02‏/01‏/2019

قصة الذبيح وبعدها الخفي.. هل الذبيح إسماعيل أم إسحاق؟



د. حفيظ اسليماني
تخصص الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان- المملكة المغربية
إن القارئ للتوراة تستوقفه بعض القضايا المهمّة، ومنها قضية الابن البكر في الفكر الديني اليهودي، ووراثة البكورية. فقد استبعدت نصوص التوراة (إسماعيل) مشوّهة صورته، محاولة - في نفس الوقت - التأكيد على أن (إسحاق) هو الابن الذي يستحق وراثة أبيه إبراهيم، ونفي وراثة (إسماعيل) من خلال تحريف النص. ومن القضايا المهمة كذلك، قضية الذبيح: هل الذبيح (إسماعيل)، أم (إسحاق)؟ لذلك ارتأيت أن ألقي الضوء على هذه النقطة، لأبيّن أنّ الذبيح هو (إسماعيل)، وليس (إسحاق)، مبرزاً البعد الخفيّ في محاولة اليهود إبعاد (إسماعيل)، والتأكيد على أنّ (إسحاق) هو الذبيح.
إنّ قصة الذبيح من الأمور التي شملها التبديل، قصد تزكية (إسحاق)، وإبعاد (إسماعيل).. جاء في سفر التكوين 22: 1-7: "وحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَاإِبْرَاهِيمُ». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». 2 فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ (إسحاق)، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْ ههُنَا كَمُحْرَقَة عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ».3 فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ  صَبَاحاً، وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَ(إسحاق) ابْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَباً لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ. 4وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ، وَأَبْصـَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ 5 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا هَهُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَيْكُمَا».
6 فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ، وَوَضَعَهُ عَلَى (إسحاق) ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ، فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعاً. 7 وَقَالَ (إسحاق) لإِبْرَاهِيم أبِيهِ: «يَا أَبِي». فَقَالَ: «هَئَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» 8فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يا بنيّ".
يتبيّن من النصّ اعتقاد اليهود أنّ (إسحاق) هو الذبيح، وهذا استكمالاً لاستبعاد (إسماعيل) عليه السلام، واستئثار (إسحاق) بميراث إبراهيم عليه السلام. وهو نفس اعتقاد النصارى. "فالله – حسب القسّ أبو الخير- قد امتحن إبراهيم، وطلب منه أنْ يصعد ابنه محرقة على جبل المريّا، وأطاع إبراهيم الله، ومدّ يده وأخذ السكين ليذبح ابنه (إسحاق)، فظهر له ملاك الرب، وقال له لا تمدّ يدك على الغلام، وقدّم له كبشاً فدية عن (إسحاق)"([1]).
إلا أنّ اعتقادهم هذا مردود، كما تشهد بذلك نصوصهم. فكلمة (وحيدك) لا تنطبق على (إسحاق)، لأنّه قد ولد بعد (إسماعيل)، إذ كانت سارة عقيمة لا تلد. وكذلك أوردت النسخة العبرية كلمة (بكرك)، بدلا من كلمة (وحيدك)، ولفظ (بكرك) - بدون شك ولا ريب - أشدّ دلالة، وأكثر تحديداً، من لفظ (وحيدك)، حيث إنّ الوحيد قد يكون بكراً، وقد يكون غير بكر، بافتراض موت البكر أو اغترابه"([2])، ولا تقال كلمة (وحيدك) إلا لمن ليس له غيره.
 وإذا رجعنا إلى (إسحاق) لم نجده وحيداً، في يوم من الأيام، لأنّه ولد ولـ(إسماعيل) نحو أربعة عشر سنة – كما هو صريح في التوراة - وبقي (إسماعيل) إلى أنْ مات إبراهيم عليه السلام، ومع ذلك يقولون – أيْ:  أهل الكتاب – "إن (إسماعيل) قد صرف إلى جهة أخرى"([3]). يقول (بولس) في رسالته إلى أهل غلاطية 4: 30- 31/ 30: "لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ. 31 إِذاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ، بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ".
إلا أنّه سواء صرف (إسماعيل) إلى جهة أخرى، أو أنّه عليه السلام ابن جارية، حسب اعتقادهم، فإنّ ذلك لا ينفي على أنّه ابن الموعد، وأنّه هو البكر، وذلك حسب مصادرهم. ففي سفر التثنية 21: 15- 17 نجد فيه: "إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ امْرَأَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مَحْبُوبَةٌ، وَالأُخْرَى مَكْرُوهَةٌ، فَوَلدَتَا لهُ بَنِينَ؛ المَحْبُوبَةُ وَالمَكْرُوهَةُ. فَإِنْ كَانَ الاِبْنُ البِكْرُ لِلمَكْرُوهَةِ 16 فَيَوْمَ يَقْسِمُ لِبَنِيهِ مَا كَانَ لهُ، لا يَحِلُّ لهُ أَنْ يُقَدِّمَ ابْنَ المَحْبُوبَةِ بِكْراً عَلى ابْنِ المَكْرُوهَةِ البِكْرِ 17بَل يَعْرِفُ ابْنَ المَكْرُوهَةِ بِكْراً لِيُعْطِيَهُ نَصِيبَ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يُوجَدُ عِنْدَهُ، لأَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ قُدْرَتِهِ، لهُ حَقُّ البَكُورِيَّةِ".
يقول عبد الأحد دواد: "إنّ النسّاخ، وفقهاء الشـريعة، عند اليهود، قاموا بتحريف وإفساد الكثير من صفحات كتبهم المقدسة، فشطبوا اسم (إسماعيل) من العبارات: الثانية، والسادسة، والسابعة، من الإصحاح 22 من سفر التكوين، ووضعوا اسم (إسحاق) بدلاً منه، وقاموا بحذف الوصف الخاص بـ(إسماعيل): "ولدك الوحيد"، وذلك إنكار لوجود (إسماعيل)"([4]).
ومن خلال المقارنة بين نداء الله لـ(هاجر)، وندائه لـ(إبراهيم)، نجد أنّ الأمر يتعلّق بـ(إسماعيل). يقول عبد الأحد دواد: "فقد ذكر الله بوضوح، في هذا الفصل، مخاطباً إبراهيم: "لأنّك يا إبراهيم قبلت أن تضحّي بابنك الوحيد من أجلي، فسوف أزيد وأضاعف من ذرّيّتك"، وكلمة (أضاعف) جاءت خطاباً لـ(هاجر) في البريّة على هذا النحو: "إنّ الله سيضاعف ذريّتك إلى عدد لا يحصى، وسوف يصبح (إسماعيل) ذا ذريّة كثيرة"([5])..
وليس إيراد قصة الذبيح هو معرفة اسم الابن الذي امتحن فيه إبراهيم، بل المسألة أكبر من ذلك. يقول عباس محمود العقاد: "إنّ هذا الاختلاف له جانب هام، يفوق في أهمّيته جانب البحث التاريخي الذي يراد به مجرد العلم باسم الذبيح من ابني إبراهيم، فإنّه اختلاف يتعلّق به اختيار الشعب الموعود، وما يتعلّق به الحذف والإثبات في سيرة إبراهيم، ليتصل بذرّيّة (إسحاق)، وينقطع عن ذريّة (إسماعيل)، أو ليثبت من سيرته كلّ ما يتعلّق بإسرائيل، وينقطع منها كلّ ما يتعلّق بالعرب"([6]).
تبيّن من هذا كلّه أنّ إبعاد (إسماعيل)، من طرف أهل الكتاب، يرجع إلى حسدهم للعرب، لأنّهم يعلمون أنّ النبيّ الخاتم هو عربي اسمه محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).
جملة القول: إن (إسماعيل) هو الذبيح وليس (إسحاق)، كما أنّه هو الابن البكر الذي استحق ميراث إبراهيم، عكس ما يقول اليهود بأنّ (إسحاق) هو البكر الحقيقي.
وهكذا يتّضح أنّ البعد الخفي في قصّة الذبيح له علاقة مباشرة بالأمّة التي باركها الله، والتي بعث فيها ومنها سيد البشـرية محمد (صلى الله عليه وسلم)، القائل: (أنا ابن الذبيحين)، فالذبيح جدّ العرب (إسماعيل)عليه السلام، والذبيح الآخر عبد الله بن عبد المطلب.


[1]- - هل تنبأ الكتاب المقدس عن نبي آخر يأتي بعد المسيح، أبو الخير عبد المسيح بسيط، كاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية، ط1، 2004، ص: 21.
[2]- قصة الذبيح عرض ونقد، فتحي محمد الزغبي، نشر دار البشير للثقافة والعلوم، طنطا، مصر، ط 1، 1994، ص: 39. ينظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، أبو الفرج عبد الرحمان بن علي بن محمد بن الجوزي، دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ط 1، 1992، ج 1، ص:277.
[3]- تفسير سفر التكوين، نجيب جرجس، بدون تاريخ طبع، ص: 263.
[4]- محمد في الكتاب المقدس، عبد الأحد داود، ترجمة: فهمي الشما، مراجعة وتعليق: أحمد محمد الصديق، دار الضياء للنشر والتوزيع، قطر، ط 3، 1985،، ص: 60.
[5]- نفسه، ص 60- 61.
[6]- إبراهيم أبو الأنبياء، عباس محمود العقاد، نشر نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص: 82.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق