أ. د. عماد الدين خليل
لم يكن التاريخ في يومٍ من الأيام ملكاً لأية قوة في الأرض، فهو دائماً يقدم لنا معطياتٍ معاكسة تماماً لما ادعته الماركسية – يوماً – بخصوص فكرة نهاية التاريخ، حيث تتوقف حركته عند مرحلة البروليتاريا (أي الطبقة العاملة)، وتتراجع - إلى الأبد - معطيات الصـراع الطبقي وإفرازاته؛ كالعائلة والدين والوطنية والقيم الأخلاقية، في ضوء ما سماه ماركس وانغلز في (المانيفست الشيوعي)، الذي أصدراه عام (1848 م)، بالقوانين العلمية لحركة التاريخ، حيث يبلغ التاريخ محطته الأخيرة فلا ظالم ولا مظلوم. ثم ما لبثت هذه النظرية التي تتناقض وقوانين الحركة التاريخية، أن انهارت وانهارت معها المؤسسة الكبرى للاتحاد السوفياتي، بعد إذ تبين عجزها عن الاستمرار.
والآن، فإنّ هناك
ادّعاءً مشابهاً لدى المنظرين في الساحة الغربية الرأسمالية، يوازي هذا المصير
نفسه الذي قالت به الماركسية، ولكن يخالفها بزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة،
وسيؤول بالتأكيد إلى المصير نفسه الذي آلت إليه الماركسية تنظيراً وتطبيقاً، وهو
ما يسمى بنظرية (نهاية التاريخ)، التي كان المفكر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) قد
نسج حيثياتها في ثمانينيات القرن الماضي، وقدمها في كتابه المعروف الذي يحمل الاسم
نفسه، ثم ما لبث أن عاد في أواخر التسعينيات لكي يجري عليها بعض التعديلات، بما
يجعلها أكثر قبولاً وتوافقاً مع المعطيات والخصوصيات التاريخية للأمم والشعوب.
وتلك هي إحدى
إشكاليات العقل الغربي الوضعي، التي تنطوي على ما يستحق التقدير والرفض في الوقت
نفسه.. التقدير للجرأة التي يملكها الغربيون في نقد وتعديل أنساقهم الفكرية، لحظة
يتبيّن وجود خطأ ما في جانب من جوانبها، وقد يقودهم هذا – كما حدث في كثير من
الأحيان – إلى رفض النسق الفكري بكليّته والانقلاب عليه، والبحث عن
بدائل أكثر إحكاماً. وأمّا ما يستحق الرفض والنقد في ممارسات العقل الغربي، فهو
ذلك التقليد الفكري الخاطئ الذي يجعل أي مفكر في الساحة الغربية، عندما يكتشف
حقيقة أو معلومة ما تحمل أهمية معرفية، فإنه يحاول أن يمطّها بأكثر مما تطيق، من
أجل أن يحوّلها إلى نظرية أو عقيدة تتحكم بالحقائق الكبرى، وتصادر العقل البشـري،
وتحاول أن ترغمه على الدخول من عنق زجاجتها الضيق، فما تلبث أن تقع في الخطأ،
وتدفع المستعبدين بحكم قوانين ردّ الفعل إلى التمرد عليها وإسقاطها من الحساب.
لقد حاول (ماركس وانغلز)
– على سبيل المثال – أن يحكّما كشفهما
بخصوص الصـراع الطبقي والتبدل في وسائل الإنتاج، بمجرى التاريخ البشري ومعطياته
كافة، بما في ذلك الظاهرة الدينية.. (سيغموند فرويد) فعل الشـيء نفسه إزاء كشوفه
في مجال الأنا التحتية والضغوط النفسية.. و(دركايم) مع نظريته في العقل الجمعي،
و(جان بول سارتر) مع وجوديته.. بل ما حدث ويحدث عبر العقود الأخيرة بخصوص تيارات
الحداثة، البنيوية، وما بعد البنيوية، والتفكيكية، والسيميائية.. وما بعدها.. إلى
آخره.
يريد (فوكوياما)
أن يقول بأن تاريخ البشـرية ألقى قياده، أو انتهى - بعبارةٍ أدق - بالخبرة
الليبرالية الرأسمالية، التي تتزعمها – في اللحظات الراهنة – الولايات المتحدة
الأمريكية، وأنه ليس ثمة متغيرات تاريخية بعد هذا. لقد ألقى التاريخ عصا تسياره عند
الحالة الليبرالية، التي هي - في زعمه - أعلى صيغ الخبرة البشرية، وأكثرها
انطباقاً مع مطالب الأمم والشعوب.. تماماً كما ادّعت الماركسية على الطرف الآخر.
وفي الحالتين، فإننا نجد أنفسنا إزاء معطيات مناهضة لقوانين الحركة التاريخية،
التي أريد لها أن تمضـي في تمخضها الدائم فلا تقف أو تسكن عند هذه المرحلة أو
تلك.. حتى يوم الدينونة الكبرى!!
إننا نرجع إلى
القرآن الكريم لكي نجد أنفسنا إزاء رؤية واقعية محكمة لمجرى التاريخ البشـري: [وَلَوْ
شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.
إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...](سورة هود/ 118-119)، أي
إنه سبحانه وتعالى خلقهم للتغاير والتدافع والاختلاف. وفي آيةٍ أخرى نقرأ: [...
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ...](سورة
البقرة/ 251)، أي التدافع الأبدي، الذي لولاه لتعرضت الأرض للعفن والفساد..
ها هو ذا صنم جديد
يبرز في الساحة الغربية باسم نظرية (نهاية التاريخ)، يستعبد عقول أجيال من
المعجبين في الغرب والشـرق، معتقدين أنها الإنجيل الذي يجب أن يتبع، وأن أي شعب من
شعوب العالم؛ في جانبيه الغني والفقير، ما لم يحذ حذو الخبرة الليبرالية
الأمريكية، بديمقراطيتها المدعاة، وبرغبتها في التنامي بالأشياء، والتكاثر
بالأموال والمتاع، والتنمية الاقتصادية التي تمضـي إلى غاياتها بعيداً عن منظومة
القيم الدينية والخلقية والإنسانية، فلن يكون لها مكان في العالم.. في التاريخ..
ومرةً أخرى، فإن
هذا الادّعاء يذكّرنا بمقولات الماركسية، التي انسحبت في نهاية الأمر من التاريخ،
بينما ظلّت الحركة التاريخية على دفقها وتزاحمها وتمخضها الدائم.. ومرةً أخرى – أيضاً – نرجع إلى كتاب الله،
لكي نرى أنفسنا إزاء مفهوم (المداولة) الدائم، الذي لا يسكن ولا يتوقف إلى أن يرث
الله الأرض ومن عليها: [... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ...](سورة آل عمران/140).
إنه الدولاب
التاريخي الذي يظل يدور.. يرفع قوماً، ويضع آخرين.. ولن تظل أمة أو دولة أو حضارة
أو امبراطورية على حالها.. إنها جميعاً تخضع للحركة ذاتها: الميلاد، والنمو،
والشيخوخة والذبول.. ليس ثمة نهاية للتاريخ في المنظور القرآني القائم على ثلاثية
(التغاير) و(التدافع) و(التداول).. إنما هي الحركة الدائمة.. لأن الله - سبحانه
وتعالى - أرادها منذ البدء أن تكون تغايراً وتدافعاً وتداولاً. وهذا هو الذي يحرك
التاريخ، ويعطيه طعمه وملحه، ويمكنه من الانتقال من حالة إلى حالة أخرى، وإلا فهي
المياه الراكدة التي تأسن وتفقد القدرة على الاحتفاظ بصفائها ونقائها..
إن نظرية (نهاية
التاريخ) تسعى إلى إلغاء البعد التاريخي للأمم والشعوب، ووضعها عراةً قبالة
الصنمية الاقتصادية التي تنزع إلى تسوية الجميع إزاء مطالبها، لكنها من وراء هذا
تزيد أغنياء العالم وطواغيته غنىً وجبروتاً، وفقراءه ومستضعفيه فقراً واستعباداً..
إنها لعبة، أو مناورة فكرية أخرى – إذا صح التعبير – في إعطاء خلفيات تنظيرية
وأيديولوجية لممارسات تتجاوز – ابتداء – منظومة القيم الخلقية، وثوابت العقائد والأديان، والمطالب
الأساسية للإنسان. ومن وراء هذه المناورة تكمن الخبرة الصليبية والاستعمارية الرأسمالية،
ومن ورائها – أيضاً – يكمن حلم اليهودية، ومشاريع حكماء صهيون.
إلغاء الذاكرة
التاريخية، وتحكيم الصنمية الاقتصادية، المتسلحة بكل قوى العلم والتكنولوجيا
والتفوق العسكري، وحتى السياسي، للغرب.. لن يجعل الفقير غنياً، وينزل بالأغنياء
لكي يقاربوا الفقراء.. إنها لعبة ستجعلنا، وكل المستضعفين في الأرض، ينسلخون عن
تاريخهم وتميّزهم.. ويزدادون – وقد تعرّوا من كل ما يحميهم ويمنحهم الدفء – التصاقاً بالقوى المتحكمة
في آليات الاقتصاد العالمية، فلا يزيدهم إلا عرياً وبرداً.. بهذا نكون قد خسرنا
مرتين!
والصنمية
الاقتصادية ليست إلهاً جديداً تفرزه معطيات عصـر الشيئية والتكاثر والنمو الأسطوري
في تقنيات الإنتاج.. إنه قديم قدم الإنسان نفسه.. صحيح أن تغيراً كبيراً لحقَ هذا
الصنم، فانفلت – وهو يتضخم – لكي يتحكم بكل شيء في هذا العالم، تماماً كما حدث مع (فرانكشتاين)،
وأصبحت محاولة السيطرة عليه مستحيلة! لكنه - مع ذلك - ليس حالة جديدة في تاريخ
الإنسان. لقد غزت هذه الصنمية حتى رجال الدين الرهبان وأتباع الديانات السماوية من
اليهود، الذين: [... َأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ...](سورة
البقرة/93)، والنصارى: [... َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ...](سورة التوبة/34).. وغيرهم كثيرون.
والذي يحدث الآن محاولة جديدة لتغطية القبح الفرانكشتايني برداء جميل من التنظير..
وهذه المرة تجيء المحاولة من قلب العالم الرأسمالي، بصيغةِ نظريةٍ جديدة يضعها
مفكر أمريكي يدعى (فرنسيس فوكوياما)، باسم (نهاية التاريخ). وقبلها بقرن ونصف نفذت
المحاولة على يد مؤسسي الماركسية الكبار (ماركس وانغلز)، وبزاوية مضادة تماماً،
تبلغ مائة وثمانين درجة!!
من أقصـى اليسار
إلى أقصى اليمين.. والنبض الديني الذي يتعبد الاقتصاد ويتّخذه إلهاً، هو نفسه هنا
وهناك.. فرعان لحضارة مادية واحدة، كما يقول (جيوروجيو) في (الساعة الخامسة والعشـرون)..
سقطت المحاولة الأولى بعد قرن ونصف من محاولات التجربة والخطأ.. أما نظرية (نهاية
التاريخ)، فسوف تفترس – بالتأكيد – زمناً آخر من عمر الشعوب قبل أن ينكشف زيفها وضلالها..
إن تجريد العالم
من بطانته الروحية، والوجود من تجذره في الغيب، ومنح السلطة المطلقة للاقتصاد، سوف
يميل بالميزان للمرة العشـرين أو الخمسين، في تاريخ الإنسان، الذي سيكون في البدء
والمنتهى الخاسر الوحيد.. أدرك هذا العديد من مفكري الغرب وفلاسفته وباحثيه..
ليوبولد فايس (محمد أسد) - مثلاً - يؤكد أن عصـرنا هذا "بحاجة إلى إيمان
يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، ومع ذلك يعطي الحياة الدنيا
حقها. إيمان يبيّن لنا كيف نقيم توازناً بين حاجاتنا الروحية والجسدية، وبذلك
ينقذنا من الهلاك الذي نندفع إليه برعونة وتهوّر"([1]).
(جورج سارتون)، الذي غرق في دراسة تاريخ العلوم حتى شحمة أذنيه، يحكم على
"التقدم المادي الخالص: بأنه (مدمّر)، وأنه "ليس تقدماً على الإطلاق، بل
تأخر أساسي،
(ذلك) أن التقدم الصحيح – ومعناه تحسين صالح لأحوال الحياة – لا يمكن أن يبنى على
وثنية الآلات، ولا على العتلات... ولكن يجب أن يقوم على الدين... على محبة الله
سبحانه وتعالى"([2]).
لقد سيطر على
العالم – كما يقول روجيه غارودي في (وعود الإسلام)- "نموذج
جنوني من النمو، لا يمكن أن يعاش"، وها هي ذي (الصنمية)، كما يسمّيها،
"تفرّخ وتتكاثر في مجتمعاتنا: صنم النمو.. صنم التقنية العلموي.. صنم قوة
الأسلحة والجيوش، بمحذوراتها جميعاً، ومحرماتها، وبرموزها المقدسة، وبطقوسها"([3]).
ومن وراء هذه الأصنام جميعاً، يترّبع إله الاقتصاد على جبل النظام العالمي الجديد،
أولمب القرن الحادي والعشرين، محاولاً أن يهيمن على كل شيء!
تعويم التاريخ، أو
إلغاء الذاكرة التاريخية للأمم والشعوب، سيقود – بالضـرورة – إلى انزلاقات خطيرة،
قد تذهب بهذه الأمم والشعوب إلى غير ما كانت توّد الذهاب إليه.. ولسوف تمنح
الماسونية سلاحاً جديداً. والماسونية لا تريد – هي الأخرى – سوى التحقق بقدر من
التسوية قبالة الوهم الإنساني، حيث ينزع ابن آدم جلده، ويتخلى عن هويته، ويهرع لكي
يندمج في واحدة من أكثر ممارسات العقل الجمعي غوايةً وضلالاً..
(نهاية التاريخ)
تجيء أيضاً وكأنها قد وقّتت على عقارب ساعة محكمة الصنع، زمن ما يسمى بالتطبيع مع
العدو الصهيوني.. ولنرجع سنواتٍ قليلة إلى الوراء.. لقد بدأت أولى محاولات مسح
الذاكرة التاريخية بإجراء تغييرات خفيفة – ربما لجسّ النبض – في المعطيات التربوية
والإعلامية والثقافية لشعوب الإسلام.. لمسة هنا، وأخرى هناك.. تأكيد على عناصر
الوفاق التاريخي والديني والحضاري بين المسلمين وعدوّهم.. وتجاوز لحلقات الصـراع
والغدر والخيانة، من أجل (نسيان الماضي)، والانفلات من أسـر الأحقاد المتأصلة،
والوصول معاً إلى صعيد الألفة والمحبة، والقدرة على الاندماج الاجتماعي والثقافي
والحضاري..
بين من؟ بين
القاتل والقتيل.. بين من لا يزال يخفي السكين وراء ظهره، ينتظر
الفرصة، وبين الضحية!.. وبمرور الوقت أخذت تتشكل لجان شتى لإعادة النظر في المناهج
الدراسية في ديار العرب والمسلمين.. لجان ينضوي تحت غطائها العلمي المخادع خبراء
يهود وأمريكان، جنباً إلى جنب مع تربويين من أبناء العروبة والإسلام أنفسهم.
الحديث عن نقض
اليهود لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في سنوات الهجرة الأولى، لا
لزوم له!.. فتنة سوق الصاغة في حي (بني قينقاع)، خارجة عن المطلوب!.. محاولة (بني
النضير) اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تثير الأحقاد!.. غدر (بني قريظة)
زمن حصار الأحزاب القاسي، حلقة محزنة!.. اقتحام (خيبر) تجدد الضغائن!.. وفي كل
الأحوال يفضل إلغاء هذه الوقائع من مفردات المناهج التدريسية، ويفضل - أيضاً - أن
تحلّ محلّها كل الخبرات والتجارب التي تجعل الوجدان المسلم يتقبل اليهودي، ويربّت
على كتفيه.
في إحدى البلدان
العربية – على سبيل المثال – أسس (مركز تطوير
المناهج) سنة 1990 م، بأموال معونة أمريكية. وقد قدم هذا المركز (29) مستشاراً
أمريكياً من الاختصاصيين، الذين يعملون أصلاً في مركز تطوير التعليم في (واشنطن)،
وبين هؤلاء المستشارين الأمريكيين اثنان من اليهود.
وقد عمد المركز
إلى إعادة النظر في تدريس مادة الحضارة الإسلامية، ومادة التربية الدينية، وعلوم
القرآن الكريم، والسيرة النبوية. وقد قلّصوا في التاريخ الإسلامي فترة الفتوحات
الإسلامية، وحذفوا تدريس تاريخ الصـراع العربي اليهودي، كما حذفوا من علوم القرآن
الكريم تدريس الآيات التي تلعن اليهود، أو تشير إلى عداوتهم، ومكرهم. وحذفوا من
السيرة تدريس حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود.. وفي التربية العامة
للشعب، يتدخل هذا المركز لتوجيه المواد الإعلامية في الإذاعة والتلفزيون والصحف،
بحيث تنسجم مع ما تقرر في منهج التعليم.
هذه كلها مجرد
محاولات تدّب على استحياء، وهي لا تعدو أن تكون رقعاً محدودة في نسيج التاريخ
الكبير، الذي لا أوّل له ولا انتهاء.. هنا تصير نظرية فوكوياما عن نهاية التاريخ،
بقوتها التنظيرية وإغوائها، وبالتحليلات المدعمة بالأدلة والوقائع التي اعتمدتها،
فرصةً لتجاوز مرحلة الترقيع في عملية التطبيع، والتحول إلى الإجهاز الكامل على
التاريخ، وفتح الطريق على مصـراعيه للقاء المسلم واليهودي على صعيدٍ واحد، يستوي
فيه - في الظاهر - هذا وذاك.. ولكن فيما وراء القشـرة الخادعة، تتشكل واحدة من
أبشع عمليات القهر الجماعي في التاريخ.
لقد مارست
الماسونية - بشكل من الأشكال - اللعبة نفسها.. ومن خلال الإلحاح على التسوية، نَفَذَ
العقل اليهودي، لكي يتمركز في المفاصل الحساسة، ويحوّل المنتمين للحركة إلى أدوات
صماء تنفذ ولا تناقش، حتى وهي تمارس الانتحار.. ومارستها الشيوعية.. ومن خلال
إلحاحها على التسوية، صعد الانتهازيون والأفاقون، وضاعَ العمالُ.. ازداد الروس
غنىً وجبروتاً وجاهاً، واستعبدت عشـرات الأمم والشعوب والجماعات.
ها هي نظرية
(نهاية التاريخ) تضع (الرّسَنَ) بيد العقل الغربي، هذه المرة متمثلاً بأمريكا، وهي
بتنظيراتها للنظام العالمي الجديد.. بحكمها بالإعدام على كل ما يربط الإنسان
بالعقيدة والأرض والتاريخ.. توظف خبرات الماسونية والشيوعية، وتضيف إليها قيماً
وأبعاداً أخرى.. وأيضاً ، ومن خلال التسوية المطلقة للأمم والشعوب قبالة المطالب
الاقتصادية، سيزداد القوي قوةً والضعيف ضعفاً، وستشهد البشـرية حلقةً محزنةً أخرى،
من أشد الحلقات تعاسةً وضلالاً..
من سيكون خاسـراً
في لعبة فوكوياما؟ من سيخرج مهزوماً في زمن يتطلب من العربي المسلم استفزاز ذاكرته
التاريخية، عمقه التاريخي.. حشد كل عناصر التأصيل والفاعلية التي تستمد نسغها من
العقيدة والتاريخ، لمجابهة محاولة الاحتواء الصهيوني الأمريكي، التي تستهدف تسوية
الأميين، كما يسميهم العهد القديم، من أجل سوقهم إلى المذبح كالأنعام؟!
فليس عبثاً -
وحاشا لله - أن يمنح القرآن الكريم المسألة التاريخية أكثر من ثلثي مساحته، وليس
عبثاً أن يقف عندها كبار الفلاسفة، لكي يستمدوا من معطياتها قوانين الحركة ونواميس
السعي البشري في العالم.
وأمّتنا، في
اللحظات الراهنة، بأمسّ الحاجة لاستدعاء التاريخ من أجل أن تجد ذاتها، وتعثر على
هويتها الضائعة في هذا العالم، من أجل أن تتجذر في خصائصها، وتعمق ملامحها، وتضع
اليد على نقاط التألّق والمعطيات الإنسانية والرصيد الحضاري، لكي تستعيد ثقتها
بذاتها، وتبيّن ملامح دورها الأصيل عبر دوّامات الصـراع الحضاري الراهن، التي
تتطلب ثقلاً نوعياً للأمم والشعوب، وهي تجد نفسها قبالة مدنية الغرب الغالبة.. إزاء
حالة من تخلخل الضغط وانعدام التوازن الجوّي، الذي يسحب إلى المناطق المنخفضة رياح
التشريق والتغريب وأعاصيرها المدمرة.
إن (نهاية
التاريخ)، بما تنطوي عليه من إلغاء للتاريخ، إنما هي رؤية خاطئة تتشكل على النقيض
من قوانين التاريخ.. إن التغاير والاختلاف والتدافع والتنوع، هي في صميم النشاط
البشـري عبر مسيرته التاريخية الطويلة.. إزاء هذا، فإن أية محاولة لإلغاء الذاكرة
التاريخية، بحجة التسوية قبالة المطالب الاقتصادية، ومقولات التكنولوجيا، إنما هي
قفزة في الفضاء.. تهميشات على سطح الجليد، الذي لا يظهر منه للعيان سوى واحد من عشـرة
من عمقه الحقيقي، والذي لن يلبث طويلاً حتى يتعرض للذوبان..
لقد جبلت النفس
البشـرية على الانتماء للتاريخ.. كل محاولات فك الارتباط بين الإنسان وتاريخه باءت
بالفشل، وبقي العمق الزمني الذي ينطوي على الخصائص والمقومات، ماضياً، لكي يعمل
عمله في صميم الممارسات والخبرات.
باختصار: إننا إذا
أردنا أن نجد ذاتنا، فإن علينا أن نتجذر في اثنتين: العقيدة، والتاريخ.. وليست
نظرية (نهاية التاريخ)، إزاء هذا كله، سوى محاولة مترعة بالمخاطر لفك الارتباط
بالجذور، وتعويم الإنسان المسلم نفسه.
أهذه هي نهاية
التاريخ؟
الشذوذ الجنسي،
والزواج المثلي، واللواط، وفضائح كندي وكلنتون، وشـراء الأصوات، وتوظيف المال
والجنس في اللعبة الانتخابية، وتحكم اللوبي اليهودي، وهيمنة المافيات العملاقة
والشركات الكبرى.. واختراق المسيحية بالعفن والأساطير اليهودية.. والمسيحية
الصهيونية، وانتماء كبار زعماء أمريكا لأقانيمها وطقوسها.. واستخذاء البيت الأبيض
للسياسات العليا للأمة الأمريكية، وتحويل القدرات المالية والعسكرية إلى ضـرع يدرّ
في أفواه شذاذ الآفاق.. والغطرسة التي تستفز الخصوم والحلفاء على السواء، والتفرد
في اتخاذ القرار بعيداً عن الأقطاب الأخرى، التي تطمح لأن يكون لها مكان على خارطة
العالم!
القنابل الذرية
والهيدروجينية والنيوترونية، وأسلحة الدمار الشامل، وعنقوديات امتصاص الأوكسجين من
المغاور والكهوف لقتل الإنسان واستئصال الحياة.. آلات الإبادة الجرثومية
والكيمياوية.. والقدرات الأسطورية على تغيير معادلات الطبيعة، وتحويل البيئات إلى
معتقلات كبيرة تصعب فيها استمرارية الحياة!
تصاعد معدلات
الجريمة في وتائرها الاعتيادية والمنظمة، والإحصائيات المخيفة لحالات القتل
والاغتصاب والسرقة والانتحار!
الهروب المتزايد
إلى المخدرات والحشيش والأفيون، وتصاعد نسبة الإدمان، وامتداد سـرطانه المخيف إلى
مستويات الأعمار الدنيا في مراحل الدراسة الإعدادية والمتوسطة، حتى الابتدائية،
وضياع أجيال الأمريكيين الناشئة فيما سبق أن حذّر من نتائجه المفجعة الرئيس
الأمريكي (كنيدي)، عام (1963م)!
الخيانة الزوجية،
والمعاشـرة غير المشـروعة للأزواج والزوجات، وحالات الطلاق المتزايدة، والدمار
المتصاعد للحياة الأسـرية.. ورفض الأبناء لآبائهم، وتزايد دور العجزة لاستقبال
هؤلاء وإيوائهم.. وتقطع الروابط العائلية، وغياب الاستقرار والسكن في بيئاتها
المخترقة بالريبة والشك والكراهية وشد الأعصاب!
عمليات الاغتيال
والتصفية الجسدية (للكبار)، على يد المافيات اليهودية والمالية المتحكمة بمصائر
الولايات المتحدة، بدءاً بأصحاب الأصوات الحرة، وانتهاء بالرؤساء أنفسهم، لحظة
خروجهم عن الخط المرسوم!
التكاثر المحموم
بالأشياء.. والعبادة المهووسة لصنميات المال والتنمية، بعيداً عن أي قيمة أو ضابط
ديني أو خلقي أو إنساني!
تصعيد وتائر القوة
والأسلحة والجيوش وتقنيات الردع والهجوم، فيما يجعل من (أمريكا) ترسانة مخيفة قد
تلحق الخراب بهذا الجزء أو ذاك من العالم، في أي لحظة تفور فيها دوّامة الغضب،
ويستشـري سعار التفوّق والاستعلاء.. وتحوّل أمريكا إلى دولة استعمارية كبرى، تسعى
لأن تضع العالم كله في جيبها، وترغم أممه وشعوبه على أن تكدح لكي يدّر ضـرعها في
الفم الأمريكي، بغض النظر عن حالات الفقر والتخلف والدمار التي تعاني منها دول
العالم الثالث، الذي يراد له - للمرة الثالثة - أن يسخّر لسعادة الرجل الأبيض
وائتمانه الذاتي!
وأخيراً، وليس
آخراً، تآكل ودمار القيم الديمقراطية الأمريكية نفسها، واختراقها المرة تلو المرة،
بحجة مقاومة الإرهاب، بعد أن سهر الأمريكيون القدامى على حراستها القرون الطوال.
أهذه هي الحضارة
الملائمة لإنسانية الإنسان، ومطامح الأمم والشعوب؟ أهذه هي
الحالة الحضارية النموذجية، أو السقف الأعلى لسعي البشـرية عبر تاريخها الطويل؟
أهذا هو (النموذج) الذي سينتهي إليه التاريخ، ويلقي عنده عصا الترحال؟ أهذا هو
(المثل الأعلى) الذي يتحتم على شعوب العالم أن تلهث وراءه؟ أهذه هي - بتعبير
(فرنسيس فوكوياما) -: (نهاية التاريخ)، حيث لا تبدّل بعدها ولا تحوّل ما دام
الإنسان قد بلغ الحالة القصوى من التقدّم والتحرّر؟
تقدّم باتجاه
ماذا؟ وتحرر من ماذا؟ أليست هي، في بدء التحليل ومنتهاه، وفي ضوء التأشيرات آنفة
الذكر، نكسة كبرى في تاريخ البشـرية؟! حيث يتحكم القطب الأحادي بمصائر العالم،
وحيث يتحول السعي البشـري إلى لهاثٍ محموم للتكاثر بالأشياء؟.. وحيث تتسطح الحياة،
وتفقد عمقها وعذوبتها وغناها ومغزاها؟.. وحيث تخترق منظومة القيم الإنسانية
والخلقية والدينية، بحلقات السوء، التي تنتشـر كالبثور السود.. كالطفح المتقيّح..
كالسـرطان المخيف.. في نسيج المجتمعات، فتفقدها - شيئاً فشيئاً - القدرة على
مواصلة الحياة، ولو في حدودها الدنيا؟
ثم ماذا لو أصبحت
الحياة البشـرية زناً ولواطاً وسحاقاً وانتحاراً وسـرقة وقتلاً واغتصاباً وإدماناً
على الحشيش والمخدرات والمغيبات والأفيون؟ ماذا لو أصبحت الممارسات السياسية
تزويراً ورشوةً وشـراءً للضمائر، وتسخيراً للجنس، واحتواءً لمفاصل القرار العليا
من أجل مصلحة لوبي يهودي، أو مافيا اقتصادية، أو رغبةً جارفةً في الانسياق وراء
إغراء القوة، بعيداً عن كل ضوابط الحكمة ومكابحها؟!
أهذه هي نهاية
التاريخ؟!
إنها المثلث
المحكم الذي يمسك اليوم بخناق الحضارة الغربية المعاصرة، ويمنحها لونها وخصائصها
وأهدافها.. إنه الإنتاج، والجنس، والاستهلاك.. الحضارة الغربية في أقصـى حالاتها
تكشّفاً ووضوحاً وتركيزاً في الوقت نفسه.. فإذا حاولنا أن نلمّ جل مفردات هذه
الحضارة، وأنشطتها، في أنساق محددةٍ، فإننا سوف لا نجد بأكثر من ثلاثة أنساق تندرج
في أطرها تلك الأنشطة والمفردات: الإنتاج، أو التنمية، والتكاثر بالأشياء (بما
فيها الأسلحة والجيوش).. والجنس، أو الترفيه، في أكثر حالاته حسيةً وماديةً..
والسوبر ماركت، أي النزعة الاستهلاكية، التي يزيدها الإعلان، والتكاثر، والنزوع
الحسيّ، سعاراً وجموحاً.
وتحت مظلة هذه
الحضارة، التي زادتها العولمة قدرةً على الانتشار والتحكم في العالم كلّه، تمضـي
كل القوى الفاعلة لتصعيد وتائر هذه الأطراف، أو الحدود الثلاثة، التي تمسك اليوم
بخناق الإنسان: الدولة، والمؤسسة، والمجتمع والفرد، على السواء.. كل يعمل من جهته
لنفخ النار فيها، منفرداً حيناً، متوافقاً أو منسقاً مع الأطراف الأخرى حيناً آخر.
والعالم يجري
كالمجنون.. يركض حتى اللهاث؛ أفراداً وجماعات، وشعوباً وأمماً.. الكل يريد أن يلحق
بالمركب الأمريكي الذي يقود حملة السوء هذه.. الكل يريد أن يتكاثر بالأشياء، وأن
يشبع نهمه الجنسي، ونزوعه الذي لا حدود له للاستهلاك، معتقداً - على الطريقة الأبيقورية
البائدة - أن الحياة فرصة للتحقق باللذة، أو الطريقة الإسبارطية: (التحقق
بالقوة).. بغض النظر عن ارتباط اللذة والقوة بمنظومة القيم الدينية والخلقية والإنسانية،
أو عدم ارتباطها على الإطلاق.
ومن عجب أن إحدى
الكنائس في إنكلترا، والتي يفترض فيها أن تقف في مواجهة
الطوفان، انساقت وراء الإغراء نفسه، فأعلنت عن قبول الزواج النمطي في أروقتها، من
أجل كسب المزيد من الأتباع.. بمعنى أنها أذعنت، هي الأخرى، للمنطوق الأبيقوري،
باعتباره الوسيلة الأكثر فاعليةً وتأثيراً في العباد والأتباع..
ويتساءل المرء:
ماذا لو مضـى مثلث الشرّ هذا إلى النهايات القصية التي يراد له أن يمضـي إليها،
كيف ستصبح الحياة؟ وهل ستستحق فعلاً أن تعاش، وقد فقدت عمقها الروحي، وبعدها
الإنساني، وضوابطها الأخلاقية، وضيعّت مغزى الوجود البشـري في العالم، وغدت مجرد
لهاث وراء التكاثر بالأشياء، والتحقق بالإشباع الجنسـي في أحطّ صيغة حسية
وحيوانية.. والنزوع إلى الاستهلاك الذي يكدس ويكدس حتى يجد الإنسان نفسه - كما
يقول (أونسكو) في إحدى مسـرحياته -: محاصراً بالأشياء، حيث يفقد حريته وقدرته على
الاختيار؟!.. إنها اللعنة التي ستمسخ إنسانية الإنسان، والحياة البشرية، على
السواء..
أهذه هي نهاية
التاريخ؟!
فماذا تقول
الفيزياء الحديثة بخصوص نهاية التاريخ؟! تقول إحدى معطياتها: أن الكون يتوسع حتى
يبلغ حجماً معيناً يبدأ بعدها بالانكماش، وهذا ما يسمى (بالكون المغلق)، وإما أن
يستمر بالتوسع بشكل متسارع، وهذا ما يسمى (بالكون المحدب)، بتحدب سالب.. ولكن بعد
أن تمت الإرصادات في الخلفية المايكروية، وجدوا أن الكون مسطح.. وللعلم، أنه عندما
يكون الكون بشكل (محدب، أو اسطواني)، فهو في الأصل مسطح السطح! ويمكن أن نسطحه
ونبسطه.. لكن المحدب الكروي لا يمتلك سطحاً مبسطاً، وهذا يعلمه كل من درس
الرياضيات! فلو كان الكون بشكل اسطواني مسطح السطح – يمكن قرآنياً – أن يتم طي سطح الكون
كطي السجل، وينكمش إلى أن تكون شكل الاسطوانة الكونية كخيطٍ رفيع، ومن ثم ينهار..
وهذا سيتم – حسب النظرية – التي تبين أن الكون يكون محدباً، لكن بشكل اسطواني، وهو
في تذبذب، أي توسع مستمر، إلى أن ينتهي إلى حد، بحيث يبدأ بعدها بالانكماش والطي
كطي السجل.. وهذه النظرية تتماشى مع ما بينّه القرآن الكريم.. ومهما يكن من أمر، فإن
القرآن الكريم ثابتٌ، والعلم متغير([4]).
"ويمثل الثقب
الأسود طريقاً سـريعاً إلى الأبدية.. حيث يثير الإلغاء والتفرد إلى نهاية رحلة
الطريق الواحد، إلى (اللا زمكان)، و(اللا – متى)، فذاك اللا – مكان، حيث يتوقف
الكون المادي"([5]).
"إن النطاق
الواسع لبنى الكون وحركته لافتة للنظر، حيث عملت مراكمة الجاذبية في الكون على كبح
جماح توسعه، لتجعله يتباطأ مع الزمن. فقد كان التوسع أكثر سـرعةً في المرحلة
البدائية منه اليوم، فالكون - إذن - نتاج تنافس بين التفجر النشط للانفجار الكبير،
وبين قوة الجاذبية في محاولتها سحب القطع معاً ثانيةً. وبدأ علماء الفلك، في
السنوات الأخيرة، في إدراك مدى دقة التوازن في تلك المنافسة. فلو كان الانفجار
الكبير أضعف من ناحية ، لتراجع الكون على نفسه في انفجارٍ كبير، أما لو كان أقوى
من ناحيةٍ أخرى، لتفرقت المواد الكونية بسـرعة، ولما سمحت بتكون المجرات. أياً كان
الوضع، فإن هيكلية الكون الملاحظ تبدو معتمدةً بحساسية مفرطة على تعادل دقيق بين
التفجر النشط وقوة الجذب"([6]).
"وفيما
الركود آخذ في التناقص، تنتفخ الشمس لتتحول إلى نجم من نوع يدعوه علماء الفلك بـ
(العملاق الأحمر)، فيما يكافح قلب الشمس يائساً للحفاظ على إنتاج الطاقة، لكن
الانكماش يصيبه أكثر فأكثر، حتى يتدخل تأثير عامل الكم لتثبيته. وقد تصبح الشمس في
هذه المرحلة أكثر انتفاخاً، بحيث تجتاح الكواكب الداخلية تماماً. أما الأرض، فينزع
منها غلافها الجوي، وتذوب صخورها، بل تتبخر، وتبدأ الشمس بعد ذلك في مهمتها
الجديدة والغريبة في آنٍ معاً: حيث يأخذ الهيليوم الأقل كفاءةً في الاحتراق،
بواسطة عناصر أثقل وأثقل، وذلك عوضاً عن الاحتراق النووي لوقود الهيدروجين الغزير
الحالي. وأخيراً، حين يستهلك كافة الوقود، تتواضع الشمس لتتكون من عناصر ثقيلة مثل
الحديد، ولن يؤدي أي اندماج نووي بعدها إلى إطلاق الطاقة، فالحديد هو الشكل النووي
الأكثر استقراراً. وتسعى النظم جميعها تبعاً للقانون الثاني للدايناميكا الحرارية،
إلى حالاتها الأكثر استقراراً، حيث ترتفع أثناء هذه المرحلة درجة حرارة مركز الشمس
الداخلي على نحو مطرد، لتصل إلى بلايين الدرجات. والآن، ومع استنفاذ كافة الوقود،
تبدأ الشمس المنكوبة بالتقلص، بفعل ثقلها، لتسحق المواد خلالها بعنف شديد، بدرجة
ترتفع معها الكثافة إلى بليون جرام لكل سم، وينخفض حجم الشمس الآخذة في الانكماش،
لينتهي بها الأمر إلى حجم الأرض، وتبقى خامدةً، تضمحل خلالها وتبرد ببطء، لتنتهي
مهمتها وتصبح نجماً قزماً أسود. ويتكرر نفس النمط من الاضطراب والتضخم والموت
جوعاً للوقود، ومن ثم الانهيار، في جميع أنحاء المجرة، وتحترق النجوم الواحدة تلو
الأخرى، كل على طريقتها، بواسطة الدورة النووية، حتى لا يعدو باستطاعتها التماسك
في مواجهة قوة الجاذبية التي لا ترحم"([7]).
"وسوف تموت
بعض النجوم في مشهدٍ أخاذ، وأكثر روعة، فتنفجر بتفجير نفسها إلى قطعٍ صغيرة،
وينهار قلبها، على نحو كارثي، لتنطلق طاقة ضخمة. أما بقايا تلك النجوم الانتحارية
الأخف، فلن يعدو حطاماً منتشـراً، يحيط بمادة مسحوقة تماماً، يعادل ضغطها كتلة
شمسية بحجم كروي، يتجاوز بضعة أميال. إن جاذبية هذا الجسم هائلة للغاية، بدرجة أن
وزن ملعقة صغيرة من مادتها يفوق وزن كافة قارات الأرض. إن قبضتها رهيبة، لدرجة
تفوق قدرة الذرات على الصمود، بما يدفعها إلى التغضن داخلياً، لتشكل بحراً من
النيترونات الخالصة. وهذه النجوم النيترونية مألوفة لدى علماء الفلك، الذين
يجدونها وسط حطام الانفجار. ولن تستطيع النجوم الثقيلة الميتة الثبات أمام قوة
الجاذبية الساحقة، حتى وإن تحولت إلى كرة من النيوترون، فسوف تستمر في الانكماش
بمعدل متصاعد حتى تنتهي أيامها كثقوب سوداء"([8]).
"لقد رسم
عالم الفلك (أدوارد هاريسون) تدهور الكون على النحو الآتي: تبدأ النجوم في التلاشي
مثل شموع تذوب لتخمد الواحدة تلو الأخرى، وتموت تدريجياً في عمق الفضاء المدن
السماوية العظيمة، والمجرات المشوشة بذكريات العصور.. لتخترق ومضات من الضوء بين
حينٍ وآخر ليل سقوط الكون، وتؤجل طفرات من النشاط حكم الكون القاضي بتحوّلها إلى
مقبرة للمجرات"([9]).
"سبرت
الأبحاث الخاصة بنظم الفيزياء أغوار طرق غريبة، لمعرفة وضع الاضطراب في حدّه
الأعلى، لتجد أن نظام مجرتنا سوف يبدأ لا محالة في التداعي، مثل انطفاء النجوم..
وفي نهاية المطاف سينتشـر مخزون الطاقة الحبيس في النجوم على شكل شعاع فوضوي حول
الكون، فيما تخفت المجرة وتبرد، ولن تكون المجرات الأخرى بمعزل عن مصير
مشابه"([10]).
"أما النجوم
الميتة نفسها، فلا يزال في حوزتها مزيد من النشاط، لكن نطاق الزمن آخذ في الازدياد
بقدر كبير. وبينما تصطدم بقايا الاحتراق ببعضها البعض، من حينٍ لآخر، تتجه الثقوب
السوداء بدورها إلى إجلاء كل نجم، أو كل ما تقابله من مواد.. فيما تضمحل مدارات
النجوم ببطء، بسبب انبعاث شعاع الجاذبية، وهو موجات في الفضاء تستنزف الطاقة
المدارية لكافة الأجسام الضخمة.. وسوف تميل النجمية إلى الانحراف والاقتراب أكثر
فأكثر من مركز المجرة، لتضحي بنفسها في النهاية داخل ثقب مستوحش نهم لا يشبع.. لكن
النجوم الأخرى الناجية، وكذلك الغازات التي تفادت الموت داخل الثقوب السوداء، فقد أرجئ
الحكم بإعدامها جميعاً لبعض الوقت. وفي حال صحّت النظرية الموحدة الكبرى، فالمواد
النووية في هذه السفاسف الكونية غير المستقرة سوف تتبخر بعيداً، حيث ينحط النيترون
والبروتون إلى بوزيترون وإليكترون، ليبدأوا في إفناء بعضهم بعضاً، فضلاً عن أي إلكترونات
أخرى، وهكذا تتحلل كافة المواد الصلبة.."([11]).
"وتشير
الدراسات إلى مصير موحش للكون، الذي نعرفه مفعماً بالروعة والنشاط.. ويبدو أن ثمة
شك في توجه جميع البنى الحالية في النهاية لخطر الموت، مخلفةً صقيعاً وظلمة ممتدة
إلى فضاء شبه خالٍ، ذي كثافة منخفضة أكثر بكثير من أي وقتٍ مضـى، تسكنه قلّة فحسب
من النيترونات والفوتونات المعزولة، وأشياء أخرى قليلة. وهذا سيناريو يجده
الكثيرون من العلماء مشوباً بكآبة، ليس هناك ما بعدها"([12]).
"وحين ينكشف
الكون إلى نسبة لا تتعدّى المئة من حجمه الحالي، سترتفع درجة الحرارة تحت تأثير
الضغط إلى نقطة غليان الماء، وسوف تصبح الأرض... غير قابلة للسكن، ولن يتمكن
المراقب عندها من تبين المجرّات كلاً على حِدة، لأنها تكون قد بدأت في الاندماج
معاً، فيما ينعدم الفضاء بينها تماماً. وكلما ازدادت وتيرة الانكماش، سترتفع درجة
الحرارة، إلى درجة تبدأ معها السماء نفسها في التوهج مثل الموقد، فيما تأخذ
النجوم، وهي جزء لا يتجزأ من الفضاء الأبيض الساخن، في الغليان، ومن ثم
تنفجر"([13]).
"إن الكون
الآن على بعد جزء من الثانية من الموت، فالانكماش الكبير، شأن الانفجار الكبير،
وإن على نحوٍ معاكس، سوف يحطم جسيمات الذرة إلى كواركات، لتنشأ عبر كافة النظم
شظايا مشتقات الذرة للحظة عابرة، لكن الكون ينكمش في طرفة عين إلى أقل من فضاء ذرة
واحدة، وعليه ينفسخ الزمكان نفسه"([14]).
"ويعتقد
فيزيائيون كثيرون أن الانكماش الكبير يطرح نهاية الكون، تماماً كما يعتقدون أن
الكون: كل الفضاء والزمن والمادة، قد خرج إلى حيّز الوجود عبر الانفجار الكبير،
وبالتالي سوف يمضـي خارجه عبر انكماشٍ كبير. وهذه إبادة كاملة، لن تدع أو تذر
شيئاً، حيث لا أماكن، أو دقائق، أو أشياء أخرى، بل (تفرّد). فيما يستسلم الوجود
إلى قوة الجاذبية المدمرة بلا حدود، وعندها، لا شيء! إن الجاذبية كانت مولدة
الوجود، وهي أيضاً سوف تضعه في القبر"([15]).
والآن، ها هي ذي
نهاية التاريخ في ثلاثيته الكبرى: الكون والعالم والإنسان، كما يعرفها كتاب الله..
إنه الانقلاب الكوزمولوجي والجيولوجي والبيولوجي الحاسم، الذي تتغير به ملامح
الكون والعالم والإنسان، وتعاد صياغته من جديد.. إنها آخر محطة في قطار رحلتنا،
ورحلة الكون والعالم، عبر الحياة الدنيا.. وبدء حياة جديدة مغايرة تماماً، بكل
دقائقها وتفاصيلها التي لا يعلمها إلّا الله سبحانه وتعالى، والتي تلقينا في كتاب
الله جانباً من معطياتها، بينما تظل الجوانب الأخرى مخفيةً عنّا لأمر يريده الله -
جلّ في علاه -.
فلنعاين هذا
الجانب الذي حدثنا عنه كتاب الله.. إنه باختصار شديد يوم الهول، هذا الذي تبدأ
صفحته الأولى بالنفخ في الصور، والذي تنفطر فيه السماء وتنفرج، وتنسف الجبال، وتسجّر
البحار، وترّج الأرض، وينخسف القمر، وتجمع الشمس والقمر، وتطمس النجوم، وتنكدر،
وتكور الشمس، وتعطّل العشار، وتحشـر الوحوش، وتنتثر الكواكب، وتبعثر القبور، وتمدّ
الأرض، وتلقي ما فيها وتتخلى عنه، ويصير الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال
كالعهن المنفوش.. اليوم الذي ينقر فيه في الناقور، ويبرق البصر، ويقول الإنسان أين
المفر؟ اليوم الذي يجعل الولدان شيباً..
تلك هي نهاية
التاريخ، وليست ترهات الفلاسفة الوضعيين في الشـرق والغرب، ولا علماء الفيزياء
والكوزمولوجي، ممن يبحرون في الاتجاه الخاطئ، وهم إنما يتبعون الظنون والأهواء..
ولنضع نصب أعيننا، فإن الذي ينهي التاريخ ليس هذا الفيلسوف أو ذاك، إنما هو الله
الذي [الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ](سورة الروم/27)، [وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء
وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا
أَنتُمْ تَخْرُجُونَ](سورة الروم/25). الله الذي يحدثنا كتابه المعجز عنه -
جلّ في علاه - بقوله: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ...](سورة الزمر/67). بهذه اليد ذات القدرة المطلقة، التي تمسك
برقبة الكون والعالم؛ يجيء الانقلاب الكوني الهائل المزلزل لكي ينهي التاريخ!
فلنتابع ما يقصّه
علينا كتاب الله عن يوم الهول هذا: [يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ
وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً](سورة المزمل/14). [يَوْمَ
تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ]
(سورة النازعات/6-7). [فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ](سورة
عبس/33-36). [إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا. وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا](سورة الزلزلة/1-5). [الْقَارِعَةُ. مَا
الْقَارِعَةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ
كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ](سورة
القارعة/1-5). [يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ](سورة المعارج/8-9 ). [وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ... يَوْمَ
تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً](سورة الطور: الآية
6 ، والآيتان 9-10). [فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً
كَالدِّهَانِ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ](سورة الرحمن/37-38). [وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً.
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً](سورة طه/105-107). [إِذَا
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ.
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً. وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً. فَكَانَتْ هَبَاء
مُّنبَثّاً](سورة الواقعة/1-6). [الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ. وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ](سورة الحاقة/1-3). [فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا
دَكَّةً وَاحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. وَانشَقَّتِ السَّمَاء
فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ](سورة الحاقة/13-16). [فَكَيْفَ تَتَّقُونَ
إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً. السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ
كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً](سورة المزمل/17-18). [فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ.
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ](سورة
المدثر/8-10). [فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ](سورة
القيامة/7-10). [فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ.
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ](سورة المرسلات/8-10). [وَفُتِحَتِ السَّمَاء
فَكَانَتْ أَبْوَاباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً](سورة النبأ/19-20).
[إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ. وَإِذَا
الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشـِرَتْ.
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ](سورة التكوير/1-6). [إِذَا السَّمَاء
انفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ.
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ](سورة الانفطار/1-4). [إِذَا السَّمَاء
انشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ.
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ](سورة
الانشقاق/1-5). [كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً. وَجَاء رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ...](سورة الفجر/21-23).
يوم الهول هذا
الذي تبدأ لحظاته الأولى بالنفخ في الصور والنقر بالناقور، فيما تتصادى أصواته
الرهيبة في جنبات الأرض والكون، وتصّم الآذان لشدتها، إيذاناً بالانقلاب الكبير
والحاسم.. حيث يتخبط الناس كالسكارى وما هم بسكارى، ولكنهم يجدون أنفسهم قبالة
أهوال القيامة وشدائدها: [يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ...](سورة الحج/2). [يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ](سورة
عبس/34-36). وحيث يبرق البصـر دهشةً وتحيراً وفزعاً مما يرى.. وتتعالى صـرخات
الخائفين المذعورين من العذاب والهول: أين المفر؟ ويجيء الجواب الحاسم: [كَلَّا
لَا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ](سورة القيامة/11-12).
حيث لا منجى ولا ملجأ لهم من الله - جلّ في علاه -.. وحيث تزلزل الأرض وتحرك
تحريكاً عنيفاً عند النفخة الأولى، إيذاناً بخراب العالم، وترمي كنوزها وموتاها
عند النفخة الثانية.. وتنفطر لشدة الهول.. وتضطرب وتزلزل.. وتدل بحالها على ما عمل
فيها، فتصير أرضاً مستويةً لا نبات ولا بناء فيها، فليس ثمة في أطرافها كافة من
مكان مرتفع، وآخر منخفض.. لقد بسطت وسويت كمدّ الأديم، مستمعةً منقادةً لأمر الله
سبحانه وتعالى.. يوم تحمل الأرض والجبال فتدك دكةً واحدة: تدق وتكسـر بالزلازل التي
تجيء متتابعة حتى تجعل كل شيء هباءً منثوراً.. يوم تنزل القارعة لكي تقرع القلوب
بأهوالها وأفزاعها، ويصير الناس كالبعوض الذي يتهافت في النار.. وحيث تحل الساعة،
فيتحقق فيها ما سبق وإن أنكروه.
وبرؤية بانورامية
يواصل كتاب الله حديثه عن نهاية التاريخ من منظوره القرآني، فيحكي عن الجبال
والبحار والشمس والقمر والسماء والكواكب والنجوم.. كلها تتعرض للهزة الكبرى
ذاتها.. للقارعة التي تقرع القلوب بأهوالها.. وحيث تتغير كوزمولوجيا الكون والأرض،
وتتبدل مسارات السدم والمجرات والنجوم، وتفقد الأفلاك وظيفتها، وتطلع الشمس من
الغرب، ويختفي ضوء القمر، وتنسف الجبال، وتتفجر البحار بحمم النار..
فلنتابع هذه
المتغيرات الكبرى واحدةً واحدة، كما يقصها علينا كتاب الله: يوم تسيّر الجبال..
تقلع من أماكنها، وتزال عن مواضعها، بسـرعة، فتصير سـراباً لا حقيقة له.. تحمل
الأرض فتدك دكةً واحدةً، وترجف الجبال فتصير هذه كثيباً مهيلاً: رملاً مجتمعاً
سائلاً منهالاً.. يوم تبّس الجبال، فتفتت كالسويق الملتوت، وتصير كالقاع الصفصف،
لا يرى فيه عوج ولا أمت: أي أرضاً ملساء مستوية لا نبات ولا بناء فيها، فليس ثمة
في أطرافها كافة مكان مرتفع، وآخر منخفض.. يوم تصير الجبال بسبب من هذا كله كالصوف
المصبوغ ألواناً، والذي فرقته الأصابع فصار شتاتاً.. يوم تقتلع من أماكنها وتتفتت
وتفرقها الرياح، وتصير غباراً متفرقاً منتشـراً.. يوم تسجّر البحار، فتصير ناراً
تضطرم، وتتفجر فتتشقق جوانبها، وتصير بحراً واحداً.. "وأما تسجير البحار، فقد
يكون معناه ملؤها بالمياه. وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات، كالتي يقال أنها
صاحبت مولد الأرض وبرودتها. وإما بالزلازل والبراكين، التي تزيل الحواجز بين
البحار، فيتدفق بعضها على بعض. وإما أن يكون معناه: التهابها وانفجارها، كما قال
في موضعٍ آخر : [وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ](سورة الانفطار/3). فتفجير
عناصرها، وانفصال الهايدروجين عن الأوكسجين فيها، وتفجير ذراتها، على نحو ما يقع
في تفجير الذرة، وهو أشد هولاً، أو على أي نحوٍ آخر. وحين يقع هذا، فإن نيراناً
هائلةً لا يتصور مداها تنطلق من البحار. إن تفجير قدرٍ محدود من الذرات، في
القنبلة الذرية أو الهيدروجينية، يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا، فإذا انفجرت
ذرات البحار على هذا النحو، أو نحوٍ آخر، فإن الإدراك البشـري يعجز عن تصوّر هذا
الهول، وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة"([16]).
يوم يخسف القمر،
ويذهب ضؤوه، وتجمع الشمس والقمر، وتطلعان من المغرب مظلمتين.. وتكور الشمس، ويزال
ضياؤها، وتلف وتطوى، "فعندما تتضخم الشمس وتنتفخ، يتحول قطرها من (مليون و
400 ألف) كم، إلى (300 مليون) كم.. وفي فترة قصيرة جداً جداً، ربما ساعات! مما
يؤدي إلى غيابها وطلوعها عندنا، وكأنها تطلع من المغرب"([17]).
يوم تطمس النجوم،
ويمحى نورها، ويذهب ضؤوها.. يوم تنكدر، وتنتشر، وتتهافت، وتتساقط متفرقةً، وتضطرب
بالصيحة الهائلة (نفخة الموت).. أما السماء التي تنطوي على هذا كلّه، فتتمحور
وتضطرب، وتدور كالرحى، وتصير في حمرتها المنتشـرة في الآفاق كالوردة القانية..
تنشق السماء وتنفطر وتتصدع من الهول، وتصير ضعيفةً متداعيةً، بعد ذلك الإحكام الذي
استمرت عليه ملايين السنين.. تنشق، وتفتح فيها الطرق والأبواب.. تقتلع كما يقتلع
السقف، وما تلبث أن تتصدع عند قيام الساعة..
فأي هولٍ هذا الذي
سيجابه الإنسان يوم القيامة، لحظة الإعلان بالنفخ بالصور، والنقر بالناقور، عن
نهاية التاريخ؟ بل إن هذا الرعب سيلاحق حتى الحيوان، فتترك النوق الحوامل بدون
راعٍ، وتجمع الوحوش من كل مكان، لكي تحشر هي الأخرى.. بل إن القبور ذاتها ستتبعثر،
ويقلب ترابها، ويخرج موتاها!!
إننا بانتظار يومٍ
رهيب، مغيّب عن الأنظار، لكننا سنراه بأمّ أعيننا، يوم الهول ذاك، وحينها لن ينقذ
الفجرة والكفرة والحكام والطواغيت، شيء على الإطلاق.. إن كتاب الله، بطرائقه
الفنّية التجسيدية والتخييلية، ينقلنا إليه، بين لحظةٍ وأخرى، وكأنه واقع اللحظة،
من أجل أن يهز ضمائرنا، ويسقط عن أفئدتنا ما علق بها من رانٍ وتراب.. لعلنا
نعتبر..
أما عن موعد يوم
الهول العظيم هذا، فقد اختص به الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ يريدها، وتركه مغيباً عن
الأنظار: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنتَ مِن
ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا. إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا](سورة
النازعات/42-46). [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ](سورة الأعراف/187).
ثمة إشارات قرآنية
إلى الأجل المسمى للكون والعالم والتاريخ، وهذا يكفي:
[...وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى...](سورة لقمان/29).
[مَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ
مُّسَمًّى ...](سورة الأحقاف/3).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق