هفال عارف برواري
أولاً / أهمية الموقع:
1 - إن الموقع الاستراتيجي لتركيا مهيأ لكل الاحتمالات، فهي تستطيع أن تصبح ممراً لمرور خط الغاز الطبيعي نحو أوروبا من آذربيجان وآسيا الوسطى، وكذلك العراق وإيران، عبر أراضيها عبر خط (جيهان - باكو)، وكبديل عن الخط الروسي الممتد عبر جورجيا، أي بمعنى خط أنابيب باكو-تفليس-جيهان، لنقل بترول آذربيجان وبترول آسيا الوسطى، وخاصة كازخستان، عبر جورجيا إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط..
وقد يكون لها خيارات أخرى، كجعل روسيا
شريكاً لها في مشـروع أنابيب نابوكو، الهادف لنقل الغاز الطبيعي عبر بحر قزوين من (تركمنستان)
(صاحبة رابع أكبر احتياطي للغاز في العالم) إلى (آذربيجان)، ومنها إلى خط أنابيب ناباكو،
الذي سيصل بدوره إلى وسط أوروبا، خاصة وأن الأوضاع تشهد تقارباً روسياً تركياً (وتأتي
أهمية بحر قزوين كونه يقع في منطقة مستقرة، ويمتلك 4%من احتياط النفط العالمي و 5%
من الغاز).
ومن هنا تأتي أهمية استقرار العلاقات التركية الأرمنية، لكي تكون
ممرات الغاز والنفط من مناطقها بديلاً عن الممر الموجود في جورجيا.. أما معضلة
أرمينيا، فابتعادها عن النفوذ الروسي يصب في مصلحة أمريكا أيضاً، وعلاقة أرمينيا
بتركيا تنقذ أرمينيا من حصار مثلثي، يشمل تركيا وجورجيا وآذربيجان، واقتصار انفتاحها
على روسيا شمالاً فقط، وبالتالي فبوابة تركيا تصب في مصلحتها، فهي بوابتها الوحيدة
للانفتاح الاقتصادي.
2
- موقعها الاستراتيجي يخترق الممر البحري والملاحي للبحر الأسود
وبحر قزوين وبحر المتوسط، كذلك ممراتها الحدودية تعمل على تواصل الدول مع بعضها
البعض شرقاً وغرباً.
وهناك أيضاً رؤية إقليمية لـ( سادات لاتشينار)، الذي يؤمن بقدرة المنطقة
على التكامل وسد احتياجاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية، وتوسيع
قنوات الاتصال والحوار لخلق (ذهنية إقليمية مشتركة).
ثانياً / الاستراتيجية :
لكي نعلم ما يجري اليوم، علينا التعرف على دور تركيا على الخارطة
العالمية، خاصة بعد تأسيس النظام العالمي الجديد، عندما حاولت كل دولة بمضاعفة
جهودها ليكون لها حضور في هذا العالم الجديد. وتركيا تلعب هذا الدور بأن تكون قوة مركزية مؤثرة في المنطقة.
وقبل الخوض في هذه الفكرة والاستراتيجية، علينا معرفة المراحل
التي مرت بها دولة تركيا، وأهميتها في التوازن العالمي..
1
- كان لتركيا الدور البارز عندما كانت تسمى بـ(دولة المواجهة)، عندما
كانت تعمل دور المواجهة للكتلة الشيوعية، لاحتواء التوسع الشيوعي، والوقوف أمام
محاولات الاتحاد السوفيتي أن يمتد جنوباً، إبان الحرب الباردة – طبعاً لا ننسـى أنها عضو
بارز في حلف الناتو-.
2
- تحولت بعد الحرب الباردة إلى جسر بين الشرق والغرب - أي جسـر
أوروبا نحو آسيا والشرق الأوسط-ونافذة شعوب الشرق ووسط آسيا على أوروبا.
3
- جاء أحمد داود أوغلو ليرسم رؤية تركيا المستقبلية، في كتابه
المشهور والملفت (العمق الاستراتيجي: مكانة تركيا في السياسة الدولية)، وخطته في
(السياسة المتعددة الأبعاد)، إذ يقول: إن تركيا أكبر من دولة مواجهة، أو أن تكون جسـراً
ونافذة، بل تركيا هي:
(دولة مركزية تقع في الوسط من البلقان والقوقاز ووسط آسيا والمشـرق
العربي)، مركزية ليس بالمعنى الجغرافي فقط، بل بالمعنى التاريخي والثقافي والقومي،
فتشمل الروابط القومية والثقافة الدينية والميراث العثماني، والعمل على توثيق
العلاقات بهذه الدوائر. وكل هذا يتطلب منها أن تقوم بإعادة توجيه بوصلتها الفكرية
كي تنسجم مع عمقها التاريخي والحضاري.. بالطبع مع عدم التخلي عن علاقاتها
التقليدية وسياستها الخارجية التقليدية مع الغرب !وتعمل على توازن دورها كبلاد عابرة للطاقة بين المنتجين
والمستهلكين.. وعندما تتحرك تركيا، حسب هذه الرؤية، فإنها ستتحول إلى دولة محورية
ولاعب رئيسـي على المسرح العالمي!
فهي رؤية تجمع بين الواقعية السياسية والتأصيل الآيدولوجي.. وقد
جاءت هذه الرؤية بعد تراكمات تاريخية مع أوروبا، فبالرغم من قيام الجمهورية بكل
شيء في سبيل الدخول في الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من دخولها في حلف الناتو ومجلس
أوروبا وفي السوق الأوروبية المشتركة، لكن النخبة التركية بكل أطيافها يئست من
دخولهم الاتحاد الأوروبي:
1
- بسبب البعد الديني والثقافي، فأوروبا تعتبر نادياً مسيحياً!
2
- التاريخ العثماني المرعب بالنسبة لأوروبا، وكيف بلغوا يوماً أبواب
(فيينا)!
3
- الثقل الديموغرافي التركي الكبير، والخوف من أن تسيطر نسبتهم الكبيرة
في المستقبل على أوروبا.
4
– ضعف دور تركيا بعد الحرب الباردة، عندما أمن الغرب من الاتحاد
السوفيتي. وأراد الغرب أن تكون تركيا مجرد جسر ثقافي واقتصادي بين أوروبا وآسيا.
5
- بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبح الأمر أمام تركيا ملحاً
للتواصل مع الدول المستقلة عنه، والتي لها ارتباطات ثقافية وأثنية بها؛ كجورجيا وآذربيجان
وغيرها، بل أصبح العامل الاقتصادي ملحاً جداً، كإمداد أنابيب الغاز والنفط فيما بينها،
وكذلك ما صاحب ذلك من انحسار نفوذ روسيا في دول البلقان، وزيادة نشاطات تركيا
الاقتصادية مع بلغاريا ورومانيا إلى البوسنة.. وبالرغم من التنافس الحاد بينها
وبين إيران، فإنه على الصعيد الاقتصادي تجري شـراكات وارتباطات اقتصادية، بصورة لا
يمكن فيها أن يستغنوا عن بعضهم البعض.
6
- وبعد الصعود الملفت لتركيا، وإدراك أن أوروبا تماطل في دخولها الاتحاد
،كان ردها بالمقابل أن صرَّحت أن الترك أمة، وأن من لا يناسبه هذا يستطيع الذهاب! وكأنهم
يريدون بهذه السياسة بيان أنهم لا يتلهفون وراءهم! وكانوا يرددون الحكمة التركية
القائلة: (البجع ينتمي إلى أسـرة البط، ولكنه يظل في النهاية بجعاً!)، وكذلك
الحكمة القائلة: (اهتم بالآخرين بقدر ما يهتمون بك)..
ولكي يتم هذا المشـروع فقد ظهر على الساحة التركية أكثر شخصية
كاريزمية، تأثرت به شرائح واسعة من الشعب التركي بكل أطيافه وألوانه، شخصية قوية
تحرك الشعوب نحو مركزية الدولة، وجعلها دولة محورية،
وكانت هذه الشخصية هي (رجب طيب أوردوغان)!! فمن هو ؟
الشخصية القيادية الأوردوغانية :
أوردوغـان هو مؤسس حزب العدالة والتنمية.. صعد صعوداً ملفتاً.. سيرته
باختصار :
1
- بدأ يعرف بـخطيب المنابر، والمتكلم الذي يتسم بقوة التعبير والارتجالية
في الكلام مع الجرأة في المواقف، المتميز بالحماسة الفائقة والعاطفة الإيمانية
الجياشة، وأكثر شخصية كاريزمية تأثر به الشباب والرجال والنساء في تركيا.
2
- جمع منذ صغره بين الالتزام الديني ولعبة كرة القدم، لذلك كان
يسمى بـ(الشيخ بيكنباور)، كتشبيه له باللاعب الألماني المعروف .
3
- تميّز بطاقة حركية هائلة، بحيث تستطيع أن تقول إنه أكبر دينمو
محرك يحرك كل من حوله. حتى أن وزراءه يتعجبون من
طاقته الجياشة، حيث كان يعمل من الصباح الباكر إلى منتصف الليل دون ملل ولا كلل.
4
– تدرج من فقير يبيع البطيخ وشراب الليمون في إسطنبول، أثناء
دراسته إلى أول من قام بثورة عمرانية بكافة المجالات في أسطنبول، فقد استلم بلدية
أسطنبول وعليها ديون تقدر بـ(4) مليار دولار، وخرج من البلدية ليصفر الديون، ويجعل
لها فائضاً مالياً، وأصبح فيما بعد يلقب بـ (محطم صنم أتاتورك) في تركيا!
5
- محوّل تركيا من رجل أوروبا المريض، إلى رجل العالم المتعافي.
6
- أسس لتركيا ثالثة جديدة؛ لا عثمانية ولا أتاتوركية، واستطاع أن
يجمع بين إيجابياتهما معاً.
7
- تأثر بأستاذه، الأب الروحي للحركة السياسية الإسلامية في تركيا: (نجم
الدين أربكان)، الذي منحه فرصة الصعود في حزب الرفاه، كي يصل إلى بلدية اسطنبول
عام 1994-1998 م، حيث تمكن من حل مشاكل أسطنبول الكبرى حينها؛ من كهرباء ومشاكل
مياه الشرب ومياه الصـرف الصحي، وأصبح نصير الفقراء والمحتاجين، وقام بتوفير السكن
وفرص العمل لشـرائح كبيرة، وساعده في ذلك شهادته في كلية الإدارة، وخبرته في
السياسة والإدارة من تجربته التنظيمية مع حزب الرفاه.. وكان سر نجاحه الاقتصادي مع
كل هذه الخبرة والعمل المتواصل خلفيته الدينية والبعيدة عن الفساد الخلقي والمادي. !
8
- عانى مرارات خلق الأزمات من قبل حراس الدولة الأتاتوركية، وتم
سجنه بسبب ذلك.
9
- حدوث انعطاف تاريخي في حياته، قام برسم رؤية جديدة، لذلك لم
يمانع أن يقوم بتأسيس حزب العدالة والتنمية، عندما تم حل حزب الرفاه، تاركاً نهج أستاذه
وقائده الملهم. وكان يعرّف حزبه حينها بأنه (حزب أوروبي محافظ)! وانتقد فكرة استغلال الدين في السياسة! وقال: (نحن حزب محافظ
ديموقراطي لا يرتكز على أسس دينية ولا عرقية، متحرراً من المقاربات الآيدولوجية)!
10
- وقال حينها: لا لإمبراطورية تركية، لكننا ندعو إلى الاحترام
المتبادل والبناء على أسس المصالح الاقتصادية والسياسة المشتركة وممارسة التجارة
معاً.
لقد كان (أوردوغان)، بالإضافة إلى خلفيته الدينية المحافظة، سياسياً
محنكاً ورجلاً بركماتياً، يستطيع أن يرسل رسائل تطمينية إلى الغرب بأنه يؤمن
بالآليات والأفكار الغربية التي لا تناقض قيمه الدينية، خاصة وأن الغرب كان حينها
مستاءً من التغول العسكري في سياسة إدارة وحكم الدولة..
وقام ببناء استراتيجيته عن طريق (كلمة السـر)، كما قال هو عنها، وهي:
(إدارة الإنسان -
إدارة
المعلومات - إدارة الأموال).
لكن شعاره الآن هو رفع أصابعه الأربعة، اقتداءً بشعار الإخوان في
رابعة العدوية في مصـر، وقد بيّن أن شعاره هذا يرمز إلى: (أمة واحدة -
علم واحد - وطن واحد -
دولة
واحدة)، وهو يمثل الدولة التركية
التي تقوم على 4 دعائم، كما وضعه على مكتبه لاحقاً..
11
- قص أظافر دولة التنظيم السـري، أو الدولة العميقة، المتمثلة
بالمؤسسة العسكرية العريقة في تركيا ومنظمتها السـرية (منظمة الارغينيغون) الأخطبوطية
المرعبة!! ولُقِّبَ حينها بـ(الفتى الشجاع).
12
- خطط لدخول الاتحاد الأوروبي، وكان من مستلزمات الدخول كي تتوافق
مع معايير (كوبنهاكن)، هو إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة والتدخل في القضاء،
وأجرى بذلك تعديلات ألغى من خلالها هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن
القومي، وحدد صلاحيات رئيس الأركان، وقام بتحويل أعضاء مجلس الأمن القومي من
أكثرية عسكرية إلى أكثرية مدنية وأقلية عسكرية !مما أدى إلى تحويل لجنة الأمن القومي من موقعها في الهيمنة إلى
صفة استشارية فقط.
13
- أعطى تعريفاً جديداً رائعاً للعلمانية، وهو: (حياد الدولة تجاه
مختلف العقائد الدينية والقناعات الفلسفية).
14
- منذ وصول حزبه إلى السلطة بادر إلى تقديم مبادرات أكثر شمولية في
التعاطي مع الأوضاع القائمة، وبادر إلى حل أكبر مشكلة في تركيا وهي المسألة
الكوردية، ففي عام 2005م خطب أوردوغان قائلاً: (إن الحل السياسي أصبح ضرورة ملحة
بالنسبة للمسألة الكوردية، وإن على الدولة أن تعتذر عمّا اقترفته في السابق من
أخطاء في حق الكورد)!
وشدد
على أن الهوية الكوردية يجب أن تخرج من النطاق الضيق للحسابات الأمنية، وتعامل على
أساس أنها إضافة نوعية للتنوع والتعددية التي يتميز بها المجتمع التركي، وهي-
الورقة الرابحة - المتوفرة أمام من يريدون الحفاظ على السلم الاجتماعي والتعددية القومية
داخل البلد)! وبهذه الخطوة كان عليه أن
يقوم بإضعاف النهج الأمني في التعامل مع القضية، وقد استطاع فعل ذلك.
15
- بادر إلى وضع (خارطة طريق) للمصالحة مع تركيا لحل القضية
الكوردية، ووضع الحزبين المعارضين: الحزب الجمهوري والحزب القومي التركي، أمام
الصورة، وقال لهم: (تعالوا ولا تبقوا أنفسكم خارج هذه العملية، فقد حان الوقت لحل جذري
لهذه المشكلة، وسنتخذ خطوات مهما كان الثمن)!
لقد تسلَّم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في 2002، وقد حدثت
ثلاثة متغيرات رئيسة في تركيا والمنطقة، وهي:
- القبض على أوجلان عام 1999،
إثر عملية معقدة، أسهمت فيها المخابرات المركزية الأميركية.
- الأزمات الاقتصادية التركية التي دفعت بالبلاد إلى حافة الإفلاس.
- متطلبات النظام العالمي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو
ما أعطاه -إلى جانب عوامل أخرى- فرصة تاريخية لحل الكثير من مشاكل البلاد.
لم يستعجل العدالة والتنمية طرح أية مبادرة سياسية خاصة بالقضية الكوردية،
بل عمل في سنواته الأولى على تنمية الاقتصاد التركي، الذي أدَّى إلى استقرار سياسي،
وأثمر حاضنة شعبية شجَّعته لاحقًا على فتح الكثير من الملفات الشائكة (منها
المشكلة الكوردية)، تحت عنوان التوافق مع معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي. وقد
ساعده على ذلك خفوت حدَّة العمليات العسكرية التي قام بها الحزب بعد اعتقال
أوجلان، إضافة إلى المراجعات التي قام بها الحزب، وأوجلان شخصيًّا، لنهج الحزب
السياسي، ابتداءً من عام 2005، بالتخلي عن فكرة دولة قومية للأكراد، نحو فكرة
الحكم الذاتي الديمقراطي والكونفيدرالية الديمقراطية.
لذلك أقدم العدالة
والتنمية على تقديم مبادئ رئيسة، يمكن تلخيصها بالآتي:
- نهضة تركيا وتقدمها مرهونان بحل القضية الكوردية، التي تستنزف
ثروتها البشرية ومواردها، وتفتح باب التدخلات الخارجية.
- الاعتراف بالمظلومية التاريخية للأكراد في تركيا والمنطقة.
- اعتبار القضية الكوردية شأنًا تركيًّا، أو مشكلة داخلية، وليس
قضية إقليمية، أو حربًا بين أعداء، ولذلك فضّلت الحكومة التركية استعمال مصطلح (الحل)،
أو (التسوية)، وليس (السلام)، لوصف العملية السياسية حينها.
- حل القضية الكوردية سياسيًّا ضمن استراتيجية متكاملة، وليس من
خلال رؤية أمنية-عسكرية.
- على حزب العمال الكوردستاني أن يبادر إلى إلقاء السلاح وترك
العمل العسكري.
- على الدولة أن تعمل على الاعتراف بالحقوق السياسية والاجتماعية
والثقافية للكورد.
وقبل أية مفاوضات سياسية، عمل العدالة والتنمية على خطوات بسيطة،
ومتدرجة، في مجال الحقوق الثقافية والاجتماعية للكورد، ثم استمر بها، وبنى عليها
بعد بدء المحادثات، كان أهمها:
- السماح بتنظيم دورات لتعليم اللغات غير التركية (الكوردية
تحديدًا) عام 2003.
- افتتاح أقسام لتعليم تلك اللغات في الجامعات التركية.
- إقرار حق التأليف والنشر باللغة الكوردية.
- افتتاح قناة تليفزيونية رسمية ناطقة باللغة الكوردية عام 2009.
- السماح بتعليم الكوردية كمادة غير إلزامية في المدارس عام 2012.
- السماح للمتهمين الكورد باستخدام لغتهم الأم في الدفاع عن أنفسهم
أمام القضاء، في كانون الثاني2013.
- حزمة الإصلاحات الديمقراطية التي أعلنها أردوغان في سبتمبر/ أيلول
عام 2013، والتي تضمنت السماح بفتح مدارس ومعاهد خاصة تدرِّس بلغات غير التركية (الكوردية
خاصة)، والدعاية السياسية بلغات ولهجات أخرى، وتغيير أسماء بعض القرى والبلدات
لتعود لأسمائها القديمة، وزيادة عقوبات جرائم العنصـرية والتمييز على أساس اللغة
والعِرق والقومية، وصولًا إلى تغيير (القَسَم الطلابي)، الذي كان يُتلى صباحًا في كل
المدارس التركية، لأنه يشير إلى الطالب (التركي) حصرًا..
- اتباع سياسة تنمية جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكوردية، من
خلال عشـرات المشاريع الاقتصادية والتنموية؛ من طرق ومستشفيات ومطارات وجامعات
ومرافق سياحية.
- إقرار قانون (إنهاء الإرهاب، وتمتين الوحدة المجتمعية)، الذي
يفوِّض الحكومة باتخاذ الإجراءات الضـرورية للعملية السياسية، ويُزيل المسؤولية
الجنائية عن المشاركين فيها، ويسمح بعودة من يُلقي السلاح لبيته، ويضمن مشاركته في
الحياة المجتمعية.
أمَّا المفاوضات السياسية، فقد بدأت خارج البلاد بعيدًا عن
الأضواء، وعن طريق جهاز الاستخبارات، وليس الحكومة، بيد أن كشف أمر اللقاءات السـرية
التي كانت تتم في العاصمة النرويجية، أدى إلى استدعاء رئيس جهاز الاستخبارات في
شباط 2010، لأخذ إفادته بتهمة التخابر مع (منظمة إرهابية)! وهو تطور كاد أن يطيح
بكل العملية السياسية، لولا تدخل أوردوغان السـريع والحاسم، من خلال الحكومة.. وقد
استمرت المحادثات تحت عنوان (مشـروع الوحدة والأُخوَّة)، وتُوِّجت برسالة من (عبد
الله أوجلان)، تُلِيَت على المحتفلين بعيد نوروز في 21/ آذار 2013، دعت إلى إلقاء
السلاح، وحلِّ القضية الكوردية بالطرق السلمية، وهي ما اعتُبر في حينها انعطافة
تاريخية فارقة في تاريخ الحزب والقضية الكوردية.
كان الاتفاق غير المعلَن - والذي تم تسريبه إلى وسائل الإعلام -
يقضي بالآتي:
أولًا: إلقاء مقاتلي الحزب السلاح، ومغادرة تركيا نحو جبال قنديل
في العراق، على دفعات.
ثانيًا: دمج من لم يشتركوا في عمليات تفجير وقتل في المجتمع.
ثالثًا: إقرار الحكومة لإصلاحات دستورية وقانونية تتعلق بحقوق
الأكراد.
رابعًا: تشكيل (لجنة حكماء) من الشخصيات العامة والفنانين وأصحاب
الرأي للترويج لفكرة الحل السياسي.
خامسًا: تشكيل لجنة من حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعتبر الذراع
السياسية للعمال الكوردستاني، ليكون صلة الوصل بين الحكومة وأوجلان، لتبادل الآراء
والأفكار في سبيل الوصول إلى خطة طريق واضحة للعملية السياسية. وقد بدأت زيارات
هذا الوفد لأوجلان في/كانون الثاني 2013.
لكن الأمور لم تَسِـرْ كما خُطِّط لها. فقد أسهمت عدة تطورات
محلية وإقليمية في عرقلة كل تلك المساعي، خاصة بعد فشل الثورات العربية، وانهيار بعض
الدول المجاورة، وتدخل القوى العالمية في المنطقة؛ كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا،
وظهور تنظيم داعش المتنامي، والدعم الأمريكي للقوى الكوردية في سوريا، للتصدي لهذا
التنظيم، وحادثة (جزي بارك) في/حزيران 2013، مما أدى إلى خلط الأوراق في الداخل
التركي، تزامن ذلك مع الإعلان، في كانون الثاني 2014، منطقة حكم ذاتي كوردي في
الشمال السوري المحاذي للحدود التركية، والتعامل المباشر مع المجموعات الكوردية من
قبل أمريكا، ودعمها بالسلاح، رغم الاعتراض التركي، وخشيتها من أن أي مكسب سياسي أو
استراتيجي للكورد في سوريا، وخصوصًا ما له علاقة بالحكم الذاتي، سيقوِّي من أوراق
قوة حزب العمال، ويهدد الأمن القومي التركي.
وقد أدت تداعيات كل تلك التغيرات إلى خلط الأوراق في الداخل
التركي، ظهرت ملامحها في انتخابات 2015،
عندما كشف رئيس حزب الشعوب الديموقراطي، المدعوم من حزب العمال الكوردستاني
المسلح: (صلاح الدين ديميرتاش) عن هدفه الأول، وهو إسقاط ( أوردوغان)، وحصوله على أكثر
من ثمانين مقعداً برلمانياً.. واستحالة تحالفه مع حزب العدالة والتنمية، رغم
إبداء الحزب رغبته بالتحالف معه لتشكيل الحكومة، مما أدى إلى إعادة الانتخابات بعد
فشل محاولات التحالفات، وعدم استطاعة أحد تشكيل الحكومة، وخسارة الفصيل الكوردي لعدد
من مقاعده في جولة الإعادة، وعدم استغلاله ذلك الثقل البرلماني في المسار الصحيح،
فخسـروا الرهان، وخسـروا أفضل حليف منشود.. والسياسة الناجحة في أصلها مواقف وقرارات حاسمة في منعطفات
تاريخية معينة !
16
– استفاد أوردوغان من خلفيته الدينية، وتاريخ دولته، للاندفاع نحو
الأمام.. ومما أثر في نفسيته واستفاد منه هو:
*
الشاعر
التركي (محمد عاكف إرسوى)، وخاصة شعره عندما كان يقول:
(الدين شهامة ..الدين غيرة
إن الإسلام الحقيقي هو أكبر قوة في العالم
إننا في حالة تلاوة القرآن نتعلم دروس الشهامة
والإيمان والحماس)!
*
أستاذه،
الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا: (نجم الدين أربكان). لكنه ابتعد عن مسار أستاذه
فيما بعد، كونه (أي أربكان) كان يحاول (أن يجعل من الدين قوة فوق الدولة، وأمامها)،
وأوردوغان رأى أن ذلك خلاف التقاليد التركية التي دخلت في العرق التركي، وهو أن (الدولة
في تركيا تسبق الدين بخطوة)، والتاريخ العثماني شاهد على ذلك !
-
الاستفادة
من الإسلام الاجتماعي، وعلى رأسه المدرسة النورسية للشيخ بديع الزمان النورسي.
-
تجربة
الداعية التركي (فتح الله گولن)، صاحب المدرسة المنبثقة من الإسلام الاجتماعي
للمدرسة النورسية، التي تمّ تجديدها بمدرسته التي تعتمد على (الميراث العثماني - الميراث العلماني- اقتصاد السوق
-الديموقراطية)، والمنسجم مع الغرب، والذي يقول عنه بأنه أفضل نموذج للاقتداء، فهو
يرى أن الغرب مجرد قوى عالمية علينا التعامل معها، والذي كان يخالف (أربكان)، الذي
يرى أن أمريكا عدوة الإسلام بسبب تحكم الصهيونية العالمية في صناعة القرار! وكذلك كان (فتح الله گولن) يرى أن المجال
الحيوي لتركيا ليس الدول العربية وإيران، بل هو القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى
والبلقان، التي فيها أقليات تركية، فلا بد لتركيا أن تتقوى في مناطق نفوذها..
وفتح الله گولن كان له نفوذ عميق في الدولة التركية، بحيث كانوا
يسمون جماعته بـ( الدولة الموازية)، والذي كان لهم دور في مكافحة وكشف مخططات
تنظيم الأرغينيغون العسكري للانقلاب على حزب العدالة منذ البداية! لكنهم الآن يكنون للعدالة العداوة! وقد كان لهم دور رئيسـي في
محاولة الانقلاب التي فشلت يوم 15 تموز 2016، التي تحالف فيها :
- الدولةالعميقة، المتمثلة بـ(منظمة الأرغينيغون)، وهي التي تقوم أصولها
ومعتقداتها على العلمانية الأتاتوركية للدولة، وعلى سيطرة العسكر على زمام أمور
تركيا، وكانت لها علاقات وثيقة مع الغرب وإسرائيل، وكان من مهامها النفوذ المالي
في الدولة، والقبضة العسكرية.. في ظل هذه المنظمة، كانت تقوم بكل عمليات التصفية أو
تلفيق المحاكمات للذين يعارضون هذه الفكرة، أو حتى القيام بصناعة حروب مصطنعة لكي
تبقى هي المهيمنة والمسيطرة
! لكن
تم إضعافها بعد ان استطاع أردوغان من اختراق هذه المنظمة، لكن بقي منهم الكثير
كخلايا نائمة!
-
الدولة
الموازية، المتمثلة بـ(حركـــة الخدمــــة)، والذي يقودها (فتح الله كولن)، التي
تستخدم نفس سياسة المدرسة النورسية في التحرك كحركة شعبية ذات صبغة إسلامية، بعيدة
عن السياسة، لكنها تتميز بعرقها القومي التركي، لإيمان مؤسسها بالجنس التركي
وبفلسفة الإسلام القومي، حيث يعتبر الجنس التركي متفوقاً على كل الأجناس !وقد استطاع أن يخترق مؤسسات الدولة الحساسة
عندما كانت له علاقات جيدة مع العدالة، واستطاع بحكم تواجده في أمريكا، وفلسفته
الدينية والسياسية والثقافية المتناغمة تماماً مع المصالح الأمريكية، أن يؤسس
شركات ومؤسسات عملاقة تدير أموالاً طائلة، يستطيع أن يحرك أوراقاً حساسة في
المنطقة، لا سيما أنه يتميز بشخصية روحية فذة، واستطاع أن يخترق الوجدان التركي!
17
– وأخيراً، كان أوردوغان دائماً يردد مقولة - قبل الثورات العربية
- أن معركتنا الأخيرة هي معركة الدستور، وكان يقول حينها: (ليس خيالاً أن يكون
القرن الواحد والعشـرون قرن تركيا، لكن هذا لا يتحقق إلا بتحديث تركيا من خلال التعديلات
الدستورية التي تليق بتركيا).
ولكن قيام الثورات العربية،
وما حدث من انقلابات مضادة على الشعوب نفسها، وانجراف تركيا إلى منزلقات ومطبات
سياسية، جعل من أوردوغان أن يغير قوانين
اللعبة السياسية، ويتصـرف بانفرادية، كي يستطيع أن يبقى على مكانته، ويستطيع تحقيق
رؤيته الاستراتيجية. بالطبع كانت نتائج ذلك انفصال كثير من قادة أحزابه المقربين
له، الذين كانوا معه في درب الحركة التجديدية.
ثالثاً / النظام الرئاسي :
هناك سؤال يطرح نفسه حول
تركيا، وهو:
لماذا يتم تضخيم تغيير الدستور، والخوف منه، بحجة تحويل النظام
الرئاسي في تركيا إلى نظام برلماني مرة أخرى؟ وهل توجد دولة قوية منتجة، ولها نفوذ
قوي، ولا تمتلك نظاماً رئاسياً!؟
وللعلم أن كل دولة يكون لها نفوذ ووزن إقليمي متنام، وتكون دولة
منتجة ومتطلعة للنهوض، لا بد أن تمتلك المركزية في القرار.. وتركيا كدولة كبيرة
مترامية الأطراف، مختلفة الأعراق والإثنيات، بحاجة إلى نظام رئاسي، والدستور الموروث
والمكتوب بنزعة (كمالية) لا يتناسب مع موقع تركيا الجديد، وصعود نفوذها إقليمياً
ودولياً.. فكل دولة متنفذة لها نظام رئاسي، مثل النظام الأمريكي، كأكثر أنموذج
نريد الاقتداء به نحن الشـرق، وحتى فرنسا لها نظام رئاسي، وكذلك النظام الروسي، بل
حتى النهوض الصيني ينتهج المركزية في القيادة، وحتى النظام الإيراني يعتمد على نظام
ولاية الفقيه، التي تعتمد على المركزية في القرار، بجوار رئيس ذي صلاحيات واسعة، يوازي
نفوذها الاستراتيجي وتوسعها، لكنه لا يخرج عن مركزية ولاية الفقيه!
لذلك، فكل دولة كبيرة، ذات نفوذ إقليمي، متطلعة للنهوض، ولها
مشاريع اقتصادية تتجاوز حدودها نحو العالمية، لا بد أن تمتلك نظاماً رئاسياً.. لأنه
أقوى من بقية الأنظمة السياسية كالنظام البرلماني والمختلط.
رابعاً / الصراع من بوابة
الاقتصاد
:
تاريخياً:
1
- في مطلع القرن التاسع عشـر، بينما كانت الإمبراطورية العثمانية
تعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة، كان يهود (الدونمة) يسيطرون على الشؤون المالية
وإدارة الديون في الدولة، بفضل علاقاتهم واتصالاتهم بأوساط المال العالمية، وكان
هؤلاء أنفسهم ضمن أهم الشخصيات التي أدارت الحملة الداخلية ضد السلطان العثماني
والخلافة باسم القومية التركية، ومن بين أبرز هؤلاء:
- (إيمانويل قاراصو)، أحد مؤسسـي جمعية الاتحاد والترقي عام 1889،
التي أسهمت بشكل مباشر في انهيار الإمبراطورية العثمانية.
-
(شمسـي أفندي)، (اسمه الأصلي شمعون زوي)، كان منظراً للقومية
التركية والعلمانية، وصاحب ومدير وأستاذ المدرسة التي درس فيها الزعيم التركي
مصطفى كمال أتاتورك، أثناء طفولته، في مدينة (سالونيك).
-
(مؤنس تكين ألب)، الذي كان
يبدو تركياً قومياً مسلماً، فاسمه الحقيقي (مويس كوهين)، وكان مقرباً جداً من أتاتورك،
وأحد أطبائه، وفي الوقت نفسه كان ثرياً جداً، وله علاقات ممتازة مع المؤسسات
المالية الدولية.
في عهد الجمهورية الأتاتوركية:
2
- بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، سيطر يهود الدونمة على
الاقتصاد التركي منذ تأسيس الجمهورية، فمثل هؤلاء كانت لهم الكلمة الأبرز في تحديد
مسار الاقتصاد العثماني، وهم الذين تولوا المراكز الهامة والحساسة في النظام
الاقتصادي والمالي لتركيا بعد إنهاء الخلافة وإعلان الجمهورية، ولم يكن لهم دور
بارز في تقوية نمو الاقتصاد في تركيا لغاية السبعينات، وكان لهم الدور الرئيس في
تعزيز العلمانية في تركيا وبناء الدولة الحديثة.
فترة السبعينات:
3
- عندما شعرت القوى العلمانية المهيمنة على الاقتصاد التركي
باحتمال ظهور قوى أخرى قد تؤثر على مصالحها، قررت فوراً تشكيل إطار رسمي منظم يحمي
مصالحها الاقتصادية، ويحافظ على مكانتها السياسية، وتأثيرها القوي في نظام الدولة،
وفعلاً تأسست جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (توسياد)، عام 1971م، في
إسطنبول.
يبلغ عدد أعضائها ما يقارب الألف شخص، هم الأكثر ثراء على الإطلاق
في تركيا، يمتلكون نحو 1300 شركة، يعمل فيها نحو 500 ألف شخص، وحجم تعاملها أو
نشاطها يتركز على الدول الغربية، وكانت تتحكم في 47% من القيمة الاقتصادية التي
تنتجها تركيا، ولا زالت هذه الجمعية أبرز قوة اقتصادية علمانية مؤثرة على الحكومات
التركية المتعاقبة، ولها تأثير لا يستهان به أبداً على القرار السياسي والتوجه
الاقتصادي لتركيا.
نهاية الثمانينات:
4 - في بداية التسعينات، وتحديداً عام 1990م،
ظهرت جمعية رجال الأعمال الصناعيين، التي أسسها (نجم الدين أربكان)، وسميت بجمعية (موصياد
(MÜSİAD، فأي فكرة وأي مشـروع لا يكتب له النجاح ما لم يرتكن إلى سند اقتصادي
قوي! كان عدد أعضائها يقارب 3000 شخص، يمتلكون حوالي 800 شركة، لها أكثر من 28 فرعاً،
يعمل فيها ما يقرب 2مليون شخص.. والآن هم في تصاعد، قاموا باستثمار أموال
المغتربين الترك، خاصة الموجودون في ألمانيا.. تعمل وفقاً لنظام المشاركة في الربح،
والخسارة والمرابحة، بدلاً من نظام الفوائد التقليدي الربوي، وقاموا بجذب
المستثمرين العرب والمسلمين، وأحدثوا نهضة اقتصادية تنافس (جمعية التوسياد).. وحتى
أسماء الشـركات المنضوية معها تدل على انتمائها، مثل: مؤسسة (البركة تورك)، ومؤسسة
(فيصل للتمويل)، ومؤسسة (كويت تورك)، وسرعان ما انضمت إليها مؤسسات أخرى برؤوس أموال
تركية أناضولية.. لكنهم بعد ذلك تعرضوا إلى
القمع والتجميد لأرصدتها، من قبل المؤسسة العسكرية حينها، لكنها في عهد أوردوغان أصبحت
تمتلك قوة اقتصادية كبيرة لا يُستهان بها.
ولم يكن بالإمكان أن تحقق الجمعية صعوداً في مرحلة النشوء دون
رعاية ودعم سياسي، وهو ما قدمه لها نجم الدين
أربكان في البداية، حيث احتضن المجموعة ودعمها، وخاصة في فترة توليه رئاسة الوزراء
(1996-1997)، بسبب خلفيتهم المحافظة والمتدينة، وذلك في إطار توجهاته لدعم اقتصاد
تركي قائم على الاكتفاء الذاتي والإنتاج والتصنيع والتصدير..
والآن هي من أحد أكبر وأهم التكتلات الاقتصادية وأنجحها، وهي
الجمعية صاحبة الأرقام القياسية التي تمثل جسر تركيا للتواصل الاقتصادي مع العالم
بأسره.
5
- تأثير المشاريع العملاقة على سياسة واستقرار تركيا:
فـ(مشـروع گاب) العملاق، في
جنوب شرق الأناضول، والدعم الإسرائيلي له، مع شراء عقارات وآلاف الدونمات من قبل
يهود أتراك على أطراف هذا المشـروع، الذي يتألف من 22 سداً و19 محطة للطاقة
الكهربائية، فضلاً عن مشـروعات أخرى متنوعة في قطاعات الزراعة والصناعة والمواصلات
والري والاتصالات. وهو من حيث المساحة أضخم مشـروع في العالم، ويشمل ثماني محافظات،
وتقارب مساحة الزراعة المروية من خلاله 8.5 مليون هكتار، أي نحو 19 % من مساحة
الأراضي المروية في تركيا، كما أنه سيوفر لنحو 106 مليون شخص فرص عمل جديدة في هذه
المناطق ذات الأكثرية الكوردية. والجدير بالذكر أن مشـروع الگاب تم تصميمه بأيدي
خبراء إسرائيليين، نذكر منهم خبير الري (شارون لوزوروف)، والمهندس (يوشعكالي).
أما المشروع التركي الثاني،
فهو مشـروع سد أورفة، وهو أيضاً كان بمساعدة مالية من إسرائيل - ويراد لسد أورفة
أن تكون البقرة الحلوب لمستقبل اسرائيل!! وأن تكون سلة غذائية لها، وتغذيتها
بالماء العذب، عدا الآبار النفطية والاحتياطات الغازية الموجودة في ساحل البحر
البحر المتوسط، والتي تأمل إسـرائيل أن أن تكون تحت يدها! ما ينبأ لبداية وقوع حروب ستكون أقسى بكثير من الحروب العسكرية!!
6
- استثمار الشـركات العالمية العملاقة، وتأثيرها على المدى البعيد:
هناك شركة (توفاش) التركية لصناعة السيارات، وهو مشـروع مشترك بين
شركة رينو الفرنسية وصندوق التقاعد الخاص بالجيش التركي، حيث إن صناعتهما معاً
تشكل أكثر من 40 في المئة من إنتاج السيارات سنوياً في تركيا!
وشركة (فورد) التركية، التي يعمل فيها 10 آلاف فرد، ذات التقنية
العالية والتأثير المباشر على السوق التركية.. كل هذه الشـركات وغيرها، عندما تبحث
عن رؤساء الشركات ستجدهم هم من يديرون العالم، وأكثرهم من اليهود!
أي بمعنى أن أي نية لهم بسحب شركاتهم لأي حجة ما، فمعناه تعطيل الإنتاج،
وبالتالي تعطيل الإصدار، وهبوط مريع للعملة النقدية، وملايين العوائل سيصبحون بلا
عمل!
ناهيك عن سحب رؤوس أموال جماعة فتح الله گولن، وتأثيرها على
العملة النقدية، بعد القمع الذي تعرضت له، بعد اكتشاف صلتهم المباشرة بالانقلاب..
ناهيك عن تأثير (الأموال الساخنة)، وكيفية مواجهتها.. وهي الأموال
الأجنبية التي تتواجد داخل النشاط الاقتصادي التركي، على شكل ودائع بنكية، تهدف إلى
الإفادة من نسب الفائدة العالية في تركيا، أو عن طريق بيع وشراء الأسهم، والمضاربة
في البورصات التركية، أو عن طريق بيع وشراء العملات الصعبة في أسواق العملات التركية.
فوائد ومخاطر الأموال الساخنة:
أهمية هذه الأموال تتمثل في قدرتها على التحرك السـريع بشكل يؤثر
على الوضع الاقتصادي مباشرة، فعندما تكون هذه الأموال موجودة داخل تركيا، يكون
تأثيرها إيجابياً على التوازن الاقتصادي العام، وتؤدي إلى تحسن ملحوظ في الأرقام
الاقتصادية، وتظهر وجود سيولة واحتياطي كبير في العملات الصعبة داخل تركيا، ويصفها
الخبراء بـ(القدم الرابعة) للاقتصاد التركي.. ولكن هذه الأموال ليس لها إسهام في
الإنتاج، أو في توفير فرص عمل داخل تركيا، وعند حدوث أي أزمة سياسية في تركيا،
وشعور هذه الأموال بخطر على مصالحها، تنسحب فوراً من الأسواق التركية، وعندها تؤدي
إلى خلل في التوازن العام للاقتصاد فوراً، وتظهر أزمات اقتصادية خانقة تعيد الاقتصاد
التركي إلى الوراء.
والمثير أن هذه الأموال غالباً ما تكون غربية، ويهودية بشكل خاص !وتستخدمها أوساط تهدف إلى خلق تأثير سياسي
على الحكومة التركية، خدمة لأهداف وأجندة خاصة بها! وعادة ما تكون القوى الاقتصادية العلمانية شريكاً محلياً لهذه
الأموال، لتفيد من قوتها وتأثيرها.
والأسلوب الجديد الذي كانت قد انتهجته حكومة أوردوغان في إدارة
الجانب الاقتصادي للصـراع بين القوى العلمانية و(الإسلامية)، هو توجهها لكسـر
احتكار الجهات الغربية واليهودية لهذه الأموال الساخنة، عن طريق جذب أموال عربية
وإسلامية لتستثمر في تركيا.
وقد استخدم أوردوغان فكرة اقتصادية غريبة، وقريبة من النظام الإسلامي
الاقتصادي، وتخالف كل الأعراف الدولية في الجانب الاقتصادي الربوي، والنظام
الرأسمالي، ونظرية المفكر الرأسمالي (ميلتون فريدمان)، الذي يتبعه كل العالم
الرأسمالي، والذي تتمثل فلسفته الاقتصادية حول حل مشكلة التضخم في (تقليل عرض
النقد من خلال رفع أسعار الفوائد !).. لكن أوردوغان اتبع فكرة حل مشكلة التضخم بـ(خفض
أسعار الفوائد)! وقد نجحت نظريته في السابق في خفض الفائدة إلى 4.5%، عندما كان
رئيساً للوزراء، وكان نهجه الخاص الذي
خالف به الأعراف الدولية الاقتصادية، التي تلجأ عادة إلى رفع الفائدة كوسيلة
لمواجهة التضخم عبر امتصاص السيولة من السوق لتقليل الطلب الاستهلاكي. فعلى عكس
ذلك التوجه، قام أردوغان خلال الأعوام الماضية بخفض الفائدة رغم ارتفاع التضخم،
مما زاد انتقاده من مؤسسات مالية دولية، وجعله هدفاً لسهام المعارضة بالداخل.
لكن الكثيرين لا يعلمون أن تركيا كانت قد جربت بالفعل نهج رفع
الفائدة لمواجهة التضخم حتى فترة قريبة، ولم يسفر ذلك عن نجاح، فقد كان معدلها في
أيار 2020 يبلغ 8.25%، وزاد حتى بلغ 17% نهاية العام، ثم زاد إلى 19% في آذار
2021، ومن ذلك الحين خفضها الرئيس أردوغان مجددا إلى حدود 8.5%... ومنطق أردوغان في ذلك النهج الجديد يستند إلى
أن اقتراض الشـركات بفائدة مرتفعة يدفعها إلى زيادة أسعار منتجاتها، فتسهم بذلك في
استمرار ارتفاع معدل التضخم، في حين تشجعها الفائدة المنخفضة على الاقتراض، فيزيد
الإنتاج والاستثمار، ويزيد المعروض من السلع والخدمات، مما يسهم في خفض التضخم. ويؤدي الإنتاج بأسعار تنافسية إلى زيادة الصادرات، فيقل عجز
الميزان التجاري، وتتزايد فرص تحقيق فائض بميزان المعاملات الجارية في المستقبل،
ولا سيما إذا تواكب ذلك مع زيادة إيرادات السياحة والخدمات، وتحويلات الأتراك
العاملين بالخارج.
وحتى يتحقق الهدف الطموح بوجود فائض في الحساب الجاري، عليه الإقدام
على الاستمرار في الاهتمام باكتشافات الغاز الطبيعي والنفط، ومبادرات دعم التحول إلى
اقتصاد إنتاجي، ومواصلة الاهتمام بالاستثمارات الزراعية والسياحية والسياحة
الاستشفائية.. وإن نجح في هذه المرة، فسيكون له نظرية اقتصادية تضاهي النظرية
الربوية المتبعة لـ(ميلتون فريدمان)، وسيكون سبباً في اتباع كثير من الدول لهذا
النهج الجديد، والقريب من نهج النظام الاسلامي في الاقتصاد، الذي يحرم الربا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق