02‏/01‏/2019

منهج الوسطية الإسلامية في الأخلاق والآداب ــ القسم الثاني ــ


د. دحام إبراهيم الهسنياني
نماذج من الوسطية في الأخلاق
التواضع:
التواضع خلق رفيع يحبه الله سبحانه، ويحب المتصفين به. وله حدّ، إذا زاد عنه يصبح كِبْراً، وإذا نقصَ عنه يصبح ذُلاً. قال الله سبحانه في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}([1]).
ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله - وهم أهل التكبر والمرح والبطر - قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}([2]).
والتواضع المحمود، كغيره من الأخلاق، وسط بين طرفين مذمومين:

طرف الإفراط: وهو أن يُفْرط في التواضع، حتى يوقعه ذلك في المهانة والخسة وابتذال النفس وإذلالها وهوانها. وأمّا وصف الله سبحانه عباد الرحمن أنهـم يمشـون على الأرض هونًـا؛ فالهَـون هنا كما قال ابن القيم: "(والهَون) بالفتح في اللغة: الرفق واللين، (والهُون) بالضمّ: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران والنيران"([3]).
طرف التفريط: وهو التقصير في التحلّي بهذا الخلق، والوقوع في ضده، وهو الكبر والتكبر، إمّا على الخلق، وإمّا على الحق؛ بترك الانقياد له.
الوسط والعدل: وهو التواضع، الذي وصفه الإمام ابن القيم بقوله: "وهو التواضع الذي يتولّد من بين العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه، وصفاته، ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولّد من بين ذلك كلّه خلق التواضع؛ وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. وهذا خلق إنما يعطيه الله سبحانه من يحبّه ويكرمه ويقرّبه"([4]). وممّا وصف به الله سبحانه أهل هذا الخلق العدل قوله سبحانه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}([5]).
وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم عن معنى (الأذلّة) في الآية: "لما كان الذلّ منهم ذلّ رحمة وعطف وشفقة وإخبات، عدَّاه بأداة (على)، تضمينًا لمعاني هذه الأفعال؛ فإنه لم يرد به ذلّ الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذلّ اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول"([6]).

الغضب والحلم:
 وحدّ الغضب والشجاعة المحمودة الحميّة لله والانتصار للدين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات الله سبحانه، فإذا تجاوز هذا الحدّ صار تعديّاً وظلماً، وإذا نقص أصبح جبناً.
الحلم: أحد أركان الحكمة. ويعرّفه العلماء بأنه ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب([7]).
الوسطية في الحلم: يقال: (الحلم حجاب الآفات)، وقال عمر بن عبد العزيز (رض): (ما أضيف شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم)([8]).
ومما يؤكّد أنّ الحلم من أعظم أركان الحكمة، ودعائمها العظام، أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشـر، وقدوة أتباعهم؛ من الدعاة إلى الله، والصالحين، في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم، حتى جاءهم نصر اللّه المؤزر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد (صلى الله عليه وسلم). ولم يكن غريباً أن يوجهه الله سبحانه إلى قمة هذه السيادة، حين يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}([9]).
وفي بعض الحالات قد يكون الحلم مذموماً، إذا كان في موضع يذلّ به الإنسان. كما قال الخليفة المعتمد على الله: (من عرف بالحلم، كثرت الجرأة عليه، وقلّت الهيبة له)، وسئل الأحنف بن قيس عن الحلم فقال: (هو الذلّ)([10]).
والتوسط والتوازن في الحلم، هو كما قال الشاعر إسحاق بن حسان:
أرى الحلم في بعض المواطن ذلّة      وفي بعضها عزاً يســوّد فاعله([11])

التأنّي والتؤدة:
التؤدة والأناة خلقان محمودان محبوبان لله سبحانه، كما قال ذلك الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأشجّ عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبّهما الله ورسوله: الحلم والأناة)([12])، وقوله (صلى الله عليه وسلم): (التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة)([13])، ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين خلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى الإفراط، والآخر إلى التفريط:
طرف الإفراط: هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأنّي، حتى تضيع عليه فرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلك، إغراقًا منه في التأنّي والتؤدة.
وطرف التفريط: هو الذي يفرِّط في الأخذ بالتؤدة والتأنّي، ويقع بسبب ذلك في العجلة والطيش، وطلب الشيء قبل أوانه.
والوسط العدل: وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم، بحيث لا يدفعه ذلك إلى الكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما لا يفرِّط فيه، فيقع في العجلة والطيش.
يقول الإمام ابن القيم: "والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها، ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها، ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها. والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدّة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها. فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين، أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفّة وطيش وحدّة في العبد تمنعه من التثبّت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشـرور، وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة"([14]).
ويقول في موطن آخر: "فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأولّ حمد أمره، ولكن للأولّ آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفوت؛ فإنه لا يخاف من التثبيت إلاّ الفوت، فإذا اقترن به العزم والحزم تمّ أمره. ولهذا جاء في الدعاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم): (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)([15])، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلاّ من تضييعهما، أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إلاّ من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والنمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانياً، أفلح كل الفلاح، والله وليّ التوفيق"([16]).
وقال الفخر الرازي: "إن الخلق الفاضل إنما سمّي وسطاً، لا من حيث إنّه خلق فاضل، بل من حيث إنّه متوسط بين رذيلتين، هما طرفا الإفراط والتفريط، مثل الشجاعة، فإنها خلق فاضل، وهي متوسطة بين الجبن والتهور، فيرجع حاصل الأمر إلى أنّ لفظ التوسط حقيقة، فيما يكون وسطاً بحسب العدد، ومجاز في الخلق الحسن والفعل الحسن، من حيث إنه من شأنه أن يكون متوسطاً بين الطرفين اللذين ذكرناهما"([17]).

الشجاعة:
الشجاعة خلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله سبحانه، إذا كانت شجاعته لله سبحانه، وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حدّ الاعتدال والتوسط، فتكون تهورًا وجرأة، وقد تضعف وتقلّ في القلب، فيتولّد من ذلك الجبن والهلع. فالشجاعة إذن خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: الإفراط والغلو في الشجاعة والإقدام، دون النظر في عاقبة ذلك. ويسمّى هذا تهورًا، حيث تقدم النفس في غير موضع الإقدام، معرضة عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور، وغير مبالية بذلك.
الطرف الثاني: التفريط، وضعف القلب، وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولّد عنه الجبن والخوف. "والجبن عادة يتولّد من سوء الظن، وعدم الصبر؛ فلا يظن الجبان بالظفر، ولا يساعده الصبر. فإذا ساء الظن، ووسوست النفس بالسوء، ضعف القلب، وضعف ثباته"([18]).
الموقف الوسط المتوازن: وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ "لأن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من الصبر وحسن الظن... والشجاعة حرارة القلب، وغضبه، وقيامه، وانتصابه، وثباته؛ فإذا رأته الأعضاء كذلك، أعانته، فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولّى ولّت سائر جنوده"([19]).
ومع ثبات القلب، وشجاعة صاحبه، إلا أنه لا يتهوّر ولا يتجرّأ على الإلقاء بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، ولا يقدم في غير موضع الإقدام. نجد الشجاعة – كوسط – مغايرة لكل من (الجبن) و(التهور)، لا على النحو التام في المغايرة، وإنما على النحو الذي رفض الانحياز لقطب واحد، فجمع منهما (الحذر) و(الإقدام)، ليكون الموقف الوسط الجديد.. فحدّ الشجاعة الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، أما إذا أقدم في موضع يجب فيه الإحجام، فهذا تهوّر، وإذا أحجم في موضع يجب فيه الإقدام، فهذا جبن.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية (رضي الله عنهما): "أعياني أن أعرف أشجاع أنت أم جبان؟ تقْدمُ حتى أقول أشجع الناس، وتحجمُ حتى أقول: أنت أجبن الناس، فقال له: شجاع إذا أمكنتني فرصة، فإن لم تكن لي فرصة فجبان"([20]).

المحبّة:
الاعتدال في الحبّ والبغض: فالناس بين مشتّط في البغض لأمور لا تستحق ذلك البغض، أو على الأقلّ لا تستحق تلك الدرجة من البغض، وآخر متساهل، فلا يبغض على أشياء تستحق البغض، بل أحياناً البغض فيها واجب مفروض. وقد تجد من يضع الحب مكان البغض المطلوب.
فتجد من هو مقيم بحبّ بلغ فيه درجته القصوى، وإعجاب يسيطر على مشاعره وتصرفاته، في الوقت الذي تجد أن حبّاً أقلّ من ذلك يكفي في هذا الموطن، مما يجعل الأثر يظهر في معالجة كثير من القضايا.
ومع أنّ التوسط والاعتدال قاعدة مطّردة، تفهم من فروع كثيرة، لكن رسولنا (صلى الله عليه وسلم) نصّ عليه، ونبّه على أثر تركه في هذه المسألة بالذات، لأنها ذات أثرٍ بالغٍ، وينشأ عن الإخلال بها مفاسد كثيرة، كما ينشأ عن التمسّك بها مصالح جمّة. فقال محذّراً وموجّهاً: (أحبِبْ حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)([21])، "ومعنى هوناً ما: أيْ حبّاً مقتصداً، لا إفراط فيه، وإضافة (ما) إليه تفيد التقليل. يعني: لا سرف في الحبّ والبغض، فعسى أن يصير الحبيب بغيضاً، والبغيض حبيباً، فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم، ولا في البغض فتستحي"([22]).
والمطلوب من المسلم التوسّط والاعتدال في المحبّة، فإنّ الإفراط في كلّ أمر غير محبوب، والتوازن هو العدل الذي أمرت به الشريعة. وكذلك، فإن إفراط المحبة مكروه، لأنه داع إلى التقصير بحق الغير، أو أنه مظهر من مظاهر التزلف والتكلّف، وكل زائد عن الحدّ يغلب انقلابه إلى الضد. ويقول الماوردي في ذلك: "وينبغي أن يتوقّى الإفراط في محبته، فإن الإفراط داع إلى التقصير، ولئن تكون الحال بينهما نامية، أولى من أن تكون متناهية.."([23]).
والإسراف في الحب غلوّ ضار، وقد يهلك صاحبه، والإسراف في ضبط العاطفة تفريط يوقع صاحبه في جفاف العاطفة، فالأنانية الشنيعة، فالكراهية الكئيبة، والبغض المقيت الضار، فالوحشية التي تخشـى من كل شـيء، وتبغض كل شـيء.
والوسط النافع هو الاعتدال من غير إسراف في الحب، ولا إسراف في ضبط العاطفة. وقد قال عمر بن الخطاب (رض) فيما رواه زيد بن أسلم عن أبيه: (لا يكن حبّك كلفاً، ولا بغضك تلفاً. فقلت: كيف ذاك؟ قال: إذا أحببت كلفك كلف الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف)([24]). وعلى كل صاحب فضل أن يتوقّى أكبر الحذر من الاستماع إلى المبالغة بالتلطّف، والركون إلى كثرة المدح. وقد قيل (من مدحك بما ليس فيك من الجميل وهو راض عنك، ذمّك بما ليس فيك من القبيح وهو ساخط عليك).
وإفراط المحبة قد تعني أحياناً إعجابا حقيقياً، وليست من التكلّف، ولكن هذا الأمر خاطئ أيضاً، فليس هناك شخص بهذه القدسية، ولكل شخص أخطاء، وقد تكون خفيّة، ولكنها إن ظهرت وبانت، فإن أول ضحايا الإعجاب هو العجب نفسه، لما يصيبه من خيبة الأمل.
ومن علامات المحبة، والأخوة: الوسطية في النصح، حيث لا بدّ من مراعاة التوسط والتوازن والاعتدال عند النصح، حتى تتحقق الغاية منها. وإلاّ فالإنقاص منها يجعلها غير مفهومة، والزيادة عليها تفوّت المصلحة منها. "وإنما يلزم من حقّ الإخاء بذل المجهود في النصح، والتناهي في رعاية ما بينهما من الحق. فليس في ذلك إفراط وإن تناهى، ولا مجاوزة حدّ، وإنْ كثر وأوفى، فتستوي حالتاهما في المغيب والمشهد، ولا يكون مغيبهما أفضل من مشهدهما وأولى، فإن فضل المشهد على المغيب لؤم، وفضل المغيب على المشهد كرم، واستواؤهما حفاظ…"([25]).

أخذ الحذر والحيطة:
إن أخذ الحيطة والحذر من الأعداء، وممّن يظنّ به الشر، هو أمر مطلوب، وهو من باب الأخذ بالأسباب، والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}([26]). ولكن هذا الاحتراز قد يختلّ التوازن فيه، فيميل إمّا إلى الإفراط ومجاوزة الحد، وإمّا إلى التفريط والإضاعة. والناس فيه طرفان مذمومان، ووسط عدل:
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط، وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط، حتى أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس، والحذر المفرط الذي أدّى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجالات الخير، أو السكوت على بعض المنكرات، بحجّة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة والاحتراز ممّن يظنّ به الشر، وإنما غلب عليهم البله وقلّة الوعي، حتى أحسنوا الظن بكل الناس، وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.
الموقف العدل والمتوازن: وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى الأخذ بأسباب الوقاية، والحذر ممن غلب على الظن شرّهُ وفساده، لكنه لم يُفْرِط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، بل الفرق عنده واضح بين الاحتراز وسوء الظن الفاسد.
يقول الإمام ابن القيم: "والفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا، فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد، وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز كالمتسلّح المتدرّع الذي قد تأهّب للقاء عدوه، وأعدَّ له عُدَّتَه، فهمُّه في تهيئة أسباب النجاة، ومحاربة عدوه، قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن، أخذ في أنواع العدة والتأهب. وأما سوء الظن، فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس، حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه؛ فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنّبهم ويلحقه أذاهم، الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض"([27]).
ومن الآيات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة: قوله سبحانه في صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}([28]).
ويجلّي هذا التوازن في الآية صاحب الظلال، فيقول: "الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم، الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: {إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر، وسكب فيض الثقة، هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة، والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!"([29]).

الصمت والكلام:
الوسطية في الصمت: ولا بدّ من التوازن والاعتدال في الصمت. قال لقمان الحكيم: (الصمت حكم، وقليل فاعله)، وقال آخر: (من سكت فسلم، كان كمن فعل فغنم). وقال رجل بين يدي عمر بن الخطاب (رض): (الصمت مفتاح السلامة)، فقال: (نعم، لكنه قفل الفهم)([30]).
على أن الصمت الدائم مذموم، والثرثرة الدائمة مذمومة أيضاً. فينبغي للمسلم أن يختار المنهج الوسط، فيتكلم في المقام الذي يراد منه الكلام، ويصمت في الموضع الذي يراد منه الصمت.
العدل والتوازن في الكلام والبيان: إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة لا يقدّرها حقّ قدرها إلا من فقدها، أو عاش بين الناس أبكماً. قال سبحانه ممتناً على عباده بنعمة البيان: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}([31]). والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على الإنسان.
الوسطية في الكلام: ويتفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان، حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط:
الطرف الأول: الإفراط في الكلام والبيان: وصاحبه هو المهذار، الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه؛ وما لا يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرّض نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب وقول الباطل والسبّ والشتم، وغيرها من آفات اللسان والقلم.
الطرف الثاني: التفريط في الكلام والبيان النافع: وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلّة الكلام، حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق، أو السكوت على باطل، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان. وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوّت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن.
وعن هذين الطرفين يتحدث الإمام ابن القيم، وهو يصور وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان، فيقول: "قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضرّه ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله سبحانه واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلّم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلّم بالباطل؛ فإنّ المتكلّم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم. والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: (المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس)؟. فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزيّنوا له التكلّم بالباطل بكل طريق، وخوّفوه من التكلّم بالحق بكل طريق. واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِك منه بني آدم، وأكبّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر"([32]).
الموقف الوسط العدل: وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة اللسان والبيان؛ فيتكلّمون ويكتبون في الأمر حين يكون طاعة لله سبحانه، وأمرًا بالمعروف، ونهياً عن المنكر، ويُسخِّرون هذه النعمة في اللهج بذكر الله سبحانه، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. ويسكتون حين يكون السكوت محبوبًا لله سبحانه؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيةً لله سبحانه؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل، وغير ذلك من آفات اللسان..
وهكذا كان السلف الصالح في طريقتهم في الكلام، أو السكوت: وسطًا بين الإفراط والتفريط. فعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني. قال: لا تَكلَّمْ. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتلكم. قال: فإنْ تكلّمت، فتكلّم بحقّ أو اسكتْ. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت، فأمسك عليك لسانك ويدك. قال زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإنْ لابستهم، فاصدق الحديث، وأدّ الأمانة([33]).

الحياء:
الحياء المحمود حثّ عليه الإسلام، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (الحياء لا يأتي إلاّ بخير)([34]). وقد يكون الحياء بعض الأحيان مذموماً، عندما يصل حد الخجل، كما قال علي بن أبي طالب (رض): (الحياء يمنع الرزق، وقد قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان)([35]).
وحقيقة الحياء: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق([36]). ولما مرّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) برجل وهو يعظ أخاه في الحياء، قال: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)([37]). (وكان (صلى الله عليه وسلم) أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)([38]). ومع حسن هذا الخلق، إلا أنه كغيره من الأخلاق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان، وهو وسط بينهما.
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو، الذين وصل بهم الإغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والأخروية. ومن آثار ذلك الرضا بالدون، والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير، وتضييع الحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين قلّ حياؤهم، وتجرؤوا على فعل ما يعاب، وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله سبحانه، ولا من الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه، أو يفعلونه، مروءة ولا آدابًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا.
الوسط العدل: وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع، كما جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً، فاستحيوا من الله سبحانه بحفظ حقوقه وحدوده، واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل يخل بالآداب أو المروءات. كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في مصالحهم الدينية والدنيوية، والصدع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهم في دينهم ودنياهم.
يقول الإمام ابن القيم: "فإن النفس متى انحرفت عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد... وإذا انحرفت عن خلق الحياء، انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة، والعجز، وموت النفس"([39]).
وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله، قال: ليس ذلكم، ولكن من استحيى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيي من الله حق الحياء)([40]). وقد بيّن ابن القيم: "أن قوة خلق الحياء، وقلّة الحياء، على حسب حياة القلب من قوة وحياة، أو موت وضعف، وكلّما كان القلب أحيي، كان الحياء أتمّ"([41]). ومن علامات الشقاوة: قلّة الحياء، وجمود العين، وقسوة القلب، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.

المزاح والانبساط:
التوسط والتوازن والاعتدال لا بد منه في المزاح. يقول ابن عباس (رض): (المزاح بما يحسن مباح، وقد مزح الرسول (صلى الله عليه وسلم) فصار المزاح سنة)([42]).
وفي ذم المزاح قال عمر بن عبد العزيز: (إياك والمزاح؛ فإنه يجرّ القبيح، ويورّث الضغينة)([43]). وسأل الحجاج ابن القرية عن المزاح، فقال: (المزاح أولّه مرح، وآخره ترح)([44]). فالمزاح المباح أن لا يكون تفريط ولا إفراط، بل يكون كالملح للطعام. يقول عطاء بن السائب: (كان سعيد بن جبير لا يعظ إلا أبكى بوعظه، ولا يقوم من مجلسه إلاّ وقد أضحك بمزحه)([45]). والترويح عن النفس بإدخال السرور عليها، والأخذ بأسبابه مما ندب إليه الشارع الحكيم، حتى يتجدد للنفس نشاطها، وتقبل على العبادة بمزيد شغف، وبكثير حب. وهذا هو صريح قوله (صلى الله عليه وسلم): (روّحوا القلوب ساعة وساعة)([46]).
والناس في هذا الخلق طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط في المزاح والانبساط: وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويكثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والانبساط؛ كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم، الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عن الآخرة، كما يؤدي إلى قلّة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط، الذين لا يرون الانبساط مع الناس، ولا المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، والانقباض عن الناس، والعبوس في وجوههم.
الموقف العدل الوسط: وهذا الذي كان عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق، فلم يكونوا يفرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين في وجوههم، مغلبين الحزن، والغم على حياتهم([47]).
ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الأدلة والأمثلة على حسن هذا الموقف واعتداله: عن أبي هريرة (رض) قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: (إني لا أقول إلا حقًا)([48]).
ويقول الذهبي: "الضحك اليسيرُ، والتبسُّمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين: أحدهما: يكونُ فاضلاً لمن تركَهُ أدبًا وخوفًا من الله، وحُزنًا على نفسه المسكينة. والثاني: مذمومٌ لمن فعله حمقًا وكِبْرًا وتصنُّعًا. كما أنَّ مَنْ أكثر الضحكَ استُخِفَ به. ولا ريب أن الضحك في الشاب أخفُّ منه وأعذرُ منه في الشيوخ"([49]).
وأما التبسُّمُ، وطلاقةُ الوجه، فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): (تبسُّمكَ في وجه أخيك صَدَقة)([50]). وقال جرير (رض): ما رآني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا تبسَّم([51]). فهذا هو خلقُ الإسلام، فأعلى المقامات مَنْ كان بكّاءً بالليل، بَسّامًا بالنهار. وقال (صلى الله عليه وسلم): (لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه)([52]). ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء، والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلق البسّام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان مَزَّاحًا. وحال الرجل في التبسّط بين خواص الجلساء، غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال. فقد روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إلا باكيًا، وكما قال الذهبي: "كان رأسًا في الزهد والتألّه والخوف. وهكذا يكون التوازن والقصد"([53]).
ولعل أشهر ما ورد عنه (صلى الله عليه وسلم) في مزاحه، قوله: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)([54])، كمزاحٍ مع غلام صغير، إيناساً له، وانبساطاً لأهله. وقد مزح كثير من الصحابة رضوان الله عليهم- مع المصطفى (صلى الله عليه وسلم)([55]). وعلى منهج الصحابة سار السلف، في جعل المزاح استراحة المحارب، فلا تكاد تجد كتاباً يخلو من ملح وطرائف لشيخ التابعين الإمام الشعبي. وكذلك: "كان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وقيل: كان ابن سيرين كثير الضحك بالنهار، كثير البكاء بالليل"([56]). "وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس فى بيته، فإذا خرج كان رجلاً من الرجال"([57]). ولذلك، فليس من خلق الداعية التبسّم والمزاح خارج البيت، وتصنّع الغلظة والجفوة فى بيته. ولا يخفى أن عكس الأمر، من التكلّف المذموم أيضاً.

المشورة:
يقول الحسن البصري: "إن الله عزّ اسمه لم يأمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى آرائهم، وإنما أراد أن يعلّمنا ما في المشورة من الفضيلة، حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر}([58]).."([59]).
وأحياناً قد تكون المشورة مذمومة. يقول الأمير عبد الملك بن صالح الهاشمي: "ما استشرت أحداً قطّ إلاّ تكبّر عليّ، وتصاغرت له، ودخلته العزّة، ودخلتني الذلّة، فإياك والمشورة، وإنْ ضاقت عليك المذاهب، واستبهمت عليك المسالك، وأدّاك الاستبداد إلى الخطأ الفادح"([60]).
فالمسلم إذا اعتمد على تفكيره كلياً، ولم يستشـر أحداً في أيّ أمر من أموره، فهذا مذموم. وإذا كان يستشير الناس في كل صغيرة وكبيرة في أموره، فهذا مذموم أيضاَ، ويدل على النقص والتقصير. والتوازن والاعتدال في المشورة: أن تستشير العقلاء وأصحاب الرأي والتجارب في بعض الأمور، التي لو اعتمدت فيها على نفسك وحدها، لما كان بالإبداع دون المشورة.
وإن بعض الناس يعتمد اعتماداً كلياً على المشورة دون الله عز وجل، فيظنّ أنه إذا أخذ المشورة معناها سيكون التوفيق حليفه، والصواب معه، وهذا فيه ركون إلى الأسباب الدنيوية، وإلا فمن المفروض أن الإنسان، بالإضافة إلى الاستشارة، أن يفعل الاستخارة والتوكل على الله عز وجل.
فالإنسان يستشير حتى يعرف وجه الصواب، فإذا جاء ليقدم عليه، وهمَّ بالأمر، عليه أن يستخير، حتى يبرأ من حوله وقوته، كما في دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب...)([61])، وهذا فيه براءة من الحول والقوّة، واعتماد على الله عزّ وجلّ.




([1]) سورة الفرقان، الآية: 63.
([2]) سورة لقمان، الآية: 18.
([3]) مدارج السالكين: 3/108.
([4]) الروح، ابن القيم، ص 495.
([5]) سورة المائدة، الآية: 54.
([6]) مدارج السالكين: 3/109.
([7]) التعريفات للجرجاني: 82.
([8]) بهجة المجالس، ليوسف بن عبد البر القرطبي: 1/616، دار الكتاب العربي، ط1،، القاهرة.
([9]) سورة الأعراف، الآية: 199.
([10]) اليواقيت في بعض المواقيت: 192، عبد الملك الثعالبي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط1،، 1410هـ ـ1990م.
([11]) بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر: 1/134.
([12]) رواه مسلم في صحيحه، "17" "25" في الإيمان، والترمذي (2011) في البر والصلة: باب ما جاء في التأني والعجلة، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (586)، والطبراني (12969)، والبيهقي 10/104. وأخرجه ابن ماجة (4188) في الزهد: باب الحلم.
([13]) رواه أبو داود: 4/255، رقم (4810)، والحاكم: 1/132، رقم (213) وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي فى شعب الإيمان: 6/335، رقم (8411)، وأبو يعلى: 2/123، رقم (792).
([14]) مدارج السالكين: 1/190.
([15]) رواه أحمد: 4/125، والنسائي: (130).
([16]) مفتاح دار السعادة: 1/146.
([17]) التفسير الكبير: 4/98.
([18]) الروح لابن القيم: 52.
([19]) الروح: 53.
([20]) العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي: 1/28..
([21]) رواه الترمذي: 4/360، رقم (1997)، وقال: حديث حسن، والبيهقي في شعب الإيمان: 5/260، رقم (6595)، والطبراني في الأوسط: 3/357، رقم (3395).
([22]) النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/663. أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ - 1979م، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي.
([23]) أدب الدنيا والدين: 35.
([24]) الأدب المفرد للإمام البخاري: 578.
([25]) أدب الدنيا والدين، الماوردي: 177.
([26]) سورة النساء، الآية: 71.
([27]) الروح: 5ـ4.
([28]) سورة النساء، الآية: 1.2.
([29]) في ظلال القرآن: 2/748.
([30]) اليواقيت في بعض المواقيت في مدح الشيء وذمه: 186.
([31]) سورة الرحمن، الآيات: 1ـ4.
([32]) الجواب الكافي: 137ـ 138.
([33]) صفة الصفوة: 1/549.
([34]) رواه أحمد: 4/427، رقم (19843)، والبخاري رقم (5766) في: 78 كتاب الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (37) بَاب بَيَانِ عَدَدِ شُعَبِ الإِيمَانِ وَأَفْضَلِهَا وَأَدْنَاهَا، وَفَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَكَوْنِهِ مِنْ الإِيمَانِ، والطبراني: 18/206، رقم (505)، والبيهقى فى شعب الإيمان: 6/132، رقم (7705).
([35]) اليواقيت في بعض المواقيت: 236.
([36]) مدارج السالكين: 2/71.
([37]) رواه مالك: 3/98 في باب ما جاء في الحياء، وأحمد: 2/56، والبخاري "24" في الإيمان: باب الحياء من الإيمان، وفي "الأدب المفرد" "602"، ومسلم "36" في الإيمان: باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وأبو داود "4795" في الأدب: باب في الحياء، والنسائي: 8/121 في الإيمان: باب الحياء، والترمذي (2615) في الإيمان، باب ما جاء أن الحياء من الإيمان، وابن ماجة (58) في المقدمة.
([38]) رواه أحمد: 3/71، والبخاري: 4/230 في: 61 كتاب المناقب: 23 باب صفة النبي ، وفي «الأدب المفرد» (599)، ومسلم: 7/77 بَاب كَثْرَةِ حَيَائِهِ صلى الله عليه وسلم. وابن ماجة (4180). والترمذي في (الشمائل) (358).
([39]) مدارج السالكين: 3/76، 77.
([40]) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب رقم (2458).
([41]) مدارج السالكين: 2/62.
([42]) بهجة المجالس: 8/565
([43]) رواه ابن أبي شيبة: 7/243.
([44]) اليواقيت في بعض المواقيت: 249.
([45]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للإمام الأصفهاني: 4/272.
([46]) رواه الديلمي وأبو نعيم والقضاعي مرفوعاً عن أنس. يُنظر: كشف الخفا للعجلوني: 1/435.
([47]) ينظر: فقه اللهو والترويح، الدكتور يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1427هـ ـ 2006م.
([48]) رواه الترمذي، في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.
([49]) سير أعلام النبلاء: 1/142.
([50]) رواه البخاري: (891).
([51]) رواه البخاري: 3/35، ومسلم: (2475).
([52]) رواه البزار: (1977)، والحاكم في المستدرك: 1/124، وصححه.
([53]) سير أعلام النبلاء: 1/141.
([54]) رواه أحمد: 3/119، والبخاري (6129) في باب (الانبساط إلى الناس)، وفي (الأدب المفرد) "269"، ومسلم "2150" في الأدب: باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، والترمذي (333) في الصلاة: باب ما جاء في الصلاة على البسط، و"1990" في البر: باب ما جاء في المزاح، وابن ماجة (3720) في الأدب: باب ما جاء في المزاح، والترمذي في "الشمائل (236)، والنسائي في "اليوم والليلة" كما في (التحفة) 1/436، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/312-313، وفي السنن: 5/203.
([55]) وكان من أشهرهم نعيمان بن عمرو بن رفاعة، المشهور بقصصه ودعاباته، وهو صحابى جليل: "شهد بدراً، وكان من قدماء الصحابة وكبرائهم، وكانت فيه دعابة زائدة، وله أخبار ظريفة فى دعاباته.. وكان نعيمان مضحكاً مزاحاً". (الاستيعاب لابن عبد البر: 4/1526).
([56]) شرح السنة: 13/184.
([57]) المصدر نفسه: 13/183.
([58]) سورة آل عمران، الآية: 159.
([59]) أدب الدنيا والدين: 3.
([60]) اليواقيت في بعض المواقيت: 2.
([61]) رواه أحمد: 3/344، رقم (14748) والبخاري: 6/2690، رقم (6955)، وأبو داود: 2/89، رقم (1538)، والترمذي: 2/345، رقم (480) وقال: حسن صحيح غريب. والنسائي: 6/80، رقم (3253)، وابن ماجة: 1/440، رقم (1383)، وابن حبان: 3/169، رقم (887)، وابن أبى شيبة: 6/52، رقم (29403).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق