِ،
إلا بعدَ صُنعِ السَّرير، وإعطائِه صُورتَهُ المخصُوصة. والفاعِلُ الّذي هو النجَّار،
لَمْ يَكُنْ فاعِلاً بالفعلِ إلا بعدَ أنْ صنعَ السَّريرَ، أمّا قبلَ ذلِكَ،
فالنجَّارُ فاعِلٌ بالقُوّة([60]).
إنّ (أرسطو) يسيرُ حتّى الآن سيراً معقُولاً
في تفسيرِ نشأةِ التنوُّعاتِ الّتي في هذا العالَم. ولكن مثالَ السَّرير والنجَّار
لا ينطبِقُ على قضيّةِ نشأةِ أصلِ العالَم، فخشبُ السَّرير موجُودٌ أصلاً. وليسَ
النجَّارُ هُوَ الّذي أوجَدَهُ، وإنّما هو الّذي خلعَ عليهِ صُورةَ السَّرير. فمنِ
الّذي أوجدَ الخشبَ وخلقه؟ بَلْ مَنِ الّذي أوجدَ مادّة العالَم الأصليّة،
وخلقَها، وخلعَ عليها صُورتَها الهيولانيّة الأصليّة؟ إنّ أرسطو لا يقصد بـ(المادّة
والهيولى) ما نفهمُه نحنُ مِنْ كلمةِ (مادّة)، لأنّ المادّةَ، الّتي نفهمُها نحنُ،
لها شكلٌ وحجمٌ ووزنٌ، على الأقلّ. أمّا (الهيولى)، عندَ (أرسطو)، فليسَ لها
صِفاتٌ مُطلقاً، ولا تأخذُ صِفاتها إلا مِنَ الصُّورة. فهِيَ قبلَ أنْ تأخُذَ
صِفاتِها، لَمْ تَكُنْ شيئاً يُمكن وصفُه وتحديدُه. أي إنّ (الهيولى)، عندَ (أرسطو)،
ليستْ إلا شيئاً بالقُوّة (Puissance)، ولكن بعدَ
تلقِّي الصُّورة، تُصبِح شيئاً مُعيَّناً بالفِعْل (Act). فالهيولى
عندَهُ ما هِيَ إلا عبارةٌ عن قابليّة التلقِّي (Receptivity)، وهذا ما
جعلنا نقول: إنّ المادّة الّتي ذكرَها أرسطو هِيَ عبارةٌ عنِ العَدَم([61]).
وهذا غير مفهوم ولا معقُول. و(أرسطو) نفسه يُدرِك أنّهُ غير مفهُوم ولا معقُول،
لذلِكَ نراهُ، بعدَ أنْ قسَّمَ أصلَ العالَم إلى (مادّة وصُورة)؛ قال: إنّهُ لا
يُتصوّر وجُود صُورةٍ مِنْ غيرِ مادّة، ولا وجُود مادّةٍ مِنْ غيرِ صُورة؛
فالصُّورةُ لا يُمكن أنْ تظهرَ إلا في مادّة، والمادّةُ لا يُمكن أنْ تظهرَ إلا في
صُورة. وهذا الانفصالُ الّذي نتحدّثُ عنه، هو في الذهنِ فقط. وهذا هو أساسُ
فلسفتِه الميتافيزيقيّة الّتي خَلُصَ منها إلى القولِ، بأنّ العالَمَ قديمٌ
بمادّتِه وصُورتِه وحركتِه ومُحَرِّكِه([62]).
ومَنْ هُوَ المحرِّك، الّذي أعطى العالَم
صُورتَه وحركَتَهُ؟ يقولُ أرسطو: هُوَ الله، وإنّه هو العِلّةُ الصُّوريّة
والغائيّة والمحرِّكة. وإذا كان الله هُوَ العِلّة الصُّوريّة والغائيّة
والمحرِّكة، فهو، إذاً، الّذي أعطى الصُّورةَ للهيولى، الّتي لَمْ تَكُنْ شيئاً
سِوَى "قابليّة التلقِّي"، على زَعْمِ (أرسطو)، وبالتالي يكون الله هو
الّذي خلقَ العالَم بمادّتِه وصُورتِه. فكيفَ يكونُ العالَمُ قديماً بمادّتِه
وصُورتِه وحركتِه؟([63]).
إنّ (أرسطو) يريدُ أنْ يخرُجَ مِنْ هذا
التّناقُض في قضيّة القِدَم، فيقولُ: إنّ العالَم لا أوّلَ له في الزّمن، وإنّما
سبقَ الله العالَم، كما تسبقُ المقدّمة النتيجة. وإنّ علاقةَ اللهِ بالعالَم،
ليستْ عَلاقة عِلّة بمعلُول، ليكون للزّمانِ دَخْلٌ فيها، ولكن هِيَ علاقةٌ
منطقيّة. فالله منحَ العالَم وجُودَه، كما تمنح المقدّمةُ النتيجةَ وجُودَها.
وتَقَدُّمُ المقدِّمةِ على النتيجةِ هُوَ بالفكرِ لا بالزّمَن([64]).
والّذي جرّهُ إلى القولِ بقِدَمِ العالَم، هو
اعتقادُه بقِدَمِ الحركة. فهو يقولُ: إنّ العِلّةَ الأُولى للحركةِ، وهِيَ الله،
ثابتةٌ، ولها نفسُ القُدرة مِنَ الأزل. فلَوْ فرضْنا وقتاً لَمْ تَكُنْ فيهِ
حركةٌ، لَزِمَ عن ذلِكَ أنْ لا تكونَ حركةٌ أبداً؛ لأنّ القولَ بحدُوثِ الحركةِ،
بعدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، يعنِي أن مُرجحاً قدِ استجدَّ، فأوجبَ الحركةَ، والحالُ أنّ
المحرِّكَ الأوّلَ ثابِتٌ، لهُ نفسُ القُدرة، ولا يُتَصَوَّر حصُول مُرجح يُرجح
عندَهُ الحركةُ([65]).
وهذا الخطأُ في الاستدلالِ، نشأَ مِنَ
الوقُوفِ عندَ صفةِ (القُدْرة)، وتناسِي صفةِ (الإرادة)، وهو الّذي خدعَ كثيراً
مِنَ النّاس. وقد ردَّ عليه الغزاليّ، ردّاً مُفحماً، حيثُ قال: "إنّ
العالَمَ حدثَ بإرادةٍ قديمة، اقتضتْ وجُودَهُ، في الوقتِ الّذي وُجِدَ فيه. وأنْ
يستمرَّ العدمُ إلى الغايةِ الّتي استمرَّ إليها. وإنَّ قِدَمَ العِلّة لا
يَسْتَتْبِعُ قِدَمَ المعلُول، إلا إذا كان المعلُولُ مِنْ شأنِه أنْ يَصْدُرَ
عَنْ عِلّتِه صدُوراً (ضروريّاً)، ولا يكونُ صدورُه ضروريّاً إلا إذا تكافأَ
المعلُول مع العِلّة؛ وليسَ بينَ الله والعالَم (المتغيّر) تكافؤٌ، حتّى يصدُرَ
عنهُ العالَمُ صدوراً ضروريّاً. فلا مجالَ للقَوْلِ بقِدَمِ الحركة، كما زعمَ
أرسطو، لأنّها ليستْ ضروريّة عقلاً. ولا مجالَ للقَوْلِ بتجدُّد مرجح، كما توهّم،
لأنّ الإرادةَ القديمةَ هِيَ الّتي عيَّنَتْ وقتَ الحركة"([66]).
إنّ الخطأَ الفكريَّ الأوّلَ، الّذي نشأتْ
عنهُ كُلُّ هذهِ الأخطاءِ والتحكّمات، هو عجزُ العقُول عن تصوُّر الخَلْق مِنَ
العَدَم، ووَهْمِها في إدراكِ معنى الزّمانِ وحقيقتِه، وما اعتراها مِنْ استشكالٍ
في (مُدّة التَّرْك) قبلَ الخَلْق.
وبعدُ، فإنّكَ، إذا تتبّعْتَ جميعَ ما قالَهُ (أرسطو)
في العِلْمِ والفلسفة، ستجِدُ أنّ الرَّجُلَ، على عظمِ عقلِه، وسَعة علمِه، قد
وقعَ في تخليطاتٍ وأوهامٍ وتخيُّلاتٍ كثيرة، عندما حاولَ أنْ يتوصَّل بعقلِه إلى
إدراكِ سِرِّ الخَلْق. كما أنّهُ وقعَ في أخطاءٍ علميّة عديدة. فلا تجعلْهُ في
مقامِ التّقديسِ والعِصْمة، الّذي جعلَهُ فيهِ عاشِقُه ابنُ رُشْد([67]).
وفي العصرِ الحديث، يُمكن أنْ نستدلَّ بأقوالِ
عُلماءِ الفيزياء، مِمّنْ أكّدوا - بصـريحِ العبارة - إيمانِهم بوجُودِ إلهٍ حكيمٍ،
خلقَ الكونِ بدقّةٍ مُتناهية، وغايةٍ في الإتقانِ. ويُحكى في هذا المجال أنّ (أنشتاين)
- مُؤسِّس النظريّة النسبيّة، والحائِز على جائرة نوبل في الفيزياء - قد خاطبَ
يوماً (نيلز بور) - مُكتشِف القفزة الكميّة، والحائِز مِثلَهُ على جائزةِ نوبل في
الفيزياء - في موضُوعِ التّشابُك الكميِّ، بقولِه: "إنّ الله لا يلعبُ النرد"،
فَرَدَّ عليه بور: "لا يتوجَّبُ عليكَ إخبار الإلهِ ماذا يجبُ أنْ
يفعل". فهذا الخِطاب العلميّ يُطلعنا على أنهما لم يكونا مؤمنَيْنِ إيماناً
عرضيّاً، وإنّما كانا يُؤمنانِ بإلهٍ واحِدٍ، أحكمَ نظامِ الكونِ بدقّة وإتقانٍ
يبعثانِ على الذهُولِ والدّهشة. فهذا النِّظامِ الكونيِّ المحكم، لا يُمكن أنْ
يصدر إلا عن إلهٍ حكيمٍ مُبدعٍ، وضع كُلَّ شيءٍ عن قَصْدٍ وحِكْمة.
أمّا (ماكس بلانك) - المؤسِّسُ الأوّل لنظريّة
ميكانيكا الكم - فقالَ عند استلامِه جائزة نوبل للفيزياء في (استوكهولم):
"أستطيعُ أنْ أقُولَ لَكُمْ - كنتيجةٍ من نتائجِ أبحاثي حولَ المادّة - إنّ
كُلَّ هذهِ المواد تنشأُ وتتواجَدُ فقط بفضلِ قُوَّةٍ تجلِبُ جزيء الذرّة لذبذبةٍ
أو تردُّد، لذا يجبُ علينا أنْ نفترِضَ أنَّ وراءَ هذه القُوّة وعي وعقلٌ حكيم.
هذا العقل هو الّذي صفّف كُلَّ هذِه المواد. وهذا يعني أنّ هناك قُوّةً عظيمة،
وعقلاً خارِقاً، هو المسؤولُ الوحيد عن كُلِّ الذرّاتِ الموجُودة في الكون، وهو
الّذي يتحكّمُ بها جميعاً".
هؤلاءِ هُمُ العُلماء الّذين وضعُوا أُسس
النهضةِ الحضاريّة في القرن العشـرين، من خلال أبحاثهم الأكاديميّة، وتجارِبهم
العلميّة الدّقيقة، بمنأى عن الشعوذة والتنجيم. والطّريف بعد هذا أنّ تجد قارِئاً
واعِداً - رُبّما قرأ شيئاً ضئيلاً مِنَ الأبحاثِ العلميّة - يصِفُ الفكر
الايمانيّ بالفكرِ الرجعيِّ المتخلِّف، ولا يدري أنّهُ بذلِك يُروِّج لفكرٍ سطحيّ
عرضيّ، يرتدُّ إلى مرحلةِ الطفولةِ البشريّة.
ومِنْ حقِّ القارئ أنْ يعرِف هُنا عِلّةِ
إسهابنا في الحديثِ عن سِرِّ الخليقة! ويتساءلُ: ما الداعِي إلى طرحِ أفكارِ بعضِ
الفلاسفة في فلسفةِ الوجُود؟ فالباعِثُ الحثيث الّذي دعانا إلى خوضِ هذا الحديث،
هو الأفكار الإلحاديّة الّتي ساقها القصيمي في كُتبه. فما أثارَه القصيمي، وأمثاله،
في يومنا هذا، فضلاً عن انتشار ظاهرة الشكّ والحيرة، الّتي لازمتْ - وما زالت
تلازِم - الكثير من حملةِ الأقلامِ الواعِدة - فضلاً عن الكثير من جيلِ الشباب،
ومُراهقي المعرفة، مِمّن يهرفون بما لا يعرفون، ويخوضون فيما لا يُجيدون،
ويتطارحون بما لا يُطيقون - قد دعانا وأجبرنا إلى طرحِ هذه الأفكار الفلسفيّة
المعمّقة، والعُروج إلى تلكَ الموضوعات المعقّدة، وبشيءٍ مِنَ التّفصيل!
يقول الدكتور صلاح الدين المنجد: هُناكَ
تعليقاتٌ يكتبها المفكِّرُون، فمنهم مَنْ سمعته يقول: إنّ القصيمي ليسَ عندَهُ
اتّزانٌ وتسلسلٌ منطقيّ في تفكيرِه، فهو يقفزُ مِنْ فكرةٍ إلى فكرة، فتأتي هذهِ
الأفكارُ مُضطربة، مسيخة، لم تنضج نُضْجاً يُمكّنها مِنَ الظهُور واضِحة سافِرة([68]).
وهذا دليلٌ أنّ أفكارَهُ المضطرية الّتي نشرها لم تأتِ نتيجةَ مُكابداتٍ فكريّة،
ومجاهداتٍ معرفيّة، ومطارحاتٍ منطقيّة، وإنّما جاءتْ بمثابة انفعالاتٍ واضِحة،
وافتعالاتٍ صارِخة، وصيحاتٍ مبحُوحة، تحاكي آهاتِ المعذبين، وآنّات المكروبين،
جرّاء سياساتِ الحكومات الفرديّة الدكتاتوريّة، الّتي ألقمت مواطنيها البُؤس
والمرارة، وجرّعتهم كؤوس الأسى والحِرْمان. ولكنّه لم يُعلِّق جريرة المقهورين
المعذبين على مشجب هذهِ الحكوماتِ الاستبداديّة، الّتي حكمت بالحديد والنّار،
ولكنّه علّقها - مُتجاوِزاً كُلّ حدودِ الأدب - بالذاتِ الإلهيّة؛ تعالى الله عما
يقولُ الظّالِمون علوّاً كبيراً.
ويقول المنجد أيضاً: وسَمِعْتُ آخرينَ مِنَ
الأُدباءِ يقولُون: السطحيّة واضِحةٌ فيما كتبَ القصيمي، فهو ضعيفُ الثقافة،
يحاوِلُ طرقَ موضُوعاتٍ فلسفيّة هي أعلى مِنْ مُستواه العقليّ، فلم يُتح له أنْ
يتّصِلَ بالتياراتِ الفلسفيّة والثقافيّة الأوروبيّة إلا عن طريقِ بعضِ المترجمات،
فأغارَ على بعضِها، وشوّهها، وتبنّى بعضَ الآراء الغربيّة الماديّة، وتمسّك بها.
فليسَ عندَهُ أصالةٌ فيما كَتب، وكُلُّ كلمةٍ قالَها يُمكن ردّها إلى صاحبها
الأوروبيّ الّذي أخذها عنه. ولم يكنْ بارِعاً ولا ماهِراً في ربطِ هذهِ الآراءِ
المسرُوقة بعضها ببعض بلباقةٍ ولُطْف، فجاءتْ كُتبه مثل جُراب الشّحاذين، يضعُون
فيهِ ألواناً مِنَ الأطعمة المتنافِرة والمتآلِفة، بعضها فوق بعض، فيكونُ المزيجُ
عجيباً([69]).
وفي الحِوار المطوّل الّذي دارَ بينَ الشّيخ
أبو عبدالرّحمن بن عقيل، وبينَ القصيمي، جاءتْ هذهِ الفقرات: "ورأيْتُكَ
وسَمِعْتُكَ ليلةَ 21/ 9/ 1392هـ بـ(جاردن سيتي)، بالقاهرة، لا تصدرُ في نِقاشِكَ
عن منهجٍ منطقيّ. ولو كان لمنطقِكَ أصولٌ، لكان نِقاشُها أيسرَ وأهونَ. كما
رأيْتُكَ وسَمِعْتُكَ تروغ في موضُوعِ النِّقاش، وتضيِّع الحقيقةَ بالنُكتة
والسُخرية.. وقُلْتُ لكَ: لولا عنايةُ الله لمدّت البِحار فغرق العالَم، أو زادتْ
حرارةُ الشّمس فانصهرتِ الأرض. وقُلْتَ أنت في سذاجة: أينَ العنايةُ في الكونِ،
ونحنُ نرى في النّاسِ بُؤساء وسُعداء، فلماذا لا يكونُ النّاس كُلّهم سُعداء؟ - انظر:
كيف يعزفُ دائماً على نغمةِ الفقر والغِنى، لأنّه عاش حياته المبكّرة في قبضة
الفقر المدقع -. وردّ عليه الشّيخ أبو عبدالرّحمن: وهذهِ هِيَ نغمتكَ الممجُوجة.
إذا زَحَمَكَ البُرهانُ لُذْتَ بعُقدة القَدَر.. ولَمّا تحدّث القصيمي في السّياسة
استربْتُ منه، وأكادُ أزعمُ بأنّهُ صهيونيّ مُجنّد"([70]).
ويقول أبو عبدالرّحمن الظّاهريّ: ولَمّا
تباجحتَ بإنكارِ وجُودِ الله؛ رددتُ عليكَ بأدِلّةٍ عقليّة، وذكرتُ لكَ بُرْهان
العناية الإلهيّة والغائيّة والكمال، وذكرتُ لكَ حتميّات الذهن؛ كالسببيّة، وقِسمة
العقل الّتي لا تتمّ إلا بتصوُّر الكمالِ اللامتناهي. وتحدّيتُكَ على مشهدٍ مِنْ
بعضِ المثقفين أنْ تنقد العلية، وتمامِ القِسْمة، وهُمَا مِنْ حتميّاتِ الفكرِ
البشريّ، فتساقطت، وتحامقتَ، ورددتَ ردّ مَنْ لا أصلَ لهُ، ولا قاعِدة. فمرّةً
عزفْتَ على نغمتِكَ المألُوفة في استجلاب أنصافِ المثقفين، وهِيَ الشكّ في عدلِ
الله ورحمتِه: بأنْ جعلَ هذهِ الحسناء مجدورة الوجه، وجعلَ فلاناً بائِساً.
فقُلْتُ: إنّ نِقاشَنا في وجُودِ الله، وليسَ في أفعالِ الله، والبحثُ في عدلِ
الله فرعٌ للبحثِ عن وجُودِ الله.. فعليكَ أنْ تدفعَ أدلّتي هذهِ، ثمّ عليكَ أنْ
تُورِد البُرْهانَ على أنّ الله - تعالى عمّا تقول - غير موجُود، ثمّ ننتقِل - إنْ
أحببتَ - إلى أفعالِ الله. ولم تخجل، إذ بيّنتُ للحاضرين أنّكَ تستدِلُّ في غيرِ
محلِّ النِّزاع([71]).
ويقول الظاهري أيضاً: وأشهدُ أنّ القصيمي
يتفنّنُ في عرضِ دعاوى الفلاسفة والعُلماءِ الماديِّين، مِنْ أمثال: بخنر، وسارتر،
ولكنّهُ لمْ يفهمْ حُججهم، ولم يحذق مناهجهم، كما أنّهُ يجهلُ الكثيرَ مِنْ حُججِ
المؤمنين([72]).
ويقول أيضاً: إنّكَ لم تكتُبْ عن نرجسيّة أبي نوّاس، وموسقة البُحتريّ، وانطوائيّة
العبّاس بن الأحنف، ورومانسيّة إبراهيم ناجي. ولم تكتب عن شمم برج إيفل، وضفاف
برجويه، وخطوط قوس قُزَح. ولو كتبتَ في هذهِ المسليات، لكانَ أسلُوبك أليقَ بذلِك،
لأنّكَ تُغنِّي وتنوحُ وتُسرِف في الخيال، وتُتقِن رَسْم الصُورة. إنّكَ فنّانٌ
مُتمزِّق، إنّكَ أديبٌ ساخِرٌ ساحِر([73]).
وقال أبو عبدالرّحمن: وقد جمعَ القصيمي إلى
سيئةِ احتقارِ مواهِب العرب أجمعين، سيئة الغرُور بنفسِه. فهو يعتبرُ فِكْرَه
إنجيلاً لم تعرفه المجامِع. وإذا ناقشَهُ عربيّ جادّ في طلبِ الحقيقة؛ قال: إنّ
العربيّ سريعٌ في الإجابة مِنْ مخزُون فكرِه، مِنْ تعليماتِ أبي هُريرة، والأزهر،
والعُرْف، والعادة! ولقد ضقتُ بهذا الادّعاء، وقُلْتُ له: اعتبر ما أقوله لكَ
حُجّة عقليّة ناقِشْها، وانقدها، فالحقيقةُ مقياسها بذاتِها، وليسَ بمن يقولُ بها.
وإنّ كثيراً مِنَ الأعرافِ والعاداتِ تكوّنتْ وَفْق قِيَم عقليّة وخُلقيّة
وجماليّة. ولَمّا تباهى في الاحتجاجِ، وزعمَ أنّ النّاسَ يضطرّون إلى الإله
لتستقيمَ أخلاقهم، قُلْتُ له: هذا مذهبُ (كانت) في العقلِ العلميّ. ولَمّا تباهى
في الاحتجاجِ بأنّ النّاسَ قاعِدون للأخلاقِ حسبَ منفعتِهم، قُلْتُ له: هذا مذهبُ (بنتام)،
و(مل). ولقد أحسّ بمقصدي مِنْ هذهِ الاعتراضات، فقال: دَعْنا مِنَ المذاهِب،
وناقِش الفكرة. وإنّما أردتُّ أمرين: أوّلهما: إشعار القصيمي بأنّهُ لَمْ يأتِ
بجديد، وأنّهُ سريعُ الإجابة من مخزُون فكرِه، لا مِنَ المشايخ وأبي هريرة، ولكن
من (كانت)، و(بنتام)، وأعراف الغرب. وثانيهما: استجراره إلى الاستدلالِ على فكرةِ (بنتام)،
و(مل)، ولكنّه يعرفُ الفكرة، ويشرحُها، ويغني بها غناءً رُومانسيّاً، ولا يعرِفُ
البُرْهان([74]).
وقفات مع نُقّاد عبدالله القصيمي:
هذه وقفاتٌ نقديّة وُجِّهت إلى عبدالله
القصيمي من أقطاب الفكرِ الماركسيّ والقوميّ والحداثيّ، وغيرهم. حيث شهدوا بأنّ
القصيمي عنده أزمةٌ نفسيّة، ولذا، فهو يُدَمِّرُ كُلَّ شيء؛ لأنّهُ أصلاً منهارٌ
روحيّاً ونفسيّاً، منهارٌ من كُلِّ ناحية!
(1) يقول عنه حسين مروة (اشتراكي قومي): "يبدو
لي أنّ أوّل ما ينبغي إيضاحُه منذ الآن، هو أنّه لم يكن عسيراً عليَّ، وليس عسيراً
على أيِّ قارئ غيري، اكتشاف كون المؤلف (عبدالله القصيمي) خاضِعاً، في مُعظم
أفكاره وتأملاته وخواطره، إلى عدد من الضغوط النفسيّة والفكريّة العنيفة، الّتي
يصح أنْ نجعلَها كُلّها في حالةٍ أو وحدة تؤلِّف ما نسمِّيه بالأزمة، إذا لم نسمّها
عُقدة". ولا جَرَم أنّ القصيمي قد عاش مُعقّداً، وأثّرت العُقَد النفسيّة
عليه، حتّى إنّهُ كان لا ينام الليالي بسبب شكُوكه وأوهامه. كما كان لحياة التشتّت
أثرها في حياة القصيمي. كما أنّ طردَهُ من جامعة الأزهر قد أحدث عنده كراهية
للتديُّن. وكانت مُعاملة والده القاسية سبباً من أسبابِ انحرافِه أيضاً([75]).
(2) ويصفه أدونيس (شيخ
الحداثيين) بقولِه: "عبدالله القصيمي لا تستطيعُ أنْ تمسك به، فهو صُراخ
يقولُ كُلَّ شيء، ولا يقولُ شيئاً، يخاطِبُ الجميع، ولا يُخاطِب أحداً. إنّه الوجه
والقفا".
(3) ويتحدَّث ميخائيل نعيمة عن
كتاب القصيمي (العالم ليس عقلاً)؛ فيقول: "إنّهُ كتابُ هَدْمٍ ونفي من الطِّراز
الأول - هدم الآلهة والأخلاق والفضائل والثورات، والمثل العليا والغايات الشريفة-
ولا عجب، فأنت في أوّل فصل تنفي أن يكون لوجود الإنسان أيّ معنى، والّذي لا يعرفُ
لوجود الإنسان، ولعبقريته، أيّ معنى، كيف يكون لكلامه أي معنى؟ إنّ قلمَك ليقطر
ألماً ومرارةً واشمئزازاً وحِقْداً على خنوع الجماهير، لا العباقرة، ولو كان لمثل
حقدك أن تصنع قنبلة، لكانت أشدّ هَوْلاً من قنبلة هيروشيما".
(4) ويذكرُ الدكتور صلاح الدين المنجد: إنّ كتب
القصيمي جميعها تنشرُ بذورَ اليأس والتشاؤم. فهو ينقلُ هجومه على الدّين والأخلاق
من (كارل ماركس)، كما يستمِدُّ يأسه من كُتب (شوبنهاور). ولا يمكن اعتبار أعمال
القصيمي إلا وثائق تدلُّ على جنُونٍ مرضيّ هدّام([76]).
شهادة القصيمي على نفسه بالمرض
النفسي!
وهذه نصُوصٌ ننقلُها لكم من كتاب القصيمي (العالم
ليس عقلاً)، تبيِّن مدى انهياره النفسيّ والعاطفيّ، وما أصابه من عقدٍ وأزمات، تُخفي
وراء الألفاظ الجميلة الأدبية ما تخفيه من ألمٍ وحِرْمان وصِراعٍ ومرضٍ نفسيّ!
يقول القصيمي تحت عنوان (قصيدة بلا عَرُوض): "إنّ كُلّ دمُوع البشر تنصبُّ في
عيوني، وأحزانهم تتجمّعُ في قلبـي، وآلامهم تأكلُ أعضائي.. ليسَ لأنِّي قديسٌ، بل
لأني مُصاب بمرضِ الحساسيّة"! وفي كتابه (العالم ليس عقلاً) يقول أيضاً:
"إني أنقد لأني أبكي وأتعذّب، لا لأنّي أكره وأُعادي. أنقد الإنسان، لأنِّي
أريدُه أفضل، وأنقد الكون، لأنه لا يحترم مَنْطِق الإنسان، وأنقد الحياة، لأني
أعيشها بمعاناة - بتفاهة، بلا شروط، بلا اقتناع، بلا نظريّة".
ويقول: "دعوني أبكي، فما أكثر الضاحكين
في مواقِف البكاء. دعوني أحزن، فما أكثر المبتهجين أمام مواكب الأحزان. دعوني أنقد،
فما أكثر المعجبين بكُلِّ التوافه. دعوني أحتجُّ على نفسِي". ويقول - وهو
يقصد نفسه -: "لا تُسيئوا فهمه، لا تُنكروا عليه أنْ ينقد أو يتّهِم أو
يُعارض أو يتمرّد أو يبالغ أو يقسُو... إنّه ليس شريراً ولا عنيفاً ولا عدوّاً ولا
مُلحِداً، ولكنّه متألِمٌ حزين، يبذل الحُزن والألم بلا تدبير ولا تخطيط، كما تبذل
الزهرة أريجها، أو الشمعة نورها! لقد تناهى في حزنه وضعفه حتّى بدا عنيفاً... ليسَ
نقده إلا رثاء للعالَم ورثاء لنفسِه، بل ليسَ نقده إلا تمزُّقاً ذاتيّاً".
وفي كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين
ومخالفيهم) يتعرّض، في مسألةٍ مِنَ المسائِل، يردُّ فيها على الدّجْوي، وهو في
طرحِه هذا يُخيّل للقارئ المتعمّق أنّهُ يتحدّثُ عن حقيقةِ نفسِه، يقول: "إنّ
الجِدالَ في نفي الأمرِ ليسَ نفياً له، ولا اعترافاً بانتفائِه، فقد يُجادِل
المرءُ في نفي شيءٍ يؤمِنُ به، لأغراضٍ كثيرة، منها: حُبُّ الشُّهرة، ومنها:
الرّغبة في المشاكسة، أو الحُبّ لأن يقولَ النّاسُ: إنه جدلٌ، قويّ العارِضة،
ومنها: التمرُّن على صناعةِ الجدال، وإحسان أدائِه. ولنكتفِ بهذا إشفاقاً على
المشيخةِ، ورحمةً بدَجْويها"([77]).
حالة القصيمي النفسيّة.. تحليلٌ
وتشخيص:
يقولُ الدّكتور أحمد عزت راجح في كتابه (الأمراض
النفسيّة): "ليسَ كُلُّ الشّقاءِ في الدّنيا وَقْفاً على الفَقْر، أو اعتلالِ
البَدَن، أو على ما يشيعُ في المجتمعِ مِنْ ظُلْمٍ أو سُوء تدبير، وليسَ كُلّ ما
يُقاسيه المرءُ مِنْ همُومٍ وآلام رَهْناً بما يُصادِفه في حياتِه مِنْ صدماتٍ
وأزمات، فهُناكَ ألوانٌ أُخرى مِنَ الشّقاء والألم لا ريبَ أنّها أشدُّ مِنْ تلك
وأقْسَى: تلكَ هِيَ آلامُ الإنسانِ عندما يشقى مِنْ نفسِه، عندما يحولُ اعتلالُ
النّفْسِ بينَهُ وبينَ الطمأنينة والرِّضا، ويُحْرِمه السّكينة والأمن والسّلام،
يوم تكون نفسه حرباً عليه، يوم يرى نفسَهُ ضيق الصّدر، حائِر اللّبِّ، بَرِماً
مِنْ كُلِّ شيءٍ: أسير أوهامٍ وهواجِس، ورهين شكُوك ووساوس، لا يطرب لشيء، لا
يَجِدُ للحياةِ طَعْماً، بل يجدها حِمْلاً وعِبْئاً، ذلِكَ هو الشّقاءُ الرّجيم،
والألم الّذي لا ينفعُ فيه مالٌ ولا شفاعة؛ لأنّ صاحِبَهُ مريض النّفس"([78]).
هذا الشّقاء الرّجيم هو ما أصابَ القصيمي،
فإنّ آراءَهُ الكثيرة الّتي عرضَها، واقتبسها من (ماركس)، وغيره مِنْ فلاسفةِ
التشاؤم والهدم، تدلُّ دلالةً واضِحةً على أنّهُ مريضٌ نفسانيّاً، وأنّ الشّقاءَ
الرّجيم قد نزلَ عليه. وقد أصابَهُ هذا المرضُ النفسانيّ، على أغلبِ الظنِّ،
لإخفاقِه فيما كانتْ نفسه تؤمّله، فأصبحَ رَجُلاً شاذاً، بَرِماً بالحياةِ،
بَرِماً بالكون، ساخِطاً، شاكياً، مُتشائِماً، مُتأفِّفاً، مُتناقِضاً قَلِقاً،
تنتابُه نوباتٌ مِنَ الكمد النفسيّ، فتجعلُه لا يرى في الحياةِ معنًى، ولا حِكْمة،
فلا يُبْصِر نوراً، ولا جمالاً، ولا يشعرُ براحة، فيثورُ وتدفعُه أنانيّته
الصّارِخة إلى التّحطيمِ والهَدْم([79]).
ولقد رأيْتُ أنّ آراءَ القصيمي
الّتي تبنّاها مِنْ مذاهِب الهدّامين ما هِيَ إلا ثمرة عُقَد نفسيّة مُتراكِمة منذ
صِغره، حَسِبَ بادئ الأمر أنّ طريقَ الدّين يُوصِله إلى القِمّة، ويضمنُ له العِزّ
والجاه، فاندفعَ يكتبُ في الدّين، ويُدافِعُ عنه بحماسةٍ وحرارة، لكنّ الأزهريِّين
سَخِرُوا منه، وطردُوه، فشتمهم. ثمّ حَسِبَ أنّ طريقَ الفكرِ الحُرّ - والتّفكير
الحُرّ عندَهُ، معناهُ الهَدْمُ والنّقدُ والبذاء - يُوصِلُه إلى ما يريدُ، فوجدَ
في آراءِ ماركس وأتباعه ملجأً له، فتركّزتْ في نفسِه الدّعوةُ إلى تبديلِ الكون،
وتغييرِ الأشياءِ، وتحطيمِ الآلهة، والهزء مِنَ التّقاليد، والعبث بكُلِّ مقدّس،
والتّشكيك بالأفكارِ الإنسانيّة الحضاريّة، والسُخْرية مِنَ الأخلاق. وزادتْ
آلامُه النفسيّة، فصارَ لا ينظرُ إلى الكونِ إلا باللّونِ الأسود القاتِم، لا يرى
جمالاً، ولا نُوراً، ولا هناءة، ولا سعادة، ولا ضحكة، ولا نادِرة، ولا حُبّاً، ولا
حناناً([80]).
لقد تكاثفتِ الظّلماتُ في نفسِه وعقلِه
ورُوحِه وعينيه وبصيرتِه، أصبحتْ جليداً لا يذوب، صارَ يرى الظّلام والدّمامة،
والقُبْح والشرّ، والبُكاء والألَم، والمرض والمآسي، والفجائِع والبُغْض، والحِقْد
واللّؤم. إنّهُ مريضٌ في عقلِه ورُوحِه ونفسِه، يدعُو إلى الاحتجاجِ والثورة
والإلحاد، وليسَ عندَهُ ملجأٌ يلجأُ إليه، بعدَ أنْ كفرَ بربِّه، ليشعُرَ ببردِ
السّكينة والرّاحة والطمأنينة، فوساوسه تزيدُ، وآلامُه النفسيّة تفور. إنّهُ عدوّ
كُلّ شيء في هذا الكون، تقدح في قلبه الضّغينة الحادّة عليه([81]).
لقد اتّجهَ، بعدَ أنْ نفضَ يدَهُ مِنْ أيّ عمل
ينفعُ به نفسَه والإنسانيّة، إلى زرعِ الشكُوكِ، ورمي التُّهَم، ليُمزِّق
النّفُوسَ، وينسب إليها الفساد. إنّ آراءَ القصيمي - الّتي نشرها في كتبه بعدَ
إلحادِه - كُلّها سلبيّة، لا إيجابيّة فيها، كُلّها شرّ، لا خيرَ عندَها. يُعيدُها
مرّاتٍ ومرّات، بشكلٍ مُمِل حادّ مُتوتّر، كأنّهُ صُراخ المعذبين، أو أنين
المنكوبين([82]).
إنّ مثلَ هذهِ الآراء الّتي تبنّاها القصيمي،
لا تستنِدُ إلى منطقٍ ولا عقل، ولا مصلحة. أمِنَ المنطقِ والعقلِ والمصلحة أنْ
تضرّ نفسَك، وتسلّط عليها الشكُوك والأوهام والقلق، وتحملُ حِراب الهَدْم
والتّخريب، وتبتعِدَ عن كُلِّ ما يحملُ الطمأنينة إلى رُوحِك ونفسِك، ولو كان وَهْماً؟!
أمِنَ المنطقِ والعقلِ والمصلحة أن تفقد كُلّ حُبّ وأمل، وتعمى عن كُلِّ نورٍ
وجمال، وتجفُو كُلّ أمنٍ وراحة، وتهجر كُلّ هدوءٍ واستقرار، وتعطِّلَ كُلّ شعُورٍ
بالسّعادةِ والرِّضا، الرِّضا عن نفسِكَ، وعمّنْ يُحيطُ بك، وتستبدِلُ كُلّ هذا
بالكربِ المقيم، والضيق الدّائِم، والنقمة المتأجِّجة، والشّك الّذي يصطرِعُ في
الصدّر، والتوتّر النفسيّ الحادّ الّذي يُرْهِق الأعصاب؟! أليسَ في الدُّنيا وفي
الكونِ خيرٌ وجمالٌ ونورٌ وطيِّباتٌ، وساعاتُ لَهْوٍ وسرُور؟ وكيفَ يُعْرَف الخيرُ
إذا لم يكنْ بجانبِه شرٌّ، أم كيفَ يُدْرَك الجمالُ إذا لم يعبس القُبْح، وكيفَ
نُحِسُّ بالظّلامِ إذا لم يسطعِ النُّور؟ ولو كانتِ الحياةُ كُلّها لوناً واحِداً،
لملّها الإنسان وجفاها، ولو أكلت كُلّ يومٍ أشهى طعامٍ وألذّه، لتقزّزت نفسك منه
بعدَ أيّام([83]).
ثمّ ما فائدةُ الدّعوةِ إلى تغييرِ كُلِّ شيءٍ:
المذاهِب والعقائِد، والآلهة (تنزلاً معَ القصيمي، وإلا فالإلهُ واحِد سبحانه
وتعالى عمّا يُشرِكُون)، والأشياء؟ وإلى أيِّ شيءٍ نُحَوِّلُها، وبأيِّ شيءٍ
نستبدِلُها. إنّ القصيمي سلبـيّ يدعُو إلى الهدم، والتّغيير والتّحطيم، لكنّه لا
يُقدِّم لنا نِظاماً إيجابيّاً يكفل سعادة الإنسانِ والإنسانيّة. يريدُ أنْ نهدمَ،
ونبقى فوقَ الخرائِب([84]).
ولو فرضنا أنّ أُناساً قبلوا آراءَ القصيمي،
فألحدُوا، وهدمُوا الأخلاق، والمذاهِب والعقائِد، فهل ينالهم السّعادة والهناءة
والرّاحة والسّلامة، وينجون مِنْ كُلِّ آفة وشرّ، وألم ودمُوع، وبلاءٍ وموت؟ هَلْ
يُرْفَع عنهم المرض، أو يذهب الموت، أو يُمْحى مِنْ بينهم القُبْح، أو تتطّهر
نفوسهم مِنَ الحِقْدِ واللّؤم، أو يرجع العقلُ إلى المجانين؟ هل يتساوون في
الرّغباتِ والأحلام، والخلق والرِّزق، والفهمِ والعِلْم؟([85]).
وهُناك تساؤلاتٌ مهمّة يمكن طرحُها هنا، وهي:
ترى ما هو السببُ الحقيقيُّ وراءَ هذه الانتكاسة لطالبِ علمٍ مُتميِّز، كان يُرجى
له أنْ يكون من العُلماء المتبحّرين والمفكِّرين الكِبار؟ هل كان السببُ الحقيقيّ
وراء انتكاستِه، هو غرُوره وكبرياؤه؟ أم هي عمليّة انتقال بطيئة، وبشكلٍ تدرُّجي،
ولم يظهر منها إلا نتائجها المخيفة، والّتي أعلن عنها صاحبُها في كتابه (هذي هي
الأغلال)؟ هل كان القصيمي مُقتنِعاً فِعْلاً بإلحادِه وببُطلانِ الأديان؟ أم هِيَ
ردّة فعلٍ عكسيّة طائِشة، كانتْ نتيجةَ ضغُوطٍ نفسيّة مُتراكمة مُتراكبة عندَه؟
وهل كان مُقتنِعاً فعلاً - قبل إلحاده - بتديُّنه وإيمانِه؟ أم أنّه لم يكن
مُقتنِعاً البتّة؟ هل كانتِ المسألةُ هذهِ بالنسبة له، ولغيره، مسألةَ وراثة،
فيتصوّر أنّ الخرُوجَ عن المورُوث عارٌ، والعارُ فضيحةٌ، والفضيحةُ حِرْمانٌ،
فالأفضل له إذاً - بناءً على هذا التصوُّر - مُغالبة الوساوس القهريّة، والركُون
الى التقاليد الموروثة؟([86]).
هذه، وغيرها، تساؤلاتٌ يمكن أنْ تُطرح على بساطِ
البحثِ والمناقشة. تساؤلاتٌ قد تترامى إلى أذهانِ غيرِه من المفكّرين، أو حتّى
مِنَ النّاسِ العادييِّين. والحق أنّ هُناك آراءً ومُطارحاتٍ مُتفاوتةً، بل
ومُتضاربة - أحياناً -، حولَ الأسباب والعِلَل الحقيقيّة وراء ظاهرة التحوّل هذهِ
عند القصيمي. ولا نزعمنَّ أنّنا في هذهِ الدّراسة سنحصُل على إجابات شافية كافية،
أو نتائِج يقينيّة راجِحة، ولكن ما نريدُه هو مُجرّد مقاربةٍ فكريّة تسعى للوصُول
إلى تخومِ الفهم والتقريب لا غير! وهذه المرئيات الفكريّة والمقاربات المنهجيّة،
الّتي جاءت على شكلِ رُؤى مطرُوحة، قد تنطبقُ على الكثيرين مِمّن يعانون من نكساتٍ
معرفيّة حائرة، ومن أزماتٍ فكريّة صادمة، أو شكوك عقائديّة هائمة، تفضي بهم إلى
أزماتٍ نفسيّة، تُطرح على صُورةِ أفكارٍ وآراءٍ وتوجّهات.. وقد نجدُ الكثيرين
مِمّنْ يمرُّون بهذهِ المراحل، أو يتقلّبُون في هذهِ الظّرُوف الّتي مرَّ بها
القصيمي، وهم لا يعون بذلك أبداً. وقد تؤدِّي حيرتهم العقديّة الخانقة إلى
مسلكيّاتٍ خطيرة، وعقد نفسيّة قاتلة. وفيما يأتي بيانٌ للآراء الّتي سجّلها بعضُ
العُلماء حولَ ارتدادِه الفكريّ، وانقلابه الدينيّ:
(الرأي الأول): "مفاده
أنه يستحيل أنْ ينقلِبَ متديّن، مُتمسِّك بمبادئ الإسلامِ، إلى ملحد، مرّةً
واحِدة؛ كما يستحيل أن ينتقل البندول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دفعة واحدة،
لا بُدّ من التدرُّج، ولا بُدّ من الاستدراج. وبناءً على هذه النظرية، فإنّ
القصيمي بدأ مُخلِصاً لدينه، مُوقناً بعقيدته، لكنّه مع الزمن بدأ يتساقط أمامَ سُلطان
الشك، وبريق الرّيب والزيغ. وظلّتْ بذرةُ الشكِّ كامنةً حتّى استحكمتْ وتمكّنت فيه
جيِّداً، فأعلن إلحادَه، بعد أن اجتثت تلك البذور ما بقي في قلبه من إيمان!
فالشكوكُ القاتلة جندلته صريعاً، مسفُوك الدّم والعقل والرّوح في بلاط الإلحاد!([87]).
(الرأي الثاني): يتلخّصُ في أنّ القصيمي
- في الأصل - كان شكّاكاً، فكلّما تقدّم الإنسان في العِلْم زادتِ المسائل
المستعصية أمامَهُ، وزادت حيرته وقلقه وريبته. فكَمْ من عالِمٍ مُتشكّك! وكم من
مُفكّر مُرتاب! وكم من الشخصيّات القلقة، الخاضِعة تحتَ سُلْطان الشك! فهناك مِنْ
يُواجه هذا الطوفان العارِم مِنَ الشكيّة، بالتّفكير العقلانيّ المتوازن. وهناك
مَنْ يُواجهه بالهرُوب إلى التّسليم الأعمى. ومنهم من يتغلّب سُلطان الشكِّ عليه،
فيُرديه صريعاً، كالقصيمي مثلاً. وهذه الحالة قد عبَّر عنها المؤرِّخ الشهير (ول.
ديورانت)، عندما تحدَّث عن الفيلسوف اليهوديّ الملحد - (اسبينوزا). فمِمّا قالَه
وهو يصفُ إلحادَه: "إنّنا نعلَمُ أنّ كثيراً مِمّنْ يشكّ في الدّين هُمْ
رِجال الدّين أنفسهم؛ لأنّهم اطّلعُوا على حقيقةِ تديُّنهم!".
والحقّ أنّ هذا الرأي يُجانب الصّواب كثيراً.
فالمقطُوع به أنّه كُلّما ازداد الإنسان تعمّقاً في الحقِّ، عَرَفَهُ أكثر، وتمسّك
به أكثر. وقد يكون الرأي الثانِي صحيحاً، إذا ما قِيس بالدّين الفاسِد أو الباطِل.
فحينما يتعمّق الإنسان فيه، يزداد يقيناً بفسادِه وبُطلانه. حتّى في الفلسفة، فإنّ
التعمّق فيها يؤدِّي إلى الإيمان، أمّا التسطّح فيؤدِّي إلى الكُفر. فالقضيّة
ليستْ قضيةَ عُلماء الدّين، بقَدْر ما هي قضيّة الدّين نفسه، وهل هو دين حقّ أم
باطِل؟ وذلك ينطبق على جميع الأشياء الفكريّة، والنظريّة، وغيرها([88]).
هذا، "وحينما يُقال عن الفيلسوف (اسبينوزا) إنّه عالم دين، وإنّ سببَ إلحادِه
هو دينه نفسُه، فهذه المقولة صحيحةٌ ولا غبار عليها، بل إنّنا نعدُّ ذلِك شهادةً
مِنْ هذا المفكِّر على أنّ الأديان المحرّفة تحملُ في طيّاتِها بذور الشكِّ
والانهيار، وما (اسبينوزا)، وغيرُه، إلا خيرُ شاهِدٍ على ذلِك. والفرقُ بين الدّين
الحقّ، والأديان الباطِلة، هو ما قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية، مُفرقاً بذلك بينَ
الإسلام وغيرِه؛ حيث قال: "الإسلام يأتي بما تحتار فيه العقول، لا ما
تحيله". وهذه هي النقطة الجوهريّة، وهي حَجَرُ الزاوية، وقطب الرّحى في
قولِنا السّابق، فالإسلامُ لا يُعلّم النّاسَ المحالات العقليّة أبداً، بل جميعُ
عقائِده فطريّة يقينيّة، تسلّم بها جميع العقُول، على تفاوتِ إدراكاتِها.
فالعقائِدُ في الإسلام واضحةٌ سَلِسَةٌ يسلّمُ بها العقلُ، وتذعن لها
النّفْسُ"([89]).
(الرأي الثالث): ينصُّ
على أنّ القصيمي انقلبَ رأساً على عَقِب، بسبب رغبتِه في المال، فارتشى من أجل ذلك.
يقول الشيخ ابراهيم النجدي في كتابه: "لقد استغربَ النّاسُ انقلاب هذا
الرّجُل بهذه السُّرعة، وانسلاخِه من آيات الله الّتي تظاهر بنصرها من قبل، فذهبوا
يتساءَلُون عنِ الأسبابِ الّتي أحدثت هذا الانهيار الخلقي، والانقلاب المفاجيء
الغريب، والانسلاخ المنكر؛ لأنّ هذا الرّجُل كان يتظاهَر قبلاً بنصرِ السُّنة، وقد
ألّف في ذلك كُتُباً معروفة.. وذهبُوا يُعلِّلون هذا التّراجُع والتقهقر تعليلاتٍ
شتّى، بحسبِ ما يظهرُ من القرائِن، فعلّل كثيرٌ بأنّهُ ارتشى من بعضِ الدعايات
المحارِبة للأديان!"([90]).
مع أنّنا نرى أن هذا الرأي البراغماتيّ
مُستبعدٌ من التّعليل، من خلالِ تصفّحنا لآثاره، وآثار خصومه، وخاصّةً إذا عرفنا
أنّ القصيمي كان يُناصر دولة غنية بالبترول. ثم نقولُ: ماذا جنى القصيمي من
الأموال نتيجة إلحادِه؟! لقد شُرِّد وطُرِد وهَامَ على وَجْهِه من بلدٍ إلى بلد،
ومات مَنْفيّاً وحيداً! فهذا الشيخُ ابن عقيل الظاهري يقولُ عنه: "ولا
أُنْكِرُ أنّ القصيمي كان مُخْلِصاً في إلحادِه أوّل الأمرِ لشبه عُرضت له، وقد لاقَى
مِنْ ذلِكَ مُضايقةً ومُطارَدة"([91]).
ولندع القارىء الكريم يقرَأُ بنفسِه ما كتبَهُ
القصيمي بخطِّ يده، يحكي فيه عن خواطرِه، واعترافاتِه. يقول القصيمي: "إنّ
الذكرى الّتي تفيضُ بالمرارة والحَسْرة تعاودني كُلّما مرّ بخاطري عصرٌ مشؤوم
قَضَيْتُه مَسْحُوراً بهذه الآراء - يقصدُ الدّين -، وكنتُ أفرّ من الحياة، ومِمّا
يعلي من قيمةِ الحياة، فقد كنتُ لا أجد ما يحملني على أن أرفع قدمي، لو علمت أنِّي
إذا رفعهتما تكشف ما تحتها عن أعزِّ ما يتقاتَلُ عليه الأحياء! كان الغرورُ
الدينيُّ قد أفسدَ عليَّ كُلَّ شعُورٍ بالوجُود، وبجمالِه. وكنتُ مُؤمِناً بأنّ
مَنْ في المجتمع لو كانوا يَرَوْن رأيي، ويزهدون زهدي، لوقفتِ الأعمالُ كُلّها.
وكنتُ لا أخالق إنساناً رغبةً فيما يتخالق الآخرون من أجلِه، وكان شعاري في تلك
الفترة قولُ ذلك المغرور المخدُوع مِثلي:
إِذا صَحَّ
مِنْكَ الوُدُّ فالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
فَلَيْتَكَ تَـحْلُو وَالْحَـيَاةُ مَـرِيرَةٌ وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَـامُ غِضَـابُ
وَلَيْتَ الّذِي بَيْنِي
وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَـرَابُ
وكان يخيّل إليّ، وإلى غرُوري الدينيّ الأعمى،
أنّه لا قُوّة كقُوّتي، لأنّ الله معي؛ واهِب القوى! فليقو العالم كما يشاءُ،
وليجمعْ مِنَ الأسبابِ ما طَابَ لَهُ، فإنّ ذلِكَ كُلّه لا قيمةَ لَهُ، ولا خطر
بالنسبة إلى مَنِ استقوى بقُوّة الله".
فمِمّا يُلْحظ في خاطرتِه هذهِ، أن القصيمي -
كما يقول - قد سَلَكَ مَسْلكاً ليسَ هُوَ حقيقةً رُوح الإسلام، بَلْ هُوَ أقربُ
إلى الرهبانيّة الّتي ما أنزل الله بها من سُلْطان. ولكن ما يهمّنا هُنا هُو مَدى
مصداقيّة القصيمي.. فأنتَ تلحظُ أنّهُ - وكما ذكرنا سابقاً - كان صادِقاً مع نفسِه،
مُتحمِّساً للدِّين، والدِّفاع عنه، والزهد والتقشّف الشّديد بدرجةٍ لا تُطاق.
وهكذا كانتْ لتلكَ الحالةِ رَدّة فِعْلٍ قاسية عليه، وكما يُقال: فإنّ لِكُلِّ
فِعْلٍ رَدة فِعْلٍ، مُساوية له في المقدار، مُعاكِسة له في الاتِّجاه".
ولذلك جاء في الحديث الشريف: (أوغل في الدِّين برفق، ولن يشاد الدّين أحد إلا
غَلَبَهُ).
(الرأي الرابع): يذهبُ إلى أن القصيمي،
لما ظهر أمرُه، وسطعتْ شمسُه، وذاع صيته، اغترَّ بنفسِه، وداخله الكبر والكبرياء،
فكان عاقبة كبره وغرُوره أن خذله الله، وتركه ونفسه، فآثر الخلُود للدنيا، فسقط مع الساقطين، لما انقطع منه
توفيق الله!
وهذا الرأي القويّ يُقدِّم شواهِدَ محسوسة
تدعمه، ومن ذلك، قول القصيمي في مقدمة كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين
ومخالفيهم)، مادِحاً نفسَهُ:
لَوْ أنصفُوا كنتُ المقدّم في الأمرِ *** ولم يطلبُوا
غيري لدى الحادثِ النكرِ
ولم يرغـبُـوا إلا إلـيّ إذا ابتـغوا *** رَشَـاداً وحَزْماً يعـزبانِ عـنِ الـفِـكْرِ
ولم
يذكرُوا غيري متى ذُكر الذكا *** ولم يُبْصِروا غيـري لـدى غيبة البَدْرِ
فَمَا
أنا إلا الشّمْسُ في غير بُرجها *** وما أنا إلا الـدُرُّ في لُـجَـجِ البَـحْرِ([92])
متى جريت، فكُلُّ النَّاسِ في أثري *** وإنْ
وقفتُ، فما في النَّاس مَنْ يجري
ولَمَّا ألحد القصيمي لم يترك طبعه هذا، بل
استمرَّ عليه بشكل أبشع وأكبر. فهو يُقدِّم كتبه الإلحاديّة بعباراتِ المديح
والغطرسة اللامحدودة، ففي كتابه (هذي هي الأغلال)، الّذي نشره في عام 1946م، كتب
في الغلاف الخارجي عبارة: "سيقولُ مُؤرِّخو الفكر إنّه بهذا الكتاب بدأتِ
الأُمم العربيّة تُبْصِر طريقَ العَقْل"! وكتبَ أيضاً: "إنّ ما في هذا
الكتاب مِنَ الحقائق الأزليّة الأبديّة، الّتي تفتقِدُها أُمّة فتهوي، وتأخذ بها
أمة فتنهض، ولن يوجد مُسلِم يستغني عن هذه الأفكار، إذا أرادَ حياةً صحيحةً"!
والأغلال الّتي قصدها القصيمي في كتابه؛
هي:
1- الإيمان بأنّ الإنسان بطبيعته
عاجز وضعيف، بدل الاعتقاد بأنّه يمتلك مواهِب وقدرات غير محدودة. وهذا اتهامٌ لا
يكادُ يقفُ على سوقِه. ونحنُ إذا نظرنا في التاريخ الإسلاميّ وجدنا نماذج إسلاميّة
ساطعة، قدّمت تجارِب طافِحة بالعمل الدؤوب، والقدراتِ اللامحدودة. وكم من العُلماء
برعُوا في مجال الطب والهندسة والفلك والرياضيات، وغيرها من مجالات الحياة الحيويّة.
2- عداء الثقافة الإسلامية
للتعليم؛ لأنّ الحكام ومشايخ الصوفية يدعون إلى إهمال التعليم والمعرفة؛ لأنهم
يريدون المحافظة على سُلطتهم، وضمان نفوذهم الثقافي والفكري في المجتمع. وهنا ينفي
القصيمي الموقف الإيجابي للدين الإسلامي من العلم، وينسى أن الإسلام، فكراً
وسلوكاً وممارسة، قد حثَّ المسلمين على الاهتمام بجميع مجالات العلم والمعرفة.
3- اضطهاد المرأة، بحصرها في
العمل المنزليّ، والفصل بين الجنسين، وحِرْمان المرأة من التّعليم لأسباب غير معقُولة.
وهو في هذا نسي، أو تناسى، أن الممارساتِ العرفيّة الّتي تُمارَس بحقِّ المرأة ما
أنزل الله بها من سلطان، فهي لا تعدو عن كونها سلوكياتٍ عرفيّة، ومُمارساتٍ
آبائيّة، لا أكثر ولا أقل.
4- عدم الإيمان بالسببيّة،
والتواكُل، والاستسلام للفشل، والاعتقاد بالجبر، والإيمان بتأثير الأرواح والجن
والعين في تعطيل القوانين الطبيعيّة. وهذا تعميمٌ بحقِّ المسلمين، فهذهِ الأمور
تنطبقُ على البُسطاء والدُّهماء والسُذّج والسطحيِّين من عامّة النّاس، مع
احترامِهم وتقديرهم.
5- الفهم الخاطئ للعبادة والزهد،
والنظرة المعادية للحياة والجمال، والفَصْل غير الطبيعي بين الحاجات الرُوحيّة
والحاجات الماديّة. ونظرةٌ في القرآن الكريم، والسنة النبويّة الشريفة، ومدوّناتِ
العلماء المسلمين، تنسِفُ هذه التهمة من أساسِها.
6- الجمود والتقليد ومحاكاة
الماضي، بناءً على الفهم الخاطئ الشائع الّذي يقول: إنّ ذروة التطوُّر البشريّ
موجودة في الأزمنة الماضية. كما يعتقد الأطفال أنّ قدراتِ آبائِهم وأجدادِهم أكبر
من قدراتهم هُم. ومن هنا تنبع الرغبة الطبيعية في تقليد النّاس الّذين يحملون عنهم
هذه التصوُّرات. وبما أنَّ الأطفالَ مُتعلِّقون بالبالغين في جميع حاجاتهم، فهم
يعتقدون أنّ البالغين يتمتّعُون بالكمال، ويُركِّزون؛ بناءً على ذلك، جميع رغباتهم
وآمالهم عليهم. فالعقلُ الإسلاميُّ ما زال في مرحلة الطفولة! ويتبنّى القصيمي بذلك
تفسيراً قريباً جدّاً من التفسيرات الفرويدية. فقد نقل من كتاب (مستقبل وهم)
لفرويد أفكاراً بالغة الشبه بما يردده هو نفسه في كتاباته. وفي حديث معه، رفض الإجابة
عمّا إذا كان مُتأثراً بالترجمة العربية لكتاب فرويد. وعند لفت انتباهه إلى
التشابه الكبير في المضمون، قال: "إنّ الأفكارَ البشريّة الحقيقيّة الصحيحة
تعبِّر عن نفسها دون أن يكون لذلك علاقة بالشخص أو الزمان أو المكان"([93]).
(الرأي الخامس): وينطلقُ
هذا الرأي من القاعدة الفيزيائية القائلة: "لِكُلِّ فعلٍ رَدّة فِعْلٍ،
مُساوية له في المِقدار، مُعاكسة له في الاتِّجاه).. ومؤدّى هذه النظريّة أنّ عبد
الله القصيمي - وغيره - كان في طبعه، وفي تركيب مزاجه: الاندفاعيّة، والثورة، والطّيش.
فهو من ناحيةٍ حيويّة نفسانيّة جسديّة، مُفعم بالتمرُّد والثورة والاندفاع
والقُوّة والهيجان الشديد، وكان قبل إلحاده مُتمرِّداً ثائراً ضِدَّ أعداءِ
الدِّين بشكلٍ عنيف، يشتم هذا، ويكفر هذا، ويلعن هذا، ويسخر من هذا. فعبدالله
القصيمي - أو من يشبهه - لا يُمكن أن يركَن أو يسكن، فهو دائماً دائِبٌ، كالجدليّة
الماركسيّة في عملٍ دائِب دائِم، لا بُدَّ له من صراعٍ مع أحد، ولا بُدَّ أن
يفتِكَ بشيء، بالأمس كان صِراعُه مع الوثنيّة، واليوم صار صِراعه مع الإسلام!([94]).
فطبيعة تركيبه العقليّ، والنفسيّ، تقضي عليه بأن يكون مُتطرِّفاً، سواء لليمين أو
لليسار، للإيمان أو للإلحاد! وصدق الحبيب المصطفى - صلّى الله عليه وسلّم - حينما
قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولن يشاد الدّين أحد إلا غلبه). وكم
رأينا من الشباب الّذين كانوا في قِمّة الفسوقِ والانحلال، إذا بهم ينقلبون فجأةً،
أو بعدَ تدرُّجٍ واستدراج، (180%) إلى قِمّة التديُّن والعفاف، رُبّما أكثر من
اللازم. وكم رأينا من الشباب المتطرِّف التكفيري الأهوج، وقد انقلب رأساً على عقب
إلى ماركسي أو ليبرالي أو لا لائكي!
ويحسُن بنا أنْ نذكر هنا شاهِداً
على هذا الرأي من أقوال القصيمي نفسِه، الّتي كتبها قبل إلحاده([95]).
يقول القصيمي في كتابه (شيوخ الأزهر)، بعد أن أزرى بشيخه وأستاذه ومُعلِّمه الكفيف
الشيخ يوسف الدجوي، بسبب خلافٍ شخصيّ بينهما، تطوّر وانتقل إلى الكُتب والصُّحف
والمجلات! يقول القصيمي مُتحدِّثاً عن شيخه: "وكأنِّي بالدجوي المغرور، عندما
يرى هذه البراهين - إنْ كان يرى - الّتي ما كانت تخطر على فؤاده، - إنْ كان له
فُؤاد - يغضَب ويصخب، ويشتم، ويقول ما هذه البلوى؟ ما هذه المِحنة الّتي خُصِّصْتُ
بها؟ ما هذا النجدي الّذي يريدُ أنْ يأكلَني ويشرَبني؟ ما هذا العربيّ الّذي منيت
به، لينزلني من منزلتي الّتي ارتقيتها بلقبـي وكُتبـي وراتبـي ورُتَبـي، وغفلة أهل
العلم والفهم عنّي؟ ويقول يا ليتنا أرضينا هذا النجدي، وأسكتناه عنّا، ولو بملء
فيه دُرّاً، ولو بكُلّ ما نأخذه من راتب، وما نملكه من متاع. ويقول كُنا حَسِبْنا
أنّنا قضينا عليه، وألجمنا فاهُ بفصلِنا إيّاهُ مِنَ الأزهر...".
ويقولُ عنه: "فليعلمِ الدّجْوي - إنْ كان
لا يعلم - أنّ السؤالَ عنِ الأمرِ ليسَ إنكاراً له"([96]).
ويقول: "يا ليتَ الشّيخَ يفهمُ أوليّاتِ اللّغة، فيعرِفُ أنّ المجادلةَ في
الأمرِ ليستْ جحُوداً له"([97]).
"وا فضيحة الأزهر، يجهلُون ضروريّاتِ اللّغة"([98]).
ويقول: "فما أجهل هؤلاءِ بلُغةِ العرب"([99]).
ويقول واصِفاً إيّاه: "فبينما يُرى العلمُ يطيرُ بأهلِه، ويطوي لهم الأرض،
تراه يرتكس بآخرينَ حيثُ لا يصِلُ الوهمُ والخيال"([100]).
ويقولُ: "لَوْ كان البلدُ يحكمُ بالقانون الإسلاميّ، لوجبَ مُعاقبة هذا
الشّيخ لتحريفِه كتابَ الله، وتلاعُبه به. فمثلُ هذا التّحريفَ شرٌّ مِنَ
التّكذيبِ به، فجُرم المكذب راجِعٌ إلى نفسِه؛ وأمّا المحرِّف فمُضِلٌ
مُفْسِد"([101]).
ويقولُ: "وهذا صعبٌ فهمُه على أشياخِنا الكِرام"([102]).
ويقول: "الحقّ أنّ هؤلاءِ يقولُون ما لا يفهمُون، ويفهمون ما لا يفهم"([103]).
ويقول: "قابِل هذهِ الأقوالَ لأعلامِ الإسلامِ، بقولِ غُرابِ الأزهر الشّيخ
الدّجْوي"([104]).
ويقول: "أيُّها المصريُّون واللهِ لقد فضّحكُمْ هذا الشّيخ، وجعلكم ضحكةً،
فأدِّبُوه أدب المفتري، فإنّهُ لا خيرَ في أمّةٍ تمتهن حُرمات العِلْم على مرآها
ومسمعها، فلا تغيّر لذلِك"([105]).
وقال مُخاطِباً خصمَهُ اللّدود: "قبّحكَ الله، وقبّح مَنْ يقبلك، وقبّح مَنْ
ينشرُ لك هذا الهذيان السّخيف، والسوآتِ الفاضِحة. إنّ هذا الرّجُلَ أحدُ رجلينِ:
إمّا أنْ يكون جاهِلاً مغفّلاً، لا يعرِفُ شيئاً، ولم يطّلعْ على شيء، ولا يُحِبُّ
أنْ يعرِفَ، ولا أنْ يطّلِعَ. وإمّا أنْ يكونَ غشّاشاً خبيثاً، مُتّبعاً هواهُ،
يريدُ الإضلال والفساد. أليسَ كذلِك؟ واللهِ إنّكَ لكذلِك.. غر أيّها الشّيخ،
وبُؤْ بفضيحةِ جهلِكَ، والله لتموتنّ غيظاً وأسفاً عندما تقرأُ هذا، إنْ كان
عندَكَ بقيّةٌ مِنْ حياءٍ وإحساس"([106]).
ويقول: "أليسَ كذلِكَ أيّها الدجوي. إنّهُ لكذلِك، فهل فهمت"([107]).
ويقولُ: "نحنُ لا نعلمُ أُمّةً - وإنْ كانتْ مثالَ الضّعفِ والهون - سوّت
أحياءَها بأمواتِها، ولا رضيت بالتسوية، غير مولانا الشّيخ الدجوي. فأينَ أنتُمْ
معشرَ المصريِّينَ؟ أليسَ مِنَ العارِ والفضيحةِ، الّتي لا يُساويها فضيحةٌ، أنْ
يُنْشرَ في مجلّتكم - عنوان نهضتكم، ومجمع عُصارة أفكارِكم - مثل هذا
الكلام"([108]).
ويقول: "ونحنُ نعلمُ، والنّاسُ أجمعُون، أنّ الأستاذ، وشيخه الأكبر، يعظمُون
رؤساءَهُم تعظيماً، لَوْ جعلُوه لله، لطارُوا مع الملائكةِ المقرّبين بأجنحةٍ مِنْ
نُور"([109]).
أهذا هو الأسلُوب المهذّب الّذي أمرنا به
الوحي الإلهي؟ أهكذا يتكلّم العُلماء ويتحاورون؟ أبهذا التّعبير يجب أن يتناقش
العلماءُ والمفكِّرون فيما بينهم؟ ألا نجدُ في كلامِه فظاظة وخشونة وشِدّة وحِدّة؟
ألم يأمر القرآن الكريم المسلمين بأن يتجادلوا فيما بينهم بالّتي هي أحسن، لا
بالّتي هي أخشن، كالّذي عوّدنا هذا الشّيخ في حواراتِه القاسية الجاسية الجافية؟
ولا جَرَمَ أنّ "القارئ لخطابه هذا لا بُدّ
أنْ يلحظَ القصيمي، الّذي لم يتغيّر في أسلُوبه وطريقة تفكيره البعيد عن أسلُوب
الحوار العلميّ المهذّب، فهو لا يبرأ بنفسه من شتمِ شيخه المسكين الضرير، ويقول
عنه "مغرور... إنْ كان يرى... إنْ كان له فؤاد". وتجد توافقاً عجيباً في
لُغة الخطاب الّتي يُوجِّهها للشيخ الدجوي بالأمس، ولغة الخطاب الّتي وجهها لله
سبحانه بعد إلحادِه، الاختلاف فقط كان في مرمى الهدف"([110]).
فهذه الشِدّة في خطابِه إنّما تُدلّل على طبعِه المتأصِّل فيه، وكيف أنّهُ كان
مُتطرِّفاً مُتمرِّداً ثائِراً إلى حدِّ الطّيش، فكانَ يرى نفسَه دائماً في معركة،
ولا يهمُّه مع من تكون!
(الرأي السادس): ويتّجه
هذا الرأي إلى أنّ القصيمي، كان من طِباعه ركُوب الموجات الفكريّة في عصره، فحينما
كانتِ الفُرصة مُناسبة للموجة السلفيّة ركبها، وانتفع بها، حتى استنفذ أغراضه منها.
فلما برزت موجات أُخرى كالقوميّة واليساريّة والشيوعيّة وغيرها، وظهرت قُوّتها
الصحفيّة والإعلاميّة، توجّه القصيمي لها وركب موجتها، واستغل منابرها الصحفيّة.
(الرأي السّابع): ويميلُ هذا الرأي إلى
أنّ القصيمي، قد نشأَ في ظرُوفٍ اجتماعيّة سيّئة للغاية، وترعرعَ في ظلِّ أوضاعٍ
اقتصاديّة صَعْبة، وعاشَ "حياةً مأساوية كادِحة بائِسة عابِسة يابسة، كان لها
أشدَّ الأثرِ في تكوينِه النفسيّ والشخصيّ والمزاجيّ"([111]).
وقيل: إنّه فقد حنانَ والديه منذ نعُومة أظفارِه، وتحديداً عندما بلغ سنَّ الرابعة
انفصل أبواه عن بعضِهما. ويُحكى أنّ القصيمي الّذي حرُم مِنَ الحنانِ عشرات
السّنين، فُوجئ عندما رأى والِدَهُ - الّذي كان يعمل تاجِراً في اللؤلؤ،
ومُتشدِّداً في تفكيرِه - وهو يُقابله بشيءٍ من الجَفْوة والقَسْوة، وقيل: إنّهُ
فرض عليه أسلُوباً في التربية غاية في الشِدّة. هذا اللقاء الجاف لا بُدَّ وأنْ
يكون له تأثيرُه اللاحق على حياة القصيمي. يقول القصيمي واصِفاً ذلك اللقاء في
إحدى رسائله الّتي بعث بها إلى الأستاذ أحمد السباعي([112]):
"كانت صدمةً قاسية لأكثر وأبعد مِنْ حساب، لقد وجدتُ والدي مُتديِّناً
مُتعصّباً بلا حدُود، لقد حوّله الدّين والتديّن إلى فظاظة، أو حوّل هو الدّين
والتديُّن إلى فظاظة.. لقد جاءَ فظّاً بالتفاسير والأسباب الّتي جاء بها الدّين،
وحاول أنْ يبدُوَ كذلِكَ، ولا يراه رَجُل دين وداعية صادِقاً إلا بقَدْرِ ما يجد
فيه من العبُوس والفظاظة..". يقول (فالترموشغ): "إنّ السيرة الأُولى
لأيِّ كاتبٍ بصفتها عَمَلاً تاريخيّاً يجب اعتبارها دوماً وِعاءً لجمعِ الوثائق،
يستنبِطُ منه الباحِثُون اللاحقون الخُلاصات المعقدة". ولا شكّ أنّ طفُولة
الإنسان ذاتُ أثرٍ عميق في تشكيلِ فكرِه ورُؤيته للحياة، ولفهمِ تحوّلاته
الفكريّة، ومنهجيّته في التّعامُل مع الواقِع الفكريّ([113]).
فهذه - كما ترى - مجموعةٌ من المقارباتِ لفهم
السببِ الحقيقيِّ وراء انقلابِ عبد الله القصيمي، يمكن أنْ ترفضها كُلّها، ويمكن
أنْ تقبلَ منها ما تشاء، ويمكن أنْ تجعلَها جميعاً أسباباً تظافرتْ بمجمُوعها في
تنكّب القصيمي عن الصراطِ المستقيم([114]).
ولا يسعنا إلا أنْ نختم دراستنا هذه بقوله تعالى في مُحْكمِ كتابِه: [مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ
اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ *
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ]([115]).
وما لنا إلا أنْ نقولَ: [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ]([116]). r
الهوامش:
[1]- رواه ابن ماجه، صحّحه الألباني.
رقم الحديث: (3221).
[2]- فتح الباري شرح صحيح البخاري:
11/ 311.
[3]- عبدالله بن علي النجدي القصيمي
ولد في عام 1907م، وتوفي 1996م. ولمعرفةِ التطوّر الفكريّ الّذي حصلَ مع القصيمي، نواصِلُ
عرضَ أهمّ المحطّاتِ التاريخيّة الّتي مرّ بها. وقد كتبَ المؤرِّخُون لحياتِه أنّهُ
قد سافر إلى عِدّة بُلدان من أجلِ تلقي العِلم والمعرفة، حتّى انتهى به المطاف عام
1927م إلى جامعة الأزهر، وكان عمره تسعة عشر عاماً. وكان الالتحاقُ بجامعة الأزهر أمنية
غالية، تكاد تكون مُستحيلة المنال بالنسبة له، وقد درس فيها أربع سنوات، كان الأزهر
خلالها يعيشُ حركاتٍ شديدةً، أثرت هِيَ كذلك على شخصيّتِه وتكوينه. وقد تنامَتْ هذه
الحركات في حقبةٍ تبنّى فيها الأزهر مُحاربة السلفيِّين، والتهجّم على دعوةِ الشيخ
محمّد بن عبدالوهاب. وتوّج هذا ما خطّه قلم الشيخ يوسف الدجوي - أحدُ عُلماء الأزهر
- الّذي دافع عن زيارة الأولياء، والتوسُّل بالصالحين، وندب إلى طلب الشفاعة منهم،
نافياً أن يكون هذا شِرْكاً أكبر أو أصغر. فانبرى له القصيمي وردَّ عليه في كتابه
(البروق النجديّة في اكتساح الظلمات الدجويّة)، وتصدّى لحُجج الدجوي، مِمّا أحدث رَدّة
فعلٍ عنيفة لدى القائمين على الأزهر. ملخص حياة عبدالله القصيمي، للدكتور صالح بن مقبل
العصيمي التميمي، (د.ص). هذا، وقد "اتخذ الأزهر قراراً بحقِّه، أَلاَ وهو فصله
من الجامعة، وأصدر البيان التالي: "صدر كتاب ينسب إلى طالب من نجد في جامعة الأزهر،
ويوجد في الكتاب شتائم وإهانات مُوجّهة إلى أُستاذ من هيئة كبار العلماء، وعلى أثر
ذلك كلفت هيئة المدرِّسين أحد الأساتذة بإجراء تحقيق ضدَّ الطالب فيما تضمّنه الكتاب
من افتراءاتٍ وشتائم، وقام الأستاذ بتقديم نتائج تحقيقه إلى مجلس إدارة الأزهر، والتي
قرّرت في جلستها المنعقدة في 13/9/1932م قراراً بفصل الطالب من انتسابه إلى الأزهر".
(ينظر: دراسة عن القصيمي: 23، وينظر: من أصولي إلى ملحد: 42، 24). وقد آلمَ القصيمي
أنْ يُطْرَد مِنَ الأزهرِ ألماً عميقاً، ما زالَ يُحِسُّ به سامِعُه وهو يتحدّثُ عنه.
ولعلّ هذا الطّرْدَ كانَ مِنَ العوامِل الأولى الّتي دفعتْ القصيمي لازدراءِ الأزهر
ورِجالِه، ثمّ دفعتْهُ فيما بعد للتحوّل عن نهجِ الدّين، كما وقعَ لطه حسين. (ينظر:
عبدالله القصيمي وجهة نظر أخرى: 758). والحق أنّ هذا القرار لم يُثْنِ عزمَهُ، بل واصَل
انتقاداتِه، وألّف كتابين؛ هُما: (شيوخ الأزهر والزيارة في الإسلام)، (والفصل الحاسم
بين الوهابيين ومخالفيهم). (ملخص حياة عبدالله القصيمي، للدكتور صالح بن مقبل العصيمي
التميمي، (د.ص). ولا جِدَال أنّ هناك علاقة مُحتملة عمّا إذا كانت مقولات (ماكس فيبر)
عن "نزع السحر عن العالم"، الّتي تعدُّ غالِباً الأساس الّذي تقومُ عليه
الصيغ البيوريتانية (التنقوية التطهيرية التصفوية) الكالفينية من المذهب البروتستانتي،
يمكن تطبيقها أيضاً على بعض الاتجاهات الوهابية الرامية إلى تخليص الدّين من الشوائب،
والّتي أثَّرت على القصيمي تأثيراً حاسِماً في مطلع حياته؛ هي الّتي فتحتِ البابَ أمامَ
عملية نزع السحر هذِه، وشكَّلت بالتالي الخطوة الأولى على طريق تراجعه في وقتٍ لاحِق
عن الصُورة الدينيّة للعالم. (من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق عبد الله القصيمي، فؤاد
أبو الغيث، (د.ص).
[4]- عبدالله القصيمي.. قصة إلحاد
وحكاية ملحد، عايض بن سعد الدوسري (صخرة الخلاص).
[5]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبد الله القصيمي، فؤاد أبو الغيث.
https://saaid.net/mktarat/almani/m/9.htm صيد الفوائد
[6]- م.ن. (د.ص).
[8]- فيرنر كارل هايزنبيرغ - Werner Karl Heisenberg، ولد في فورتسبورغ (Würzburg) - مدينة ألمانية في منطقة فرانكونيا – في (1901م في
وتوفي في ميونخ في 1976م). وهو فيزيائي ألماني وحائز على جائزة نوبل عام 1932م.
اكتشف أحد أهم مبادئ الفيزياء الحديثة، وهو مبدأ عدم التأكد. من مؤلفاته: الجزء
والكل، والفلسفة والفيزياء، والطبيعة في الفيزياء.
[16]- لسان الميزان، للإمام الحافظ
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، (ت852هـ)، اعتنى به الشيخ العلامة: عبدالفتاح أبو
غدَّة (ت1417هـ)، ط(1)، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت -
لبنان، 1423هـ - 2002م، 1/ 695- 696.
http://www.islamtoday.net/bohooth/services/saveart-53-77.htm الإسلام اليوم.
[20]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبدالله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[21]- م.ن، (د.ص).
[22]- قراءة في حياة (القصيمي)، سليمان
بن علي الضحيان، (د.ص).
[23]- م.ن، (د.ص).
[24]- تنزيه الدين وحملته ورجاله،
للسعدي: 425.
[25]- هذي هي الأغلال: 90.
[27]- ملخص حياة عبدالله القصيمي،
للدكتور صالح بن مقبل العصيمي التميمي، (د.ص).
[28]- ينظر: تذكرة أولي النهى
والعرفان: 4/242-243.
[30]- قراءة في حياة (القصيمي)، سليمان
بن علي الضحيان، (د.ص).
[31]- تعليق الأستاذ سيد قطب على كتاب:
(هذي هي الأغلال) لعبدالله القصيمي، (د.ص).
https://dorar.net/article/1382 الدرر السنية.
[32]- م.ن، (د.ص).
[33]- م.ن، (د.ص).
[34]- عبدالله القصيمي وجهة نظر أخرى،
سليمان بن صالح الخراشي، ط(1)، روافد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان،
1429هـ - 2008م، ص20.
[35]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبدالله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[37]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبدالله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[39]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبد الله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[41]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبد الله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[42]- م.ن، (د.ص).
[43]- م.ن، (د.ص).
[44]- دراسة عن القصيمي، الشيخ زيد بن
عبدالعزيز الفياض، نشرت في صحيفة "الجزيرة"، العدد (195)، الصادر بتاريخ
24/3/1388، والعدد (199) في 22/3/1388هـ.،
[45]- دراسة عن القصيمي، الشيخ زيد بن
عبدالعزيز الفياض، (د.ص).
[47]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبدالله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[48]- هم والتاريخ وحساسية الخطيئة،
فهد العرابي الحارثي، صحيفة "الرياض" العدد (3908)، 5/ 8/ 1398هـ، ص7.
[49]- ينظر: يا كل العالم.. لماذا
أتيت؟ ص390. قراءة في حياة (القصيمي)، سليمان بن علي الضحيان، (د.ص).
[51]- من أصولي إلي ملحد؛ قصة انشقاق
عبدالله القصيمي، للألماني يورغن فازلا، تر: محمود كبيو، أطروحة دكتوراه نشرت في
سنة 2000م، ص145.
* نبذة مُختصرة عن كتاب (يورغن فازلا) وقيمته العلميّة:
في سنة 2000م صدرت رسالة الدكتوراه الّتي قام
بها الألمانيّ (يورغن فازلا) عن القصيمي بعنوان (من أصولي إلي ملحد؛ قصة انشقاق
عبدالله القصيمي)، ترجمة: محمود كبيو، وتقع في (250) صفحة، وهي أشملُ وأهمُّ دراسة
كُتِبتْ عن القصيمي، وتميّزت بميزاتٍ لا توجَدُ في غيرها مِنَ الدِّراسات الّتي
كُتبت عنه. من ذلك:
أولاً: إنّ هذه الدراسة شاملة
لحياة القصيمي منذ ولادته إلى قبيل وفاته. ثانياً: إنّها صوّرت تصويراً رائعاً
الواقع الفكريّ لكُلِّ مرحلة فكرية من مراحل القصيمي، وهذا مِمّا يُعين الباحث على
فهم الظروف الشخصيّة، والخارجيّة لأطرُوحات القصيمي. ثالثاً: إنّ المؤلف (فازلا)
اتّصل بالقصيمي وربطته صداقة به. فهو يقول: "وعندما تمكّنتُ عام 1993م، بعد
بحثٍ طويل في مصر، استمرّ عِدّة أشهر، من العثور على مكان إقامة القصيمي، رفض
رفضاً قاطعاً التحدُّث معي، وبقي الأمر كذلِك، حتّى نجحتُ في إقامةِ اتصالاتٍ مع
أشخاصٍ مِنَ الدائرة الضيِّقة المحيطة به، وحصلتُ بذلك على إمكانية حضور حلقة
النقاش الّتي كانت تقام بانتظام في منزله في القاهرة. وهكذا نشأتْ بيننا خلال فترة
تزيدُ على عامين علاقةٌ مِنَ الثقة، جعلتِ الكاتِب يُبدي استعداداً مُتزايداً
لإعطائي معلوماتٍ عن حياته وأعمالِه". رابعاً: إنّ الدِّراسة قدّمت فكرةً
مُختصرة عن أهمِّ كتبه ومقالاته في جميع مراحلِه الفكريّة. خامساً: إنّ الدِّراسة قامتْ بمسح ببيلوغرافي
لكُلِّ ما كُتب عن القصيمي في الصُّحفِ العربيّة والغربيّة، ولكُلِّ كُتب القصيمي
ومقالاتِه. سادساً: يُعد الدكتور يورغن فازلا مُتخصِّصاً في حياةِ القصيمي وفكرِه،
فرسالتُه للماجستير بعنوان (هذي هي الأغلال - النقد الذاتي الإسلامي لعبدالله
القصيمي)، وهذه الرسالة عن القصيمي (من أصولي إلي ملحد)، قدّمها لنيل شهادة
الدكتوراه. ينظر: قراءة في حياة (القصيمي)، سليمان بن علي الضحيان، (د.ص).
[54]- قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم
والقرآن: 37.
[55]- م.ن: 37.
[56]- م.ن: 37- 38.
[57]- م.ن: 38.
[58]- م.ن: 41.
[59]- م.ن: 42.
[60]- م.ن: 43.
[61]- م.ن: 43.
[62]- م.ن: 44.
[63]- م.ن: 44.
[64]- م.ن: 44.
[65]- م.ن: 44.
[66]- م.ن: 45.
[67]- م.ن: 45.
[75]- ملخص حياة عبدالله القصيمي،
للدكتور صالح بن مقبل العصيمي التميمي، (د.ص).
[76]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبد الله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[77]- الفصل الحاسم بين الوهابيين
ومخالفيهم، عبدالله القصيمي، ط(2)، الانتشار العربي، بيروت - لبنان، 2007م، ص32.
[78]- الأمراض النفسية والعقلية - أسبابها
وعلاجها وآثارها الاجتماعية، د.أحمد عزت راجح، ط(1)، القاهرة – مصر، 1964م، ص9.
[86]- قراءة في حياة (القصيمي)، سليمان
بن علي الضحيان، (د.ص). وينظر: عبدالله القصيمي.. قصة إلحاد وحكاية ملحد، (د.ص).
[92]- الفصل الحاسم بين الوهابيين
ومخالفيهم: 7.
[93]- من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق
عبد الله القصيمي، فؤاد أبو الغيث، (د.ص).
[96]- الفصل الحاسم بين الوهابيين
ومخالفيهم: 27.
[97]- م.ن: 31.
[98]- م.ن: 31.
[99]- م.ن: 32.
[100]- م.ن: 34.
[101]- م.ن: 40.
[102]- م.ن: 40.
[103]- م.ن: 42.
[104]- م.ن: 49.
[105]- م.ن: 49.
[106]- م.ن: 55.
[107]- م.ن: 61.
[108]- م.ن: 79.
[109]- م.ن: 83.
[113]- قراءة في حياة (القصيمي)، سليمان
بن علي الضحيان، (د.ص).
[115]- سورة النحل، الآية: 106- 109.
[116]- سورة آل عمران، الآية: 8.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق