د. دحام إبراهيم الهسنياني
من خصائص الوسطية
الإسلامية للأمّة الإسلامية أنها أمّة ذات رسالة عالمية، ليست أمّة إقليمية
ولا قومية، بل وضعها الله في مقام الأستاذية للبشـرية كلها، والشهادة على الناس
جميعاً، وهذا معنى قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
لقد جعل اللَّه
الإسلام ديناً وسطاً، وأمر المسلمين بأن يكونوا خياراً عدولاً، فهم خيار الأمم
والوسط في الأمور كلها، بلا إفراط، ولا تفريط، في شأن الدين والدنيا، وبلا غلوّ في
دينهم، ولا تقصير منهم في واجباتهم، فهم ليسوا بالماديين، ولا بالروحانيين، وإنما
جمعوا حقّ الجسد وحقّ الروح، تمشياً مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان
جسد وروح.
يقول الشيخ سعيد
حوى: وهذه الخاصية من أهمّ الخصائص التي امتازت بها هذه الأمّة المبجّلة الوسط،
وتتجلّى هذه الخاصية لهذه الأمّة في كونها شهيدة على سائر الأمم يوم القيامّة، إذ
تشهد لهم أو عليهم بما أسلفوه من أعمال، بأن الله تعالى ما بخل على أحد أو ظلم، بل
أوضح السبل، وأرسل الرسل، فبلّغوا ونصحوا، ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على
اتّباع الشهوات، والإعراض عن الآيات.. فنشهد نحن أمّة الوسط بذلك على معاصرينا،
وعلى الذين من قبلنا، أو بعدنا. ويكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحده شهيداً
علينا بأنه قد بلغ وأدّى وأقام الحجّة، وإننا قد بيّنا واستجبنا، فنحن شهداء على
الناس يوم القيامّة أن رسلهم قد بلّغتهم، ورسولنا شهيد علينا يزكّينا([2]).
قال جمال الدين
القاسمي: "أيْ: فآل الأمر بهدايتكم، وجعلكم وسطاً، أن كنتم شهداء على الناس،
وهم أهل الأديان الأخر. أي: بصـراء على كفرهم بآيات الله، وما غيّروا وبدّلوا
وأشركوا وألحدوا، ممّا قصّ عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبراً، فعرفتم حقّ
دينهم من باطله، ووحيه من مخترعه. يعني: وإذا شهدتم ذلك منهم، وأبصرتم، فاشكروا
مولاكم على ما أولاكم، وعافاكم ممّا ابتلى به سواكم، حيث وفّقكم للمنهج السوي،
وهداكم للمهيع الرضي.."([3]).
وأداء الشهادة على
الناس في المحشر يكون للأنبياء على أممهم، كما ثبت في الحديث الذي سبق ذكره: (يدعى
نوح يوم القيامّة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقول
لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد،
وأمّته. فيشهدون أنه قد بلّغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله جلّ ذكره: (وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أمّة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والوسط: العدل)([4]).
وهذا إنباء من الله
تعالى في كتابه بما أنعم على الأمّة الإسلامية من تفضيلها باسم العدالة، وتولية
خطير الشهادة على جميع خلقه. فجعل المسلمين أوّلاً مكاناً، وإن كانوا آخراً
زماناً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون السابقون)([5]). وهذا
دليل على أنه لا يشهد إلاّ العدول، ولا ينفذ قول شخص على غيره، إلاّ أن يكون عدلاً([6]).
يقول الشيخ مصطفى المراغي: "فبشهادتكم هذه
تشهدون على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى اللذات، وحرّموا
أنفسهم من المزايا الروحية، وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما
يهلكنا إلاّ الدهر، وتشهدون على من غلا في الدين، وتخلّى عن جميع اللذات
الجثمانية، وعذّب جسمه، وهضم حقوق نفسه، وحرمها من جميع ما أعدّه الله لها في هذه
الحياة، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال، وجنى على روحه بجنايته على جسمه.
تشهدون على هؤلاء
وهؤلاء، وتكونون سبّاقين للأمم جميعاً باعتدالكم وتوسّطكم في جميع شؤونكم، وذلك هو
منتهى الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حقّ حقّه، فيؤدّي حقوق ربّه، وحقوق نفسه،
وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربى، وحقوق الناس جميعاً"([7]).
وزبدة القول عن
وسطية الإسلام وشهادته: إننا إذا استوعبنا أمرها استيعاباً حضارياً شاملاً، ثم
(نظرنا) في جزئياتها، ودرسناها جزئية جزئية، (لأدركنا) أنها تشمل الحياة في كلّ
جوانبها ومعانيها، وأنها تترك آثارها في نفسية المسلم الحقّ، فيستشعر دائما العزّة
بالله من جانب، والتواضع له، ولعباده، والمسؤولية أمامه، من جانب آخر. وبالتالي،
فهي تترك آثارها في الأمّة الإسلامية جمعاء، رفعةً ودماثة، وحملاً للأمانة، بشكل
يمكّن لحضارتها من الانتشار والازدهار، فضلاً على ما كوّنته هذه الوسطية للأمّة
الإسلامية من محورية في البشرية كافة، استقطبت المواهب والكفاءات والخبرات، وجزت
عنها أكرم الجزاء، ووظفتها للنفع الإنساني العام.
نحن أمّة عُرفت عبر
تاريخها المشـرق بعزّ ومجدٍ يطاول الثريا رفعة وسناءً، فحرام أن نضعف ونستكين
ونتحسّى كأس المذلّة مُترعاً. لا بد أن تأخذ الأمّة الإسلامية مكانتها بين الأمم،
لتحقيق ما تنشده البشرية المضطهدة، والإنسانية الحيرى، من حقّ وعدل وسلام،
وانتشالها ممّا غرقت فيه من أوحال الضلال والشقاء، ومستنقعات الاضطراب والفوضى.
وإذا كان أعداؤهم سادوا العالم وهم على مادية وضلال وباطل، فما أحرانا بالقيادة
والسيادة والريادة، ونحن على منهج الشهد الزلال، منهج الإيمان والحقّ والتقوى. لا
بدّ من صياغة الجيل المعاصر على منهج الوسطية والاعتدال، ووضع دراسات استراتيجية،
واتّخاذ آليات عملية، للنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية، ووقاية الأمّة من شـرور
التشـرذم والخلافات الجانبية التي عانت الأمّة منها طويلاً، والمشكلات المفتعلة
التي تمثّل طعنة نجلاء في خاصرة هذه الأمّة.
وهكذا نالت مزيّتها،
وحازت جدارتها الفذّة التي ترتبت عليها، وانبثقت عنها صدارتها في الوجود الإنساني،
ومسؤوليتها عن ريادة البشرية، وبذل عطاء الإسلام هداية ودراية، ونعمة ورحمة للعالمين.
كل هذا في معترك
الحياة الدنيا، والفعالية البشـرية الحضارية.. في عالم (الشهادة) على الأرض، حيث
يستطيع إنسان (الأمّة الوسط)، بل يتوجّب عليه، أن يستوعب السنن الكونية، وينظر في
القوانين الخاصة بكل مرفق من مرافق الوجود، في شتّى ساحاته، وفي كل علم من العلوم
في مجالات اختصاصه، ليدرك لباب حكمتها، ومدى طاقتها، وسبل استخدامها السوية، لتمضـي
– أو بالأحرى ليمضـي بها – على صـراط مستقيم، قصد الحصول على أخصب الثمرات عطاءً،
وأحسنها جودة، وأجداها نفعاً، وأجلبها لمرضاة الله، وحسن جزائه، ورفعة القدر لديه،
يوم يقوم الأشهاد. وهناك، في عالم الغيب، تمتدّ (شهادة) الأمّة الوسط للأنبياء
والمرسلين، على النحو الذي ورد في الصحاح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ممّا
نؤمن به دون جدال، رضاً وتسليماً([8]).
وأيّ شيء يشهدون على
الناس؟ قال المفسرون: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ليشهدوا
على الناس بأعمالهم، التي خالفوا فيها الحقّ في الدنيا وفي الآخرة. يقول الإمام
الفخر الرازي: (الأشهاد أربعة:
أوّلها: الملائكة
الموكّلون بإثبات أعمال العباد. قال الله تعالى: (وجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ([9]).
وثانيها: شهادة
الأنبياء. وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه السلام: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ)([10])،
وقال في حقّ محمّد (صلى الله عليه وسلم)، وأمّته، في هذه الآية: (لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)([11]).
وثالثها: شهادة أمّة
محمّد (صلى الله عليه وسلم): (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)([12])،
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)([13]).
ورابعها: شهادة
الجوارح، كما قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ..)([14]))([15]).
وقال أبو حيان:
"وأسباب هذه الشهادة – أيْ شهادة هذه العدول – أربعة: بمعانيه؛ كالشهادة على
الزنا، وبخبر الصادق؛ كالشهادة على الشهادة، وبالاستفاضة؛ كالشهادة على الأنساب،
وبالدلالة؛ كالشهادة على الأملاك، وكتعديل الشاهد وجرحه"([16]).
الثاني: يشهدون
للأنبياء على أممهم المكذّبين بأنهم بلّغوا([17]).
روى أبو سعيد الخدري(رض) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يجيء النبي يوم
القيامّة ومعه الرجل، ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك،
فيقال لهم: أبلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال: للنبي: أبلّغتهم؟ فيقول: نعم. فيقال:
من يشهد لك. قال: محمّد وأمّته. فيشهدون أن الرسل قد بلّغوا. فيقال: ما علمكم،
فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلّغوا، فصدّقناه. فذلك قوله: (لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ([18]).
وقد عنون الإمام
البخاري لمثل هذه الأحاديث بقوله: باب: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمّة
وَسَطًا)، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم)([19]).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني، معلّقاً على هذا الحديث: "لما كانت العدالة
تعمّ الجميع، لظاهر الخطاب، أشار إلى أنها من العام الذي أريد به الخاص، أو من
العام المخصوص، لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً، وكذلك أهل البدع، فعرف أن المراد
بالوصف المذكور أهل السنّة والجماعة، وهم أهل العلم الشرعي، ومَنْ سواهم، ولو نسب
إلى العلم، فهي نسبة صورية لا حقيقية. وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث،
منها ما أخرجه الترمذي مصحّحاً من حديث الحارث بن الحارث الأشعري، فذكر حديثاً
طويلاً، وفيه: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهنّ: السمع والطاعة والجهاد والهجرة
والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)([20]).
وعن عبد الله بن عمر
(رض): قال: خطبنا عمر (رض) بالجابية، فقال: (يا أيُّهَا الناسُ، إِني قُمتُ فيكم
كَمقَامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فينا، قال: أُوصِيكُم بأصْحَابي، ثُمَّ
الذينَ يَلونَهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم يفْشُو الكذبُ حتى يَحْلِفَ الرَّجُلُ ولا
يُسْتَحْلَفُ، ويَشهدَ الشاهدُ، ولا يُسْتَشهدُ. أَلا لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة
إِلا كانَ ثالثَهُمَا الشيطانُ، عليكم بالجماعةِ، وإِيَّاكُم والفُرْقَةَ، فَإِنَّ
الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ. مَنْ أَراد بُحْبُوحَةَ الجنة فليلزم
الجماعةَ. مَنْ سَرَّتْهُ حسنتُه، وسَاءَتْه سَيِّئَتُه: فذلكم المؤمنُ)([21]).
وقال ابن بطال: مراد
الباب الحضّ على الاعتصام بالجماعة، لقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ). وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله:
(وسطاً)، والوسط العدل. والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصـر.
وقال الكرماني: مقتضـى
الأمر بلزوم الجماعة، أنّه يلزم المكلّف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون، وهم
المراد بقوله: (وهم أهل العلم). والآية التي ترجم بها، احتج بها أهل الأصول لكون
الإجماع حجّة، لأنهم عدلوا بقوله تعالى: (جَعَلْنَاكُمْ أمّة وَسَطًا)، أي:
عدولاً؛ ومقتضـى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولاً وفعلاً([22]).
الثالث: (لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، أي حجّة عليهم فيما يشهدون، كما أن النبي صلى الله
عليه وسلم شهيد بمعنى حجّة على كل ما أخبر به([23]).
وبذلك استدل المفسّرون على أن إجماع هذه الأمّة حجّة، كما سيأتي.
روى عبادة بن الصامت
(رض) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (أُعطيتْ أمّتي ثلاثاً لم
تُعط إلا الأنبياء: كان الله إذا بعث نبياً قال له: ادعني أستجيب لك، وقال لهذه الأمّة:
(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)([24]).
وكان إذا بعث النبي قال له: ما جعل عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمّة: (وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([25]).
وكان الله إذا بعث النبي، جعله شهيداً على قومه، وجعل هذه الأمّة شهداء على الناس)([26]).
إن الشهادة في
الواقع مسؤولية إنسانية عامّة، وهي شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
الذي يفرض بالمواطن الحضاري السويّ أن ينهض به تلقائياً بدافع مع قلبه اليقظ،
ووازع من ضميره الحي. وقد جعل الإسلام هذه الشهادة مسؤولية وجدانية، فيها معنى
التكليف ومعنى التشـريف، وابتدأ بها من منطلق الفلاح الإنساني، فشجّع في إنسانه
النقد الذاتي، وسلّطه على نفسه (الكل) بشتّى نوازعها السلبية والإيجابية، وبصـّره
بالعواقب، ليغلب جوانب الخير على جوانب الشر، ورتّب على ذلك من الآثار الخطيرة ما
يحفّز الهمم إلى معالي الأمور.
والشهادة وإن لم تكن
في الأصل مسؤولية إلزام وقهر وإكراه، بل مسؤولية تكليف سليم، واختيار إيجابي
وتكريم، فهي ليست عشوائية مسيّبة، بل محاسبة ومراقبة من قبل قيّم عظيم رحيم:- (.. لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..)، وهي
فوق هذا في نظر الله من قبل ومن بعد: (إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)([27]).
وهكذا تتسلسل شهادة
إثر شهادة.. تفرض السيادة للحقّ، والريادة فيه، تبدأ من الضمير، وتمرّ بالمجتمع،
ويحكم لها أو عليها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بنفسه في حياته، وبأحكام الكتاب
والسنّة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وتنتهي بالجزاء، ثواباً أو عقاباً، في
البرزخ الثاني الأخروي من الحياة (الكل)، بعد أن تكون نواميس الله قد أجرت أقداره،
ورتّبت النتائج على المقدّمات.. فلاحاً أو خيبة، سعادة أو شقاء، في الحياة الدنيا.
وكان من مقتضـى هذه
(الوسطية)، وهذه (الشهادة)، أن يكون الإسلام -بشـريعته المحمّدية- رباطاً بين
الناس، سابقهم بلاحقهم، من جهة، ووصلاً بين كل أشتاتهم المتعايشة في زمان واحد،
وإن اختلفت الأمزجة، وتباعدت الأمكنة، من جهة أخرى([28]).
خلود الشهادة على
الناس
وقوله تعالى: (لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)([29])، تدلّ على
الاستمرارية والخلود لهذه الشهادة في الدنيا والآخرة. لأن من خصائص أمّة الوسط: أنها
أمّة خالدة بخلود رسالتها وكتابها، فهي باقية ما بقي الليل والنهار، دائمة مادام
في الدنيا قرآن يتلى، وإذا كان القرآن محفوظاً بحفظ الله، فأمّة القرآن باقية
ببقاء القرآن.
وقد تكفّل الله
تعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) ألاّ يهلك أمّته بما أهلك به أمماً من قبلها،
بالعقوبات القدرية، والنوازل الكونية، كالطوفان والخسف والمسخ والريح الصـرصـر،
وغير ذلك. وتكفّل له كذلك ألاّ يسلّط عليها عدواً من غيرها، يستأصل شأفتها،
ويقتلعها من جذورها، إلاّ أن يهلك بعضها بعضاً، ويذوق بعضهم بأس بعض. وكما تكفّل
الله لرسوله أن يحفظ أمّته من الهلاك الحسّيّ بعذاب الاستئصال، تكفّل له بحفظها من
الهلاك المعنويّ بالاجتماع على الضلال، ففي الحديث: (سألت ربّي أربعاً، فأعطاني
ثلاثاً ومنعني واحدة؛ سألته: أن لا يجمع أمّتي على ضلالة، فأعطانيها، وسألته: أن
لا يهلكهم بالسنين، كما أهلك الأمم قبلهم، فأعطانيها، وسألته: أن لا يظهر عليهم
عدواً من غيرهم، فأعطانيها، وسألته: أن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض،
فمنعنيها)([30]). وسـرّ
ذلك أنها آخر الأمم، كما أن نبيّها آخر الأنبياء، وكتابها آخر الكتب، فليس بعد محمّد
(صلى الله عليه وسلم) رسول، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد أمّة
الإسلام أمّة.
فإذا اجتمعت أمّة من
الأمم، قبل الإسلام على الضلال، لم يكن في ذلك خطر على البشرية، لأنها أمّة محدودة
المكان، موقوتة الزمان، بخلاف الأمّة الوسطية الإسلامية، فلها من عالميتها وخلودها
ما يجعلها ممتدة في المكان، حتى تعمّ الشـرق والغرب، وممتدة في الزمان حتى قيام
الساعة، فلو ضلّت كلّها، لضلّت بها البشرية جمعاء، دون أمل في تغيير، إذ ليس معها
ولا بعدها من يحمل للناس هداية الله.
ومن ثمّ كان من عمل
العناية الإلهية، أن تظلّ في هذه الأمّة فئة تحيا على الحق وتموت عليه، هي بمثابة
سفينة الإنقاذ، أو جيش الخلاص، وهي التي تحفظ التوازن، وتمسك البناء أن ينهار،
وفيها جاء قوله تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أمّة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ) ([31]).
وقال رسول الله عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحقّ، لا يضرّهم
من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)([32]).
قال الإمام البخاري: (إن هذه الطائفة هي أمّة الوسط)([33]).
هذه الطائفة تدعو
إلى مظاهر منهج الوسطية في الإسلام، الوسطية في العبادات والشعائر، الوسطية في
التشريع، الوسطية في الأخلاق، الوسطية في الأفكار والمشاعر.
هذه الطائفة التي
تدعو إلى الفكر الإسلامي الوسط هي منار السائرين، ودليل الحائرين، وقوة
المستضعفين، وهم الذين يقومون لله بالحجّة، ويدعون إلى الله على بصيرة، ويبلّغون
رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله، وهم الغرباء الذين يصلحون إذا فسد
الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس، وهم (الفرقة الناجية) بين الهالكين، المهتدون بين
السالكين، الذين يحيون ما كان عليه الرسول وأصحابه، ومن رحمة الله بالناس أن تبقى
فيهم مثل هذه الفئة المختارة الموكّلة من الله، تعلّم من يجهل، وتهدي من يضلّ،
وتذكّر من ينسى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)([34]).
ومن دلائل الخلود
لهذه الأمّة، أن الكوارث والنكبات لا تحطمها ولا تقتلها، بل تبعث فيها روح
المقاومة والتحدّي، فتراها إذا نزلت بها النوازل القاصمة، أشدّ ما تكون قوّةً،
وأصلب ما تكون عوداً، حتى أن الناس ليظنون بها الظنون، ويحسبونها في عداد الهلكى،
فإذا هي في فترة وجيزة تنقلب على عوامل الضعف المحيطة بها، بروح القوّة المكنونة
في داخلها، وإذا بالذين يرقبونها من بعيد، أو ينظرون إليها من قريب، يرون انتصاراً
بعد انكسار، واجتماعاً بعد شقاق، وحياة وحركة بعد جمود. رأينا ذلك في فجر الإسلام،
في حروب الردّة، وقتال المتمردين على دفع الزكاة. ورأيناه في عصور التمزّق للدولة
الإسلامية، فهي مقاومة غزوات التتار الوحشية، الذين أقبلوا من الشـرق كأنهم يأجوج
ومأجوج، أو: كأنهم: (الرِّيحَ الْعَقِيمَ،
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)([35]).
وفي مقاومة الحروب الصليبية، التي زحفت فيها أوربا على الشرق الإسلامي؛ بقضّها
وقضيضها وثالوثها وصليبها، فقتلت وحرقت، وأفسدت ودمّرت، ما يعلمه كل دارس لتلك
المرحلة من التاريخ.
ولكن القوة الذاتية
الكامنة في أمّة الإسلام، لم تلبث أن ظهرت في وقائع تاريخية حاسمة، فحطمت أحلام
الصليبيين في (حطين)، وفتح (بيت المقدس)، بعد أن بات أكثر من تسعين عام أسيراً في
يد الغزاة، وأسر (لويس التاسع) ملك فرنسا في دار (ابن لقمان) بالمنصورة، وارتدّ
التتار مدحورين في (عين جالوت)، بعد أن كان الناس يعتبرونهم القوّة التي لا تقهر،
حتى شاع بين الناس القول: إذا قيل أن التتار انهزموا، فلا تصدّق!
وفي العصر الحديث،
رأينا الجهاد البطولي ضد الغزاة المستعمرين، في سائر ديار الإسلام، جهاد الأمير
عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين، والأمير عبد الكريم الخطابي ضد الأسبان، والبطل
عمر المختار ضد الطليان، والشيخ عزّ الدين القسام ضد الإنكليز واليهود، مروراً
بثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسـي، ومعارك فلسطين ضد الصهاينة، والقناة ضد
الإنكليز([36]).
واليوم نرى العملاق
الإسلامي ينتفض بعد طول ركود ورقود، فإذا هي يقظة وصحوة في كل الدول العربية
والبلاد الإسلامية، وشباب مثقف يتّجه بقوّة ووعي إلى الإسلام في الشـرق والغرب،
متحدّياً رواسب القديم، وفتنة الجديد، معتصماً بإيمان الأقوياء، وقوّة المؤمنين.
وهذه الدلائل كلها،
من هنا وهناك وهنالك، تعبّر بوضوح عن خلود هذه الأمّة وقوّتها وأصالتها، بالرغم ممّا
قد يبدو على سحنتها من مظاهر الوهن والهزال([37]).
وقد كانت وسطية
الإسلام القمة الثابتة على القصد، مع خصائصه الحضارية الفذّة، العامل الأكبر في منحه
القدرة، وحمله مسؤولية التصدّي لمشوّهي الأديان السماوية، ولأصحاب العقائد
والمذاهب الوثنية، أو الوضعية، السابقة والقائمة واللاحقة، ممّا يجعل في الفكر
الإسلامي المتصاعد طاقة نشاط دائم، وفعالية حية إيجابية نامية. وهذا في الواقع سـرّ
مهم من أسرار تميّز الحضارة الإسلامية بأنها: حضارة صاعدة، في أيام الازدهار،
وصامدة في ظروف الانحسار، بانتظار الأجواء الملائمة لصعود سديد جديد..
لقد تجلّت وسطية
الإسلام في شتّى مرافق الحياة: في التصوّر والاعتقاد، في الشعور والتفكير، في
التنظيم والتنسيق، في الارتباطات والعلاقات، وفي المكان والزمان.. وهكذا جعل الله مسؤولية
الأمّة، ورسالتها الحضارية، انطلاقاً من هذا (التوسّط) بكل معانيه، فقال جل وعلا: (لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسَ).
ويقول الشيخ عاشور:
"ومن مكمّلات معنى الشهادة على الناس، في الدنيا: وجوب دعوتنا الأمم للإسلام،
ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم، حتّى تتمّ الشهادة للمؤمنين منهم عن المعرضين…
والشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى، إشارةً
إلى أن معظم شهادة هذه الأمّة وشهادتهم على المعرضين، لأن المؤمنين قد شهد لهم
إيمانهم. فالاكتفاء بـ(على)، تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم، وتنويه
بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا من يشهد عليهم، وبحالة تشريفهم بهذه
المنقبة، وهي اتفاق المخالفين لهم بموجب شهادتهم"([38]).
هذا هو تأويل
الشهادة لهذه الأمّة على الناس، في الدنيا والآخرة، وفي ذلك إبراز للشأن العظيم
الذي تحتله هذه الأمّة، بما يجعلها خير أمّة أخرجت للناس، ويجعلها كذلك أمّة وسطاً
تقف على ذروة السنام من التكريم والاعتزاز في الدنيا والآخرة.
([21]) رواه أحمد (1/26)
(177). وابن ماجة (2363)، والترمذي (2165) في الفتن بَاب مَا جَاءَ فِي لُزُومِ
الْجَمَاعَةِ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والنسائي رقم (9226)،
في عشرة النساء، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر عمر فيه، والحاكم: 1/114 وقال:
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه في تصحيحه الذهبي، والبيهقي في السنن:
7/91.
([32]) رواه أحمد: 5/278،
ومسلم: 3/1523, رقم (1920)، بَاب قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (لا تَزَالُ
طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ
خَالَفَهُمْ)، والترمذي: 4/504, وأبو داود: 4/98 رقم (4252)، رقم (2229) وقال: حسن
صحيح. وابن ماجة: 2/1304 رقم: (3952) في المقدمة: باب اتباع سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأورده الهيثمي في المجمع: 7/288، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال
الصحيح،
([37]) وبارك الله في دعاة
الإسلام الذين يدعون إلى الوسطية الإسلامية، فقد كان لهم النصيب الكبير للإسهام في
إيجاد صحوة إسلامية حقيقية أصيلة، تتميز بالرشد والنضج والاستنارة. صحوة عقول
ذكية، وقلوب نقية، وعزائم فتية. صحوة تعرف غايتها، وتعرف طريقها، تعرف من لها، ومن
عليها، من هو صديقها، ومن هو عدوها. صحوة تعمل على تجديد الدين، وإنهاض الدنيا به.
صحوة تصحح المفاهيم المغلوطة، وتقوم المسالك المعوجة، وتوقظ العقول النائمة، وتحرك
الحياة الراكدة، وتنفخ الروح في الجثة الهامدة، فتعيد إليها الحياة والحركة
والنمو. وها نحن بحمد الله نرى من معالم هذه الصحوة اليوم، ما لم يكن واضحاً
للكثيرين من قبل. ونحمد الله أن مداد العلماء، ودماء الشهداء، وكلمات الحداة،
وجهود الدعاة، وجهاد المصلحين، لم تذهب سُدى، ولم تكن – كما ظن الظانون – صيحة في
وادٍ، أو نفخة في رماد، بل أتت أكلها في حينها بإذن ربها. وصدق الله العظيم إذ
يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ
طَيِّبَةٍ أصلهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) سورة إبراهيم، الآيتان: 24 - 25.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق