02‏/01‏/2019

لقاء/ الشيخ عبد الفتاح مورو: هناك حركات إسلامية تنطلق من شمولية الإسلام؛ لتجعل التحرّك لصالح الإسلام شمولياً، وهذا هو الخلل بعينه ..


حاوره: سالم الحاج و سرهد أحمد
 تعيد (الحوار)، مجدّداً، فتح ملف (الدعوة والسياسة) في المنظور الإسلامي، لتقصّـي أحدث المقولات وأغناها، والتي وردت على لسان شخوص دعوية وقامات فكرية بشأن جدلية العلاقة بين الوظيفتين. وقد استثمرت المجلة مؤتمراً دولياً لـ(المنتدى العالمي للوسطية)، عقد بالسليمانية في 27/10/2018، حضـره المفكر التونسي المعروف الشيخ (عبد الفتاح مورو)، لتنظّم له جلسة نقاشية خاصة، وطرحت عليه جملة تساؤلات حول الموضوع المثار، مع مسائل أخرى ذات صلة بسياقات العمل الإسلامي، ومستجداته.


وفيما يلي نص الحوار:
*  الحوار: إذا كانت الحركات الإسلامية في الوطن العربي، والعالم الإسلامي، تتجه الى  الفصل بين (السياسي) و(الدعوي)، فمن أين أتت إشكالية الدمج بين الوظيفتين أصلاً ؟ .. هل هي إشكالية تاريخية وردت إلينا من التاريخ الإسلامي ؟ .. أم هي إشكالية حديثة ؟
 - الشيخ عبد الفتاح مورو: ليس عموم الحركات الإسلامية متّجه صوب الفصل بين الدعوي والسياسي، فهناك حركات متشبّثة بالدمج بين الوظيفتين، بحجّة شمولية الإسلام، إذ تنطلق من شمولية الإسلام لتجعل التحرّك لصالح الإسلام شمولياً، وهذا هو الخلل بعينه، لأن التحرّك لصالح الإسلام ككيان، يحتاج الى التخصّص، لأنه - وبكل بساطة – فإنك لست بقادر أن تجعل طبيباً يمارس مهنة الطب، أن يلتزم وظيفة الإمامة بمسجد في آن واحد، وليس بمقدورك دفع عالم اجتماع الى الاشتغال بالفتوى. نحن مع التخصّص، والتخصّص يقتضي منا التمّحض لخدمة ما نتقنه وندركه ونفهمه. فتلكم الحركات الإسلامية لا تحسن الانتقال من شمولية الإسلام الى التخصّص في العمل الميداني، وحتى الحركات الساعية للفصل بين الوظفيتين تواجه عوائق. مردّ ذلك إلى وجود ترسبات متراكمة من الماضي، ففي عصـرنا الراهن تواجه حركاتنا الإسلامية نقصاً حاداً في التخصّصات السياسية والاقتصادية، وتخصّصات بمجالات حيوية أخرى، بينما ترى كثرة المقرئين، والمنشدين، والمختصّين في علوم الشريعة.
 علينا الإدراك بأن من يشارك في الحياة العامة لا يكفيه أن يكون عالماً في أصول الفقه، ليتقدم ويعالج إشكالات المجتمع.
 لا بد من التصدّي لحالة التضخّم في ميدان العلوم الإسلامية على حساب ميادين العلوم الإنسانية الأخرى، فرغم اعتزازنا بالعلوم الإسلامية، إلا أنها لا تصلح وحدها علاجاً لأدواء المجتمع.
ويلزم تحريك طاقات الشباب في اتجاهات معرفية متعدّدة، وعدم التركيز على دراسة علوم الشـريعة فقط، فالإصلاح المنشود يقتضي شمولاً معرفياً في الحقول العلمية الحديثة، والدفع بهذا الاتجاه من أولى مهام الأحزاب الإسلامية نفسها.
  
*  الحوار: هل نفهم من إجابتكم أن الدمج بين السياسي والدعوي هو إشكالية تاريخية، أي بمعنى أن له علاقة بالتراث الإسلامي ؟
- الشيخ عبد الفتاح مورو: أتصوّر أننا لم نفهم ما هو المطلوب منّا في المجتمع الذي نعيشه بالتحديد، هل يكفي أن نكون متمسّكين بالإسلام لإعادة تحكيمه في شؤون الحياة كلها؟! ... هل المقصود من عودة الإسلام أن تمتلىء المساجد وتصدح الحناجر بالأذكار وتلاوة القرآن؟!، لكن أليست المساجد كثيرة ومكتضّة، والناس يقرأون القرآن، ويصومون رمضان، ويحجون بيت الله الحرام، وبتزاحم كبير.
 إذاً ما الذي ينقصنا؟ .. ينقصنا الأخذ بشؤون مجتمعاتنا، ومعالجة مشاكلها.. هذه الأمّة ينقصها علماء مختصّون في حقول علمية شتّى لحلّ إشكالية تبعيتنا للعالم الغربي الليبرالي، الذي يفرض علينا حلولاً استسلامية.. فلهذا العالم شبكة مؤسسات سياسية واقتصادية كبرى، تفرض سياسات معينة، ننصاع لها دون أن تترك لنا أيّ خيارات، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمات دولية أخرى.
 يلزم تنشئة الجيل القادم، وتأهيله، ليتسنّى تقديم مشاريع بديلة؛ حتى نستقل في قرارتنا، ونحدد سياساتنا وفق مصالحنا.. يجب إثبات تحررية المشـروع الإسلامي، وليس المقصود بالمشـروع الإسلامي في الاقتصاد مثلاً، هو الإتيان بفقه الإمام (الشافعي)، أو (أبو حنيفة)، في الاقتصاد والدعوة، للالتزام به، كما لا يعني إلغاء المصارف الرسمية والتعاملات المالية العالمية، لنحلّ محلّها مؤسسات للزكاة والجبايات. المسألة ليست بهذا المنحى، ولا بهذه البساطة.
 تمتلك دولنا الإسلامية معادن وثروات طبيعية وفيرة، وأيد عاملة كثيرة، وعقولاً قادرة على الإبداع، ورغم ذلك نشكل عالة على غيرنا في مأكلنا ومشـربنا وملبسنا، وجلّ أسباب العيش الأخرى.. لا بد أن نصارع للاستقلال.. الإسلام يعيننا على ذلك، عبر جامعة تكافلية، ورابطة تكاملية بين الشعوب الإسلامية جمعاء.

 *  الحوار: إذا تركنا جانباً التراث الإسلامي وقلنا؛ إن إشكالية السياسة والدعوة رافقت ظهور الحركات الإسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية، وتعمّقت في ظل الدولة القطرية الحديثة؟، هل يمكن وصف الدول القطرية بأنها دول إسلامية، طالما أنها نشأت في مجتمعات المسلمين؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: مشكلتنا لم تبدأ بالحركات الإسلامية التي نشأت في ظل الدولة القطرية الحديثة، إنما بدأت بالدولة الحديثة نفسها، الدولة الحديثة هي المشكلة، لأنها غير محايدة وباتت طرفاً، فهي صنيعة الاستعمار، رغم إعلانها مقاومة المستعمر والتحرّر من ربقته، وادّعت سعيها لتحقيق هدفين: التخلّص من التبعية الاقتصادية، وحفظ كرامة أفراد الشعب، وفشلت في تحقيق الأمرين فشلاً ذريعاً.
 نعم، مشكلتنا هي الدولة الحديثة المؤدلجة ذاتها، المترعة بإيديولوجيات (الاشتراكية، الشيوعية، الليبرالية)، وتبنّيها مذاهب اجتماعية واقتصادية غربية وافدة، جعلت قطاعاً عريضاً من أبناء المجتمع على هامش هذه المذاهب والخيارات، ما اضطروا أخيراً  إلى التكتل لتحقيق وجودهم، وإثبات كيانهم، فنشأت الحركات الإسلامية كردّة فعل على سياسات الدولة  المؤدلجة، والتخلّص من هيمنة التيارات الشرقية والغربية.
فالحركات الإسلامية لم تكن سوى وسيلة تجميع عصـرية، يهدف المنتمون إليها الاشتراك في الشأن العام، وتقديم نموذج يتفاعل مع التطور الطبيعي للمجتمع، ويرومون قيام الدولة الوطنية.
*  هل تقصد أنّ الدولة القطرية الحديثة تعاني خللاً بنيوياً حادّاً أفرز تلك الإشكالية؟
 - الشيخ عبد الفتاح مورو: بالتأكيد، خلل الدولة هي رفعها لشعارات الاشتراكية، والليبرالية، وغيرها، على عكس توجهات المجتمع، والتزام أفراده بالإسلام ديناً.. عدم حيادية الدولة، دفع أفراداً كثيرين للدعوة إلى مرجعية الإسلام، ورفع شعارات (الإسلامية)، لتجنّب الانصهار في بوتقة الدولة المؤدلجة.
  فالدولة عندنا لم تقم أساساً على قواعد الدولة المتعارفة، أي إن مقومات الدولة غير قائمة لدينا، إنما مجرد هياكل إدارية مجيّرة لصالح أفراد، أو قبيلة، أو حزب معيّن، أو لتحقيق غايات أسرة ما، أو للحفاظ على مصالح الدولة الصنيعة بالأساس.. ونحن نعلم أن غالبية دول المنطقة صنيعة خارجية..  وهنا نؤكّد على أهم مقوّم من مقوّمات الدولة وهو (الحرية)، أي حرية الأفراد في الاختيار.. فالدولة الحقيقية تقوم حين يكون أفراد المجتمع قادرين على الاختيار، اختيار الأصلح.. وقدرة الأفراد تلك مرهونة بمستواهم التعليمي والثقافي، ومدى الانفكاك من الأطماع الشخصية، ومن مصالح القبيلة المتنفّذة.

 * الحوار: برأيكم، لماذا تتراجع حظوظ الإسلاميين في الانتخابات، هل هو الخوف من الإسلاميين؛ على اعتبار أن بعضاً منهم متورّط بالعنف ضد الدولة؟.. أم لأن القابضين منهم على السلطة، أو المشاركين فيها، أصبحوا طرفاً فئوياً في نظر الناس، لا يمتاز عن الآخرين بشـيء؟ .. أم أن غير الإسلاميين أكثر براغماتية، ويقدمون حلولاً مقبولة لدى الناس، فيمنحونهم أصواتهم؟.. وعلى سبيل المثال، فهنا في إقليم كوردستان، يشكّل المسلمون غالبية المجتمع، بينما النسبة الكبيرة تصوّت لصالح غير الإسلاميين.. إلى ماذا تعزو السبب؟..
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: نعم صحيح، ولهم الحقّ في ذلك، فالأحزاب الأخرى تقدّم خيارات اقتصادية واجتماعية من صميم واقع الناس، بينما الإسلاميون قابعون خلف شعارات، ويتحدّثون عن عموميات، ولا يقدّمون البدائل الواقعية التي تلامس الاحتياجات المعيشية للناس.. المشكلة أن الإسلاميين مغيّبون عن الحقائق، إذ يضيّق عليهم الخناق، ويمنعون من الوصول إليها، أو أنهم معزولون عن الواقع، ولا يدركون مقتضياته.. فتراهم منكفئين على التاريخ، ومتشدّقين بالانتماء العقدي، وإثارة العواطف.. أنا لا أحبّذ هذا النموذج من الإسلاميين.. عليهم أن يطوّروا من أفكارهم وأفعالهم، كما أن من حقّهم إثبات وجودهم، والاستقلال بكيانهم، طالما التزموا بقواعد اللعبة الديمقراطية.

*  الحوار: تأسيساً على ما ذكرتم، ما رأيكم في قيام الأحزاب على أسس دينية، هل ترون مشروعية ذلك ؟
- الشيخ عبد الفتاح مورو: وما المانع في ذلك؟

*  الحوار: أي يجوز قيام أحزاب يهودية ومسيحية، مثلاً؟
- الشيخ عبد الفتاح مورو: العالم الغربي يسمح لأحزاب أن تقوم على أساس الدين، على سبيل المثال (الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني)، حزب المستشارة (أنجيلا ميركل).
*  الحوار: هذا الحزب مسيحي بالاسم فقط، لكن برنامجه شيء مختلف، شيء غير ديني؟
- الشيخ عبد الفتاح مورو: كلا، ليس بالاسم فقط، هذا الحزب وضع لنفسه عند انطلاقه برنامجاً سياسياً يقوم على ما يسمّيه (القيم المسيحية)، ويعدّ أكبر حزب سياسي من حيث عدد العضوية بألمانيا.. نعم، لا مانع من قيام أحزاب على أسس دينية، وحين نقول دينية أي إنها لا تحتكر تمثيل الدين، بل تقدّم فهمها للدين، كالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية.
المعضلة الحقيقية أن الاسلاميين محرومون من الاندماج في المجتمع، والتفاعل مع متطلباته، بالشكل الكافي.. فالدولة والتيارات الداعمة لها تدفع بالإسلاميين إلى الزواية، ولا تسمح لهم بالولوج في فضاء العمل السياسي الواسع إلا في حدود دنيا، لذلك حين يؤدّون دوراً هامشياً، يعاب عليهم ذلك، وينعتون بعديمي الخبرة.. إنه ليس عدم خبرة، بل قلّة خبرة؛ ومردّه التضييق الذي يواجهونه من السلطة، ومضايقات الأحزاب الأخرى.. وهذه الأحزاب ليست أحزاباً بالمعنى المتعارف، إنما هي مجرد انتماءات عرقيّة وقبليّة، يتوارث قيادتها الأفراد النافذون في القبيلة نفسها.. هناك حاجة ملّحة لجعل الأحزاب في مجتمعاتنا قائمة على بنيان مؤسساتي، وذات منهجية في ممارسة النشاط السياسي، كما فعل العالم الغربي، لكي تأخذ الأحزاب دورها، وتمارس وظيفتها الطبيعية التي نشأت من أجلها.

* الحوار: هل للدين وظيفة سياسية؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: يقيناً، للدين وظيفة سياسية.. أليست لدولة (الفاتيكان) الدينية وظيفة سياسية؟ ألا تقدّم مشاريع اقتصادية، وحلولاً اجتماعية، وتدير مصارف كبرى، ولها تعاملات مالية، وتستخدم الكنائس والأديرة، لخدمة أغراضها السياسية حول العالم؟ وهذه إسرائيل؛ أليست دولة قائمة على الدين، في عَلَمها، في انتمائها، في الغرض من تكوينها، في شعبها..؟! ولا يجرؤ أحد على انتقادها، وسنّت مؤخراً قانون (الدولة القومية لليهود)؟.

*  الحوار: هل الدولة الدينية، بهذا المفهوم، تشكل ظاهرة إيجابية؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: ليست ظاهرة إيجابية، لكن ما بالنا نتعامل بمكيالين؟!

*  الحوار: كيف نتوصل إلى الصيغة الأمثل لممارسة العمل السياسي؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: الصيغة الأمثل لممارسة العمل السياسي هي تطوير الموجود، وليس إلغاؤه.. يجب أن نقيْم أحزابنا على الوعي السياسي، كما يحدث في البلدان العريقة، فهناك تتبادل الأحزاب الخبرات، وتنشئ شبابها على الوعي بالواقع؛ واقع التفاعل مع القضايا السياسية والاجتماعية، والتعامل معها.. أما مشكلتنا نحن في المجتمعات الإسلامية، فهي التقوقع في تراث ورثناه عن آبائنا وأجدادنا، لا يساعدنا على تكوين الرؤية الواقعية للحياة.. أنا ذكرت آنفاً أنه لا بد أن تكون أحزابنا السياسية حواضن للشباب، بهدف صقل مهاراتهم المعرفية، والقيادية، عبر وسائل ومناهج الحزب الداخلية، أو من خلال ابتعاثهم إلى الخارج للاطلاع على نماذج متقدمة من العمل الحزبي والسياسي، وإشراكهم في دورات تطوير القدرات، حتى يشبّوا على تحمّل المسؤوليات، سواء في المجتمع بكل مجالاته، أو حال انخراطهم في الحكومة.
يجب الإقرار بأن الغرب سبقنا، وتفوّق علينا، في بناء النظام الديمقراطي، وحماية حقوق الإنسان، وتشكيل الأحزاب، ونحن نقلناها عنهم، لانسجامها   - في شقّها الإيجابي الواسع - مع توجهاتنا، وتتطابقها مع أفكارنا الإسلامية.

*  الحوار: ألا ترون أن الإسلاميين يمارسون السياسة بمنطق تقديسـي، أو ديني؟ .. لماذا تتصارع الأحزاب الإسلامية فيما بينها حدّ الاحتراب، تاركة النقد الموضوعي جانباً، فضلاً عن التعاون على البرّ والتقوى؟.. والأصل أن الاسلام يدعو إلى تهذيب النفس، والارتقاء بالأخلاق، والتحلّي بالمحبة والتسامح، حتى مع غير المسلم؟ وهذا ما تنادي به تلك الأحزاب في أدبياتها.. هل هناك خلل في الممارسة، أم هو الجمع بين (السياسة والدعوة) تحديداً، الذي يدفعهم إلى تغليب آليات السياسة، على أخلاقيات الدعوة؟
- الشيخ عبد الفتاح مورو: ما ذكرته عن سلوك الأحزاب الإسلامية يجب أن تقوله في الأحزاب العلمانية أيضاً، أليس في إقليمكم حزبان يتصارعان، وهما من أرومة واحدة، ويحملان القضية نفسها، لكن لكل منهما مصالحهما المختلفة.

* الحوار: لعلّ الميدان السياسي يسمح بهذه المناكفات والمنازعات، لكن عندما أدّعي الإسلامية، وألبس لبوس القداسة الدينية، كيف أسمح لنفسي الجمع بين هذه المتناقضات؟ الأحزاب العلمانية، على الأقل، لا تدّعي قداسة دينية؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: الصـراع شيء طبيعي ووارد في المجتمعات، وبين الأفراد، لاختلاف التوجهات والمصالح، لكن أنْ يصل إلى حدّ الاحتراب، فذلك سلوك مذموم، خصوصاً بين الإسلاميين.. ودخول الحركات الإسلامية في مناكفات ومنازعات جانبية، فيما بينها، دليل لا لبس فيه على الجزئية في الفهم، والضحالة الفكرية، وقصور في الإدراك حيال القضايا الكبرى، والعجز عن تقديم الحلول.. ومن إفرازاتها التراجع وفقدان الحضوة لدى الجماهير.
والصـراعات بين الإسلاميين ليس مصدرها التعاليم الدينية إطلاقاً، إنما هو الجهل بأصول الإسلام، ومقاصده الكبرى.. ويجدر بالحركات الإسلامية التسابق في انتاج المعرفة، والتصدّي لقضايا المجتمع، والنأي عن توظيف الدين لتحقيق غايات دنيئة.. والعلمانيون كذلك كانوا - ولا زالوا - يخضون صراعات دموية فيما بينهم، ناهيك عن استهدافهم المستمر للحركات الإسلامية.. والحقيقة أنّ بعض الإسلاميين والعلمانيين لم يرتق بأفكاره، ولم يطوّر من أدائه، حتى يتسنّى خدمة المجتمع؛ بأفراده، ومؤسساته.
*  الحوار: كيف ينبغي أن يتعامل الإسلاميون في وسط مجتمع مسلم ؟.. ولماذا تدّعي الحركات الإسلامية تمثيل الدين؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: أعتقد أنْ لا أحد يدّعي تمثيل الدين، والحركات الإسلامية ما هي إلا أفهام معيّنة للإسلام.

*  الحوار: ولكن الإسلاميين معروفون بأنهم في حديثهم، وخطاباتهم، يقومون بتنزيل الآيات القرآنية على أنفسهم؟.. هناك نوع من التماهي بينهم وبين الإسلام؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: هم فقط يعبّرون عن فهمهم الخاص للنصوص، وليس احتكاراً لتمثيل الإسلام، ولا يجعلون من أنفسهم ناطقين رسميين باسم الدين، كما أن فهم الآيات ليس حكراً على أحد، فمن حقّ الآخرين تسويق تفسيراتهم، والكلّ يؤخذ بكلامه بقدر ما وافق صحيح النقل، ويردّ إذا خالفه، وليس للإسلاميين عصمة خاصة، ولا هم يدّعون قطعاً أنهم شعب الله المختار.

*  الحوار: هناك حركات تعتبر رأيها ديناً واجب الإلزام، خاصة الجماعات المسلحة، التي تصف نفسها بـ(المجاهدين) وتستند الى آيات (الجهاد) أو (القتال)، وتصف الآخرين بـ(القاعدين)، وتتطور الحالة إلى اتهامهم بـ(الكافرين)، فتستحلّ بذلك دماءهم.. هل هذه مسألة دينية، أم مسألة سياسية ؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: نحن نرى أن هؤلاء مخطئون في فهم الدين، وتحديداً في فهم (الجهاد). فالجهاد ليس مشروع فرد، أو فئة، إنما هو مشروع الدولة نفسها، فلم يؤمر  النبـي بـ(الجهاد) إلا عندما أقام دولة، لذلك لا يكون الجهاد بين طوائف وفئات المجتمع الإسلامي أبداً، وإنما هو موجّه إلى الخارج أبداً، وتقوم به الدولة حصـراً، وليس الجماعات، والأفراد..  وعلينا الرد على القائلين بـ(الجهاد)، ونقول لهم: أنتم جيّرتم الآيات لأجل نزواتكم، فخطاب {قاتلوهم} موجه إلى الدولة، لا إلى فئة، أو أفراد.

* الحوار: القصد من سؤالنا الآنف، هو أنه عندما ينطلق حزب ما من أساس ديني، فإنّه يبيح لنفسه كل شيء، على اعتبار أنه يمثّل قداسة الدين التي يجب أن لا تنتقص؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: هذه ليست أحزاباً، إنما مجموعات عقدية لا تؤمن بالديمقراطية والاختيار، ولا تستطيع التعامل مع الآخرين، ويمكن وصفها بأنها شكل من أشكال الطرق الصوفية الأولى.. وهنا أعيد التاكيد على ضرورة صياغة جديدة لمفهوم (الحزبية)، باعتبار الحزب وسيلة لتسيير الشأن العام، والاستجابة لحاجات المجتمع المتنامية.
* الحوار: وماذا تقولون للجماعات الإسلامية التي تمارس السياسة؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: يجب أن تطوّر من أفكارها، وممارساتها.. نقول لهم: افصلوا (الدعوة) عن (السياسة)، ومارسوا كل وظيفة على حدة، وبأساليبها الخاصة.

*  الحوار: هل إجابتكم هذه بمثابة دعوة للجماعات الإسلامية أن تتحول لأحزاب سياسية ؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: إن كانوا قادرين على ممارسة السياسة، فليتحولوا إلى أحزاب، شريطة الفصل بين وظيفة الدعوة والعمل السياسي. وعليهم أن يمارسوا السياسة بأدوات السياسة ذاتها، أي حيازة السلطة عبر صناديق الاقتراع، والتخلّي عنها، إذا قرّر الشعب نزع الشرعية عنهم، بنفس الوسيلة.. كما أن عليهم تجنّب الهيمنة على الحكم، وعدم الاستفراد به.. فإن رضوا، فأهلاً ومرحباً.

*  الحوار: مجتمعاتنا التي نعيش فيها هي مجتمعات مسلمين، والدول المنبثقة عنها هي دول المسلمين، أي ليست (دولاً إسلامية).. بمعنى آخر أنه لا وجود لـما يسمّى بـ(الدولة الإسلامية)، وإنما هناك دول يقيمها المسلمون.. هل تتفقون مع هذا الطرح ؟
-  الشيخ عبد الفتاح مورو: صحيح هي (دولة المسلمين)، وتحلّ إشكاليات المجتمع الذي تديره، وتحترم الثقافات المتباينة لمكوناتها الإثنية.. هذا هو الأصل.. نحن لو ذهبنا إلى شرق آسيا، تحديداً اليابان، لوجدنا أن هذه الدولة المتقدمة ليس فيها (نظام ديني)، بل (نظام سياسي)، ومع ذلك فهو شديد الاحترام لعقائد الناس، وتوجهاتهم الفكرية، ويراعي الحريات العامة، الى أبعد الحدود.. إننا بحاجة إلى مثل هذا النظام في مجتمعاتنا: يكفل الحريات، ويعلي من شأن الأفراد؛ نظام يقف على مسافة واحدة من الجميع، لا يمارس الانتقائية في التعاطي مع العقائد، وخصوصيات الناس، لا يفرض الدين على الآخرين بالإكراه، إنما يجعل الدين أمراً محترماً في المجتمع.. وهذه من دعاوى العلمانية، وهناك دول علمانية تلتزم بهذه المعايير، وأخرى لا، فمثلاً (فرنسا)، وهي من أوائل الدول العلمانية، يمارس نظامها تضييقاً ممنهجاً ضد المظاهر الإسلامية، إذ يضيق ذرعاً بوجود محجبات.. لكن في النظامين الإنجليزي والألماني نرى العكس تماماً؛ هناك احترام لمعتقدات الناس، مواطنين كانوا أو مهاجرين

* الحوار: الحديث معكم لا يملّ أستاذ عبد الفتاح، أتعبناكم معنا.. نحن نشكرك جزيل الشكر، ونتمنى لكم كل التوفيق.
- الشيخ عبد الفتاح: شكراً لكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق