أ. م.د سامي محمود ابراهيم
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل
? مجتمعاتنا تقليدية رغم كل مظاهر الحضارة
المستوردة، والمدنية السطحية. من هنا تأتي أهمية مسألة مراجعة أصولنا المعرفية،
وجذور البنية التقليدية لثقافتنا الدينية والدنيوية، لا بهدف التكرار أو الإعادة،
أو اجترار ما لم يعد صالحاً، بغية إرضاء الحال، وتمويه الواقع، بل لغاية نقد تلك
الجذور؛ تواصلاً وانقطاعاً في الوقت ذاته، إذ لا انقطاع بلا تواصل نقدي مبدع
وخلاق، يراعي ظروف العصـر، وشـروط الواقع، ومتطلبات الإنسان المعاصـر.
أما التواصل لغاية التواصل وحده، فهو التقليد الذي نهينا عنه شـرعاً وعقلاً، ومغبون من تساوى يوماه.
ما زلنا كأهل الكهف؛
أيقاض نيام.. ما زلنا نتنفس الغزالي، ونعيش مع ابن تيمية، رغم السياق التاريخي،
والفارق الزمني.. رغم التقدم العلمي، والثورات المعرفية، والمنهجية.. ما زلنا نطمح
بقراءات رشدية نرتجي منها الحلول، ونستجدي منها المقدمات الفقهية.. وكل العالم من
حولنا قد رشد، ونحن لا رشد لنا.. نفكر مأجورين، ونقاتل بعضنا بالنيابة. لذلك تبدو
العودة إلى مراجعة التراث ضـرورة ملحة لبحث جذور الأزمة الحضارية التي نعانيها،
وليس لمجرد إعادة التأويل، والتأويل المضاعف، الذي ترتب عليه هدر الإمكانيات،
وإضاعة الوقت، وتضييع الحقيقة.. ترتب عليه إعادة إنتاج الغزالي، وابن تيمية، في
نسخ مكررة تحاكي نفس الصور والمواقف، حتى ملّنا الزمان، وأزاحنا تيار النص الحداثي
إلى ما بعد الهامش..
ألا يشير هذا إلى أن
المجتمع التقليدي يسعى دائماً إلى إعادة إنتاج ذاته القديمة، أي يعيد إنتاج بناه
الإيديولوجية الثابتة؟!
نعم. لو نظرنا إلى
بنية ثوراتنا العربية، وأحزابنا الإسلامية، وتكتلاتنا السياسية، فمن السهل أن
نكتشف أنها بنية قبلية تقليدية، مع أنها تفترض أن تكون مؤسسات مجتمعية معاصـرة،
ويفترض بالتالي أن تكون نزعتها إنسانية حداثية، وأن تكون آليات اتخاذ القرار فيها
آليات قيمية ديمقراطية أصيلة. والواقع أن
سيطرة البنية الدكتاتورية التحزبية والحزبية، وخضوع استراتيجيات اتخاذ القرار
لرغبة الزعيم أو القائد أو الملك أو الرئيس تكشف أن الحداثة والمعاصـرة مجرد قشـرة
خارجية، تعجز تماماً عن إخفاء البنية التقليدية .
ولا يحسن الحلم إلا
في مواطنه
ولا يليق الوفاء إلا
لمن شكرا
وعبر ثنايا الزمن
تتشكل ملامحنا بانتظام جميل، يبقينا أحسن مما كنا، بانتظام متلاحق. وإن أية حياة -
مهما كانت بسيطة - ستكون جميلة وممتعة، إن رويت بصدق..
هذه الرؤية تعني
التحرر من سائر القيود، خاصة تلك القيود المنهجية والموضوعية التي تكتنز بمضامين
وإشكاليات ما بعد الحداثة.. فهناك دلائل وإشارات تعمل على إرساء ضغط المثاقفة
والتثاقف بين حداثتين تعملان على تزييف الواقع، وتمويه معالم الصدق والبساطة في
قيمه الإنسانية.. حصل ذلك بعد أن استعرنا هموم الغير، هموم العالم الغربي،
ومشكلاته، وصـرنا نبشـر بها، ونروج لها في مجتمعاتنا التي لم تنجز حداثتها الأولى
بعد.. فتحولت الثقافة عندنا إلى اغتراب عن الذات، واستلاب عن المعنى والسياق..
وبقيت نصوصنا، ومقالاتنا، ومؤلفاتنا، مجرد تدريبات على تهجي قيم الآخرين، مما
أفقدها الصلة بجمهورنا وواقعنا المعاش..
هذا حال مثقفينا، وإن راجت كلماتهم وكتبهم في
أماكن أخرى..
فحروفنا مريضة لا
تشم ريح الحياة، ولا ترى ضوء الشمس..
حتى الألف نقيم لها أصلاً، وتنحرف !!
غابت حكمتنا،
واستسلمت لصلابة الواقع، وامتناعه عن المعنى، مما أفقدنا القدرة على النطق، وجعلنا
نؤثر الصمت.
إن إنساننا يحتاج
اليوم - أمسّ الحاجة - إلى خطاب روحي، يوقظ فيه سبات الضمير، ويضخ النور في
الإرادات الإيجابية البناءة.. نرغب دائماً ببرمجة مسيرة المستقبل إلى إشغال مكان
بين نجوم السماء قريباً من موقع الثريا.
وفي مدن تعج بقطع
الغيار الآدمية، يغتال الضمير، وتسلب الإنسانية، مما يدفعنا إلى السفر عبر فضاءات
الروح، وعوالم الزمن البعيدة. فندرك أنه لا شيء ميت إلا ظاهرياً.. فطبيعة الوجود
ملأى بالحياة. لذلك، ففي كل مرة تملأ سحب اليأس عقولنا، لا نلبث أن نحس يداً تربت
على أكتافنا، وأخرى تملأ السـراج فيضـيء، وإذا بنا نبصر آثار أقدام تؤنس وحشتنا،
وعندئذ يعود القلب للغناء، حتى إذا أذنت شمسنا بالغروب، أيقنا أن هذا الغروب سيكون
شـرقاً ما، في مكان ما.
ولكن الناس تاهوا في
الخبر، عندما فقدوا الأثر..
إذ كيف ستبصـر العين
وجه الحبيب المسافر..
وهي عين لا تبصـر
غير الصور؟!
فلن نرتوي أبداً من
كأس الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق