02‏/01‏/2019

حتى لا يقول الرسول: ربّي إنّ أمّتي اتّخذت هذا القرآن مهجورا


فؤاد العايب
لندن
تمهيد:
إن المسح التاريخي لكل النماذج الدينية والفكرية والفلسفية والنظرية عموماً، يظهر أنّ لها  قاسماً مشتركاً، يتمثّل في مرجعية نصيّة مؤسسة؛ تنقل عن صاحبها، نسبة لخالق أو مخلوق. هذه النصوص تجد مصدّقين ومعتقدين ومقتنعين بها، ويتمثّل دورهم في إثبات نقلها عن صاحبها، وتأويل مضمونها، والبحث عمّا يدعمها.
لا يختلف عن ذلك أصحاب الديانات، أو الفلسفات، أو الآيديولوجيات، أو غيرها، ويعكس ذلك جزءاً من بنية عقلية إنسانية مشتركة، والقول بإنسانيتها يعني بالضـّرورة عموميتها، وليس كليتها، والفرق بين الاثنين لا يقاس، فهو الفارق بين الوجود الكوني في كليته، والوجود الإنساني في خصوصيته.

هذه البنية العقلية بنية دينية بالضـرورة، حتى وإن أدّت في نتائجها إلى عكس ذلك، وهي شاهد فنومولوجي على ظاهرة الدين التي ترتكز على أساس وصف في القرآن: {اهبطا منها جميعاً، فإما يأتينكم مني هدى}.
فتلك النصوص (الوحي) المؤسّسة، تقيم الصلة بين المصدر والمتلقّي، وتوجّه المتلقّي بشكل قيمي، ترشيداً لوعيه بوجوده، حتى يكون التفاعل مع معطياته، وضروراته، موازناً بين قصدية اعتبارية، ومنفعة لازمة.
هذه المقدمة ضرورية للتأكيد على أهمية النقل، ولكن نتيجة لسوء استخدام هذا المعطى، ولتأثير عامل حضاري ثقافي، بالإضافة إلى عوامل ذاتية أخرى، نشأ قول بتناقض النقل مع الجهد المعرفي العقلي.. ولا بد هنا من إعادة البحث في هذا الموضوع بعيداً عن صورية الفلسفة، وإنما اعتماداً على علم اجتماع المعرفة، لربط الخصومة بظروفها، ومنع الادّعاء بإطلاقيتها، وهو ما يستوجب إعادة بناء علوم النقل وعلوم العقل على أساس جديد، علمي واقعي وموضوعي.

مركزية القرآن:
لا يختلف اثنان من المسلمين على أهميّة القرآن، ومركزيته، ولكن ذلك الموقف لم يتحوّل إلى آليّة منهجية تحكم إنتاج المعرفة، فحتى في علم الأصول اعتبر القرآن مصدراً من المصادر، كما اعتبر الاجتهاد - العقل – مصدراً كذلك، فسّوى بذلك بين المصدر والأداة، وأعطوا جميعاً صفة المصدر.
 صحيح أن القرآن هو جزء مهم ورئيسي من الوحي، ولكن درجة التواتر التي يمثّلها أعلى من كل المنقولات الأخرى، وهو ما جعل جيل التأسيس يعتمد القرآن مرجعية للتحقيق في مصداقية المرويات الأخرى، وخاصة الحديث.
إن تحكيم القرآن لمراجعة صحة الأحاديث عمل عقلي يتطّلب فهماً للقرآن، كما يتطّلب التسليم بأولويته على غيره من النصوص. ولكن مع الخصومة النكدة بين العقل والنقل، جُمع الحديث في بيئة لا تشجّع على استعمال العقل في مثل هذا المجال، وهو ما جعل أهل الرواية يجمعون نصوصهم في تركيز على الرواة أكثر من التركيز على المتن، ولذلك تطوّرت علوم السند، ولم يتحوّل مبحث المتن إلى علوم.
لقد نفى المستشرقون أيّ اهتمام للمسلمين بالمتون، ولكن ذلك غير صحيح، والعديد من الدراسات أثبتت عدم صحّة ذلك، خاصة أبحاث الدكتور صبحي الصالح. ولكن رغم ذلك هناك قصور في تطوير علم المتون، وقصور في تفعيل منهج اعتماد القرآن كمرجعية للتحقيق في صحّة الأحاديث.

انقلاب الأولوية بين القرآن وباقي المنقولات
أعود إلى موضوع الخصام النكد بين العقل والنقل، لأنه وفّر مناخاً جمعت فيه مدونة للمرويّات، ولم يلعب العقل الدور المنهجي الضـروري في جمعها. وفي الوقت نفسه، وقع التأسيس لعلوم عقلية، لم تقم المرويّات بدورها المنهجي الطبيعي في بنائها.
والنتيجة كانت قلباً للأولويات، حيث استعمل منتج العقل الصوري لإخضاع القرآن لمقولاته. وفي الجهة المقابلة استعملت الرواية لإخضاع القرآن لما هو أقلّ منه تواتراً.
المحصّلة أن النقل والعقل، بصيغتيهما المشهورتين، لعبا دوراً في استبعاد القرآن عن دوره المرجعي، معرفياً وليس خطابياً. والمطلوب هو إعادة التأسيس المنهجي، الذي يحلّ القرآن محلّه المركزي في إنتاج المعرفة، وبالتالي في ترشيد تعاملنا مع الواقع، بشكل ينهي اختزال الدين في نسخة الفهم التي قيّدتها خصوصية الإطار التاريخي والثقافي السابق.

علّة الرواية وعلّة العقل
علّة الرواية إسقاطها العملي لمرجعية القرآن. وعلّة العقل في صوريّته، نتيجة لاعتباره معطى وجودياً بدلاً من اعتباره معطى إنسانياً، بما يعنيه من تنسيب وتخصيص الإطار، من الإطار الكوني الوجودي إلى الإطار الإنساني الاجتماعي.
في أجواء اعتماد العقل الصوريّ، وانحياز الدولة له، في العصر العباسي، لإخضاع القرآن والدين لتأمليّة تجريدية، تشكّل مناخاً يجعل من الدفاع عن النصّ، بكل صيغه: ( قرآن، حديث، سيرة، تفسير، تاريخ)، قيمة معيارية، جمعت الناس حول أهل الرواية، وأعطتهم بعداً نضالياً، مثل الإمام ابن حنبل، ممّا جعل علم الحديث ينشأ في بيئة متوجّسة من العقل، وغارقة في معيارية كانت أداة للتعديل، أيْ الدفاع عما يناسب خصوصية الرواة علمياً وسياسياً واجتماعياً، أو التجريح بما يعنيه من بحث ونسج لسقطات رواية من يخالفهم، في زمن عمّت فيه جبرية لا تعترف بالتنّوع.
لم يسلم أحد من المذاهب من هذه الإشكالات المنهجية، وتتفاوت درجات الوقوع فيها من مجموعة لأخرى. فإشكالات أو علل الرواية للحديث، عند السنة مثلاً، محدودة، مقارنة بغيرها، بسبب حصرها للرواية عن شخص واحد، هو النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبالنتيجة محدودية الإطار الزمني.
في المقابل، إذا كان هامش الرواية عن شخص واحد لمدّة من حياته، تمتدّ على مدى ثلاثة وعشرين سنة، طرحت تحديات في الرواية عنه. فإنّ الرواية من رواة غرقوا في عرفانية اعتبرت أن نزول الوحي لم يتوقف، ولكن تغيّرت صيغه (الشيعة، والصوفية، مثلاً)، عن عدد غير محدود من الأشخاص، جعلت من الرواية نقلاً عن عدد كبير من متلقّي المعرفة العرفانية، وإطاراً غير محدود زمنياً، يضاعف هامش واحتمالية الخطأ بشكل لا يتوقع.
من جهة أخرى، كان علم التفسير، والسيرة، والتاريخ، ينشأ في نفس المناخ الابستيمولوجي. فكثرت الإسرائيليات في التفسير، وجمع التاريخ جمعاً لكل رواية، صحيحها وعليلها، سعياً إلى الالتزام بأمانة أخلاقية في نقل ما كان موجوداً من روايات حتى لا تضيع.
لا يمكن أن ننكر أن المعيارية عامل مهم جداً، والإشكال ليس في استعمالها، ولكن الإشكال في إسقاط أدوات منهجية ومعرفية أخرى، لو استعملت مجتمعة لجنبتنا الكثير من المشاكل.
كان مبرر الحرص على عدم إضاعة شيء من الوحي، مقدماً على الحرص على تجنّب نسبة ما ليس بوحي للوحي، مما أتاح المجال للدسّ، بدوافع متعددة، مثل: صناعة أدلة لمواجهة مخالف في الرأي، وغيرها.

آفاق الحل
أصبح من الواجب إيقاف الانقلابات في واقعنا، انقلابات الحاضر كما انقلابات الماضي، ولا يمكن أن نتصالح مع ذاتنا، وواقعنا، ومنظومة قيمنا، والعودة إلى صناعة التاريخ، دون إعادة ترتيب الأولويات بين مختلف مكونات مدونتنا المعرفية، ما كان منها متواتراً وقطعيّ الورود، وما كان دون ذلك. فالقرآن يزوّدنا بالأدوات التي لا بد أن نعتمدها للبحث في درجة وصحة باقي المرويّات، لنقلب المعادلة، فتخضع المنقولات من غير القرآن للقرآن.
لا بد من القطع مع نمط التفكير التأمّلي التجريدي، الذي لا يعترف للوحي بأولويته، ولا يستعمل الواقع كمكّون أساسي في عملية إنتاج المعرفة.
علينا الاستفادة من العلوم التي ترتقي بالرواية من مجرد النقل إلى مرحلة التأسيس العلمي، والإضافة لما انطلق أصلاً منذ قرون، دون أن نتمكّن - للأسف - من أن نستفيد منه، كمثل ما أنتجه ابن خلدون.
الوعي بأثر المأسسة - أيْ تحويل الفكرة أو القيمة إلى مؤسسة - ودوره في نقل الأولوية من القيمي للإجرائي، هدّد بأن يتحول قسم من الفقه إلى أداة تخدم المأسسة، ولو على حساب القيم. وأبرز مثل على ذلك: الميراث الهزيل والمتخلّف للفكر السياسي، هذا التخلّف العابر للمذاهب، الذي يخضع الديني للسياسي، بدل إخضاع السياسي لقيم الدين.
لا بد من مواصلة تجديد وتطوير علم المقاصد، حتى نوازن بين حاجتنا للانتظام من خلال منظومة قانونية وفقهية، وفي نفس الوقت نحافظ على الضوابط القيمية؛ جوهر الدين الأساسي.
تأكُّد الحاجة إلى إعادة التأسيس المنهجي لعلم المتون، بشكل يجمع بين علوية النص المتواتر، ومراعاة الجانب المعياري، والاستفادة من العلوم الضـرورية لفهم الإطار الذي تشكّلت فيه الرواية.
لا يكفي العمل الأكاديمي لإحداث نقلة حقيقية في بنية العقل المسلم، ولكن لا بد من استغلال ما يوفّره الواقع من فرص التكيّف الاجتماعي، لتنزيل الإصلاح المنشود على أرض الواقع، بأقلّ التكاليف زمنياً. من ذلك: تفعيل واقع الصراع مع دولة الكيان، كمحفّز يشجّع على دفع عملية الإصلاح بزخم كاف يعطّل كل المعيقات المحتملة.
إذا قمنا بكل ذلك، تمكنّا من الموازنة بين مرجعية القيم، ومصادرها القطعية، من جهة، وبين ضرورات الوعي بالزمن والمكان، وأثرهما على إنتاجنا المعرفي، من جهة أخرى. فنتجنّب إسقاط النسبي المنتهي الصلاحية، على الحاضر، بما هو نسبي واقعي، يتطلّب حسن إدارته لإنتاج حلول تعالج متطلبات الحاضر بشكل يحقّق للناس حاجاتهم، ولكن بشكل يحافظ على علوية القيم.

هناك تعليق واحد:

  1. زادك الله علما يا استاذ فؤاد فقد تطرقت لمبحث قلما اهتم به الكتّاب والمدونون وقد شد انتباهى ما اعتبره ملخصا لمقالك بقولك فى آفاق الحل " فالقرآن يزوّدنا بالأدوات التي لا بد أن نعتمدها للبحث في درجة وصحة باقي المرويّات، لنقلب المعادلة، فتخضع المنقولات من غير القرآن للقرآن"

    ردحذف