د. سعد سعيد الديوەجي
? مما لا شك فيه أن الفكر الإسلامي فكر عميق
وغزير بالروايات والقصص؛ منها الصادقة، ومنها الدخيلة عليه، والتي زرعها - ومنذ
بداية الدعوة - أعداء الدين؛ المنافقون والزنادقة. ولعل حديث الإفك، الذي كَذّبه
القرآن، خير مثال على ذلك، وأنزل به الباري آيات بينات.
واستمر الأمر بعد
الفتوحات الإسلامية، خصوصاً من قبل الشعوبيين، والزنادقة، وبعض الأحبار، حسداً من
عند أنفسهم، وبغضاً لهذا الدين الذي هز عروشهم وكبرياءهم.
وإلى حد الآن، نجد من يطبل لهذه الروايات، إلى جانب الأساطير والخرافات الدخيلة على الفكر الإسلامي
الأصيل، والذي يمثل القرآن الكريم عموده الفقري.ولنا وقفة مع ما
يسمى بـ(الآيات الشيطانية)، التي روج لها (سلمان رشدي) في روايته التي تحمل هذا
الاسم عام 1988م، ولا زالت تجد لها صدىً على صفحات التواصل الاجتماعي؛ بين مروج
لها، ومنكر.
وقد حصل سلمان رشدي
على وسام الفنون والآداب الفرنسـي، كما تم منحه لقب فارس (سير)، على يد ملكة بريطانيا،
وجوائز أخرى عديدة!.
وعنصـر الترويج لهذه
الروايات، من قبل من يعادي الدين، واضح في هذا العمل، حيث الإساءة للرسول - صلى
الله عليه وسلم -، هي المرتكز الأصلي للرواية، كما حدث مع الرسوم المسيئة للرسول،
والتي نشـرتها إحدى الصحف الفرنسية، المسماة (شارلي إيبدو)، قبل عدة أعوام، وما
رافق المسألة من أحداث وتفاعلات لم تعبر إلا عن حقد دفين على شخصية الرسول - صلى
الله عليه وسلم -، واستغلال ما يقوم به المتطرفون على أنه يمثل الإسلام.
إن الذين رفضوا
(الآيات الشيطانية) كانوا قد استندوا على الثوابت القرآنية، وكما سنذكره لاحقاً.
وأما أصل الرواية،
فقد استند مروجوها إلى الآيات القرآنية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ
آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ ﴿٥٢﴾ لِّيَجْعَلَ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿٥٣﴾}(سورة
الحج)، وأن هذه الآيات جاءت رداً على ما يدعون بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
نطق به أثناء تلاوته لآيات (سورة النجم): (أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة
الأخرى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فسجد الرسول - صلى الله عليه
وسلم -، وسجد معه المسلمون، والمشـركون، فرحاً بالاعتراف بآلهتهم من قبل محمد، ثم استناداً
لآيات الحج رجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأصل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ
وَالْعُزَّىٰ ﴿١٩﴾ وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ﴿٢٠﴾ أَلَكُمُ
الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ ﴿٢١﴾ تِلْكَ
إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ﴿٢٢﴾}(سورة
النجم). وبُنية الرواية هشة إلى اقصى درجة، وكما سنعرضه لاحقاً.
وأما اللات والعزى
ومناة، فهي ثلاثة آلهة، لها معابد قريبة من (مكة)، وربما كان المشـركون يعتقدون أن
الأصنام الثلاثة عبارة عن تجسيد لفكرة الملائكة بنات الله - حاشا لله -، وقد اختلف
المفسـرون في معنى كلمة (الغرانيق العلى)، أهي كائنات ملائكية، كما ذكرنا، أم نوع
من الطيور التي ترتفع بالشيء، فتشفع لهم، وعلى كل حال فهي مصطلحات للأوثان التي
كانوا يعبدونها.
وسنعرض قدر المستطاع
تهافت الرواية استناداً لتكامل القرآن الكريم في نصوصه، وأنه ليس حَمال أوجه، كما
يروج لهذه الفكرة بعض بقايا المنافقين والمشككين إلى أيامنا هذه.
إن من رأى صدق
الرواية، وصدّق بها، من السابقين واللاحقين، يضعون الآيات التالية وراء ظهورهم،
وكأنها لم تكن. يقول تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿٩٨﴾ إِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿٩٩﴾ إِنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْـرِكُونَ ﴿١٠٠﴾}(سورة
النحل)، وهذه الآيات صـريحة جداً، ولا تقبل التأويل بأن الشيطان لا يلقي شيئاً
على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويذكر الدكتور أيوب
حسين السنجاري، في كتابه (حقيقة الدجال، في الكتاب والسنة)، عن الحافظ ابن كثير،
أن الروايات المتعلقة بالموضوع كلها مرسلات منقطعات، وأن الروايات مجرد إشاعات
شعبية تداولها الناس، ووجدت طريقها عند بعض المفسـرين وكتبة السِير.
ويقول الدكتور
السنجاري إن هذه الرواية التي رواها قتادة، وغيره، هي سبة على كل عالم أو مفسر، إن
صدقها، وكما ذكرنا فهي تعارض القرآن جملةً وتفصيلاً.
والمطلع على سيرة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يلاحظ - بلا صعوبة - أن ما جاء به الرسول - صلى
الله عليه وسلم - في سيرته من عدم التنازل عن مبدأ التوحيد قيد أنملة، واضح وضوح
الشمس في عز النهار، وأنه لا ينطق عن الهوى، إنما هو وحي يوحى، وهو كما يقول
تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَىٰ
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿١٩٤﴾}(سورة
الشعراء).
ولترويج الرواية،
وإعطائها المصداقية، يقول الدكتور السنجاري: بأن من نقل الرواية عن قتادة، قال بأن
المسلمين الذين كانوا يصلون مع النبي لم يسمعوا بما قرأ النبي، وأن المشـركين
الذين لم يكونوا مع النبي، قد سمعوها، لأن الشيطان ألقاها في مسامعهم، وألقاها في
قلب كل مشـرك في (مكة)، وتباشـروا بها. وهذا من أكبر خرافات الجاهلية، التي تخالف
نصوص القرآن ومبادئه. وإذا صح أن قتادة، وغيره من علماء المسلمين، الذين رووا مثل
هذه القصص الخرافية المخالفة لمبادئ الكتاب، فإن ذلك يجب أن يحفزنا لأن نعيد النظر
في كل مروياتنا التي رواها هؤلاء، وأمثالهم، من مروجي الخرافات والأباطيل التي
لوثت بعض جوانب التراث الإسلامي.
وللدكتور السنجاري
رأيه في قوله تعالى: {إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ﴿٥٢﴾}(سورة الحج)، ما معناه بأن أُمنية الرسل والأنبياء هي تصديق
الناس لهم، وأن ما يطرأ على هذه الرسالات من تبديل وتحريف ونقص وزيادة، بعد وفاة
الأنبياء والرسل، على أيدي بعض أتباعهم، هو من عمل شياطين الإنس والجن، ولم يكن
الإسلام بعيداً عن المسألة، عندما نشأت من داخله فرق الباطنية والمكفرة وغلاة
الخوارج، وشوهوا أصل الرسالة. يقول تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ ﴿١١٢﴾}(سورة
الأنعام). والحقيقة
إن عنصـر الإثارة والتشويق في مثل هذه الروايات هي التي تساعد على انتشارها، وقد
رفضها علماء عدة، منهم ابن خزيمة، وقال إنها من وضع الزنادقة، والقاضي ابن العربي
الأندلسـي، وقال إنها باطلة لا أصل لها، وكذلك القاضي عياض، وقال إنها لو وقعت،
لارتدّ كثير من المسلمين. وكذلك اعتبر ابن حزم أن القصة مكذوبة، وهي كذب بحت، لأن
النبي معصوم من الزيادة والنقصان في الوحي، ويستحيل أن ينطق بالشـرك. ومن الذين
انكروا القصة الرازي، وغيرهم.
وقال البيهقي: بأن
البخاري روى في صحيحه أن النبي قرأ (سورة النجم)، فسجد وسجد معه المسلمون
والمشـركون والإنس والجن، وليس فيها حديث الغرانيق.
والآن نقف وقفة
قصيرة مع مؤيدي خط سلمان رشدي من بعض المستشـرقين، وكيف يخلطون الأمور على العامة،
ويشوشون أفكارهم، بتعابير تبدو علمية، وهي بعيدة عن العلم التاريخي الرصين. وسنأخذ
ما يقول (مونتغمري واط)، في كتابه (محمد: النبي ورجل الدولة)، حول الموضوع.
ومع الأسف فإن هذه
النظرات لا تفهم روح الإسلام، وتميل إلى طرح كل ما يعادي مبادئه، وتضعه في إطار
تاريخي مزيف لا يستند على التحليل العلمي والمنطقي للتاريخ.
يقول (مونتغمري
واط)، في كتابه آنف الذكر، إن هذه القصة غريبة ومثيرة للدهشة، فمن خلالها بدأ نبي
الديانة التوحيدية، غير المتساهل في مسألة إشـراك آلهة أخرى مع الله، بأنه يأذن
بالشـرك في تلك الآيات التي تلاها.
في الواقع إنها قصة غريبة جداً، لدرجة يجب أن
تكون صحيحة في أساسياتها التي انبثقت عنها، ومن غير المتصور أن أحداً قد اخترع هذه
القصة ليقنع جموع المسلمين لقبولها. وعلاوة على ذلك، هنالك مقطع في القرآن يصف
شيئاً من هذا القبيل، ثم يذكر الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن
رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ
آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٥٢﴾}(سورة
الحج).
وهذا الرأي يناقض
نفسه بنفسه، فهو لم يذكر رأي رواة الحديث، الذين نفوه تماماً، والذين ذكرنا بعضهم،
ولم يذكر أن الرواية غير مذكورة في أمهات كتب الحديث، ورغم إقراره بعدم وجود موقف
للرسول - صلى الله عليه وسلم - هادن فيه أهل الشـرك، قبل الهجرة وبعدها، وأن صلب
الدعوة قام على مبدأ (لا إله إلا الله).
وإيغالاً في السطحية يعقب (واط)، في تناقض غريب،
على رأيه، فيقول: إن الآية السابقة تم تفسيرها بطرق مختلفة، لكن النص والآية يتفق
مع إحدى التفسيرات التراثية التي رويت، ولا يذكر ما هي هذه التفسيرات.
وإيغالاً في إضافة
التشويق، ولو بسطحية مفرطة، يقول: "إن محمداً في ذلك الوقت، كان كثير الرغبة
والشوق في إيجاد طريقة ما تجعل قبول الإسلام أمراً سهلاً للتجار والأغنياء، وعندما
أضاف الشيطان تلك الآيات، لم يدرك محمد ما قد أحدثه الشيطان فيه، وسواء أقبلنا
بهذا الموضوع أم لا - رغم أن هناك شيئاً من الحقيقة في ذلك - فمن المؤكد أن محمداً
قام بتلاوة (الآيات الشيطانية) كجزء من القرآن، وفي وقت لاحق تلا وحياً آخر ينسخ
تلك الآيات".
فالكلام أعلاه يضع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضع من لا يدرك ما يقول على تأثير رغبته في
نشـر الدعوة بين المشركين، ثم تلا وحياً يناقض ذلك، ولا يبرر مطلقاً التناقض في
الموقفين، رغم أنه حشـر التجار والأغنياء في كلامه بدون أن يبرر ذلك، وجملة
"رغم أن هنالك شيئاً من الحقيقة" جملة مبهمة لا يقول ما هي هذه الحقيقة.
ويزيد إيغالاً في
إعطاء جانب سلبي للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: "لم يكن يجد في
البداية في هذه الآيات ما يعتبره مناقضاً للدين الذي كان يبشـر به"، فهل هذا
يعني أنه كان مشـركاً في هذه المرحلة من الوقت، والسؤال في منتهى السطحية، وقلة
المعرفة، عندما يلمح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد دخل الشـرك في معتقده
أيام الدعوة، وقبل الهجرة إلى المدينة.
ورغم نفيه للسؤال
الذي طرحه، فإنه يسترسل بعدها بشـروح غير مستندة على أُسس تاريخية ذات مصداقية،
ويقول "بأن الفترة الزمنية بين النطق بالآيات الشيطانية، ونفيها، كانت طويلة،
ولكن التسوية التي قدمها لم تؤت أُكلها"!.
وكلها فرضيات لا
تستند إلى حقائق في السيرة النبوية، أو إلى نصوص القرآن.
بهذه السطحية
المفرطة يكتبون ما يروق لهم في تاريخنا، وبأطر افتراضية تبدو صحيحة، ولكنها ليست
كذلك إلا في أفكارهم المسمومة، ويستندون إلى روايات ضعيفة، وما وضعه المنافقون
والزنادقة والباطنيون داخل فكرنا الإسلامي، ورددها البعض بدون علم ولا كتاب منير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق