محمد صادق أمين
تعوّد الروائي العراقي في
أعمالـه أن يغوص في أعماق الجرح العراقي النازف منذ نصف قرن. شاكر الأنباري جسّد
في روايته (أنا ونامق سبنسـر) هذا الأمر، إذ لخص ربع قرن من رحلة التشرد، واللجوء،
والنفي، والضياع، لأكثر من جيل من العراقيين.
فقد تناول العلاقة المستشكلة بين الشـرق والغرب في أحداثها التي يتنقل بنا فيها بين: (كوبنهاغن، وبغداد، وطهران، وساوباولو، ودمشق)، فيجسد عبر بطل الرواية (نادر راديو) قصّة الشتات العراقي بين المدن والبلدان،
حيث تعيش تلك الشخصيات إرهاصات اللجوء، والتشرد، والحنين، والشوق، والفراق، والموت فرط الاغتراب.البطل كاتب عراقي هرب من جحيم حكم حزب البعث، واستقر لاجئاً في (كوبنهاغن)،
ثم تزوج برازيلية، وأنجب منها ابنتين، لم يتمكن من التأقلم مع روحها الغربية،
فطلقها، ليبدأ رحلة البحث عن الشـرق وسحره، فاستقر به المقام في (دمشق) زمناً، ثم
عاد إلى العراق بعد احتلاله عام 2003، ليوثّق أحداث العنف كمراسل لجريدة عربية في
كوبنهاغن، ثم لم يلبث أن اختار الهجرة من جديد.
يمكن القول إن الرواية ملخص لربع قرن من رحلة التشـرد واللجوء
والنفي والضياع لأكثر من جيل من العراقيين، وإشكالية التأقلم مع المهجر، والحفاظ
على الخصوصية، والذاكرة الوطنية والثقافية، ممزقين بين ماضيهم المثقلة به الذاكرة،
وحاضرهم الذي لم يـتأقلموا معه، ومستقبلهم الذي لم تتضح معالمه رغم إسقاط النظام
الدكتاتوري الذي كان يصور على أنه يحمل وزر كل هذا الضياع، والانفصام في الشخصية.
تتداخل الأنا الشخصية بالأنا الجمعية في الرواية ببراعة، حلم
الانتقال من جحيم العراق إلى فردوس أوروبا تحطم على صقيع الغربة، وظل المنفي في
غربته متنقلاً من جحيم إلى آخر، إذ لم يمر بأي فردوس ولم يصل إليه.
رحلة متعددة الوجهات يسـردها الكاتب، تحكي نهايات متقاطعة في عالم
متشابك معقد، تنتقل من بساطة الحياة في بلد البطل؛ إلى موجبات الهجرة واللجوء،
والسعي للاندماج، يرسم الكاتب ملامح مرحلة مفعمة بالمآسي، ويبرز أن الهارب من قسوة
الحرب وظلم النظام؛ يصطدم بصقيع الغربة وبؤس الزمن، حتى إن الغربة قد تدفع بعضهم
إلى الانتحار.
يستحضـر الكاتب مفردات الشارع العراقي التي لا يعرفها إلا من عاش
يوميات هذا الشارع، حيث يعرف الناس بعضهم بعضاً بألقاب وأسماء ترمز لأشياء متعلقة
بهم، مهنهم، موقف اشتهروا به؛ فـ(نامق سبنسر) يكتسب لقبه من الممثل الأمريكي الذي
اشتهر في فترة جيل الروائي (بود سبنسـر) الذي يشبهه، وصديقه الآخر (نادر)، يلقب بـ(نادر
راديو)، لأنه دائم الثرثرة، وهناك (مراد قامشلو)، المذيع في القسم العربي بالإذاعة
في كوبنهاغن، كل واحد من هؤلاء يتوه عن ماضيه وواقعه، يفقد معاني وجوده في ظل
برودة العلاقات السائدة.
ثم ما يلبث الروائي أن يعود للواقع الجديد بإرجاع البطل إلى الوطن
الأم بعد التغيير السياسي، فيعمل على استرجاع أرشيف العنف، يسترجع مفارقات من
التاريخ الحديث لبلاده، ورزوحها تحت سطوة القهر، وكيف أن العنف يتناسل بطريقة
جنونية ووحشية، ويكاد يقضـي على مستقبل البلاد وأبنائها؛ إلى درجة أنه يتخيل ملامح
المعشوقة في وجوه القتلى المشوهة، وكأنه لا مجال للحب والجمال والمتعة في بحر
الدماء ومستنقع العنف الذي غرق فيه العراق.
ثم من خلال شخصية بطلته (سرى)، الصحافية التي تعمل في بغداد، ولها
علاقات متشعبة مع مختلف الأطراف، يسلط الأنباري الضوء على السجون العراقية، ويركز
على أقسام النساء في السجون، ومدى الاستهتار الذي يعمّها، وكيف أنها تحولت إلى
أسواق للنخاسة.
(سرى)، التي أعتقد أنها شخصية حقيقية عملت معها شخصياً ذات يوم في
أحد المشاريع الصحافية، وعلمت أنها قتلت لاحقاً، شخصيتها مدعاة للاستغراب، فهي
تعمل على تغيير واقع النساء في بلد يعيش مراحل وحشية متتالية متناسلة بعضها من
بعض، وينتقل من استبداد إلى آخر، فضلاً عن الاستبداد الأسري والاجتماعي، وما يفرزه
من تداعيات على حياة الناس هناك.
يعتبر الراوي نفسه شخصاً محشواً بالذكريات، على أهبة الانفجار
للبوح والاعتراف، وكأن تلغيم الواقع يصيبه بالعدوى، فينزع مسمار الأمان، ويفصح
عمّا يتعارك في داخله؛ يتجاوز تخوم الحيرة، يقف على عتبات التغيير المفترضة، وكيف
أن كل تغيير أعقب تدميراً وخلّف آخر، ولم يستطع إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ويؤكد الأنباري أن المنافي لم تمنح الدفء للمنفي، ولا وفرت له
السعادة المنشودة، بل وضعته في مواجهة أعداء شرسين لا يرحمون الاغتراب الداخلي
والنفي القهري، فأصبح في قيوده الكثيرة يناجي وحشته، ويهرب إلى الانتحار البطيء،
هارباً إلى الأمام من أشباحه ووحوشه، من أحلامه الموءودة، وسعادته المفقودة؛
ويعتبر أن تحدي الموت ومغافلته كانت نوعاً من المعاقبة التالية، إذ إن الحياة بعد
فقد الوطن والأحباء والأصدقاء تصبح سجناً قاهراً لا يطاق، إذ يصبح الفرد نزيل
عتمته الداخلية وقهره وأساه.
ينتقل صاحب (موطن الأسرار) من توصيف بلاد يكون الفرد فيها مهدور
الحياة، مقهوراً في حله وترحاله، إلى بلاد يكون الفرد فيها عالماً مستقلاً بذاته.
كما يصف طبيعة اختلاف إيقاع الحياة بين الأمكنة، تجتاحه أسئلة
وجودية تجاه مسائل كانت تشكل بالنسبة له مرتكزات وأساسيات لا محيد عنها. يكتشف
عالماً مختلفاً، يتذكر ماضيه بحرقة وحسـرة، وبرغم أن العودة تظل محفوفة بكثير من
المجازفات، فإنه يؤثر لبطله القيام بها، للوقوف على خرائط جروحه واستنزاف بلاده،
عسى أن يعثر على مخارج من الأزمات المتعاقبة على الصعيدين الشخصي والعام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق