02‏/01‏/2019

مطارحات فكرية – سياسية حول تجربة الحركات الإسلامية في المرحلة الراهنة


سعد الزيباري
  أوّلُ ما يُطرح في توصيفِ الحركات السياسيّة؛ هو مفهوم السّياسة، وكيفيّة ممارستها، وآليّاتها ووسائلها، وأدواتها وطرائقها، والحق أن هذه الآلياتُ والوسائل قد تختلفُ وتتباينُ من دولةٍ إلى أخرى، ومن حزبٍ إلى آخر، وما نريدُ استحضارَه هنا هو أنّ السّياسة هي من مسائِل الفرُوع الّتي لا بُدّ أنْ تدورَ مع الحقِّ والعدل، وتسهمَ في تحقيقِ مصالِح المجتمع، وتوفير الأمنِ والاستقرار، وتأمين حاجاته الأساسيّة والضروريّة، وتحقيق المقاصِد الكُليّة الّتي أرادها الشّرعُ الحكيمُ وأقرّها العقلُ السّليم؛ وهي حفظُ الدّين، والنّفس، والعَقْل، والنّسل، والمال. وقد بيّن الإمام الغزالي (ت505هـ) هذه المقاصِد الكُليّة الجامِعة؛ بقولِه: "ومقصُود الشّرْعِ مِنَ الخَلْقِ خمسةٌ؛ وهو: أنّ يحفظَ عليهم دينهَم، ونفسَهُم، وعقلَهم، ونسلَهم، ومالَهم"(1). ثمّ قرّرَ بعبارةٍ جامِعةٍ حاسِمة أنّ حِفْظَ الأصُول الخمسة:
"يستحيلُ أنْ لا تشتمِلَ عليهِ مِلّةٌ مِنَ المِلَل، وشريعةٌ مِنَ الشّرائِع الّتي أُريدَ بها إصلاحُ الخَلْق. ولذلِكَ لَمْ تختلِفِ الشّرائِع في تحريمِ الكُفْر، والقَتْل، والزِّنا، والسَّرِقة، وشُرْب المُسْكِر"((2).
فالسّياسةُ - في مفهومِنا - هِيَ "صناعةُ الخير العام" كما كرّسها ابن خلدون (ت808هـ)، وهي "كُلُّ تصرُّفٍ مِنْ وَلي الأمرِ يكونُ النّاسُ معهُ أقربَ إلى الصّلاحِ، وأبعدَ عنِ الفسادِ، وإنْ لم يأتِ به الشّرْعُ" الحكيم. كما عرّفها الإمام ابن عقيل، و"حيثما وُجِدَ العدلُ والحقّ، فثمَّ شرعُ الله ودينه، ولو لم يدُلّ على ذلِكَ نصٌّ صريح مِنْ قُرآنٍ أو سُنّة". ولا شكّ أنّ إقامة العَدْلِ، وتأدية الحقِّ، من مُقتضياتِ بقاءِ الدُّول والحكوماتِ، وتفوّقها. قال الشّيخ ابن تيمية (ت728هـ) في رسالةِ (الحِسْبَة): الجزاءُ في الدُّنيا مُتّفقٌ عليهِ أهل الأرض؛ فإنّ النّاسَ لم يتنازَعُوا في أنَّ عاقبةَ الظّلمِ وخيمةٌ، وعاقبةَ العَدْلِ كريمةٌ. ولهذا يُرْوَى: الله ينصرُ الدّولةَ العادِلة وإنْ كانَتْ كافِرةً، ولا ينصُرُ الدّولةَ الظّالِمة وإنْ كانَتْ مؤمنةً"(3). هذا، وقد أطلق الفقهاءُ على (سياسةِ الحُكم) مُصطلح (السّياسة الشـرعيّة)، وهي تعني "تدبيرُ الشؤون العامّة للدّولة الإسلاميّة بما يكفل تحقيق المصالِح، ورفعِ المضارّ، ممّا لا يتعدّى حدُود الشّريعة". وهي "الأحكامُ الّتي تنظّم أمور الدّولة وتدبّر شؤونها، مع مُراعاةِ أنْ تكون مُتّفقة مع رُوحِ الشّريعة نازلة على أصولِها الكُليّة، مُحقّقة أغراضَها الاجتماعيّة، ولو لم يدلّ عليها شيءٌ من النصُوص التفصيليّة الجزئيّة الوارِدة في الكتاب والسُنّة"(4).
   ومُمارسة العمل السياسيّ الرّشيد؛ هي واجبٌ على كُلِّ فردٍ واعٍ ذي فكرٍ حُرٍّ ومسؤول، يتحرّك في إطار نظامٍ جماعي مُتعدِّد ومُتنوِّع فكريّاً وثقافيّاً، ومُتوافق مُتجانس سياسيّاً، وهُناك سندٌ شرعي لهذا الالتزامِ الحضاريّ؛ ألا وهو: (ما لا يتمّ الواجِب إلا به فهو واجب). فمُناصرة الحقِّ واجب، وكذلك مُناصرة المظلومين، كما أنّ إعانة المصلحين، ومُؤازرة المستضعفين، من الواجباتِ الّتي ينبغي أنّ لا يتخلّف عنها  أحدٌ متى استطاع إلى ذلك سبيلاً. وهُناك استراتيجيّات وآليّاتٌ للعملِ السّياسيّ الفاعِل، ومن الآليّاتِ - الّتي نتصوّرُ نجاعتَها وكفاءتها - المشاركة السّياسيّة الّتي تتمثّل في ذلِكَ النَّشاطِ الّذي "يقومُ به المواطنون بقصدِ التّأثير في عمليّةِ صُنع القرار الحكوميّ، سواء أكان هذا النَّشاط فرديّاً أم جماعيّاً، مُنظّماً أم عفويّاً، مُتواصِلاً أم مُنقطِعاً، فعّالاً أم غير فعّال". والحراك السّياسيّ غالِباً ما يكون اجتماعيّاً؛ لأنّ السّياسةَ - عمليّاً - هي مُمارسةٌ اجتماعيّة لا تتحقّق أغراضها بعيداً عنِ الاجتماع البشريّ. والسياسيُّ النّاجح هو من يعيدُ تواصُلَه مع هذا المجتمع لاستعادةِ وعيه المسلُوب نتيجة الاستعباد السياسيّ والقهر الاقتصاديّ والاسترقاق الاجتماعيّ. ومن آليّاتِ النهوض السياسيّ تجديد الخطاب الإعلاميّ، فالإعلام هو القناة المحرِّكة للأفكار والتوجّهات والميول، وأيّ تجمّع إنسانيّ لا يمتلكُ وعياً حضاريّاً لا بُدّ أن يقعَ ضحيّة الإنتاج الإعلاميّ الّذي يديرُه الحكومات والأحزاب المتنفّذة لمصالحِها الميكافيللية - النفعيّة، ومن طرائِقها أيضاً الاستثمار الاقتصاديّ وتوفير الرّفاه والانتعاش للمواطنين الّذين يرزحُون تحت مطرقة الفَقْر وسِندان الفاقة.
ومن أدواتِها كذلِك التوغّل في عُمْقِ المجتمعِ الإنسانيّ وحمل أثقالِه، والعمل على حلِّ مُشكلاتِه، ومُشاطرة أفراحِه وأتراحِه، وصناعةِ النماذج الرمزيّة الكفوءة الصّالِحة لتوجيه المجتمع، فأكبر نكبةٍ يُعاني منها الشّبابُ المسلِم - بعبارةِ الفيلسوف التونسيّ أبو يعرب المرزوقي - هو أنّهُ لم يعد له نماذج مِنَ الشخصيّاتِ البنّاءة في التاريخ الاقتصاديّ والعسكريّ والثقافيّ والفكريّ والفلسفيّ، والتّاريخ هو المخيالُ الرّمزيّ للجماعة. فلم تعدّ لدينا اليوم نماذجُ رمزيّة فاعِلة على شاكلةِ ابن خلدون، والغزاليّ، وابن رُشد، والفارابي، وابن سينا، وابن حزم، وأبو الحسن الأشعري، وأبو بكر الباقلاني، وفخر الدين الرّازي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، والسيرافيّ، والعز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وغيرهم. وغيابُ الرموز الفاعلة أو المرجعيّات السياسية والفكرية والفلسفية والعلميّة الرّائدة قد أثّر سلباً على بنية المجتمعاتِ العربيّة والإسلاميّة، كما أنّ حالةَ الغيابِ هذه قد تسبّبتْ في بروزِ شخُوصٍ غير مُؤهلين سياسيّاً ولا فكريّاً ولا علميّاً ولا اجتماعيّاً، تسلّقوا المنابر الفاعِلة في المجتمع، وتصدّروا المؤسسات الحيويّة فيها، سياسيّة كانت أو علميّة أو اجتماعيّة، ومن المنطقيّ - تبعاً لهذا البروز - أن يكون الدائرون في فلك هؤلاء، وكذلك المحيطون بهم، أفرادٌ مِمّن يكونون على شاكلتهم، فكراً وسلُوكاً ومُمارسة، فكان هذا – بلا شكّ - عِلّة تراجع المجتمعات العربيّة والإسلاميّة في المهاد الحضاريّ الفاعِل.

  مفهوم الوصول إلى السلطة، وتأييد الحاكم وإعانته على الإصلاح، أو منافسته
    من الموضُوعاتِ المثارة في الفكرِ السياسيّ الإسلاميّ والغربي؛ قضيّة الوصُول إلى السلطة، ومسألة تأييد الحاكِم وإعانته على الإصلاح، أو مُعارضته ومُنافسته.. ليس جديداً أن نقرِّرَ أنّ السُّلطةَ ينبغي أن تكون مَعْبراً واصِلاً لتحقيق مصالِح الإنسان ككُلّ، بجميع طبقاتِه وفئاته وشرائحه، بصَرْف النّظرِ عن دينه ولونه وعِرْقه. فضلاً عن أنّ إشباع أشواقِه الروحيّة، والإسلام - ديناً ودولة - إنما جاء لتحقيق هذه الغاية؛ ألا وهي إخراج النّاس من عبادة العباد (الدكتاتورية) إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا (الانغلاق القومي - التمييز الطائفي) إلى سَعتها (العالميّة المتعاوِنة المتعارِفة المتحاوِرة)، ومن جَوْر الأديان (الإكليروس - النظام الكهنوتي المغلق) إلى عَدْل الإسلام (القِسْط والتّسامُح والتّكريم). وهناك فرقٌ واسِع بين تأييد الحاكم وبين إعانته على الإصلاح، فالتأييدُ مفهومٌ يختلفُ عن مفهوم الإعانة على الإصلاح، ولا بُدّ للمصلحين في كُلِّ بقاعِ الأرض أنْ يبذلُوا ما بوُسعهم من أجلِ تحقيق مبدأ الإصلاح، سواء أكان على الحُكّام أو على الرعيّة. وقد أوجزَ أبو الحسن الندوي - رحمه الله - فلسفتَهُ في دعوةِ الحُكاّم إلى الإصلاحِ، في كلمةٍ مُلهمة، طالما كان يُردِّدها؛ وهي: "نحنُ نريدُ أنْ يَصِلَ الإيمانُ إلى أهلِ الكراسِي، لا أنْ يَصِلَ أهلُ الإيمانِ إلى الكراسِي". فالتكالُب من أجلِ الكراسي شيء، وإصلاح أهل الكراسي شيءٌ آخر مُختلِف تماماً، فالإصلاح يجب أنْ يكون الهدف الأسمى - الأول والأخير - من كُلِّ المساعي السّياسية الّتي يجترحها السّياسيّون، بمختلف أفكارهم ومشاربهم وتوجّهاتهم. والاجتماع الإنساني بحاجةٍ إلى نِظامٍ دستوريّ يخضعُ لمراقبةِ مجلس نيابيّ مُنتَخب شعبيّاً، وإلى حاكمٍ عادِل مُنتخب مِنَ الشّعب في اقتراع عامّ، وحكومةٍ ذات أُصولٍ وقوانينَ مُتّبعة، بعيداً عن الفكرة الّتي خلص إليها الشيخ محمّد عبده، وهي أنّ الشّرقَ لا ينهضُ به إلا (مُستبدّ عادِل)، تلك الفكرة الّتي انتقدَها الأفغانيّ بشِدّة؛ إذ رأى أنّ القائِد يجب أن يكون عادِلاً وقويّاً، وليسَ مُستبدّاً(5).
    وما أروع ما بيّنه في هذا السّياق العلامة ابن خلدون (ت808هـ) في الفصل الخامس والعشرون - في معنى الخلافة والإمامة - بقوله: "لما كانت حقيقةُ الْمُلْك أنّه الاجتماعُ الضرورِيُّ للبَشرِ، ومقتضاهُ التغلّبُ والقَهْرُ اللذان هُما من آثار الغَضِبِ والحيوانيّة، كانتْ أحكامُ صاحبِه - في الغالِب - جائرةٌ عنِ الحقِّ، مُجْحِفَةٌ بمن تحتَ يدِه من الخَلْق في أحوالِ دُنياهم، لحملِه إيّاهُم - في الغالِب - على ما ليسَ في طَوْقِهِمْ من أغراضِه وشهواتِه (...)، فوجَبَ أنْ يُرْجَعَ في ذلِكَ إلى قوانينَ سياسيّةٍ مفرُوضةٍ يُسَلِّمُها الكافّةُ، وينقادُون إلى أحْكامِها، كما كان ذلِكَ للفُرْسِ وغيرِهم مِنَ الأُمم. وإذا خلتِ الدّولةُ مِنْ مثلِ هذه السّياسة لم يَسْتَتِبَّ أمرُها، ولا يَتِمَّ استيلاؤُها(6): [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ](7). وهذا هو مفهوم العقد الاجتماعيّ الّذي كرّسه (جان جاك روسو)، ونظّر له في كتابه، إذ ذهب إلى ضرُورةِ تأسيسِ حكوماتٍ من خلال (عقدٍ) بين الأطرافِ، ينصُّ على توفير المساواة والحماية للجميع بلا استثناء.
   هذا وقد قدّم ابن خلدون أيضاً - في هذا المساقِ - ما يُمثِّل تمييزاً يحتاج مِنّا إلى تأمّل وتبصُّر، إذ يقُول: "فإذا كانَتْ هذهِ القَوانينُ مَفْروضَةً مِنَ العُقَلاءِ وأكابِر الدّولة وبُصَـرائِها، كانَتْ سياسةً عقليّةً، وإذا كانَتْ مَفْروضَةً مِنَ الله، بشارع يُقَرِّرُها، ويُشَـرِّعُهَا، كانَتْ سياسَةً دينيّةً نافِعَةً في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرة". وأكّد "أنَّ الْمُلْكَ الطبيعيَّ هُوَ حَمْلُ الكافّةِ على مُقْتَضَى الغَرَضِ والشَّهْوة، والسِّياسِيَّ هُوَ حَمْلُ الكافّة على مُقْتَضـَى النّظرِ العقليّ في جَلْبِ المصالِح الدُّنْيَويّة ودَفْعِ المَضَارِّ، والخِلافة هِيَ حَمْلُ الكافّةِ على مُقْتَضـَى النّظرِ الشـرعيِّ في مصالِحهم الأُخروِيّة والدُّنْيَويّة الراجعةِ إليها"(8). وبناءً على ذلِك فإنّه لا ضيرَ من مُناصرةِ الحكوماتِ السّياسيّة الّتي تعملُ على مُقتضـى النّظرِ العقليِّ، وتسعى إلى جلب المصالح ودفعِ المضارِّ، وإقامةِ الحكومات ليست غاية، وإنما هي غاية لغيرِها، وهي إحقاق الحقِّ ومُناصرتِه، وتجسيد العدالةِ وتكريسها، فمتى وُجِدت العدالة وُجِد الحكم الصّالِح، ومتى انتقضتِ العدالةُ، انتفى الحكمُ الرّشيد، حتّى وإن كانت دولةً إسلاميّة، فالرّشدُ والصّلاح قائمانِ على العدالة. ومن هُنا، فتحقيق العدالة هو الشّـرطُ الحقيقي لصلاحِ الحكُوماتِ، مهما كانت أسماؤها، أو توصيفاتها. فجوهر العمليّة السياسيّة يجب أن يكون نابعاً من قيم الحقِّ والعدالِة، الّتي دَعَتْ إليها المبادئ السّماوية والقوانين الوضعيّة، وإن كانت الأخيرة لا تجسِّدُها حقيقةً في أرض الواقِع. هذا، "والعدلُ في الإسلامِ غايةٌ في الدّولة، فهو إقامةٌ للدّين، وتحقيقٌ لمصالحِ المحكومين". فـ"الغايةُ في نظامِ الحكُومةِ الإسلاميّة وتحقّقها هي شرطٌ لقيامِ هذهِ الحكومة، وهي كذلِك شرطٌ لدوام استحقاقِ الحكومة في الدّولةِ الإسلاميّة وصفَ الشرعيّة، أو بتعبير الفِقْه الإسلاميّ شرطَ بقاء". فصِحّةُ بقائِها في السُّلطة مرهُون بمدى التزامِها بمبادئ العدالة وتكريسِها وتحقيقِها بين رعيّتها من المحكومين، ومن هُنا يأتي مبدأ (مساءلةِ الحاكِم). فمن مقتضياتِ العدالةِ السّياسيّة أيضاً استجوابُ الحاكِم ومساءلتُه؛ لأنّ الأُمّةَ هي الّتي تتواضعُ على اختيارِ الحاكِم، الّذي ينهضُ بحكم منصبه على إقامةِ أحكامِ الشّرع أو القانون ورعايةِ مصالحها. والحاكِمُ وإن كان الشّخص الاعتباريّ الأوّل في الدّولة؛ فإنّه لا يعدُو - في المحصِّلةِ النهائيّة - كأحدِ أفرادِها الّذين تواضُعوا على اختيارهِ، أو تعاقدُوا على بيعتِه بأكثريّة أصواتِهم. وأنّ السّلطة تكليفٌ وليسَ تشـريفاً، وللأمّة حقُّ مُساءلة الحاكم، "بل وحقّ عزلِه عند المقتضى، وبذلِك يكونُ الإسلام قد سبق القوانين والدّساتير الوضعيّة في تقريرِ مبدأِ (السُّلطة بالمسؤوليّة)".

مفهوم الإصلاح السّياسي، ومسألة فساد السلطة الظالمة
     تثار إشكاليّاتٌ حول مفهُوم السلطة، وهل هو يعني عمليّة ترقيع وترميم مُستمرّة للحكم، وكذلك حول مفهوم الخوف من (الفتنة) المعرُوف في التراث الإسلاميّ، وكيف نواجه فساد السلطة الظالِمة، وهل من الحكمة والسياسة التوسّل إلى استعمال القوّة في تحقيق هذا الغرض؟!
 لا جَرَمَ أنّ الإصلاح هو المهمّة الّتي تكفّل بحملها الأنبياءُ والرّسل - عليهم السّلام - وأتباعهم على مرِّ الزمان، وكان شعارُهم الّذي يُعبِّرُ عن جوهرِ رسالتهم؛ هو قوله تعالى في كتابه العزيز: [إِنْ أُرِيدُ إلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلا بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ](9). وقد قاد الأنبياء والفلاسفة والمصلحون، منذ فجرِ التّاريخ، ثوراتٍ إصلاحيّةً سلميّة، كان هدفُها انتشال الإنسان من وهدةِ التخلّف، وأسوار الجهل، وأوحالِ العبوديّة، إلى ضفافِ العلم والحُريّة والمساواة الحقيقيّة. ولا نريدُ هنا أن نعرّج إلى التاريخ لاستحضارِ تجارِب رُوّاد الثوراتِ الإصلاحيّة، الّتي قادها المصلحون من المسلمين وغيرهم، ولسنا هنا بحاجةٍ إلى أن نذكِّر بتجارب حركات الإحياء الديني والإصلاح السّياسيّ، التّي انطلقت بعضها منذ أواخر القرن الثامن عشر، واستمرّت على مدى قرنين أو أكثر بريادةِ (جمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبـي، ومحمّد عبده، ومحمّد رشيد رضا، وشكيب أرسلان، وحسن البنّا، وسيد قطب، وعلال الفاسي، وعبدالحميد بن باديس، ومالك بن نبي، وسعيد النورسي، والطاهر بن عاشور،) مِمّن قدّموا رؤى إصلاحية حظيت بتقدير المسلمين وغيرهم. وقد تلخّصت تلك التجارِب الإصلاحيّة - على وجه العمُوم - حول مسألة العودة إلى الأصول الثابتة في الإسلام: قرآناً وسُنّة. كما لا نعيدُ إلى الأذهان حركة الإصلاح الديني الّتي انطلقت في أوروبا في عام 1517م، بقيادةِ الألمانيّ (مارتن لوثر)، تلك الحركة الّتي "قامت على تحجيم سطوة (القانون الكَنَسي)، ووضعتْ حدَّاً لهيمنة رجالِ الدّين الّذين أساءوا استخدام الدّين، وتفسيره، على حسب تأويلاتِهم، البعيدة عن رُوح الدّين وجوهرِه.
    هذا، وقد شهد العالم العربيّ والإسلاميّ، تحوّلات كُبرى، بدأتْ بالحَراك السياسيّ – الإصلاحيّ، الّذي قاده جمال الدّين الأفغانيّ في النصف الثاني من القرن العشرين، الّذي كان يرى ضرورة إحياء الفكر الإسلاميّ بالعودة إلى القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، ومناهج السّلف. وإحياءُ الفكر هو تقويمٌ للقائِم، وتطويرٌ له، وحفزٌ للعطاءِ بينَ جوانحِه، وتكييفٌ له، وَفْقاً لِما يستجدّ مِنْ مُعطيات(10). وقد خلّفه الشيخ محمّد عبده في المسير الإصلاحيّ، إلا أنّ إسهاماتِه الفعليّة قد تركّزت في مجالِ الإصلاحِ الدينيّ، بينما تركّزت جهود الأفغاني في الإصلاحِ السّياسيّ. وكان الشّيخ عبده يرى ضرورة تجديد الفقه الإسلاميّ، وتقديم رؤية جديدة في موضوع التوحيد تتجاوزُ الأدبيّات السّابقة الحافلة بالخلافاتِ بين الفرق والمذاهِب الإسلاميّة. وقد بيَّن محمّد عبده أنّ مفهوم (الإصلاح الدينيّ) عندَه يتمثّلُ في "تحريرِ الفكرِ من قيدِ التّقليد، وفهمِ الدّينِ على طريقةِ سلفِ هذهِ الأُمّة، قبلَ ظهُورِ الخِلاف، والرّجُوع في كَسْبِ معارِفِه إلى منابعِه الأُولى، واعتبارِه ضمن موازين العقل البشريّ الّتي وضعها الله جلّ وعلا"(11).
وقد تصدّر محمّد رشيد رضا - بعد الشيخ محمّد عبده - ريادة العملِ الإصلاحيّ، وكان يذكرُ أنّهُ الوريثُ الفكريّ لـ(عبده)، وأنّه كان لـ(عبده) كالمريدِ الصوفيّ لشيخِه(12). وعلى الرّغمِ مِنَ أنّ (رضا) لم يعتبر نفسَه تلميذاً مُباشِراً للأفغانيّ؛ إلاّ أنّه كثيراً ما كان يمتدح الأفغانيّ واصِفاً إيّاه بـ"حكيم الشّرق ومُوقِظه"، كما فضّله ضمنيّاً على مُعلِّمه المباشِر (محمّد عبده)، فلقَّب الأفغانيّ بـ(المعلِّم الأوّل)، ولقّب عبده بـ(المعلِّم الثاني)(13). وقد سعى الشيخ رضا إلى الجمع بين الآراء الإصلاحيّة لأستاذَيْهِ (الأفغاني)، و(عبده)، أي: العمل في سبيل الإصلاح الدينيّ والتربويّ على نهجِ الإمام (محمّد عبده)، والجهاد في سبيلِ الإصلاح السياسيّ على نهج الأفغانيّ(14).
     ولا ننسى هنا أن نؤكّد أنّ "الظرُوف التاريخيّة والسياسيّة الّتي جاءتْ في سياقِها مقاربة عبده ورشيد رضا، كانتْ عامِلاً رئيساً في تفسيرِ رؤيتِهما للإصلاح الإسلاميّ... تلك اللحظةُ التاريخيّة، دفعت بالرّجلينِ، وهُما من خلفيّة علميّة ودينيّة، وليستْ حزبيّة سياسيّة، بدرجة أولى، إلى التساؤُل عن سِرّ (التخلّف الإسلاميّ)، و(التقدّم الغربيّ)، ووصلا إلى نتيجةٍ رئيسةٍ مفادُها أنّ الأوضاع السياسيّة، وإنْ وصلتْ إلى مرحلةٍ مُتردّية  من الاستبدادِ والفساد، إلا أنّ الإصلاحَ يأتي من خلالِ عمليّة تأهيلِ المجتمعاتِ والأمّة الإسلاميّة، قبلَ الحديثِ عن حكُومةٍ دستوريّة، وعن الشُّورى، أو حتّى عن خرُوج الاستعمار. ومن هنا جاءت مقولة عبده المدويّة "إنّما ينهضُ بالشّـرقِ مُستبِدٌّ عادِل". يُلخِّص الفكرة السّابقة الإمام محمّد عبده في جوابٍ أرسلَه إلى المجلّة العثمانيّة، حين طرحَتْ تساؤلاً: أيُّ الأمرينِ خيرٌ؛ منحُ الحُريّة للشرقيِّينَ قبلَ أنْ يستحِقّوها، أم إعدادُهم لها قبلَ أنْ ينالُوها؟ ووضعتِ المجلّة عنوان رِسالةِ محمّد عبده بـ(إنّما ينهضُ بالشّرقِ مُستبِدٌّ عادِل)، حيثُ يقول في ردِّه: "هل يعدمُ الشّرقُ كُلّه مُستبِدّاً مِنْ أهلِه، عادِلاً في قومِه، يتمكّنُ في العدلِ أنْ يصنعَ في خمسِ عشرة سنة ما لا يصنعُه العقلُ وحدَهُ في خمسةِ عشـر قرناً"(15).
ولعلّ الفكرةَ السّابِقة هي ذاتُها تتردّدُ لدى رشيد رضا في مقالِه (الإصلاح والإسعاد على قَدْرِ الاستعداد)؛ فهو إذ يربطُ وصُولَ الأُمّة إلى مرحلةِ الدستوريّة والشُّورى، فإنّهُ في حالِ عدمِ استعدادِ الأُمّة لذلِكَ، وحاجتِها إلى مرحلةٍ تمهيديّة تسبقها، تُؤهِّلُها لمرحلةِ الإصلاحِ السّياسيّ؛ فإنّهُ لا مانِعَ مِنَ التّسليمِ بوجُودِ القائِد الدّاعِي للإصلاحِ، "الّذي يسوقُ النّاسَ إلى النّهضةِ والعلياءِ سَوْقاً"، لكونِه يحكمُ أُمّة خامِلة، ورعية جاهِلة، فيحمِلُها بالقَهْرِ والإلزام على ما يطلب ويُرام، فإنْ عجزَ عن تغييرِ سرائِرِ النّاسِ فلا يعجزُ عن تغييرِ ظواهِرِهم(16).
والملاحظة الّتي يمكن رصدُها من موقفِ المصلحينِ، هي أنّ مفهُومَ (الحاكِم المستبِدّ العادِل)، ورُبّما العبارة الأدقّ هي (المستبِدّ المصلِح)، ليسَ مطلباً دائِماً، بل هو (مطلبٌ وظيفيّ) لمرحلةٍ تاريخيّة مُعيّنة، يسهم من خلالِها الحاكِم برفعِ درجةِ استعدادِ الأُمّة، أو المجتمع، وقُدرتِه على تولِّي شؤونِه السياسيّة مُباشرةً، بعدَ أنْ تنتشـِرَ المعارِف والأعمال الاجتماعيّة، وتكون الأُمّة مُؤهّلة لهذه المرحلة(17).
     ومن الجماعاتِ الّتي مثّلت امتداداً لدعوةِ الشيخ محمّد رشيد رضا، جماعة الإخوان المسلمين، تلك الدّعوة الّتي تركَتْ أثراً واضِحاً في فكرِ مؤسِّسها الإمام حسن البنّا، بل أثّرت أيضاً في البرنامج السياسيّ للجماعة. وكان الإمام البنّا حريصاً على نشـرِ أفكارِ الشيخ رضا، بعد وفاتِه، واستمرّ في نشرِ مجلّة (المنار) حتى عام 1940م. ومع ذلك كان للإمام البنّا خطّه الإصلاحيّ الواضِح، على الرغم من إفادته من المدارِس الإصلاحيّة السّابقة، إذ جمع بين الإصلاح الدينيّ والإصلاح السياسيّ، وكان له برنامج عمل سياسي مُنظّم. وقد نصّتِ الجماعةُ في قانونِها الأساسيّ الّذي أقرّ في عام 1948م "أنّ الإخوان المسلمين هيئةٌ إسلاميّةٌ جامِعة، تعملُ لتحقيقِ الأغراضِ الّتي جاء بها الإسلام، وما يتّصِلُ بهذه الأغراض: شرحُ دعوةِ القرآنِ الكريم، وعرضها وَفْق رُوحِ العصـر، وجمع القلُوب والنّفُوس على المبادئ القرآنيّة، وتقريب وجهات النّظر بين الفِرَق الإسلاميّة المختلِفة، وتنمية الثروة القوميّة وحمايتها وتحريرها، والعمل على رفع مُستوى المعيشة، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، والتّأمين الاجتماعيّ لكُلِّ مواطِن، والمساهمة في الخدمةِ الشعبيّة، ومُكافحة الجهل والفقر والمرض والرذيلة، وتشجيع أعمال البِرِّ والخير، وقيام الدّولة الصّالِحة، ومُناصرة التّعاوُن العالميّ، والمشاركة في بناء السّلام والحضارة الإنسانيّة"(18). وهذه الأهداف الّتي نصّت عليها هذه الجماعة تتضمّن جُلّ مقاصِد الإصلاح السياسيّ، فهذه الجماعة الإصلاحيّة قد ناضلت لنصف قرنٍ من الزّمان لنشـر الإسلام الصّحيح في قلب حركة المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، ولتحقيق الصّالح العام، إلا أنّ حملات الملاحقة والمطاردة والاضطهاد، وعمليّات التّشويه والتّضليل، فضلاً عن استخدام القمع والتعذيب، وتزييفِ الإرادة الشعبيّة، وتكميم الأفواه، لم تسعف هذه الجماعة كي تحقِّق أغراضها ومقاصدها الغائيّة. والحق أنّ الأفكارَ لا تصنعُ أنموذجاً في الهواء، بل على الأرض، وصناعة الأنموذج على الأرض عمليّةٌ اجتهاديّة لا تتأتّى إلا بالخرُوج إليها، والعمل عليها واقِعاً(19). ولم يكن الإمام البنّا يرى في جماعةِ الإخوان حزباً سياسيّاً يسعى للحكم، ولكنّه يسعى إلى إصلاحِ المؤسّسات، وتغيير الأوضاع القائِمة، وكان يبحث عن حلُولٍ جديدة لمسائل وقضايا مُستجدّة، آخِذاً مِنَ التراثِ ما هو نافِعٌ ومُفيد، ويقتبِسُ مِنَ المدنيّة الحديثة ما يتساوقُ مع مبادئِ الإسلامِ ومقاصدِه.
    والمعرُوف أنّ "الإصلاحَ هي عمليّةٌ حضاريّة لا بُدّ من الدّخُولِ في غِمارِها من أجلِ تغييرِ الواقِع الرّاهِن نحو الأفضل، فهو الطّريقُ الموصُول إلى مستقبلٍ واعِد، حيث يتمّ فيه الانفتاحُ السّياسيّ، وتسودُ فيه قِيَم العدالة والمساواة والحُريّة، واحترامِ حقُوق الإنسان، وترتفعُ فيه مُستويات المعيشة، وتنخفِضُ نِسَبُ الفَقْر والبطالة، والأميّة والفساد، والاستبداد والطّغيان. وعليه، فإنّ الإصلاح هي حاجةٌ إنسانيّة مُلِحّة لا مهرب منها، ولا مصلحةَ من تجاهُلِها أو تأجيلِها"(20). فالمشكلاتُ السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تعاني منها المجتمعات العربيّة والإسلاميّة - وما زالت - سببها المباشر هو الفساد الإداري الّذي توغلّ طفيليّاً في جميع مؤسسات الدّولة، ومفاصلها الحيويّة. ومن هنا يغدو الإصلاح حاجة حضاريّة لا بُدّ من الشروع به بما يضمن تحقيق الصّالح العام. والإصلاحُ السياسيّ يعني "الانتقال بالمعادلة السياسيّة نحو توسيع مساحةِ المشاركة السياسيّة في صنع القرار، والاتِّجاه نحو الحُكْم الرّشيد، وتعزيز أدوار المؤسّسات الدستوريّة الرّئيسة في الحُكْم، وتعزيزِ حالةِ الحُريّات العامّة، وحقُوق الإنسان، والمساءلة والرّقابة، والنّزاهة في المال العامّ وغيرِها"(21).
       وما نريدُ أن نركِّز عليه هنا هو أنّ الإصلاحَ الفكريّ ينبغي أن يكون مقدّماً على الإصلاح السّياسي، فهو بمثابة النتيجة لذلك الإصلاح المعرفيّ، وأنَّ عرض الإسلام من جديد، انطلاقاً من القرآن والسُنّة يعدّ الخطوة الحاسمة في تاريخ المسلمين. وهذا لا يعني إزاحة الإرث الفكريّ والثقافي الّذي تشكّل منذ قرون ولحدِّ الآن، ولكن هناك العديد من المدوّناتِ التاريخيّة الّتي - رُبّما - أثقلت التراث بتفسيراتٍ قد تكون بعيدةً عن جوهرِ الإسلام الصّحيح، أو لا تتوافقُ مع مُقتضياتِ العصرِ الحديثِ، ومُستجدّاتِه. إنّ الكثير من فصول التاريخ الإسلاميّ يعبّر عن تجارِب إنسانيّة قد يكون معها الحق وقد يكون معها الباطِل، ولا يجوزُ حملها على الإسلام، فالإسلام بوصفه ديناً ومنهجاً للحياة هو شيء، وتطبيقه هو شيءٌ آخر، فالتطبيقُ قد ينأى أحياناً عن جوهرِ الإسلامِ الحقيقيّ، نتيجة تفسيراتٍ وتأويلاتٍ فرديّة أو جماعيّة، قد تعبِّر عن المحيطِ الّذي تشكّلت فيها أكثر مِمّا تعبِّر عن روح الإسلام وأصالتِه. فالإصلاحُ الحقيقيُّ هو الّذي يتناول مُجمل حياة الإنسان والمجتمع سواء بسواء، وخاصّةً إذا عرفنا أنّ الخلافاتِ بينَ النّاس هي حالةٌ طبيعيّة، وأن المجتمعاتِ الإنسانيّةَ لا بُدّ أن تتعرّض، نتيجةً لتنكّبها عن منهج الله، إلى موجاتٍ كاسِحة من الفسادِ والإفساد، بعد أن يضيعَ الإنسان/ المجتمع، في لُجّة الحياة الصّاخبة، بوصلته الهادية الّتي توجِّه شراع قواربه نحو شواطئ الأمان. والإصلاحُ كُلّما ضاقت دائرته سهل إجراؤه، وكُلّما توسّعت دائرته تعسَّرَ إعمالُه، وأنّ الإصلاح الحقيقيّ يبدأ بالإنسانِ الفرد، فصلاحُ المجتمع يبدأُ من صلاح الفرد وإصلاحه..
 والإصلاحُ عند مالك بن نبي؛ يبدأُ من إعادةِ تأهيلِ الإنسان، فهو في منظُورِه الحجرُ الأساس في بنية الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ. فالرّكيزةُ الأساسيّة في المشرُوع الإصلاحيّ هي الإنسان. ومن هُنا فإنّ الحاجةَ الحضاريّةَ تقتضِي "إصلاح ما تعانيه هذه الشخصيّة من جوانِب فكريّة سلبيّة؛ لأنّه إذا استقامتْ رُؤية هذا الإنسان الكونيّة الحضاريّة، وإذا استقام منهج فكرِه وثقافتِه، وصحّت أساليبُ تربيتِه على أساسٍ متين من العلم وطلب السّنن الإلهيّة؛ برُوح الحقِّ والعدل، وبرُوحِ الحُبِّ والبذل، وبأداء الجدِّ والإتقان، المبرَّأ من آفاتِ الجهلِ والكبر، ومن آفاتِ الخُرافةِ والدّجل، وسُوء الفهم، عندَها فقط تكونُ الأُمّة على جادةِ الصّلاحِ والإصلاح، وعندَها فقط يُرجى لجهُودِ الإصلاح النّجاح في استنهاضِ الأُمّة"(22). "والحركةُ الإصلاحيَّة عليها أنْ تُركِّزَ على إعادةِ صياغةِ النفس الإنسانيَّة بالإسلام كمنهجِ الرسول - صلّى الله عليه وسلّم - الّذي بدأ به في مكّة؛ لأنه عندما يُعَاد صياغة الإنسان بالأصول الإسلاميَّة، تأتي الفروع، وتأتي السياسة، وغيرها، فأولويَّة الأصُول لا بُدَّ أن تَسْبِقَ الفرُوع، وأولويَّة الأُمَّة لا بُدَّ أن تَسْبِقَ الدولة، وهذا واضِحٌ في فكرِ الحركةِ الإصلاحيَّة وضُوحاً شديداً".
   هذا، "وعلى امتدادِ المرحلةِ المكّيّة استطاع رسُول الله – صلّى الله عليه وسلّم – إعادة صياغة الإنسان، بإقامةِ الأصُول، وتجسيدِها في القِلّة المؤمِنة، إذ تقدّمتِ (الدّعوة) على (الدّولة)، وتقدّم تغيير (النّفس) على تغييرِ (الواقِع)؛ ولذلِكَ كان التّغييرُ منطقيّاً وحقيقيّاً وراسِخاً كُلّ الرّسُوخ"(23). فعمليّة الإصلاح الشّامِلة تبدأ بتدشين الإيمان الّذي يُعيد صياغة الإنسان صياغة قرآنية، ثمّ يمتدّ آثارُه بعدَ ذلِك إلى الفروع سواء أكانت سياساتٍ أو اجتماعيّاتٍ أو اقتصاديّات. وهناك فرقٌ بينَ الإصلاح وبين الثورة، فالثورة – في الغالِب – تسلُك سُبُلَ العنفِ والفجائيّة والسُّرعة في التّغيير، بينما يتمّ التّغيير الإصلاحيّ بالتدرُّج، وكثيراً ما تُعطي الثورةُ أولويّة لتغييرِ الواقِع، بينما تبدأ مناهِج الإصلاحِ بتغييرِ الإنسان، وإعادة صياغةِ نفسِه صياغة قُرآنيّة، وبعدَ ذلِكَ ينهضُ هذا الإنسانُ بتغييرِ الواقِع، وإقامةِ الأنموذج الإصلاحيّ الجديد(24).
      وما يتعلّق بمفهوم الخوف من (الفتنة)، المشهور في التراث الإسلاميّ، فهو لا يمتّ إلى الإسلام بشيء، فالإسلام لا يرضى بالظلم والجَوْر مهما كان مصدرُه، فهو يُربِّي الإنسان على فضيلة الحُرية، ورفض كُلِّ أشكالِ العبوديّة، الّتي لا تليقُ بإنسانيّة الإنسان، وكرامته؛ الّتي شدّد بها الوصيّة، قال تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ](25). "والإسلامُ من منطلقِ تكريمِ بني آدم، عَمِلَ على تحريرِ الإنسانِ مِنَ الرّق. ليسَ هذا فحسب، بل كان أوّلَ نِظامٍ يمنحُ الإنسان - بصرفِ النّظرِ عن جِنْسه ولونِه ومُعتقدِه - ما يُمكن أنْ نُسمِّيه (الحُريّة الشّامِلة). ولا يعني هذا الحُريّة المنطلِقة المتسيِّبة بلا ضوابط ولا قيود، فتلك هي الفوضويّة بعينِها، ولكنّ المقصُود بالحُريّة الشّامِلة تلك الّتي تتناولُ كُلَّ جوانِب الحياة، وتمكّن الإنسانَ من العيشِ والمعايشةِ بإرادتِه، دون أنْ يكون مقهُوراً أو مظلُوماً، أو واقِعاً تحتَ ضغطٍ غير مشرُوع".
   هذا، "وقد كفل الإسلامُ للإنسانِ حُريّة التّفكير، وحرّر العقلَ الإنسانيّ مِنَ الأوهامِ والخُرافات، والوقُوع في أسر التّقليدِ الأعمى... والإسلامُ يُقرِّرُ للإنسانِ أنْ يُفكِّرَ فيما شاءَ كما يشاءُ وهو آمن مِنَ التعرُّضِ للعقاب على هذا التّفكير، ولو فكّر في إتيانِ أعمالٍ تُحرِّمُها الشّريعة. والعِلّةُ في ذلِكَ أنّ الشّريعةَ لا تُعاقِبُ الإنسانَ على أحاديثِ نفسِه، ولا تؤاخِذُه على ما يُفكِّر فيهِ مِنْ قولٍ أو فعلٍ مُحرّم، وإنّما تُؤاخِذه على ما أتاه مِنْ قولٍ أو فعلٍ مُحرّم، وذلِكَ معنى قولِ الرّسُولِ - صلّى الله عليه وسلّم -: (إنّ الله تجاوزَ لأمّتي عمّا وَسْوَسَتْ أو حدَّثَتْ به أنفُسَها، ما لَمْ تعملْ بهِ أو تتكلّم).
    وفي التجرِبة الإسلاميّة يتجلّى لنا الإمام عمر الفارُوق، الّذي لخّص مفهوم الحُريّة في مقولةٍ جامعة "متى استعبدتم النَّاسَ وقد ولدتهم أُمَّهاتهم أحراراً". هذه المقولة أصبحت بمثابة الرمزِ أو الأيقونة الّتي أوجزت فلسفة الحريّة في الإسلام، ذلك الدّين الّذي ينتصِـرُ دائماً للضّعيف - إذا كان على حق - على حسابِ القويّ. فنجلُ عمرو بن العاص "تصـرّف بمنطقِ (ابن الحاكِم)، وهي صُورةٌ تقليديّة ترمز إلى ما يفعلُه أبناء الملوك بحقِّ أبناء الشعب من استعبادٍ وتمييز. هذا، "وقد تحوّلت كلمتُه المدويّة إلى مفتاحٍ لكُلِّ المنظّماتِ الّتي تعنى بحقُوقِ الإنسان، وما زال التاريخُ يذكرُ أنّ الثورةَ الفرنسيّة لما قامت احتجاجاً على ظُلمِ الملُوكِ وقسوتهم، قرأ خطيب الثورة الفرنسيّة (لافاييه) البيان الأوّل للثورة، وقد جاءَ فيه: "يُولَد الرّجُل حُرّاً، ولا يجوزُ استعبادُه". وقد وقف الثائِر أحمد عرابي فى وجه الخديوي توفيق، وقال له: "لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً، ولن نستعبد بعد اليوم"، وهذه جملةٌ مُوازية لما قاله ابنُ الخطّاب - رضي الله عنه -.
     أمّا مواجهة فساد السلطة الظالمة، باستعمال القوة والأخذ على اليد، فلا تُعطي نتيجةً إيجابيّة أبداً، والتاريخ الحديث والمعاصر يُعلِّمنا أن مواجهة العنف بالعنف لا يأتي بخير، وأنّ الإصلاح يجب أن يكون جوهر الحركات الوسطيّة، وروح الإصلاح يتلخّص في التسامح حتّى مع المعارضين، والمختلفين معك في الفكر والتصوّر والسلوك، فالمصلِح الحقيقيّ ليسَ عدّواً لأحد، بل هو يريدُ الخير للجميع أيّاً كان وأيّاً كانت توجّهاته، فهو لا يريد أن يُوزِّع على النّاس صكوك الغُفْران ولا وثائق الحِرْمان، فهو يريدُ الخير والمحبّة والسّلام للنّاس أجمعين نزولاً على مبادئ الإسلام، وقيمه السّامية السّمحة، الّتي تحثُّ الإنسان على فعل الخير والإحسان مع أيٍّ كان..

مفهوم المعارضة في التراث الإسلامي والفكر الغربي المعاصر
   من المطارحات المهمّة في المشهد السياسيّ الرّاهن إشكاليّة المعارضة في التراث الإسلامي، وفي الفكر الغربيّ المعاصِر. ولا جَرَمَ أنّ الأدبيّاتِ السياسيّةَ قد أشبعت هذه القضيّة درساً ومُعالجة، ونحنُ لن نعيدَ هنا ما هو مُتاح في المظان السياسية المتعلِّقة بهذه المسألة الحيويّة في المجتمعاتِ الديمقراطيّة الفاعِلة، ويكفي لنا أنّ نذكِّر أنّ الفكر الإسلامي السياسي، والغاية الإصلاحيّة للحركاتِ الإسلامية، قد تفرضُ مفهوماً مُغايراً للمعارضة عمّا هو معمولٌ به في السياق الغربيّ المعاصر، وقد يكون من المكرُور المعاد أنّ نقول: إنّ حقّ المعارضةُ يشملُ ما اصطلح عليه بـ(الحقُوق السّياسيّة)، الّتي تتلخّصُ في حُريّة الفكرِ والرأي، وحُريّة الاجتماع، وتكوينِ الأحزاب، وحُريّة الصحافة والإعلام، وهذِه الحقُوق السّياسيّة تتفرّعُ مِنْ أصلٍ واحِد هو الحقُوق والحُريّات العامّة الّتي يجب أنْ تكون مكفولةً في النِّظامِ الديمقراطيّ(26). والمعارضةُ المدنيّة إنما تتجسّدُ في ممارسةِ الأحزابِ السياسيّة لعملٍ سياسي محدّد ضمن برامج وأهداف تسعى لتحقيقها في قلب حركةِ المجتمع. والمعارضة قد تكون مشرُوعةً وغير مشروعةٍ، والمشرُوعة هي "تلكَ الّتي لا تخرجُ - في وسائلِها وأهدافِها - عن منطقِ الدّين والعقلِ والمصلحة العامّة، بمنأى عن الأثرة والهوى والمنافِع الذاتيّة، أمّا المعارضة غير المشرُوعة؛ فتتلخّصُ في المعارضة لأجلِ المعارضة، وتقومُ على أساسِ غرضٍ شخصيّ خاصّ، يحرُصُ صاحبه على تحقيقِه، ولو ترتّب عليه التّضحية بمصلحةٍ عامّة"(27).
ومن هنا، وجب أن تكون المعارضة مدنية سلميّة عقلانيّة بعيدةً عن التهوّر الشخصـيّ والعنفِ والعُدوان، لأنّ المعارضةَ - في النهاية - لها أغراض ومقاصِد إصلاحيّة، فليس الهدفُ منها العنف والتّخريب والتمرّد على القوانين والأنظمة، والتسيُّب والانفلات، كما قد يراها البعضُ خاطِئاً. فالعنفُ لا يولّد إلا العنف، وتخريبُ المؤسساتِ إضرارٌ بمصلحة الشّعب والوطن أوّلاً، فالّذي يحبُّ وطنه، ويُقدِّر أهله، لن يقدم على تصـرُّفاتٍ وممارساتٍ تشوِّه من جمالِ المعارضة السلميّة الإيجابيّة، تلك المعارضة الحقيقيّة الّتي تحقِّقُ أهدافاً أكثر وتجلب منافع أكثر، و(دفع المضرّة أولى من جلب المصلحة)، كما يقولُ الأصوليُّون.
    والمعارضة في المفهوم الغربي هي نقيضُ الموالاة، وتتمثلُ في الأحزابِ والهيئاتِ الّتي تراقِبُ أداءَ الحكومةَ، وتنتقِدُها، وتستعِدُّ للحلُولِ محلّها. ويتجلّى أداؤها - في الأنظمةِ الديمقراطيّة - في مُعارضةِ الحكومةِ ونِظامِها السياسيّ، ونقدِ الممارساتِ الّتي تتعارضُ مع القوانين واللوائح والأنظمة المنصُوص عليها في الدّستور. فالمعارضُة – باختصار - تتمثّلُ في عدم الموافقة على سياسةِ الحكومة، وهي نشاطٌ، سلبـيّ أو إيجابيّ، يستهدِفُ تعديلَ سياسةِ الحكومةِ، أو الإحلال محلّها(28).
 ومفهُوم المعارضة السياسيّة ينقسِمُ إلى قسمين أساسيِّين؛ هُما: المفاهيم الشمُوليّة، والمفاهيم المحدّدة. فالمفاهيم الشمُوليّة هي تلك المفاهيم التي تعدّ من المعارضة كُلّ الأحزاب والحركات والقوى، الّتي تعارِض السلطة الحاكمة. وشموليّة هذه المفاهيم تكمُن في أنّها لا تفرق بين معارضة في إطارٍ مُؤسّسي (حزب أو منظّمة)، أو مُعارضة داخل الفضاء النيابيّ، أو خارجه. أمّا المفاهيم المحدّدة؛ فهي تلك المفاهيم الّتي تعدُّ الأكثرَ انتشاراً في الكتاباتِ الدستُوريّة، بل والأكثرَ شيُوعاً في المجالِ التطبيقيّ. فالمفاهيم المحدّدة هي تلكَ المفاهيم الّتي تعدُّ معارضة كُلّ الأحزاب والقوى الّتي تعارِضُ السّلطة السياسيّة في النِّظامِ التمثيليّ، والّتي لا تنتمي إلى الأغلبيّة البرلمانيّة، أو الائتلاف الحاكِم. وبهذا صارَ مفهُوم المعارضةِ ينصرِفُ إلى المعارضةِ البرلمانيّة(29).
وهذه المفاهيم للمعارضة تتواءم مع حراكِ المجتمعات المعاصرة، وتتوافق مع الأنظمةِ الديمقراطيّة.
 ومفهوم الفكر الإسلامي السياسيّ للمعارضة قد لا يختلفُ كثيراً في جوهره عن مفهومِ المعارضة المعاصرة، لأنّ مبدأ الأمر بالمعرُوف والنهي عن المنكر يلخِّصُ حقيقةَ المعارضة السياسيّة في الفكرِ الغربيّ أيضاً. والغايةُ الإصلاحيّة - في الأخير - هي الّتي تحدِّد طبيعة المعارضة السياسيّة للأحزابِ الإسلاميّة، فإنّ الإصلاح هو الهدفُ الأسمى الّذي تسعى إلى تحقيقهِ. فإذا ما قامتِ الحكوماتُ بإجراءِ الإصلاحاتِ اللازمة، فإنّ الأحزابَ الإسلاميّة لن تقابلها إلا بالعون والمساندة. ومن هُنا، فإنّ الواقِع السياسيّ هو الّذي يفرضُ – أحياناً - الصورة المثلى للمعارضة المدنيّة الّتي تقومُ بها الأحزابُ الإسلاميّة، التي تتبنّى المنهج الإصلاحيّ السلمي في ممارساتها السّياسيّة..
 

مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية في المرحلة الراهنة
    من المسائِل المطرُوحة أيضاً في الأدبيّاتِ السياسيّة - بين آونةٍ وأُخرى - هي مسألة (تطبيق الشّريعة)، وكيفيّة تطبيقِها، وهل هُناك رؤية واضِحةٌ في هذا المجال، أم هي مِنَ الموضُوعاتِ المؤجّلة في هذا المفصل التاريخيّ الرّاهن؟! لا غَرْوَ أنّ تطبيقَ الشـريعة الإسلاميّة قد تـمّ في كثيرٍ مِنَ المراحِل التاريخيّة، بصرفِ النّظرِ عن مدى توافق تلك التجارِب التطبيقيّة مع روحِ الشـريعةِ، أو مُعارضتها إيّاها. وما زالت دولٌ إسلاميّة - حتى هذه اللّحظة - تدّعي تطبيق الشّريعة الإسلاميّة، بصـرفِ النّظر كذلِك عن توافقنا أو اختلافنا معها، فلسنا هنا بصددِ تقييم تجارِب الحكم الإسلاميّ، وتقويمها، فهذه مُواضعات لها زوايا نظر أخرى، ليس هنا مجالُ ذكرها، ولا مناقشتها، فنحنُ لا نريدُ أن نخوضَ غمار موضوعاتٍ شائِكة لا نخرجُ منها بنتيجةٍ مُرضية، فتطبيقُ الشـّريعة الإسلاميّة من الموضوعاتِ الّتي أُشبعت تحقيقاً ودراسةً في كتبِ الفقه السّياسي، ولا نريدُ هنا أن نستحضر تلك الطرُوحاتِ المعمّقة في هذا المجال المتداخِل. ولكن ما يمكن قولُه هنا في هذا السّياق إنّ الشّريعة الإسلاميّة لا تختلفُ، من حيثُ البناءُ القانونيُّ، عن الأنظمةِ والقوانين المعمُولة عالميّاً، والتشريعُ الإسلاميّ يحملُ في طيّاتِه إرثاً قانونيّاً ضخماً، بحيث لو تـمّ التعامُل معه بروحٍ علميّة موضوعيّة بنّاءة لوقف العالَم أجمع على تشـريعاتٍ قانونيّة سبقت القوانين الوضعيّة بمئاتِ السّنين. فمن الإجحاف غضّ النّظر عن عمقِ هذا الإرثِ القانونيّ وتحاشيه، نزولاً على حكمِ تلكِ الحملاتِ المسيّسة على الفكرِ والتراث الإسلاميّ بحجّة مُكافحةِ الإرهاب. فالتشريعُ الإسلاميّ سيظلُّ حقلاً قانونيّاً خصباً، لو تـمّ توظيفه واستثمارُه. وإنْ قاموا بتصنيفه وتبويبه، فإنّ عالمنا اليوم سيحظى بثروةٍ تشـريعيّة لا تضاهى. فالفكرُ القانونيّ الإسلاميّ فكرٌ رائِدٌ لا زال يشعُّ بالتعدُّدِ والتنوّع والتميّز والتفرّد، ونظرة دقيقة متأنيّة في نصُوص الوحي الثابتة - القرآن والسنة - تُطلعنا على منظومةِ القِيم السياسيّة الهادية؛ كالشُّورى والعَدْل وأداء الأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تتناولُ وسائلَ تطبيقيّة جاهزة، ولا أدوات تنفيذية مُحدّدة، من قبيل كيفيّة اختيار الحاكم، وما هي مدة ولايته؟ ومَنْ يختارُه، وكيف نحاسِبَ تصـرفاتِه؟ وكيف نفصلُ بين السلطات؟ وكيف ننظم عمل المعارضة السياسية؟ وآلياتِ الأمر بالمعروف السياسي والنهي عن المنكر السياسي؟ من هنا نخلص إلى قضية وهي: أنه لا يوجد جدول عمل مُحدّد للنظام السياسيّ الإسلاميّ، بالمعنى الفلسفيّ للنِّظام، بينما هناك منظور وتصوّر سياسي، وقيم سياسية هادية وضابطة للفعل السياسيّ الإنسانيّ، وهذه القِيَم السياسيّة عندما تتحوّل إلى نظامٍ مُؤسساتي، فإنّها تتحوّلُ إلى نظامٍ سياسيّ". ومن هُنا، فإنّ "مأسسةَ القِيَم السياسيّة، التي جاء بها الإسلام، هو جهد بشريّ محض موكُولٌ لاجتهاد البشر، بحسب ظرُوف الزمان والمكان، ولا يجوز أن نقدِّس الوسائل - بشكلٍ من الأشكال - بسبب قِدمها، أو بسبب انتمائِها للسّلف. فلو كان السلف في عصـرنا، لغيّروا الكثيرَ منها تحت ضغطِ الواقِع، وحاجاتهِ المتجدِّدة، لذا؛ فإن شرعيّة أيّ وسيلة، وآلية، ومُؤسسة، تكمُن في قدرتها على تحقيقِ المقاصدِ والغاياتِ الّتي جاءت بها الشـريعةُ الإسلاميّة".
ولا جَرَمَ أنّ الخِطابَ الإسلاميّ خِطابٌ واقعيّ، يُحقِّق التوازن بين الجانب الماديّ والرّوحيّ، ويُراعي الفطرة الإنسانيّة، وليس فيه تكليفٌ إلا بمقدُور، وفيه مرُونة ومُراعاة المتغيّرات، من ذلِك عدمُ تحديد الأوعية والوسائِل الّتي يتمّ بها تطبيق الثوابت، فالإسلامُ - مثلاً - لم يُحدِّد الشّكل الّذي يقومُ عليهِ الحكم (ملكيّ، رِئاسيّ، نيابيّ،...)، ولكنّ حدّد القِيَم الّتي يجب أنْ يقومَ عليها: العدالة، الشُّورى، ضمان الحقُوق... ونحو ذلِك(30).
   ومن الأصُول المتّفق عليها أن شريعة الله إنّما وُضعت وَفْقاً لمصالِح العِباد في الدّنيا والآخِرة، ولذلِكَ فإنّ كُلّ الأحكامِ الشـرعيّة، وكُلّ البناء العقديّ والسلوكيّ والتّشـريعيّ، في الإسلام، يقصد منه تحقيق مصالِح الأفراد والجماعات، والقيام بما يفيدُهم، ويرفعُ المشاقّ عنهم(31). وقد أكّد الإمام الشاطبي (ت790هـ): "أنّ وضعَ الشّرائِع إنّما هو لمصالِح العِباد في العاجِل والآجلِ معاً"(32). ولهذا فإنّ فهم الأحكام الشرعيّة يجب أن يتمّ في إطارِ هذا الأصلِ التشريعيّ، كما أنّ كُلّ عمليّة اجتهاد لصياغةِ أحكامٍ شرعيّة يجب أن تأخذ بعينِ الاعتبارِ المصالِح والمفاسِد المترتّبة عنها(33). وقد قرّر ابن قيم الجوزية أنّ "كُلّ مسألةٍ خرجتْ مِنَ العدلِ إلى الجَوْرِ، وعنِ الرّحمةِ إلى ضِدِّها، وعنِ المصلحةِ إلى المفسدةِ، وعنِ الحكمةِ إلى العبث، فليستْ مِنَ الشّريعة، وإنْ أُدخِلَتْ فيها بالتّأويل"(34). وهذا الّذي قد عرضناهُ في هذا السّياق بمثابةِ مدخلٍ تأسيسيّ ضروريّ يُمهِّد للإجابةِ عن الأسئلةِ الكُبرى الّتي قد تطرح - بين الفينةِ والأخرى - حول تطبيقِ الشرعِ الإسلاميّ - في ظلِّ الأوضاع القائِمة - على مُجمل الحياةِ العامّة والخاصّة، سواء بسواء.

جدليّة التواصُل والتفاصل بين الدعوة والسياسة أو بين الدّيني والزمنيّ
         لا شكّ أنّ الأحزابَ الإسلاميّة اليوم، في السياق العربيّ والإسلاميّ؛ قد أصبحتْ متّهمة، من قبل أبنائِها، ومؤيِّديها، قبل غيرهم، بأنّها قد انحازتْ إلى الميدان السياسيّ أكثر من اللازم، وأنها نسيت الوظيفة الأساسية لها: وظيفة الدّعوة والإصلاح، وأنّ السياسة يجب أن تكون وسيلةً في خدمةِ الدّعوة والإصلاح.. هذه إشكاليّة ما زالت مطروحةً على بساطِ البحث والمناقشة، وقد لا تؤدِّي بالباحثين إلى نتيجةٍ مُرضية، وخاصّة إذا عرفنا أنّ قنوات التحاور الإيجابي البنّاء غير متوافرة بين شركاء دائرة التواصُل. وقمينٌ ذكرُه هُنا أنّ الدّعوةَ إلى هذا الفصل بين الدّعويّ والسياسيّ، أو الدينيّ والزمنيّ، أصبحتْ ظاهرةً طالتِ الكثيرَ من الحركاتِ الإسلاميَّة ذات التوجهات السياسيَّة، فظهرت نخبٌ فكريَّة سياسيَّة تؤكِّدُ ضرورةَ فصل الدعوة عن الحزب، والبُعْدِ عن تسييس الـدّين، وتديين السياسة، كما تؤكِّدُ بإلحاح ضرورة توافر جناحينِ للحزبِ: جناحٌ يعملُ وَفْق آليّاتٍ وبرامج سياسيَّة بحتة، لا عَلاقة له بالدعوة، وبالمناسبات الإسلاميَّة، ولا يخاطبُ العاطفة، والمشاعر الدينيَّة، وليس له تماسٌ مُباشر مع الجماهير الإسلاميَّة، بحجةِ تخليصِ العمل السياسيِّ من الفكر الذي يعملُ مِنْ أجلِ أسلمةِ المجتمع، وجناحٌ يتوسَّلُ إلى الوسائل الدعويَّة والخيريَّة، ويتوجَّه إلى الجماهيرِ أساساً، ويحتكّ معها من خلال القنوات المرئية والمسموعة والمقروءة.
 فالاتِّجاه المتحمِّس للأيديولوجيا السياسية يتذرَّعُ بالقول: إن هذا النوع من العمل السياسي الإسلاميِّ، الذي كان مُناسباً للقرن الماضي، لا يُناسب هذا القرن، وأنه: لا سياسة في الدعوة، ولا دعوة في السياسة، لأن السياسة - برأيه - هي (فن ممارسة الممكن)، وفنُّ ممارسة الممكن، يخضعُ لظروفٍ وآلياتٍ قد تتصادمُ مع جوهر الدين..! مع أنّ الأصل هو الجمعُ بينهما، وفي ذلك قال: أحمد الريسوني: "مَنْ تسيّس ولم يتديّن فقد تَعَلْمَنَ، ومَنْ تديّن ولم يتسيّس فقد ترهْبَنَ، ومَنْ جمعَ بينهما فقد تمكّن".
     كما أنّ احتذاءَ التجارِب السياسيَّة، مع إهدار الخصوصيَّات المحليَّة، قد يُعَرِّض العملَ الإسلاميّ لمشكلاتٍ جوهريَّة، نظراً لاختلاف الواقع السياسي، الذي تنتمي إليه هذه الحركات. فالاستراتيجيَّات التي تكون صالحةً لـ(حزب العدالة والتنمية)، قد تكون غير مجدية لـ(الحزب الإسلامي العراقي)، مثلاً، لأن لكُلِّ حيِّزٍ جغرافي خصوصيتَه السياسيَّة المستقلة، حتى ولو كان في نطاق دولةٍ واحدة، فكيف مع اختلاف الدول وتفارق البيئات؟!..
     ومن النظريّات المطروحة في هذا المجال: نظريّة التمييز لا الفصل، الّتي طرحَها الدكتور سعدالدين العثماني - القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية المغربي -، في كتابه (الدين والسياسة تمييز لا فصل). وتؤكِّدُ هذهِ النظريّة "أنّ العَلاقةَ بينَ الدّين والسياسة ليستْ عَلاقة فَصْل، لأنّ الدّينَ حاضِرٌ في السّياسةِ - بشكلٍ مِنَ الأشكال - في جميعِ الثقافاتِ والحضاراتِ والمجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربيّة اليوم، ولكنّها في الوقتِ نفسِه ليستْ علاقة وَصْل تام، لأنّ الفعلَ السياسيَّ هو دنيويٌّ في الإسلامِ بامتياز، فهو بشـريّ اجتهاديّ تقديري، بالرّغمِ مِنْ كونِه مِنْ حيثُ العمُوم يخضعُ لمبادئ الدّين وأحكامِه"(35). فالدّين - حسب هذهِ الرؤية - هو ما كان مطلُوباً (لمصالِح الآخرة)، أي ما هُو مُطلَق مِنْ تعاليمَ وأحكامٍ في الدّين، بينما أحكامُ السّياسةِ تدخلُ ضمنَ ما هُو مطلُوب (لمصالِح الدُّنيا)، فهي ليستْ ديناً بالمعنى الأوّل، أي ليستْ وحياً ولا أحكاماً مُطلقة، لكنّها دينٌ بالمعنى الثانِي، أي خاضِعةٌ لرؤيةِ الدّينِ العامّة للإنسانِ وللمجتمع، ومُلتزمة بمبادئه وأخلاقهِ وإطارِه العام". ولا جرمَ أنّ "هذا الفهمَ، وإنْ كان يثيرُ الخِلافَ داخِل الحقلِ الإسلاميّ؛ فإنّهُ يؤسِّسُ إلى فهمٍ مرِن، يستوعِب العَلاقة الحركيّة والمتجدِّدة بينَ الدّين والسّياسة، ويؤدِّي إلى الوعي بالتمايُز بينهما، دُون أنْ يتطوّر ذلِكَ إلى تنابُذ وتنافُر(36). ويُمكن أنْ يَنتُجَ عن هذا النّمطِ مِنَ العَلاقةِ - الّتي قد تختلِفُ مِنْ مُجتمعٍ مُسلِم لآخر - إعادة تأسيس العَلاقةِ بينَ الدعويّ والسياسيّ داخِل الحركةِ الإسلاميّة، بما يزيدُ مِنْ عطائِها الفكريّ والحضاريّ، وكسبها السياسيّ والاجتماعيّ، ثراءً وتجذراً". فهذه الرؤية السياسيّة قد حدّدتِ العَلاقة بين الدينيّ والسياسيّ، فالدينُ - بحسبِ هذا الاتّجاه - إنّما ينهضُ بتوجيهِ العمل السياسي توجيهاً مقاصديّاً، ويسهمُ في ضبط أدائِه العملي بما يتوافق مع روح الشـريعة.
 ومن هنا، فإنّ الدّينَ - عندَ أصحاب هذه النظريّة - يمثِّل منظومةً مِنَ "المبادئ المُوجّهة، ويُجسِّدُ روحاً دافقة دافعة.. أمّا الممارسة السياسية فهي مستقلّة عن أيِّ سلطة تحكمُ باسم الدين أو السلطة الدينية، فليس من حقِّ الدولة، إذاً - وَفْقاً لهذا المنظُور - فرض النظام الدينيّ على المجتمع بالقوّة".
   ومن السّابق لأوانِه أن نقرِّر أنّ هناك فرقاً شاسِعاً واسِعاً بينَ المضمُون والمحتوى الرِّساليّ، وبين الآليّاتِ والوسائِل الكفيلة لتحقيقِ هذا المضمُون. فهُناك مَنْ لا يُفرّق بين مُستوى المضمُون، الّذي يجب أنْ يكونَ مُوصُولاً بالدّين وبأحكامِه ومقاصدِه، وبينَ مُستوى الآليّاتِ؛ كآليّاتٍ وأدواتٍ ومُؤسّساتٍ لبناءِ الدّولة. فهذه الآليّاتُ والأدوات والوسائِلُ والطّرائِق، يُمكن أن ينتظِمَ بموجبها العملُ السّياسيّ في المجتمع، دُون أن تكونَ لها علاقةٌ مُباشرة بالمضمُون الدّينيّ الثقافيّ الاجتماعيّ؛ لأنّها مُجرّد آليّات وأدوات لا غير، ويُمكن استخدامُها بكيفيّاتٍ مُتعدِّدة، ولأغراضٍ ومجالاتٍ ومناخاتٍ فكريّة ثقافية دينيّة أخلاقيّة مُتعدِّدة أيضاً(37).
   إنّ إشكاليّة العَلاقة بين الدّين والدّولة - في غيابِ المواقِف الجديّة الحازِمة الحاسِمة، والحلُول العمليّة النّاجِعة، فضلاً عن غيابِ الحوار البنّاء، والتّفكير المنهجيّ العقلانيّ المستنير بالمقاصِد الإسلاميّة – قد تدفعُ بعض المنادين إلى الوصل بين الدّين والدّولة – تحت ضغطِ التحديّات المستجدّة – إلى بعضِ التطرُّفِ في مواقفِهم وتوجّهاتهم، وفي أفكارِهم وآرائِهم، شأنهم في ذلِك شأنُ المنادين إلى فصلٍ بينَ الدّينِ والدّولة، وإلى إبعادِ الدّين عن الحياة العامّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، دُون تقديرٍ لخطُورةِ مثل هذه الدّعوة، أو خطُورةِ العملِ بها في المجتمع المسلم، ودُون مُراعاةِ للاشتراطاتِ الدّينيّة الثقافيّة الاجتماعيّة الّتي يفرضها الواقِع الدّينيّ الثقافيّ الاجتماعيّ، والّتي لا يُمكن تجاهلُها أو التنكّر لها، أو إهمالها، أو التخلِّي عنها، لأنّ هذه الاشتراطاتِ تُشكِّلُ – من الناحية الدّينيّة الثقافيّة الاجتماعيّة – الأساس المتين الّذي يقومُ عليه بناءُ شخصيّة الفردِ المسلِم، وبناء شخصيّة المجتمع المسلم، على هذا الأساس؛ الّذي هو مصدرُ وحدتِه وقُوّته وتماسُكِه واستقرارِه، ومصدرُ عزّته ومنعته(38).
  ولذلك "فإنّ أي محاولةٍ لفصلِ الدّينِ عنِ الدّولةِ، وإبعادِ الدّينِ عنِ الحياةِ العامّة للمجتمع المسلم، من أجلِ إقامةِ سُلطةٍ سياسيّة دنيويّة خالِصة، إنّما هي محاولةٌ لا معنى لها، بل هي دعوةٌ غريبةٌ عنِ الدّينِ الإسلاميّ الأصيل. وهي تعبِّر عن تجاوُز غير منطقيّ، غير موضُوعيّ، للواقِع الدينيّ الثقافيّ الاجتماعيّ، وتجاهُل لحقيقةِ الشخصيّة الثقافيّة الاجتماعيّة للفردِ المسلِم، وللمجتمع المسلِم على السّواء. كما أنَّ مُحاولة الزجّ بالدّين – مِنْ جهةٍ أُخرى – في الدّولةِ، أو في السّياسة، كيفما اتفق، وفي كُلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وفيما يُمكن أن يكون له علاقةٌ بالدّين وبمقاصدِه، وفيما هو من شؤُون النّاسِ ومن شؤُونِ دُنياهُم، إنّما هي محاولةٌ تدخلُ في بابِ الغلوِّ والتطرُّف في النّظرِ والعمل، وفي الفكرِ والممارسة؛ لأنّ الدّولة بناءٌ ومضمُون، آليّةٌ وموضُوع، مؤسّساتٌ وهياكِل وأبنية وتراكيب تنظيميّة، وأفكار وقضايا ونظريّات سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، منها ما يجب أنْ يكون موصُولاً بالدّين، عامِلاً على تحقيقِ مقاصدِه في المجتمع المسلِم، ومنها ما هو مِنْ شؤُونِ النّاسِ ومِنْ شؤُونِ دُنياهم، مِمّا يُيسِّر لهم طرائِق عيشِهم، وأساليبَ حياتِهم، وكيفيّة ممارستِهم لشؤُونِ الحُكْمِ والسّياسة"(39).
    أمّا التوجُّه الّذي يؤكِّدُ ضرورةَ الإبقاء على ترابُط الحزب والدعوة في المجال السياسيّ؛ فهو يرى أنَّ الدعوةَ هي بمثابة البوصلة التي تُوجِّه الأداء السياسي، وتعمل على ضبط السياسيين، لذا فهما يسيران كخطين متوازيين، ويمثلان عنصـرين يُتمِّم أحدهما الآخر، وبينهما تواصل وتواشج وتزاوج، ولا يوجد هناك مجال للتفاصل والتنافر والتنابذ. فما الغريب إذاً، أن يكون السياسي داعياً، والداعي سياسياً؟! فالدعاة - على مرِّ التاريخ - كانوا سياسيين، والعكسُ صحيح، ومن هنا فنحن نريد سياسيين متدينين، يُمارسون العمل السياسي وَفْق أُسسٍ إسلاميَّة أصيلة، وفي حدود أوامر الله ونواهيه، لأنه ليس هناك في ديننا وجود للنظام الكنسي والكهنوتي، وليس هناك رجال للدين ورجال للسياسة، ولا نقول: "ما لله لله، وما لقيصـر لقيصـر"، وإنما كلّنا لله جلّ وعلا، قال تعالى: [ألا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر](40).

أين أخفقت الحركات الإسلاميّة، وأين نجحت؟
    على مدى ما يُقارب العقدِ مِنَ الزّمان لم تنجح الأحزاب والحركات الإسلامية في الوصُول إلى السُّلطة، إلا بانقلاب عسكريّ، كما في السُّودان. ولم تقدِّم - لحدِّ اليوم - أنموذجاً واضِحاً ولا ناجحاً لنوع المجتمع والسُّلطة الّتي تسعى إلى تأسيسها وتبنّيها.. والسؤال المطرُوح في هذا السّياق هو: أين أخفقت الحركة الإسلاميّة، وأين نجحت؟
قد لا نجانِب الصّواب إذا قُلنا إن الانقلاباتِ العسكريّة في العالَم العربي والإسلاميّ لم تقدِّم تجارِب إسلاميّة ناجعة، بل على العكس فقد أعادت رُوح السيناريوهات القديمة في الحُكم، ولذلك لم تكن موضع تقدير وترحيب الشعُوب الإسلاميّة، الّتي ما زالت تُعاني في ظلِّ تلك الحكوماتِ المتعاقبة، تلك الحكومات الّتي أخفقت في توفيرِ الأمن والاستقرار، وتكريس العدل والحريّة، وتحقيقِ الرّفاه والانتعاش لمواطنيها.. فما الجدوى من حكوماتٍ لا تحقِّق الحدّ الأدنى من الحقُوقِ المنصُوص عليها في الدساتير العالميّة، فضلاً عن التشـريعاتِ الإسلاميّة؟! فالحركةُ الإسلاميّة اليوم لا بُدّ أن تأخذ بنظرِ الاعتبار أهميّة المطالبة بحقُوقِ المواطنين، وأن توسِّع من فضاءاتِ الحريّة الفكريّة في داخلها، وتفتحَ قنواتِ الحِوار البنّاء بين الجميع، وأن تعيد صلتها الغائبة من جديد بالمجتمع، بجميع أفكارِه وتوجّهاته، وكذلك أن تعيدَ انفتاحها على جمُوعِ المسلمين العريضة، كي لا تتحوّل إلى صفوةٍ معزُولةٍ مُنبتّة عن جماهيرِ الأُمّة، والانفتاح كذلِك على العالَم المعاصِر بثقافاتِه المتنوِّعة، نزولاً على مبدأ (الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقُّ بها). وعليها أن تتبنّى الوسائِل الكفيلة لاستشرافِ المستقبل، وتقديرِ مجالاتِه ومآلاتهِ وتداعياتِه وتحدّياتِه.
 وإذا أردنا أن نتحدّث عن ضعفِ أداءِ الحركاتِ الإسلاميّة، فإنّ أوّل ما يتبادرُ إلى أذهانِنا هو ضَعْفُ الوسائِل الإعلاميّة التي تمتلِكُها، من حيثُ الشّكلُ والمضمُون، فهي بحاجةٍ اليوم إلى وسائِل أكثر ثراءً وتنوّعاً وجاذبيّة، فقد تغيّرتِ اليوم أذواق النّاس ومشاربهم، فلم يعد المحتوى الوعظيّ الجامِد مؤثِّراً، كما كان يفعلُ في السّابق، فالأسلُوب الوعظيّ قد يكونُ مفيداً لشريحةٍ معيّنة، ولكنّه لن يكون مُجدياً بهذهِ الصّورة الّتي عليها مع شريحةِ الشّباب، الّذين أصبحت لهم اهتمامات مُغايرة لما قد يتفكّر به الإسلاميّون القائِمون على توجيهِ المحتوى الإعلاميّ. فما أحرى بها اليوم أن تستفيدَ من تجارِب الشعُوب الأُخرى، بصـرفِ النّظر عن مضامينها، فالإعلامُ اليوم بحاجةٍ ماسّة إلى استحداثِ القوالِب الفنيّة المغرية، وتطوير الإخراج الفنيّ، وتنويعه، بحيث يكون مُناسِباً لجميعِ شرائِح المجتمع، فالمضمون التوجيهيّ لا بُدّ أنْ يُساق في إطارٍ فنيّ مُمتِع ماتِع، وعلى الحركاتِ الإسلاميّة اليوم أنْ تبحثَ عن وسائِل تحقيقِ مقاصِد الإسلام، لا عن سُبل الوصُولِ إلى السّلطة، وأن تؤكِّد للعالَم أجمع أنّ هدفَها ليسَ هو الاستحواذ على الحكم والسّلطة، وتغييرِ أشخاصِ الحاكمين، والطّمع في كراسيهم، وإنما هدفها هو بيانُ حقيقةِ الإسلام الصّحيحة، فكراً، وسلوكاً، ومُمارسة، وتكريس قِيَم الحُريّة والعدالةِ والمساواة بين المواطنين جميعاً، وتذكِّر العالَم أيضاً أنّ من حقِّها الديمقراطيّ، بوصفِها معارضةً سياسيّة، أنْ تسعى إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، متى ما وجدتْ نفسَها أقربَ إلى تحقيقِ أهدافها ومقاصدِها الرّساليّة الّتي تضمن مصالِح النّاس وتدفع المضارَّ عنهم.. وتبعاً لذلِك "تحوّل المنطق السّياسيّ للعديدِ من الأحزابِ والحركاتِ الإسلاميّة من فكرةِ (البديل) إلى فكرةِ (الشـّراكة)، ومن خيار (التّغيير) إلى منهج (الإصلاح)"(41).
     وعلى الحركاتِ الإصلاحيّة أن تفتحَ قنواتِ التّشاور والتّعاون بين التجمّعات والهيئاتِ السّياسيّة المختلفة، ويكون شعارُها في ذلِك (نتعاون فيما اتّفقْنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفْنا فيه)، والخرُوج من إطارِ الفكرِ الأحاديّ الضيّق نحو آفاقٍ تعدديّة أوسع.
ومن الملاحظاتِ الّتي قد تُؤخذ على أداءِ الحركاتِ الإسلاميّة هو غيابُ التّخطيط الاستراتيجيّ، والمراوحة في فلك الأفكارِ السّابقة، والتّجارِب القديمة. فلا بُدّ للحركةِ الإسلاميّة اليوم أن تضع الخطط الكفيلة والاستراتيجيّات العمليّة، الّتي ثبت نجاحها في العالَم الحديث، وأن تضع لنفسها خطّة عملٍ مدروسةٍ مُحدّدة الأهدافِ والمراحِل، فـ"المرحلية تتطلّبُ مِنّا أنْ نعرِفَ أولويّاتِنا، ونرتِّبَ أسبقيّاتِنا، حتّى لا يكون خِطابُنا بعيداً عنِ الواقِع، عديم التّأثير، بعيداً عن رُوحِ الإسلام وسُنّة الرّسُول – عليه الصّلاة والسّلام -. فالصّلاةُ والصّيام والزّكاة كُلّها مرّت في فرضِها بمراحِل حتّى استقرّت على الوضعِ الّذي هي عليه، وتحريم الخَمْر واستئصال الرّق كُلّ ذلِك رُوعِي فيه التدرُّج والمرحليّة. ومِمّا قرّرَهُ العُلماء أنّ التّطبيقَ العمليّ للشّريعةِ الإسلاميّة يجب أنْ يُراعَى فيهِ التدرُّج، بخلافِ الفكرة الّتي يطلبُ فيها الشّمُول والإحاطة"(42).
     ومن المآخذ الّتي يمكن رصدُها "عدم التزامِها الجادّ بالمبادئ من داخلِها، فمّما يُؤسف له أنّ الحركاتِ الإسلاميّة لا تلتزِمُ في ذاتِها، وفي علاقاتِها بغيرِها، بالمبادئ والأصُول الإسلاميّة، وعلى رأسِ هذه المبادئ والأصُول: الشّورى، والعَدْل، والمساواة، وحُريّة الرّأي، وحُريّة النّقد". فالنقدُ البنّاء "أداةُ إنضاج الفهم، وآليّة نفضٍ مُستمِرّة للوعي"، وخاصّة إذا كان نقداً فاعِلاً يُسهِمُ في بناء المجتمع وتطويرِه. ولا ننسـى - في هذا المقام - أنْ نذكُرَ ما قالَه الإمام المحدِّث شعبة - رضي الله عنه - حينما نادى أصحابَه يُعلِّمهم أصُولَ النقدِ الإيجابيّ، الّذي يُؤجر إنْ أخلصَ النّاقِدُ عليه.. فقد ذكرَ ابنُ رجب الحنبليّ – رضي الله عنه -: "ولهذا كان شُعبة يقولُ: تعالَوا حتّى نغتابَ في الله ساعةً، يعني: نذكرُ الجّرحَ والتّعديل"(43). وهي جملةٌ واحِدةٌ مُوجزة جمعتِ الخيرَ مِنْ أطرافِه، ووضعتْنا أمام حقيقةٍ فاصِلة؛ وهي: أنّ النّقدَ البنّاء الإيجابيّ يُؤجَر عليهِ الصّادِقُون، وقد سمّاه شُعبة (غيبةً)، لكنّها في سبيلِ الله. وهذا الخبرُ يُقاسُ عليه عمليّةُ النقدِ البنّاء من داخلِ الحركةِ، أو من خارجِها، ما دامتِ الأخوّةُ في الله، والنّصْحُ لله ولرسُولِه ولأئمّةِ المسلمين وعامّتهم؛ هي الّتي تنهضُ في ضبطِ بوصلتِنا.
وما دام العُلماء قد أسّسُوا (علم الجرح والتّعديل) لتقويمِ علمِ الحديث، فإنّ الحركةَ الإسلاميّة ليستْ أكثر قداسةً من علُومِ الحديث، بل إنّ ذلِكَ أمانةٌ شرعيّة لا يجوزُ السّكُوت عنها، فإذا كان الخطأُ يُفسِدُ العملَ، فإنّ الصّمتَ يُحرِّف العملَ عنِ الصّواب(44). وكان الإمام عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - يشجِّع كُلّ ناصِح أو ناقِدٍ لعملٍ مِنْ أعمالِه. ويُروى في هذا المجال أنّ رَجلاً قال له: "اتّقِ الله يا أميرَ المؤمنين"، فأنكرَ عليهِ بعضُ الحاضرين، ولكن عمر الفارُوق قالَ لهُ: "دَعْهُ، فلا خيرَ فيكُمْ إذا لم تقولُوها، ولا خيرَ فينا إذا لَمْ نسمَعْها".
  فالنقدُ البنّاء إذاً، هو سِمةٌ من سِماتِ النّضح المعرفي والوعي العالي، وليست هُناك أمّة حقّقت إنجازاتٍ فكريّة، ومعرفيّة، وحضاريّة، بمنأى عن الفاعليّة النقديّة؛ فالمحاسبةُ والمتابعةُ والتربية النقديّة من العوامِل الّتي تسهمُ في ثراء المجتمعاتِ الحضاريّة، وتميُّزِها وتنهضُ في رقيها المعرفيّ وتألّقِها.
      فما أحرى بالحركاتِ الإسلاميّة اليوم - في ظلِّ التحوّلات المحليّة والعالميّة – أن تقوم على تنفيذِ مراجعاتٍ نقديّة شامِلة، بكُلِّ جرأةٍ وصِدْقٍ وموضُوعيّة، تقويماً لذاتِها، ونقداً لأدائِها، بأعلى درجاتِ الموضُوعيّة والمسؤوليّة، ومُراجعة أفكارِها وسياساتِها ومنطلقاتِها، على ضوء المتغيّرات المعاصرة، وعلى خلفيّة ما استجدّ من أفكارٍ وتطوّراتٍ في السّاحةِ الإنسانيّة الأوسع. ولا شكّ أن تلك الوقفاتِ الذاتيّة للمراجعة ستسهِمُ في استبانةِ نواحي الكسب الموجب للنّجاح، لتعزِّزها، وتبني فوقَها، وفي الوقتِ نفسِه ستستبينُ نواحي الإخفاق، لتسدّ ثغرتها، وترمّم فسادَها(45).
   ومن المآخذ الّتي سُجِّلت على بنية الحركاتِ الإسلاميّة: حِرْصُ بعضِها على التقيّد الحرفيّ بالأنماطِ والأشكالِ الحركيّة، المورُوثة عن حركاتٍ سابقة في التّجرِبة، وعدم الجرأة على مُخالفتِها حتّى في بعضِ الجزئيّات، والاستقلال عنها في ما يفرضُ الواقعِ المتعيّن الاستقلال فيه... إنّ اختلافَ المجتمعاتِ الإسلاميّة يُحدِّد نوع الاستجابة المناسِبة لتحديّاتِ الواقِع، ويفرضُ على كُلِّ حركةٍ إسلاميّة تعامُلاً مخصُوصاً مع خصُوصيّاتِ مُجتمعِها، وابتكار الوسائِل الملائِمة لذلِك، دُون تقليدٍ لتعامُلاتٍ أُخرى في واقِعٍ مُغاير، أو نقلٍ لوسيلةٍ غير مُناسبة دُون تكييفٍ أو تحوير"(46). والمؤسِف أنّ بعضَ الحركاتِ الإسلاميّة قد تنكّرت وغفلت عن هذه الفرُوقِ المهمّة على الصّعيد العمليّ، فهي "تنحو نحو (تجريدٍ نظريّ)، يتصوّرُ – تبعاً لوحدةِ دينِ الإسلام – عالَمَ الإسلام، وواقِعَ ديارِه، نسقاً واحِداً مُنسّقاً، لا يعرِفُ الفوارِق في مُستوياتِ التطوّر، ولا الاختلافِ في الأعرافِ والعاداتِ والمذاهِب والتصوّرات"(47). ولا عجبَ أن سقطت تلك الحركاتِ – مع هذه الغفلة – في وهم المماثلة، والبُعدِ عنِ الواقِع، والقياس مع الفارِق، فلم تستوعِب تماماً مراتِب العمُوم والخصُوص فيما بينها، وأورثها ذلِك اختلالاً كبيراً في سُلّم الأولوياتِ العمليّة(48).
      ومن الأسبابِ الّتي تقلِّل من عطائِها وتنوّعها هو ذلِك الجمود الفكريّ الّذي ما زال يشلُّ طاقاتِها، ويجعلُها تتراوح في دوّامة مُغلقة. ومن العِلَل الّتي ما زالت قائمة في بنية الحركاتِ الإسلاميّة "القصُور في الرؤية التجديديّة، على الرّغم مِنْ أنّ الفقه الإسلاميّ ليسَ متوقّفاً ولا جامِداً. إنّه يتحرّك ويُبدِع في كُلّ المجالات"(49). ولا جرَمَ أنّ التّجديد الفكريّ والعمليّ في الإسلام ينبني على العلمِ البشـريّ الصّحيح، كما أنّ الاطّلاعَ على المدارِس والتّجارِب الإنسانيّة السّليمة، والاختلافات البشريّة المتنوّعة، إنّما يؤدّي إلى الإبداع وصناعة الأفكارِ الصّائِبة. أمّا التّجديدُ في العملِ والسّلُوكِ، فيتمثّل في المهاراتِ العمليّة الّتي يُتقِنُها الإنسانُ، فالحركاتُ الإسلاميّة بحاجةٍ اليوم إلى تطويرِ سلوكِهم العمليّ، والاستفادةِ من كُلِّ العلُومِ الإنسانيّة المعاصِرة، لأنّ صناعةَ العلُومِ ليستْ حكراً على أُمّةٍ دُون غيرِها(50).
 وعلى الحركاتِ الإسلاميّة أيضاً القيام بإحياء منهج التزكية من جديد في داخلها، ومن السابق لأوانِه أن نؤكِّد هنا أنّه ما مِنْ جماعةٍ تستحقّ أن تُوصف بـ(الإسلاميّة) ما لم تتجذّر بداخلِها قِيَم الإسلام، نظريّةً ومُمارسة. لهذا لا بُدّ أنْ ينصبّ الجهد الأدنى والأولى نحو الذات، في مسعى جاد ومُصمّم لإحيائِها قبلَ أنْ تتأهّل هي لإصلاحِ الآخرين. هذه البديهة هي مُقتضى نشوءِ الحركةِ، والمبرّر الأساسيّ لمولدها. وعلى الرّغم من أنّ الحركةَ قدّمت نهجاً مُتميّزاً للتزكية الذاتية، وأسهمت مُساهمةً لا يُمكن تجاهلُها، في تعميقِ قيم التديّن في المجتمع، فإنّها لم تسلم، لا من حيثُ هي مُجتمعةً، ولا من حيث كونها أفراداً مُتفرّقين، من بعض الصّور السّالِبة عنها لدى المجتمع، وليست بالضّرورةِ أن تكون تلك الصّور صحيحةً، ولكنّها – على كُلِّ حال – تضعُ قيوداً على فعلِها، وفُرص نمائِها وتأثيرِها... ومن حكمةِ الإيمانِ أنْ يظلّ المرءُ، وتظلّ الجماعةُ، في حالةٍ مِنَ التزكّي والتجديدِ المستمِرّة، شحذاً للهِمّة، وجلاءً للصّدأ(51). إنّ هذا يؤكِّدُ ضرورةَ تجديدِ قِيَم الالتِزام والاستقامة الأخلاقيّة على الصّعيدِ الشخصـيّ، وقِيَم الحُريّات العامّة، والإنصاف، والقِسْط، والمحاسبة، والعدلِ الاجتماعيّ، وصَوْن الحقُوق العامّة للنّاس وحُرماتِهم على الصّعيد العامّ(52). وقد قيل: إنّ تصحيح البداياتِ هو الشّرطُ في نجاحِ النّهايات! فالبداية الصّحيحة تكون تتويجاً لنهايةٍ صحيحة، سليمة من الأخطاء والاختلالات، الّتي تُشوّه صورة الحركة الإسلاميّة في أذهانِ النّاس.
    ومن الملاحظاتِ الّتي قد يُسجّل عليها تفشِّي ظاهرة (التديّن العرفيّ)، الّذي من مظاهرِه حصرُ الإسلام في نطاقِ الشّعائِر الظّاهِرة، وغيابِ جوهرِ المعاني الإنسانيّة والحضاريّة، على الرّغم من أنّ الإسلام هو عقيدةٌ وحركةٌ وتفاعُل وفاعليّة، وليس مجرّد صُورٍ وسلُوكياتٍ جامدة، لا معنى لها ولا مغزى من ورائِها.
ومن هنا فنحنُ أحوجُ ما نكون، كما يقول العلامة (أبو الحسن الندوي) - رحمه الله - إلى "حقيقةِ الإسلامِ والإيمانِ، للظفرِ بالحقائِق المبثوثةِ في العالَم. أمَّا صورةُ الإسلامِ وحدَها، فهي عاجِزةٌ عَنْ قَهْرِ هذهِ الحقائِق والانتصارِ عليها، حتّى وإن كانت حقائِق مَمزُوجة بالباطِل، لأنَّ الصورةَ المجرَّدةَ لا تنتصِـرُ على أيِّ حقيقةٍ"(53). وقال أيضاً: "إنّ الصُورةَ لا تستطيعُ أنْ تسدَّ مكان الحقيقة وتنوبَ عنها، ولا يُمكنها أنْ تمثِّل دورَ الحقيقةِ في الحياة، وتأتي بهِ من عملٍ ونشاط.. ولا يُمكن أن تقاوِمَ الحقيقةَ وتكافِحها، فإذا وقعَ صِراعٌ بينهما انهارتِ الصُّورةُ، ولا يُمكنها أن تحتمِلَ عِبءَ الحقيقة"(54). فشتّان إذاً، بين صُورةٍ جافّةٍ جامدةٍ جاسِئة لا رُوح فيها، وبين حقيقةٍ يمكن ترجمتها في حياتنا العامّة إلى صُورةِ مواقِف نابضةِ بالحياةِ والحركة، وعامِرة بسلُوكٍ حيّ وشاخِص. فمشكلتُنا اليوم - بعبارةِ مالك بن نبـي - ليستْ أنْ نعلّمَ المسلمَ عقيدةً هو يملكُها، وإنّما المهمّ أن نردَّ إلى هذهِ العقيدة فاعليتها وقوّتها الإيجابيّة وتأثيرها الاجتماعيّ.
    وإذا أردنا أنْ نتحدّثَ عن مظاهرِ نجاحِ الحركاتُ الإسلاميّة الإصلاحية، فأوّلُ ما يُمكن رصدُه في هذا المجال، هو مُشاركتها الفاعِلة في توعية الجماهير، وتثقيفها بالثقافة الرّصينة، وتربيتها على القيم والمبادئ الإسلاميّة الأصيلة، وغرس الوعي السّياسي الرّشيد في أذهانِها، نظراً لأنّ غيابَ الوعي السياسيّ الفاعِل يُعدّ من أهمّ عوامِل ازدهار النّظم الاستبداديّة. فمِمّا يُسجّل للحركاتِ الإسلاميّة أنّها نجحت في إيقاظِ أبناء الأمّة الإسلاميّة، فأصبحت، بفضلِ جهودِها، واعيةً بحقُوقِها ومسؤوليّاتها، وكذلك واعيةً بفسادِ النّظم السياسيّة القائِمة على امتدادِ الدّولِ العربيّة والإسلاميّة.
   وما يُذكر في هذا السّياق أيضاً أنّ "الأحزابَ الإسلاميّة قد تمكّنت من أنْ تحقِّقَ قدراً غير قليلٍ من النّجاحِ على صعيدِ تعبئةِ أوسعِ القطّاعاتِ الجماهيريّة وراء قضايا الأُمّة الكُبرى في العدلِ والحُريّة ومُناصرةِ ضحايا العُدوانِ الدّوليّ على شعُوبٍ إسلاميّة. ومن ذلِكَ أيضاً ظهُور معالِم أُخرى للحياةِ الإسلاميّة في مجالِ الأدب والفنُون؛ مثل الرابطة العالميّة للأدب الإسلاميّ، وكذلك تطوير الزي الإسلاميّ للمرأة، الّذي هو صُورةٌ مُعاصِرة تُجسِّمُ قِيَم الإسلام في الحشمة، مُتفاعلةً مع ما اقتضته الحياة المعاصِرة من مُشاركةٍ واسِعة للمرأةِ في المجالِ العامّ، فضلاً عن تقديمِ دراساتٍ وبرامِج لأحزابٍ ونقاباتٍ وجمعيّاتٍ إسلاميّة"(55).
وما يُحسب أيضاً للحركاتِ الإسلاميّة أنّها وقفت في وجهِ أنظمةِ القهر والاستبداد، ولم تألُ جهداً في مُناصرةِ حقُوقِ الإنسان، والديمقراطيّة، والعدلِ الاجتماعيّ، والتّعاوُن في ذلِك مع سائِر القوى الوطنيّة، قوميّة ويساريّة وليبراليّة في تشكيلِ جبهاتٍ لفرضِ التحوّل الديمقراطيّ، والتّعاوُن كذلِك مع قوى تحرريّة في العالَم، مثل الحركةِ العالميّة المناهِضة للعولمة، والجماعاتِ الدينيّة المدافِعة عنِ الأُسرةِ والعِفّة(56).
ومن الدّرُوسَ المستفادة من تجارِب التّطبيقِ الإسلاميّ - في مُستوى منهجِ التّغييرِ والحُكْم - هي أهميّة مبدأ التدرُّج، ورفضِ الاستدراجِ إلى العنفِ، إلا دفعاً لمحتلّ، وتركيزِ الجهدِ على إصلاحِ الإنسان، ومُؤسّساتِ المجتمع، بدل التمركُزِ حولَ الدّولة(57). والفهم التّجديديّ الّذي أرستهُ الحركات الإسلاميّة قد أحدث تحوّلاً في مفاهيم المجتمع العربيّ والإسلاميّ، وامتدّ أثره على مجمل المناحي السياسيّة والاجتماعيّة، حتى وصلَ إلى خصوم المنهج الإسلاميّ المعاصِر، الّذين أسّسُوا رُؤيتهم على أسانيدَ دينيّة وتراثيّة، لأنّهم لم يفلحوا في مُصادمةِ الفكرةِ الإسلاميّة مُباشرةً، بنسخِها وإلغائِها، فسعَوا إلى استخدامِها هي نفسها حُجّةً لرؤيتِهم، فصارَ هذا مكسباً في ذاتِه(58).
     ومن محامِدِ الحركاتِ الإسلاميّة أنّها أسهمت - بشكلٍ أو بآخر - في تفكيكِ حالةِ الجمود الّتي كانت تسيطِّرُ على المشهدِ السياسي، وتحريرِ الدّين من قبضةِ الخُرافات والبِدع، الّتي كانت وما زالت سائدة في بنية العقلِ العربيّ والإسلاميّ، وتحرير الفكر من قيود التقليد والمحاكاةِ العرفيّة، الّتي ما أنزل الله بها من سُلطان. بالإضافةِ إلى "تحريكِ آلةِ الاجتهادِ المعطّلة منذ عصُور، اجتهادٌ أصّل مكانةَ العلمِ في دينِ الإسلام"(59).
ومن ثمار الحركاتِ الإسلاميّة الوسطيّة في المجالِ الاقتصاديّ أنّها قدّمت للعالم العربيّ والإسلاميّ، وحتّى الغربيّ، مفهوم الاقتصاد الإسلاميّ، مقابل الاقتصاد الرأسماليّ، وقد فتحت جامعاتٌ غربيّة مثل جامعة (لافرا)، في إنكلترا، كليّةً لدراسةِ الاقتصادِ الإسلاميّ، باعتبارِه قادِراً على تقديمِ حلُولٍ لمشكلاتٍ عجز عنها الاقتصادُ الرأسماليّ، وتسبَّبَتْ في الأزماتِ الماليّة الخطيرة(60).
ومن هُنا، "فالإسلامُ يمثِّلُ أملَ الأُمّة، بل الإنسانيّة، في استعادةِ الأخلاقِ والعدلِ والحريّة والمعنى، إلى قلب حضارةٍ تتعرّى مِنْ كُلِّ ذلِك بشكلٍ مُريع"(61). هذا، "وما تزالُ الحركةُ الإسلاميّةُ، بتراثِها، وتقاليدِها، وخبرة أفرادِها، وتميّز قياداتِها، تملكُ رصيداً كبيراً من الإمكانات، وهامِشاً ضخماً للعمل.
 إنّ البابَ ما يزالُ مفتُوحاً أمامَ العملِ الإسلاميّ ليستقيمَ وينهضَ ويزدهِر، فالصفُّ الإسلاميّ أثبتَ على الدّوامِ أنّهُ يحمِلُ مُقوّمات السّبق، من حيثُ توافُر الكفاءاتِ والخبرات، والاستعداد للتضحياتِ القصوى، وأهمُّ من ذلِكَ أنّه يملكُ الإيمان بمشـرُوعيّة المهمّة الّتي تجدُ دائِماً مَنْ يتصدّى لها برسالةٍ راسِخة وواثِقة"(62). وكذلك توافرها على منهجٍ وسطيّ – اعتداليّ، فالخطابُ الإسلاميّ يُراعِي التّوازُن بين العقلِ والوحي، بينَ المادّة والرّوح، بينَ الحقُوقِ والواجبات، بينَ الفرديّة والجماعيّة، بينَ الإلهامِ والالتِزام، بينَ النصِّ والاجتهاد، بينَ الواقِع والمثال، يينَ الثّابت والمتحوِّل، بينَ الارتباطِ بالأصلِ والاتِّصالِ بالعصـر(63)، كما "يُراعي اختلاف الظّرفِ والمكان، ويجمعُ بينَ الأَصالةِ والمعاصَرة، ويفرّق بين الثّابت والمتغيِّر، والمبدئيّ والمرحليّ، ويعملُ على حشدِ طاقاتِ الأُمّة وتعبئتِها، لا على إضعافِها وتبديدِها، لا يغترّ لنجاحٍ ولا ييأسُ لفشل، لا يثنيهِ واقِعُ الاستضعافِ عنِ العملِ للتّمكين، ولا طارئ الغُربة عنِ السّعي للظّهُور، ولا فقه الأزمة عن مُستلزماتِ العافية، ولا الممكنِ الموجُودِ عنِ الأمثلِ المنشُود"(64)، ويفرّق بين فقه الأصلِ وفقه الاستثناء؛ فالخطابُ في حالِة التّمكينِ، ليسَ كالخِطاب في حالةِ الاستضعاف، والأصل في المعاملة ليسَ كالاستثناء فيها، ويُراعي الأصول قبلَ الفرُوع، والكُليّات قبلَ الجزئيّات، والإجمال قبل التّفصيل(65). ويرى كذلِك ضرُورة الجمعِ بينَ النّصُوصِ والأقوال، قبلَ القطعِ بالحُكْم عليها من خلالِ نصٍّ واحِد، مع مُراعاةِ السّياقِ اللّفظيّ والمعنويّ والظّرفيّ، فيحمِلُ المبهمَ الخفيّ على الواضِح الجليّ، والمشكل على المفسّر، والمجمل على المفصّل، والعامّ على الخاصّ، والمطلق على المقيّد، ويُرجّح المنطُوق على المفهُوم، والعبارة على الإشارة، والمتأخّر على المتقدِّم(66).
      هذا، وقد أخذت الحركات الإصلاحيّة – الوسطيّة على عاتقها مهمّة توجيه الشّباب، وحثّهم على التّعليم والتعلّم، وتحصينهم وتسليحهم بالفكرِ الوسطيّ – الاعتداليّ، والحؤول دون اقترابهم من تخومِ العنفِ والغلوّ والتطرّف.. وليسَ من قبيلِ المغالاةِ، أو الإسرافِ في الحكم، أنْ نقولَ: إِنّ الحركاتِ الإسلاميّة قد قدَّمتْ لمجتمعاتِها، النّاهِضة من كبوتِها بعدَ الاستعمار، كفاءاتٍ وخبراتٍ بشريّة في كُلِّ مجالاتِ الحياة، وأنّ النّهوضَ العربيّ والإسلاميّ يعدُّ تتويجاً لتلك الطّاقاتِ البشريّة الفاعِلة لأبناءِ الحركةِ الإسلاميّة. أمّا في الجانِب السّياسيّ فإن دخول أعضائِها في المجالِس النيابيّة أتاحت لتلك الحركاتِ الإسلاميّة التعبيرَ عن مشكلاتِ المجتمع تعبيراً دقيقاً وصادِقاً، والاقتراب من آماله وآلامه، وقدّمت في هذا السبيل الكثير من الحلُول والبدائل العمليّة النّاجعة، فضلاً عن مُعارضة سريانِ الكثير من القوانين الّتي تعارِضُ صريح ما يعرفُ من الدّين بالضّرورة، وقد مثّلتِ الأحزاب الإسلاميّة، ونوّابها، في المجالِس النيابيّة، مُستوى عالياً من المبدئيّة والواقعيّة في الآنِ ذاتِه. ومن الأمثلةِ الّتي يمكن أن نستشهدَ بها في هذا السياق؛ هو (حزب العدالة والتنمية) في تركيا، ذلك الحزب الّذي حقّق مُستوياتٍ تنمويّة عالية غير مسبُوقة، وأسهم في تطوير تجربته السياسيّة، تلك التجرِبة الّتي جعلته أكثر فقهاً بالواقِع المحليّ والدّوليّ، وترسيخ التجرِبة الديمقراطيّة الحقيقيّة.
 هذه وغيرها تعدُّ من العطاءاتِ الّتي قدّمتها الحركاتُ الإسلاميّة لمجتمعاتِها، سابقاً ولحدِّ الآن.

الهوامش:
1- المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزاليّ الطّوسي (ت505هـ)، تحقيق وتعليق: د.محمّد سليمان الأشقر، ط(2)، دار الرسالة العالمية، دمشق - سورية، 1433هـ - 2012م: 1/ 287.
2- م.ن: 1/ 288.
3- الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية، شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية (ت728هـ)، (د.ط)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، (د.ت)، ص7.
4- الذرائع في السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، د.وهبة الزحيلي، ط(1)، دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – سورية، 1419هـ - 1999م، ص9.
5- الإمام محمد عبده، د.محمّد عمارة، المجلد الأول، ص187- 189، و55- 57. نقلاً نقلاً عن الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي الحديث: دراسة مقارنة عن كل من الأفغاني وعبده ورضا، ص18.
6- مقدمة ابن خلدون، للعلاّمة عبدالرّحمن بن محمّد بن خلدون، (ت808هـ)، اعتناء ودراسة: أحمد الزعبي، (د.ط)، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت)، ص221- 222.
7- سورة الأحزاب، الآية: 62.
8- مقدمة ابن خلدون، ص222.
9- سورة هود، الآية: 88.
10- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، إعداد غازي صلاح الدين، محمّد الشنقيطي، راشد الغنوشي، محمّد منصور، عصام البشير، تحرير: مصطفى الحباب، ط(4)، مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، بيروت – لبنان، 2015م، ص63.
11- الإمام محمّد عبده: الأعمال الكاملة، تقديم وتحقيق: د.محمّد عمارة، ط(1)، دار الشروق، بيروت – لبنان، 1993م: 1/ 181.
12- المشروع الحضاري الإسلامي، د.محمّد عمارة، ط(1)، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، 2008م، ص16.
13- الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي الحديث: دراسة مقارنة عن كل من الأفغاني وعبده ورضا، أحمد فايق دلول، أوراق نماء (148)، ص20.
14- م.ن: 21.
15- الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي – المقاربات، القوى، الألولويات، الاستراتيجيات، محمّد أبو رمان، ط(1)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت – لبنان، 2010م، ص36.
16- الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، محمّد رشيد رضا، مجلة (المنار)، مج4، جزء 18، 1901م،  نقلاً عن كتاب الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي،  محمّد أبو رُمّان، ص36.
17- الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي – المقاربات، القوى، الألولويات، الاستراتيجيات، ص36- 37.
18- الإخوان المسلمون من النشأة إلى الحل: الحلقة السادسة (مطالعة في الوثائق الأصليّة)، موقع إخوان ويكي.
19- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص52.
20- الإصلاح السياسي: دراسة نظرية، محمّد تركي بن سلامة، جامعة اليرموك – الأردن، (د.ت)، ينظر الرابط الآتي: http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?id=30976
21- الإصلاح السياسي في الأردن: نحو بناء إطار نظري، محمّد أبو رمان، 2011م، نقلاً عن الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي الحديث: دراسة مقارنة عن كل من الأفغاني وعبده ورضا، أحمد فايق دلول، أوراق نماء (148)، ص4.
22- الإصلاح الإسلامي المعاصر، عبدالحميد أبو سليمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فيرجينيا، الولايات المتحدة، 2006م، ص48.
23- الإصلاح في الإسلام يبدأ بالفرد ليرتقي بالجماعة، د.محمّد عمارة، 2006م. نقلاً عن الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي الحديث: دراسة مقارنة عن كل من الأفغاني وعبده ورضا، ص6.
24- الوسيط في المذاهب والمصطلحات الإسلامية، د.محمّد عمارة، ط(1)، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، 2000م، ص184- 185.
25- سورة الإسراء، الآية: 70.
26- النظم السياسية، د.ثروت بدوي: 365، نقلاً عن المعارضة السياسية بين النظرية والتطبيق، د.جابر قميحة، ط(1)، الناشر دار الجلاء، القاهرة – مصر، 1988م، ص73.
27- المعارضة السياسية بين النظرية والتطبيق، ص89.
28- المعارضة السياسية في الفقه السياسي الإسلامي وفي النظم الدستورية المعاصرة – دراسة مقارنة، للدكتور مخلوف داودي، أطروحة دكتوراه علوم في العلوم الإسلامية، مقدمة إلى كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية، وهران – الجزائر، 1437هـ - 2016م، ص62.
29- المعارضة السياسية في الفقه السياسي الإسلامي وفي النظم الدستورية المعاصرة، ص63.
30- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص100.
31- في فقه الدين والسياسة، د.سعد الدين العثماني، ط(1)، الانتشار العربي، بيروت – لبنان، 2011م، ص86.
32- الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمّد اللخميّ الشاطبي (ت790هـ)، ضبط نصه وقدّم له وعلّق عليه وخرّج أحاديثه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط(1)، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، الخبر – المملكة العربية السعودية، 1417هـ - 1997م: 2/ 9.
33- في فقه الدين والسياسة، ص86.
34- إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية.
35- في فقه الدين والسياسة، ص13.
36- م.ن، ص14.
37- ينظر بتصرف: الإسلام والدولة بين الوصل والفصل – المضمون والآلية، سالم القمودي، ط(1)، دار الانتشار العربي، بيروت – لبنان، 2005م، ص13.
38- م.ن، ص11 و12 و13.
39- م.ن، ص55 - 56.
40- سورة الأعراف، الآية: 54.
41- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص151.
42- م.ن، ص97.
43- التقويم الدعوي: 22.
44- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص12 – 13.
45- م.ن: 66.
46- م.ن، ص126- 127.
47- من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، د.محمّد عمارة،  ضمن كتاب "الحركة الإسلامية – رؤية مستقبلية"، ص336.
48- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص128.
49- في فقه الدين والسياسة، ص198.
50- م.ن، ص184- 185.
51- الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص66- 67
 52- م.ن، ص67.
 53- بين الصورة والحقيقة، لأبي الحسن علي الحسن الندوي، (د.ط)، دار عرفات للدراسة والترجمة والنشر، (د.ت)، ص5.
 54- م.ن: 4.
55- هل مشروع الحركة الإسلامية في تراجع، للشيخ راشد الغنوشي، ضمن كتاب الحركة الإسلامية رؤية نقدية، ص29.
56- م.ن، ص30.
57- م.ن، ص32.
58- م.ن، ص51.
59- م.ن، ص28.
60- م.ن، ص28 – 29.
61- م.ن، ص31.
62- م.ن، ص63.
63- م.ن، ص89.
64- م.ن، ص102.
65- م.ن، ص102.
66- م.ن، ص104- 105.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق