02‏/01‏/2019

رأي العلامة ناصر سبحاني في علم الكلام والمتكلمين (الحلقة الثالثة)


د. عمر عبد العزیز
 (تحدثنا في مقالين سابقين ـ في العددين (162) و (163) من مجلة (الحوار) الغراء ـ عن رؤية العلّامة ناصر سبحاني حول منهجية فهم التصورات والقيم الدينية، لا سيّما أساس التصور الديني حول ذات الله سبحانه والإنسان والكون والحياة. كما أشرنا إلى ركائز التصور الإسلامي في تحديد العلاقة بين الإنسان وما حوله. وخصصنا المقال الثاني لدراسة المذاهب الفكرية والعقدية في نظره، مع سرد مجمل لتاريخ نشوء الفِرق في التاريخ الإسلامي، وملابسات نشوئها، وموقف العلّامة سبحاني من الحكم عليها)..
   في هذا العدد نتناول ـ بإذن الله ـ موضوع علم الكلام والمتكلمين في نظره، لما لهذا الموضوع من تأثير مباشر على مباحث التصورات الدينية.. وذلك في (خمسة) محاور:


أولاً/ تعريف علم الكلام، وموضوعه، ونشأته:
تباينت تعريفات المحققين لعلم الكلام، نظراً لتباين زوايا نظرهم إلى موضوع هذا العلم، وإطاره، وتعدّد تسمياته، لأن (علم الكلام، وعلم التوحيد، وعلم العقائد، وعلم أصول الدين، وعلم الذات والصفات، وعلم النظر والاستدلال)، كلها أسماء لمسمى واحد، مع بعض الفوارق البسيطة.. فهو العلم الذي استُحدث في القرن الثاني الهجري، إثر نشوء الفرق في الأمة الإسلامية، والذي يتناول موضوعه الأمور العقدية بالأدلة العقلية.
ومن المحققين القدماء العلّامة ابن خلدون، الذي يعرّف هذا العلم بأنه: "علم يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقلية، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف" . ويعرّفه بعض المعاصرين بأنه: "العلم الذي يرمي إلى إثبات العقائد الدينية، بالأدلة اليقينية. أي: تأسيس العقيدة الإسلامية على أسس عقلية برهانية، حتى يمكن فهم العقيدة، وعرضها، والدفاع عنها."
   وحول نشأة هذا العلم، وسبب ظهوره، هناك من يرى أن علم الكلام ولد ولادة فكرية، إثر ظهور خلافات نظرية حول بعض الأمور، وذلك منذ نهايات عهد الخلافة الراشدة، وتحديداً في زمن علي (رض). فعبد القاهر البغدادي (ت:429هـ/1307م) اعتبر علياًّ أول المتكلمين من الصحابة، حيث ناظر الخوارج في مسائل الوعد والوعيد، وناظر القدرية في موضوع المشيئة الإلهية والقدر. ثم عبد الله بن عمر (رضى الله عنه)، حيث تبرّأ من (معبد الجهني)، بسبب نفيه القدر. ثم سمّى عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) بأولّ متكلّمي التابعين، حيث له رسالة بليغة في الردّ على الفرقة القدرية. ثم زيد بن علي (رضي الله عنه)، وله كتاب في الرّدّ على القدرية أيضاً. ثم الحسن البصري (رحمه الله)."  ويرى ابن خلدون أن ورود آيات توهم التشبيه، وعدم تعرّض السلف لمعانيها، وحدوث بدعة المعتزلة في التعرّض السافر لها، إلى حدّ نفي الصفات الإلهية، ثم ظهور المجسمّة، وغير ذلك، أدى إلى انتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على تلك العقائد، لا سيّما أبو الحسن الأشعري، الذي سمّاه بـ(إمام المتكلمين)، ثم سمّوا تلك المحاولات والردود بـ(علم الكلام).
   وهناك رأي يميل إلى أن علم الكلام ولد ولادة سياسية، بعد نشوء خلافات بين الفرق الكبيرة التي ظهرت في نهاية عصـر الخلافة الراشدة. وتقييم بعض المحققين القدامى لعصـر الصحابة والتابعين، يرجّح هذا الرأي. فالإمام الذهبي ، صاحب الموسوعات الكبيرة، يقول بالحرف: "كان الناس أمّة واحدة، ودينهم قائماً، في خلافة أبي بكر وعمر (رض)، فلما استُشهد قُفْلُ باب الفتنة عمر، وانكسر الباب، قام رؤوس الشرّ على الشهيد عثمان (رض)، حتى ذُبِحَ صبراً، وتفرّقت الكلمة".
 ثم يتحدّث الذهبي عن الحروب التي وقعت بين الصحابة، ثم عن ظهور الفِرَق في أثناء عهد التابعين، موحيًا بذلك إلى أن الخلاف السياسي هو الذي ولّد الجدل، ثم تبلور في علم الكلام.
أما حول سبب تسميته: فقيل فيه أقوال، الأرجح منها ــ حسب تصوري ــ ما قاله العلّامة ابن خلدون: "إمّا لما فيه من المناظرة على البدع ــ وهي كلام صـرف، وليست براجعة إلى عمل ــ وإمّا لأنّ سبب وضعه، والخوض فيه، هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي".

   ثانياً/ منهجيّة العلّامة سبحاني في المسائل الكلامية:
   كان العلّامة سبحاني يرى أن حركة الترجمة التي ظهرت في عهد العباسيين، قد أثّرت على القائمين بعملية الترجمة، سواء المسلمين العرب منهم، أو النصارى والمجوس، المطّلعين على اللغة الفارسية واليونانية والهندية. ومن هنا، يرى أن نشوء علم الكلام كان بدعة استُحدثت إثر تلك العملية. وقلنا: بأنه يستدلّ على ذلك بالموقف الرافض الذي ظهر من كبار الأئمة، كالشافعي، وغيره، إزاء علم الكلام. يقول العلّامة سبحاني: "من هنا ـ أيْ بعد عملية الترجمة ـ اتّسعت رقعة علم الكلام، والدليل هو خلوّ عصور الأئمة الأربعة ـ أئمة المذاهب الكبيرة ـ من ذكر إيجابي لعلم الكلام، إلى درجة أن إماماً كالشافعي (رحمه الله) يسمّي المتكلّم بالزنديق".
وبما أن سبحاني نشأ نشأة قرآنية، وكان يرى أن القرآن هو المصدر الأساس لفهم العقيدة، لاحظ - بتتّبعه العلمي - أن "علم الكلام أصبح تابعاً للفلسفة اليونانية، فقلّ فيه الاصطلاحات القرآنية، بل أصبحت غريبة" . بل أكّد، في كلام آخر له، على أن علم الكلام كلّه مأخوذ من الفلسفة، ما عدا قسم (السمعيّات) منه.  ولذا كان يؤكّد على طلابه أن يعتمدوا أساساً على القرآن، وأن يبتعدوا عن أقاويل المتكلّمين، لا سيّما في مباحث العقيدة والتصوّرات المتعلّقة بالله سبحانه والكون والحياة والإنسان. وكان يرى أن القرآن لم يغادر شيئاً إلا أحصاه، فيما يحتاج إليه الإنسان في تلكم المجالات. وقد أكّد على ذلك عشرات المرات في مقدمات دروسه، وتمهيدات مؤلفاته. وأنقل هنا ـ كنموذج ـ نصاً جامعاً له، حيث يقول رحمه الله: "إن الحقائق التي لا بدّ من الإيمان بها ثابتة غير متطورة، فيكون بيانها في زمان من الأزمنة بياناً لها في كل زمان. ومحصورة  كذلك، فلا يكون الكلام المبيّن لها من الكثرة، بحيث يكون على الإنسان في تكليفه بتلقّيه في كتاب هدى، حرجٌ. فلذلك لم يغادر كتاب الله في مجال تبيينها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فمن أراد أن يؤدّي ما عليه في مجال الأخذ، فعليه بكتاب الله، ولا يمكن أن يصحّ في هذا المجال من الأحاديث المروية إلا ما هو تبيين لما في كتاب الله.
وحول حكم من يؤمن بتصوّر لم يأت ذكره في كتاب الله، أو لم يبيّنه رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، ككثير مما ورد في كتب المتكلّمين من أمور غريبة مستلهمة من أفكار اليونانيين، وغيرهم. يقول العلّامة سبحاني: "دين الله: 1ــ مجموعة التصوّرات عن الله سبحانه، والكون، والإنسان. 2ــ والأحكام الجزئية المنصوص عليها في الكتاب، والأحكام الجزئية أيضا المبيّنة من جانب رسول الله(صلى الله عليه وسلم). 3 ــ  والقواعد الكليّة المشتملة على كلّ ما يحتاج إليه من الجزئيات. فمن آمن بتصوّر لم يأت بيانه في كتاب الله، أو اتّبع قيمة خُلُقية، وحكماً، لم ينصّ عليه الكتاب، ولم يبيّنه رسول الله، ولم يستنبطه أهل الاستنباط من القواعد الكلية، فقد ضلّ عن سبيل الله. وأمّا ما سوى ذلك من التصورات والقيم، فإنّ تلقّيها، بظنّ أنها من الله، ضلال، واتخاذها بناء على استحسانها، اتّباع للهوى من دون الله. وهذا وذاك الابتداع والإحداث في دين الله. وفي ذاك تقوّلٌ على رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، وفي هذا استدراك على الله استنقاصاً لدينه، أو نسبة خيانة إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ويا ويل من يفعل ذلك، إنْ كان قد جاءته البينة، وأقيمت عليه الحجة"!
   وبناءً على تصوّره هذا حول علم الكلام، ونقص منهجية تناول هذا العلم لأمور العقيدة، قال:" جُلّ ما يهتم به علم الكلام هو إثبات وجود الله، وإقرار صفات سبع له، هي: الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام. أمر أقرّ المشركون لذات الله أكثر منه، فكانوا يقرّون صفات أكثر له سبحانه، عدا أنهم كانوا يصلّون، ويصومون، ويحجّون، ويقدّمون النذور له، وغير ذلك. فلم يكن يتردّد مشرك في وجود الخالق، ولم يكن ينكر أحدهم صفة ممّا أثبتها الكلاميون"..


 ثالثاً/ رأيه، ورأي من قبله من العلماء، في مؤلّفي علم الكلام، وتعلّمه:
قال العلّامة سبحاني ــ في سياق حديثه عن منهج الاحتجاج بالقرآن والحديث ــ : "أمّا أصحاب كتب العقائد ــ الذين وقاهم الله سيّئات كلام المتكلّمين ــ فجعل الإهمالُ المذكور (يقصد عدم توقيف الاحتجاج بالأحاديث على النظر في أصولها في القرآن) كثيراً منهم يضعون ــ في بعض الأمور ــ  موضع الأصولِ الفروعَ، فيبنون الاعتقاديات على غير أصولها. وجعلهم ــ كذلك يخلطون ــ في مسائل بعضها من أهمّ المسائل ــ  علماً وظنّاً، وحقاً وباطلاً".
   وهذا الذي قاله العلّامة ناصـر، سبق أن قاله كبار العلماء من المحققين. قال ابن تيمية ــ في هذا الصدد ــ: "قد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من ردّ عليهم من أهل الكلام، فإنّ أكثر كلام أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع". ولكن سبحاني يرى أن تبلور علم الكلام، ووضع المصنفات فيه، كان بعد حركة الترجمة لكتب اليونان، كما نقلنا عنه آنفاً كلامه في ذلك، وموقف الشافعي من علم الكلام. ويمكنني أن أقول بأن وجهة نظر العلّامة سبحاني مقتبسة عمّا قاله الغزالي حول علم الكلام والمتكلمين، فلقد رأى الغزالي أن مصادر الإسلام الأصلية (القرآن والسنة) قد اشتملت على النافع من علم الكلام، مشيراً إلى أن علماً يخصّص لما يسمّى بأمور العقيدة كان شأناً زائداً، وكان أمراً غير مألوف في العصر الأول، إلا أن الضرورة اقتضت تبنّي هذا العلم بالقدر الذي يواجه به المبتدعة. وهذا موقف وسط بين الفقهاء والكلاميين. قال الغزالي في ذلك: "إعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة ــ وهي من البدع ــ، وإمّا مشاغبة بالتعلّق بمناقضات الفرق كلّها، وتطويل بنقل المقالات، التي أكثرها ترّهات وهذيانات، تزدريها الطباع، وتمجّها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلّق بالدين، ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول، وكان الخوض فيه بالكليّة من البدع.. ولكن تغيّر الآن حكمه، إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبغت جماعة لفّقوا لها شبهاً، ورتبّوا فيها كلاماً مؤلّفاً، فصار ذلك المعذور ــ بحكم الضرورة ــ مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات، وهو القدر الذي يُقابل به المبتدع، إذا قصد الدعوة إلى البدعة".
   أما العلّامة سبحاني، فلقد قارن بين ذينكم العصـريْن: "عصـر القرآن الذي كان هادياً يقود القلوب لتعقّل عالم ما وراء الأبصار، بعيداً عن سفسطات الفلاسفة وجدليات المتكلّمين، كما كانت القدوة فيه: الحياة الفردية والجمعية المباركة لرسول الله(صلى الله عليه وسلم)، وصحبه، الذين كانوا أفضل أسرة من أسر العالمين، وبين العصـر الذي شوّهته مصطنعات الصين واليونان والهند، فتبلّد السمع، وغشيت الأبصار، لتحلّ محلّها الأذهان المتصلبة". وحول الاستفادة من هذا العلم، كان له رأي قريب ممّا قاله العلّامة ابن خلدون، حيث قال: "وعلى الجملة، فينبغي أن يُعلَم أن هذا العلم، الذي هو علم الكلام، غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفَوْنا شأنهم بما كتبوا ودوّنوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، أمّا الآن فلم يبق فيها إلا كلام تنزّهَ البارئُ عن الكثير من إبهاماته وإطلاقاته. لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة، إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائده".
   وكان الشهيد سبحاني يؤكّد، في كثير من دروسه العلمية، على أنّ مفاد قول الله سبحانه في (سورة النحل): { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}النحل/١٢٥، يقتضـي أن يتعلّم الداعية في كل عصـر ما يمكنّه من القيام بواجب الجدال مع المجادلين على أحسن وجه. فكان يرى أن تلك الفقرة من الآية: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] تخصّ المعاندين من طائفة المخاطَبين، الذين يختلفون عن طائفة المستجيبين للدعاة، بأنهم يردّون كلام الداعي إلى الله، ويناقشونه. فكان يرى أن على الداعية أن يتسلّح بسلاح العصـر الذي يعيش فيه، في مجال النقاش والمحاورة، وهذا هو مقتضـى قول الله سبحانه: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وبناءً على ذلك كان ـ رحمه الله ـ قد حذف كتب علم الكلام والمنطق في المنهج العلمي الذي اعتمده، لا سيّما كتاب (الإيساغوجي) لأثير الدين الأبهري،  وكتاب (العقائد النسفية) لمسعود بن عمر التفتازاني، اللذان كانا يُدرّسان في معظم المدارس الشرعية في بلاد (كوردستان)، على نظير المدارس الأخرى في معظم البلاد الإسلامية.
هذا التعامل مع علم الكلام اعتمده كبار العلماء، من الذين تيقّنوا بأن منهج السلف، في كيفيّة فهم نصوص القرآن، يغني عن اللجوء إلى أساليب مستحدثة، وأن "أكثر كبار النظّار من المتكلّمين قد رجعوا إلى مذهب السلف في الإيمان بظاهر النصوص، وفي مقدّمتهم إمام الحرمين"، كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري، ومن قبله والده الإمام الجويني، ومن بعدهما الغزالي في آخر عمره، ونقل هذا عن الفخر الرازي. وقد صرّح الغزالي أن علم الكلام ليس من علوم الدين، وإنما هو لحراسة العقيدة، كالحرس للحاجّ.. وأقول (والقول لمحمد رشيد رضا): "إنّما راجت كتبه في عصرهم، لأنها وضعت للردّ على ملاحدتهم، ومبتدعتهم، ولا تنفع في الردّ على ملاحدة هذا العصر، ولا مبتدعته".
   وحول حكم علم الكلام في نظر العلماء، أحلال هو، أم حرام؟ قال الغزالي: "إلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد وسفيان، وجميع أهل الحديث من السلف".. ثم نقل أقوالاً شديدة عن الشافعي وأحمد ومالك وأبي يوسف والحسن، في الردّ على علم الكلام. واستدلّ بحديث (هلك المتنطّعون)، أي: المتعمّقون في البحث والاستقصاء، ثم قال: "واحتجّوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين، لكان ذلك أهمّ ما يأمر به رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، ويعلّم طريقه، ويثني عليه، وعلى أربابه".. ثم قال في جواب السائل: فما المختار عندك فيه؟: "فاعلم أن الحقّ فيه (أيْ: في علم الكلام) أن إطلاق القول بذمّه في كل حال، أو بحمده في كل حال، خطأ، بل لا بد من تفصيل". ثم قال: "..إن فيه منفعة، وفيه مضـرّة، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب، أو واجب، كما يقتضيه الحال. وهو باعتبار مضرّته في وقت الاستضـرار، ومحلِّه، حرام". ومن جملة ما قاله الشافعي، كما نقل عنه ابن الجوزي: "لأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ــ ما عدا الشرك ــ خير له من أن ينظر في الكلام".

رابعاً/ رأيه حول المشيئة الإلهية والاختيار البشري (كنموذج لأسلوب تناوله مواضيع العقيدة والخلافيات):
   كثر الجدل في كتب المتكلّمين حول مشيئة الله سبحانه، وما سمّوه بالجزء الاختياري للإنسان. فبينما يرى بعض الفرق ــ كالجهمية، وغيرهم ــ بأن العباد غير قادرين على أكسابهم، يرى آخرون ــ كالقدرية وغيرهم ــ بأن الله لم يخلق شيئاً من أكساب العباد، يرى أهل السنة أن "العبد مكتسب لعمله، والله خالق لكسبه" . ويشرح أبو الحسن الأشعري ذلك بأن أفعال العباد كلّها واقعة بقدرة الله، وهي مخلوقة له. أما القاضي أبو بكر الباقلاني، فإنه يرى الأفعال، من حيث أنها طاعة ومعصية، بقدرة العبد، حتى يصحّ الثواب والعقاب .
   هذا مجمل ما قاله العلماء الأقدمون، لكن العلّامة سبحاني يعالج هذا الموضوع بأسلوب متميز، فيقول: "ما المخلوقات ــ في الائتمار والاهتداء والصيرورة إلى الله ــ إلا أسباب قد اتخذها الله تعالى، ليفعل بها ما يشاء من أفعال. فإنّه لا فاعل إلا هو، وإنّ أمره لمخلوق من مخلوقاته ــ أياًّ كان ــ إرادة منه ــ بالتسخير أو الابتلاء ــ أن يكون ذلك المخلوق سبباً لفعل من أفعاله، وتحرّك المخلوق بأمر الله ــ تعالى ــ تسبّب منه لما أراد الله من فعل. وفي كتاب الله آيات بيّنات تسند الأفعال القائمة بالمخلوقات، إلى الله خالقها"، كقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}الأنفال/١٧. وقوله بإطلاق: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} التكوير/٢٩.
   وقد يتسارع تصوّر تناقضٍ إلى الأذهان، بين كون المخلوقات أسباباً لأفعال الله سبحانه، وبين كون بعض المخلوقات ذوي علم وإرادة مستقلّين. يقول العلّامة سبحاني في معالجة ذلك: "لا تنافي بين كون المخلوقات أسباباً لأفعال الله، وبين كون بعض منها ذَوي علم وإرادة، فإنّ ما يكلّف به الإنسان ــ مثلاً ــ ليس إلا عزماً على فعل أو ترك، وذلك إنما يكون قبل تحقّق الفعل، أو الترك، المعزوم عليه، حين يكون احتمال المعزوم عليه، واحتمال نقيضه، متساويين، بحيث يكون العزم اختيار أحد الاحتمالين، وبعد العزم، وتحقّق المعزوم عليه، ــ لا قبل ذلك ــ يدرك المكلّف مراد الله، ويتبيّن أنه هو ما كان إلا سبباً لفعل من أفعاله سبحانه. وحينذاك يكون قد انتهى التكليف والاختيار، فلا يكون تبيّن المكلّف أنّه قد كان سبباً لفعل من أفعال الله، مناقضاً لكونه ذا إرادة واختيار".
   وحول حالة العزم التي يقدم عليها الإنسان المختار، يقول: "مثل ذلك يقال في العزم نفسه، فإن حركة المكلّف إلى العزم إنما هي في حال احتمال أن يكون العزمُ هو مراد الله، واحتمال أن يكون نقيضهُ هو المراد. وحينما يتحقّق العزم تكون قد انتهت الحركة، ولا يناقضُ الاختيارُ تحقّق العزم جبريّاً، ما دامت الحركة إليه اختيارية. كما أن كون وقوع الواثب في المكان الثاني جبريّاً، لا يناقض كون الوثوب من المكان الأول اختيارياً، ولأن الله لا يخلق شيئاً إلا بقدر: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}الرعد/٨، ولا يخلق ما يخلق إلا بالحق: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}الدخان/ ٣٨، ولم يكن ما خلق من الأسباب، أكثر ممّا أراد أن يفعل من الأفعال، ولا أقلّ من ذلك".
   ثم إنه يشـرح، في أماكن عدّة من دروسه، بأن أمر الله سبحانه لأيّ مخلوق، إرادة منه سبحانه أن يكون ذلك المخلوق سبباً. يقول: " فأمر الله تعالى لمخلوق من مخلوقاته ــ أياً كان ــ إرادة منه ــ بالتسخير أو الابتلاء ــ أن يكون ذلك المخلوق سبباً لفعل من أفعاله، وتحرّك المخلوق بأمر الله ــ تعالى ــ تسبّب منه لما أراد الله منه من فعل، ووقوع كلّ فعل متوقّف على إرادة من الله تعالى، ووجود سبب (إلا في معجزات المرسلين عليهم السلام)، سنّة الله في أمره، ولن تجد لسنّة الله تبديلاً. وإذا وجد السبب لفعل من الأفعال، وأراد الله أن يكون ذلك الفعل كان، ولا شيء غير الإرادة والسبب يتوقّف الفعل عليه. ولما كانت الأسباب أنفسها كذلك من الله سبحانه، كان بيّناً أن الأمر كله بيد الله".
   وفي ملاحظة دقيقة حول ضرورة وجود السبب لكل فعل، يقول: "وليعلم أن طبيعة الفعل هي المقتضـي لأن يكون له سبب، لا أن الله سبحانه عاجز عن أن يفعل إلا بالأسباب. أي إن الفعل بلا سبب مستحيل، والمستحيل لا تتعلق به إرادة، ولا تتوجه إليه قدرة، فلا يقال: إنه يقدر الله تعالى عليه، أو لا يقدر". ويستخلص ذلك في مكان آخر، قائلاً: ".. لحدوث أيّ فعل لا بد من شيئين، وهما كافيان:1ــ  سبب الشـيء 2ــ إرادة الله سبحانه. بالنسبة للسبب لا بد من التأكيد في كونه سبباً عن طريقين، أولاً: التجربة العملية، ككون الأكل سبباً لحصول الشّبع. ثانياً: طريق الوحي من الله، كإقرار الله بأن التوبة سبب للمغفرة. بناء على ذلك لو تهيأ سبب شـيء، وتحقّقت إرادة الله بحدوث فعل، فسيحدث، ولا حاجة لشيء آخر".

خامساً/ رأي الشهيد سبحاني في موضوع الحسن والقبح العقليين:
   تعتبر مسألة الحسن والقبح العقليين من المسائل المتعلّقة ببحث العدل الإلهي، ويقصد بها إدراك العقل بذاته حسنَ بعض الأفعال، وقبحَ بعضها الآخر.
   ولقد طُرح موضوع الحسن والقبح في مقدّمات كتب أصول الفقه، قبل تناول موضوع المصادر الشرعية، وطرق استخراج الأحكام الشرعية منها. ويأتي ذكر الموضوع تحديداً أثناء الحديث عن الحكم والحاكم. ولقد اختلف أهل الفرق في موضوع الحسن والقبح، وبالأحرى التحسين والتقبيح، هل هما شرعيّان، أم عقليّان..؟ فبينما ترى فرق المعتزلة والإمامية أنهما عقليّان، لأنهما صفتان ذاتيتان لبعض الأشياء. يرى الأشاعرة، وفرق أخرى، أنه لا يثبت حسن شيء، أو قبحه، إلا بشـرع، لأن الأشياء ليس لها حسن ذاتي، ولا قبح ذاتي، بل إنّ الأمور كلها إضافية، والله هو خالق الأشياء بما فيها القبح والحسن، وأوامره سبحانه، ونواهيه، هي التي تقبّح وتحسّن.
وهناك رأي ثالث تتبناه الماتريدية، ونُقل مثله عن أبي حنيفة، وصحبه، مفاد هذا الرأي: أن للأشياء حسناً وقبحاً ذاتيين، وأن الله لا يأمر إلا بما هو حسن لذاته ــ وفي هذا القدر اتفاق مع المعتزلة ــ إلا أن الأحناف اختلفوا بعد ذلك، فقالوا: لا تكليف، ولا ثواب، بحكم العقل المجرد. فلا ينفرد العقل بتقرير الأحكام في غير موضع النص، بل  لا بدّ من الرجوع إليه .
   ولكن العلّامة سبحاني تناول هذا الموضوع بنظرته الحادّة، وطريقته المنطقيّة الاستقرائية المتميزة ــ التي يعتمد عليها في كثير من دراساته، حيث ربط موضوع التحسين والتقبيح العقليين بالقدرات الذاتية للإنسان، وإمكانياته من الأساس، ومصادر المعرفة لديه.
   العلّامة سبحاني ينتقد الأشاعرة والمعتزلة ــ معاً ــ قائلاً: "إنهم لم يُعطوا الموضوع حقّه الكامل. فموضوع الحسن والقبح مرتبط بموضوع (الاعتباريات) و(الحقيقيات).  وكان الأجدر بالأشاعرة أن يقولوا: بأنه ليس بالإمكان استنتاج (الاعتباري) من (الحقيقي). ولكنهم أصابوا فيما قالوا: إنّ الحسن والقبح لا يمكن دركهما، أي لا يمكن أن نقرّ بأن عملاً هو حسن، فلا بد من فعله، أو آخر هو قبيح، فلا بدّ من تركه. هذا صحيح. أما المعتزلة ـ فبأثر من فلسفة اليونان ـ وقعوا في خطأ القول بأن هناك قبحاً وحسناً عقليّين، وظنوا أنه بإمكان الإنسان أن يدرك التكاليف قبل أن تأتي الشريعة. هذا هو الخطأ ـ عينه ـ الذي وقع فيه الماركسيّون في عصـرنا ـ وغيرهم من بعض التيارات الفكرية ـ لما قالوا: نستنتج منهج الحياة من حركة الكون الذي نعيش فيه!"
   وحول قول الأشاعرة بأن بإمكاننا أن نقول: بأن الحسن والقبح يلائمان الطبع، أم لا؟ قال العلّامة سبحاني: "إنني أرى أن في هذا خطأ أي خطأ، حيث إنني قد أتناول ـ مثلا ـ اليوم غذاءً، وأراه ملائماً لطبعي، فأسمّيه حَسَناً، ولكنه في الغد لا يلائم طبعي، فأسميه قبيحاً، فإذا كان حسنه وقبحه ذاتياً ـ بذلك الإطلاق ـ فكيف تغيّر؟ إذاً، أرى أن الحسن والقبح ـ بمعنى ملائمة الطبع ـ من الاعتباريات، وليس حقيقياً". ثم انتقد سبحاني قول المعتزلة: بأن (شكر المنعم واجب)، قائلاً:" أتى قولهم ـ هذا ـ من أنهم كانوا يلاحظون بعض الحقائق، فيستنتجون منها أمراً اعتبارياً. فمثلاً أدركوا أن الله سبحانه موجود، واستنتجوا بأن النعم كلها من الله سبحانه، ويستفاد منها. إذن، علينا شكره". وللردّ على هذا الأمر، وذلك التصور، يقول سبحاني: "من أين أتيتم بتلك النتيجة؟ فلا شكّ أن في كل عمل استدلالي لا بدّ من إعادة جميع المفاهيم التي تطرح في المقدمة، في النتيجة. ولا يمكن أن نأتي بإضافات لم تذكر في المقدمة، لأنه لو أتينا باستنتاج لم يذكر في المقدمة، لأتى آخرون باستنتاجات أخرى". ثم أتى بأمثلة لإثبات نسبيّة الأحكام ـ في ميزان العقل البشري، البعيد عن الهدي الإلهي ـ فيقول ـ على سبيل المثال ـ: "ليس مفهوم العدل، والظلم، ثابتاً لعمل واحد، فالقتل مثلاً، قد يكون ظلماً، وقد يكون عدلاً. فالذي يَقتل ابتداءً، يُعتبر عمله ظلماً، والذي يقتصّ من القاتل، يُعتبر عمله عدلاً. فلو كان هذا العمل (القتل) في حدّ ذاته عدلاً، لكان عدلاً طول الوقت، ولو كان ظلماً، لكان ـ كذلك ـ أيضاً طول الوقت. إذن، إقرار كونه عدلاً، أو ظلماً، أمر اعتباري، لا يمكن أن نقرّه بمشاهدة ذات الفعل فقط، بل لا بد من معرفة الظروف المحيطة بالفعل، لإصدار الحكم بحقه" .
   بقي أن نقول: إن فلاسفة أوربا في العصر الراهن، قد اضطربت أفكارهم نتيجة فقدهم هدى الوحي الإلهي، فتبنّوا ـ عقوداً من الزمن ـ ما سمّوه بالـ(عقل الفردي)، ثم (الرأي الجماعي)، ثم (التجربة الحسية)، ثم كفروا بها جميعاً، وانتهوا إلى التّيه والحيرة، بل الانحراف والضلال في المدرسة الوضعية" ، لهذا أنكروا القيم والأخلاق. ثم استحدثوا المدرسة النفعية البراغماتية ، حيث ظنّوا أن المعيار الأوحد للحسن والقبح في الأفعال ما تحققّه من النفع الظاهري للإنسان. وهذه هي (البراغماتية) التي دعا إليها (وليم جيمس)".
   هذا، ولقد أحسن الإمام الشاطبي، وأجاد، حين قال: "الحق أن العقل قاصر الإدراك في علمه بالحسن والقبح. برهان ذلك: أهل الفترات، فإنهم وضعوا أحكاماً على العباد بمقتضى السياسات، لا تجد فيها أصلاً منتظماً، ولا قاعدة مطّردة، بل استحسنوا أشياء تجد العقول، بعد تنويرها بالشرع، تنكرها وترميها بالجهل والضلال".
   هذا، وإلى حلقة قادمة مخصصة لدراسة آراء العلّامة سبحاني حول الفلسفة والفلاسفة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق